جولة في بعض التفاسير الشيعية

إنضم
18/03/2005
المشاركات
203
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
جاء فى "الملل والنحل" لعبد الكريم الشهرستانى أن "الشيعة هم‏:‏ الذين شايعوا عليًّا رضي الله عنه على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته‏:‏ نصًّا ووصيّةً: إما جليًّا وإما خفيًّا‏، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده‏.‏ وقالوا‏:‏ ليست الإمامة قضية مصلحة تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله ولا تفويضه إلى العامة وإرساله‏. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوبًا عن الكبائر والصغائر والقول بالتولي والتبري‏:‏ قولاً وفعلاً وعقدًا إلا في حال التقية‏.‏ ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك‏.‏ ولهم في تعدية الإمامة‏ كلام وخلاف كثير، وعند كل تعدية وتوقف مقالة ومذهب وخبط‏.‏ وهم خمس فرق‏:‏ كيسانية وزيدية وإمامية وغلاة وإسماعيلية‏.‏ وبعضهم يميل في الأصول إلى الاعتزال، وبعضهم إلى السنة، وبعضهم إلى التشبيه"‏.‏
والذى يهممنا هنا الشيعة الإمامية، وفيهم يقول الشهرستانى: "الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام‏:‏ نصًا ظاهرًا وتعيينًا صادقًا من غير تعريض بالوصف بل إشارة إليه بالعَيْن‏.‏ قالوا‏:‏ وما كان في الدين والإسلام أمر أهم من تعيين الإمام حتى تكون مفارقته الدنيا على فراغ قلبٍ من أمر الأمة، فإنه إنما بُعِث‏‏ لرفع الخلاف وتقرير الوفاق، فلا يجوز أن يفارق الأمة ويتركهم هملاً‏‏ يرى كل واحد منهم رأيًا ويسلك كل منهم طريقًا لا يوافقه في ذلك غيره، بل يجب أن يعين شخصًا هو المرجوع إليه، وينص على واحد هو الموثوق به والمعوَّل عليه‏.‏ وقد عيَّنَ عليًّا رضي الله عنه في مواضع‏‏ تعريضًا، وفي مواضع‏ تصريحًا‏.‏ أما تعريضاته فمثل أنه بعث أبا بكر ليقرأ سورة "براءة" على الناس في المشهد، وبعث بعده عليًّا ليكون هو القارىء عليهم والمبلغ عنه إليهم، وقال‏:‏ نزل على جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يبلِّغه رجل منك أو قال‏:‏ من قومك. وهو يدل على تقديمه عليًّا عليه‏.‏ ومثل أنه كان يؤمِّر على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة في البعوث، وقد أَمَّر عليهما‏‏ عمرو بن العاص في بعث، وأسامة بن زيد في بعث، وما أمَّر على عليٍّ أحدًا قط‏.‏ وأما تصريحاته فمثل ما جرى في نأنأة الإسلام حين قال‏:‏ من الذي يبايعني على ماله؟ فبايعته جماعة، ثم قال‏:‏ من الذي يبايعني على روحه، وهو وصيِّي ووليّ هذا الأمر من بعدي؟ فلم يبايعه أحد حتى مد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يده اليه فبايعه على روحه ووفَّى بذلك حتى كانت قريش تعيِّر أبا طالب‏ أنه أمَّر عليك ابنك‏.‏ ومثل‏ ما جرى في كمال الإسلام وانتظام الحال حين نزل قوله تعالى: "ياأيها الرسول بَلِّغْ ما أُنْزِل اليك ربك وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته والله يعصمك من الناس‏"،‏ فلما وصل إلى غدير خم أمر بالدوحات فقُمِمْنَ ونادَوْا‏:‏ الصلاة جامعة‏.‏ ثم قال عليه السلام وهو على الرحال‏:‏ ‏"‏من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم‏،‏ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار‏.‏ ألا هل بلغت‏؟‏ ثلاثًا‏"‏‏، فادعت الإمامية أن هذا نص صريح.‏ فإنا ننظر‏:‏ من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولى له، وبأي معنى، فنَطْرُد ذلك في حق عليٍّ رضي الله عنه‏. وقد فهمت الصحابة من التولية ما فهمناه حتى قال عمر حين استقبل عليًّا‏:‏ طُوبَى لك يا علي‏!‏ أصبحتَ مولى كل مؤمن ومؤمنة‏.‏
قالوا‏:‏ و قول النبي عليه السلام‏:‏ ‏"‏أقضاكم علي‏"‏ نَصٌّ في الإمامة، فإن الإمامة لا معنى لها إلا أن يكون‏:‏ أقضى القضاة في كل حادثة والحاكم على المتخاصمين في كل واقعة. وهو معنى قول الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".‏ قالوا: فأُولُوا الأمر‏‏ من إليه القضاء والحكم‏.‏ حتى في مسألة الخلافة لما تخاصمت المهاجرون والأنصار كان القاضي في ذلك هو‏ أمير المؤمنين علي دون غيره. فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما حكم لكل واحد من الصحابة بأخص وصف له فقال‏:‏ أفرضكم زيد، وأقرؤكم أُبَيّ، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ. وكذلك حكم لعلي بأخص وصف له، وهو قوله‏:‏ ‏"أقضاكم على‏"،‏ والقضاء يستدعي كل علم وما ليس كل علم يستدعي القضاء‏.‏ ثم إن الإمامية تخطت عن هذه الدرجة إلى الوقيعة في كبار الصحابة‏‏ طعنًا وتكفيرًا، وأقله‏:‏ ظلمًا وعدوانًا، وقد شهدت نصوص القرآن على عدالتهم والرضا عن جملتهم. قال الله تعالى‏:‏ ‏"لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة‏"،‏ وكانوا إذ ذاك ألفًا وأربعمائة. وقال الله تعالى عن المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم‏:‏ "والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضُوا عنه". وقال‏:‏ "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العُسْرة". وقال تعالى‏:‏ ‏"‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم"‏‏.‏ وفي ذلك دليل على عظم قدرهم عند الله تعالى وكرامتهم ودرجتهم عند الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ فليت شعري‏ كيف يستجير ذو دينٍ الطعن فيهم ونسبة الكفر إليهم‏؟‏ وقد قال النبي عليه السلام‏:‏ عشرة من أصحابي في الجنة‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن ابي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الرحمن ابن عوف وأبو عبيدة بن الجراح... إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في حق كل واحد منهم على انفراد. وإن نُقِلَتْ هَنَاتٌ من بعضهم فليُتَدَبّر النقل، فإن أكاذيب الروافض كثيرة وأحداث المحدثين كثيرة‏.‏
ثم إن الإمامية لم يثبتوا في تعيين الأئمة بعد‏‏ الحسن والحسين وعلي بن الحسين رضي الله عنهم على رأي واحد، بل اختلافاتهم أكثر من اختلافات الفرق كلها حتى قال بعضهم‏:‏ إن نيفًا وسبعين فرقة من الفرق المذكورة في الخبر هو في الشيعة خاصة، ومن عداهم فهم خارجون عن الأمة‏.‏ وهم متفقون في الإمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه، ومختلفون في المنصوص عليه بعده من أولاده، إذ كانت له خمسة اولاد، وقيل‏:‏ ستة‏:‏ محمد وإسحاق وعبد الله وموسى وإسماعيل وعلي‏.‏ ومن ادعى منهم النص والتعيين‏:‏ محمد وعبد الله وموسى وإسماعيل‏.‏ثم‏‏ منهم من مات ولم يعقب، ومنهم من مات وأعقب‏.‏
ومنهم من قال بالتوقف والانتظار والرجعة‏، ومنهم من قال بالسوق والتعدية كما سيأتي ذكر اختلافاتهم عند ذكر طائفة طائفة. وكانوا في الأول على مذهب أئمتهم في الأصول، ثم لما اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان‏‏ اختارت كل فرقة منهم طريقة: فصارت الإمامية بعضها‏‏ معتزلة: إما وعيدية وإما تفضيلية، وبعضها إخبارية‏:‏ إما مشبهة وإما سلفية‏. ومن ضل الطريق وتاه لم يبال الله به في أي واد هلك".
والآن إلى ما قالته كتب التفسير الشيعى فى النصوص القرآنية التى تظهر فيها ملامح عقيدتهم، تلك العقيدة التى تتمحور حول علىّ كرم الله وجهه: ففى تفسير الآيات 8- 16 من سورة "البقرة": "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ* وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ* اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ" يقول علي بن ابراهيم القمي (ت القرن 4 هـ) فى كتابه الموسوم بــ"تفسير القرآن" إنها فى فريق من المنافقين على أيام النبى عليه السلام كانوا يُسِرّون إلى الكفار بأنهم معهم ويستهزئون بالمسلمين، فى الوقت الذى يتظاهرون فيه أمام النبى والصحابة بأنهم مؤمنون. ومن ثم فإن القمى لا يحمّلها تأويلا شيعيا. وفى تفسير "التبيان الجامع لعلوم القرآن" للطوسي (ت 460 هـ) نجد نفس الشىء، إلا أنه يزيد الأمر توضيحا فيقول إن المنافقين هم قوم من الأوس والخزرج وغيرهم وأنه لا خلاف بين المفسرين أنها نزلت فيهم: "ولا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية وما بعدها نزلت في قوم من المنافقين من الأوس والخزرج وغيرهم. رُوِيَ ذلك عن ابن عباس، وذكر أسماءهم، ولا فائدة في ذكرها. وكذلك ما بعدها إلى قوله: {وما كانوا مهتدين} كلها في صفة هؤلاء المنافقين. والمنافق هو الذي يظهر الإسلام بلسانه وينكره بقلبه". ولم يخرج الطبرسى (ت 548 هـ) فى "مجمع البيان في تفسير القرآن" هو أيضا عن هذا التفسير، وإن كان قد زاد الأمر إيضاحا من ناحية أسماء أولئك المنافقين فقال إنها نزلت فى "عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهم، وأكثرهم من اليهود". والمنافقون كذلك عند الطباطبائى (ت 1401 هـ) صاحب "الميزان في تفسير القرآن" هم ابن سلول وأصحابه. ذكر هذا فى تفسيره لسورة "المنافقون" التى أحال عليها عند تناوله لآية سورة "البقرة".
أما فى تفسير "الصافي في تفسير كلام الله الوافي" للفيض الكاشاني (ت 1090 هـ) فنقرأ شيئا خطيرا: "أقول: كابن أُبَيّ وأصحابه، وكالأول والثاني (يقصد أبا بكر وعمر الخليفتين الأول والثانى بعد رسول الله) وأضرابهما من المنافقين الذي زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق، ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين عليه السلام للخلافة والإمامة. أقول: ويدخل فيه كل من ينافق في الدين إلى يوم القيامة، وإن كان دونهم في النفاق كما قال الباقر عليه السلام في حكم بن عتيبة إنه من أهل هذه الآية. وفي تفسير الإمام ما ملخصه أنه لما أمر الصحابة يوم الغدير بمبايعة أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين وقام أبو بكر وعمر إلى تسعة من المهاجرين والأنصار فبايعوه بها ووكد عليهم بالعهود والمواثيق وأتى عمر بالبخبخة وتفرقوا، تواطأ قوم من متمرديهم وجبابرتهم بينهم: لئن كانت بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كائنة ليدفَعُنّ هذا الأمر عن علي عليه السلام ولا يتركونه له. وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقولون: لقد أقمت علينا أحبّ الخلق إلى الله وإليك، وكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجائرين في سياستنا. وعَلِم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك وأنهم مقيمون على العداوة ودفع الحق عن مستحقيه، فأخبر الله عنهم بهذه الآية. {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}: بل تواطئوا على إهلاكك وإهلاك من أحبك وتحبه إذا قدروا والتمرّد عن أحكام الله، خصوصا خلافة من استخلفتَه بأمر الله على أُمّتك من بعدك لجحودهم خلافته وإمارته عليهم حَسَدًا وعُتُوًّا. قيل: أخرج ذواتهم من عداد المؤمنين مبالغة في نفي الإيمان عنهم رأسا".
أما الإمام الذى يشير إليه فهو الإمام العسكرى (ت 260هـ) أبو المهدى المنتظر لدى الشيعة، والمقصود كلامه فى التفسير المنسوب له، إذ جاء فيه: "قال العالم موسى بن جعفر: إن رسول الله لما أوقف أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب فى يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثم قال: يا عباد الله، انسبونى، فقالوا: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ثم قال: يا أيها الناس، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فنظر إلى السماء وقال: اللَّهم اشهد بقول هؤلاء، وهو يقول ويقولون ذلك ثلاثا، ثم قال: ألا فمن كنتُ مولاه وأولى به فهذا علىّ مولاه وأولى به. اللَّهم والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل من خذله. ثم قال: قم يا أبا بكر فبايع له بإمرة المؤمنين. فقام وبايع له. ثم قال: قم يا عمر فبايع له بإمره المؤمنين. فقام فبايع له. ثم قال بعد ذلك لتمام التسعة رؤساء المهاجرين والأنصار، فبايعوا كلهم. فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطاب فقال: بَخٍ بَخٍ يا ابن أبى طالب. أصبحتَ مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ثم تفرّقوا عند ذلك وقد وُكِّدَتْ عليهم العهود والمواثيق. ثم إن قوما من متمرديهم وجبابرتهم تواطأوا بينهم: لئن كان بمحمد كائنة ليدفعُنّ هذا الأمر من علىّ ولا يتركونه. فعرف الله ذلك من قِبَلهم. وكانوا يأتون رسول الله ويقولون: لقد أقمتَ علينا أحب خلق الله إلى الله وإليك وإلينا، فكفيتنا مؤنة الظلمة لنا والمتجبرين فى سياستنا. وعلم الله من قلوبهم خلاف ذلك من مواطأة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، ولدفع الأمر عن مستحقه مُؤْثِرون، فأخبر الله عَزَّ وجَلَّ محمدا عنهم فقال: يا محمد {وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ} الذى أمرك بنصب علىّ إماما وسايسا لأُمتك ومدبرا، {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} بذلك، ولكنهم يتواطأون على إهلاكك وإهلاكه. يوطّنون أنفسهم على التمرد على علىّ إن كانت بك كائنة".
 
ونفس الشىء عند قوله تعالى فى الآية 13 من سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ}، إذ نقرأ أيضا فى ذلك التفسير المنسوب للعسكرى: "قال موسى بن جعفر: إذا قيل لهؤلاء الناكثين للبَيْعة، قال لهم خيار المؤمنين كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار: آمِنُوا برسول الله وعلىّ الذى أوقفه موقفه وأقامه مقامه وأناط مصالح الدين والدنيا كلها به، وآمِنوا بهذا النبى وسلِّموا لهذا الإمام، وسلِّموا له فى ظاهر الأمر وباطنه، كما آمن الناس المؤمنون كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار، آمنوا برسول الله وعلىّ الذى أوقفه وأقامه مقامه وأناط مصالح الدين والدنيا كلها به، وآمنوا بهذا النبى وسلِّموا لهذا الإمام، وسلِّموا له فى ظاهر الأمر وباطنه، كما آمن الناس المؤمنون كسلمان والمقداد وأبى ذر وعمار، قالوا فى الجواب لمن يفضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين، فإنهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، ولكنهم يذكرون لمن يُفْضُون إليه من أهلهم والذين يثقون بهم من المنافقين ومن المستضعفين من المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم، يقولون لهم: {أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ}. يعنون سلمان وأصحابه لما أعطوا عليًّا خالص ودهم ومحض طاعتهم، وكشفوا رؤوسهم بموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه حتى إنِ اضمحل أمر محمد طحطحهم أعداؤه، وأهلكهم سائر الملوك والمخالفين لمحمد. فهم بهذا التعرض لأعداء محمد جاهلون سفهاء. قال الله عَزَّ وجَلَّ: {أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ} الأخفّاء العقول والآراء، الذين لم ينظروا فى أمر محمد حق النظر فيعرفوا نبوته، ويعرفوا صحة ما ناطه بعلمه من أمر الدين والدنيا، حتى بَقُوا لتركهم تأمُّل حجج الله جاهلين، وصاروا خائفين وجلين من محمد وذُرِّيته ومن مخالفيهم، لا يأمنون أيهم يغلب فيهلكون معه. فهم السفهاء حيث لا يَسْلَم لهم بنفاقهم هذا لا محبة محمد والمؤمنين ولا محبة اليهود وسائر الكافرين، لأنهم يُظْهِرون لمحمد من موالاته وموالاة أخيه علىّ ومعاداة أعدائهم اليهود والنصارى، كما يُظهرون لهم معاداة محمد وعلىّ وموالاة أعدائهم، فهم يُقدِّرون فيهم نفاقهم معهم كنفاقهم مع محمد وعلىّ، ولكن لا يعلمون أن الأمر كذلك وأن الله يُطْلِع نبيه على أسرارهم فيخشاهم ويعلنهم ويُسقطهم". وهو يسحب هذا التفسير على آيات أخرى كثيرة لا صلة بينها ولا بين سياقها وبين الصحابة الكرام: أبى بكر وعمر وعثمان ممن يتهمهم الشيعة بأنهم اسْتَوْلَوْا على الخلافة من علىّ كرم الله وجهه، كقوله تعالى مثلا: "إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَٱلْهُدَىٰ مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلْكِتَابِ أُولَـٰئِكَ يَلعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ٱللاَّعِنُونَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وغير ذلك.
ومع آية سورة "البقرة" نمضى إلى "تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة" للجنابذى (ت القرن 14 هـ) فنجده يقول: "{وَمِنَ ٱلنَّاسِ}: لـمّا انساق ذكر الكتاب الذى هو أصل كلّ الخيرات وعنوان كلّ غائب وغائب كلّ عنوان، ومصدر الكلّ وكلّ المصادر والصّوادر، أعنى كتاب علىّ (ع)، إلى ذكر المؤمنين وذكر قَسِيمهم، أعنى المسجَّل عليهم بالكفر، أراد أن يذكر المذبذب بينهما، أعنى المنافق المظهر للإيمان باللّسان المضمر للكفر فى القلب، تتميما للقسمة وتنبيها للامّة على حال هذه الفِرْقة وتحذيرا لهم عن مثل أحوالهم. بل نقول: كان المقصود من سَوْق تبجيل الكتاب إلى ذكر المؤمنين واستطرادهم بالكافرين ذكر هؤلاء المنافقين الذين نافقوا بولاية علىّ (ع)، خصوصا على ما هو المقصود الأتمّ من الكتاب والإيمان والكفر والنّفاق، أعنى كتاب الولاية والايمان والكفر والنّفاق به، فإنه أقبح أقسام الكفر فى نفسه وأضرّها على المؤمنين وأشدّها منعا للطّالبين. ولذا بسط فى ذمّهم وبالغ فى ذكر قبائحهم وذكر مثل حالهم فى آخر ذمّهم قرينةً دالّةً على أنّ المراد المنافقون بالولاية لأنّ المنافقين بالرّسالة ليست حالهم شبيهة بحال المستوقد المضيء، فإنّ المنافق بالرّسالة لا يستضيء بشيء من الأعمال لعدم اعتقاده بالرّسالة وعدم القبول من الرّسول بخلاف المنافق بالولاية فإنه بقبوله للرسالة يستضيء بنور الرّسالة والاعمال المأخوذة من الرّسول (ص). لكن لـمّا لم تكن أعماله المأخوذة وقبوله الرّسالة متّصلة بنور الولاية كان نوره منقطعا. وما يستفاد من تفسير الامام أنّ الآية كانت إشارة إلى ما سيقع من النّفاق بعلىّ (ع) يوم الغدير ومبايعة الأمّة والمنافقين معه. وتواطؤهم على خلافه بعد البيعة وبعد التّأكيد بالعهود والمواثيق عليهم يدلّ على أنّ المراد النّفاق بالولاية". ولعل القارئ لم يفته، فى هذا النص، الربط الخطير بين على وبين الألوهية، ولا اتهام كبار الصحابة ومن لم يشترك فى ذمهم وتنقيصهم وكراهيتهم بالنفاق والكفر، أعوذ بالله.
ومن البين الجلىّ أن الذين يتهمون الخلفاء الثلاثة الأوائل ويتهمون كذلك من لم ينكر عليهم ورضى بخلافتهم، بالنفاق والكفر إنما يلقون الكلام على عواهنه دون عقل أو منطق أو استلهام لمنطق التاريخ وروح الإسلام وسياق الآيات وتصرفات النبى ومواقفه وأحاديثه، وقبل ذلك مواقف على وأحاديثه فى حق أولئك الصحابة الكرام. ذلك أنه ليس من المعقول أن يعرف النبى نفاق أولئك الصحابة وكفرهم ويظل على علاقته الطيبة معهم طوال الوقت لا يصدر منه ما يوحى على الأقل بتوجسه منهم وانقباضه عنهم. لقد كان عليه السلام، على العكس من ذلك، يكرمهم ويقربهم دائما منه ويثنى عليهم ويشاورهم ويطمئن إليهم ويستعين بأموالهم وجهودهم فى تدعيم الدين الجديد. وهم من جهتهم لم يصدر عنهم فى حياته ولا بعد مماته ما يمكن أن يغمص فى دينهم ولا أخلاقهم، بل كانوا طول الوقت مخلصين له ولدينه وضَحَّوْا فى سبيله بكل نفيس وغال لم يتقهقروا يوما. وعند توليهم الخلافة لم يقصّروا فى ذات الله ولا فى ذات الدين، بل صنعوا كل ما بوسعهم لنصره ونشره وتأييده. لقد كانوا أمثلة عليا قلما يجود الزمان بنظيرها. ولا ننس أنه صلى الله عليه وسلم قد تزوج عائشة بنت أبى بكر، وحفصة بنت عمر، وزوّج اثنتين من بناته لعثمان، وقال له حين ماتت الأخيرة منهما: لو كانت عندنا ثالثة لزوّجناك! فهل يمكن أن يكون هؤلاء منافقين؟ أعوذ بالله! بل هل يمكن أن يجىء الإسلام أصلا بوراثة الحكم؟ فما الجديد الذى أتى به إذن إذا كان قُصَارَى ما لديه فى ذلك هو التوريث دون الكفاءة واختيار الناس لمن يحكمهم؟ ولا يحتجَّنّ أحد بأن معاوية قد فعلها وورّث الحكم من بعده لابنه وأسرته، فليس صنيع معاوية هنا بالذى نرضاه، بل نرفضه وندينه ونرى أنه غير ما يريده الإسلام. ثم لماذا لم نسمع عليا يذم أبا بكر وعمر وعثمان ويرميهم بالنفاق؟ لقد زوج ابنته مثلا لعمر، فكيف يزوجها لرجل من المنافقين؟ إن هذه لوصمة فى خلق علىّ قبل أن تكون سبة فى جبين عمر إن كان عمر فعلا هو كما يقول المرجفون! ثم لقد انتهت الخلافة إلى علىّ كرم الله وجهه بعد موت الخلفاء الثلاثة الأوائل ولم تستقم له الأمور رغم ذلك، فهل كانوا هم أيضا الذين أفسدوها عليه، وهم فى قبورهم؟
وأما من ناحية السياق الذى وردت فيه الآية فإنه لا يمكن أبدا أن يؤدى إلى هذا المعنى الذى يفتريه المفترون. ذلك أن الكلام فى أول السورة يدور على "الكتاب"، أى القرآن. بيد أن المفترين يتصورون أنهم يستطيعون أن يلووا ذراع النص لينطق بما يشتهون، وهيهات. إنهم يزعمون أن "الكتاب" المقصود إنما هو الكتاب الذى يدّعون أن النبى عليه السلام قد كتبه بوراثة على وذريته لحكم المسلمين بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى، مع أنه لم يسبق أى ذكر لهذه المسألة بتاتا فى الآيات الماضية، ومن ثم لا يصلح أن يكون الحديث فيها عن "الكتاب" المزعوم، بل عن "الكتاب" بمعنى القرآن، كما فى كل السور التى تبتدئ بذكر الكتاب أو آياته مثل سورة "آل عمران" و"الأعراف" و"يونس" و"هود" و"الرعد" و"الحِجْر" و"الكهف"... ومعظم هذه السور قد نزل فى مكة، أى قبل أن يكون هناك على حد زعم الزاعمين كتابٌ مكتوب ينص على حق علىٍّ وذريته فى خلافة النبى على حكم المسلمين إلى الأبد لأن الشيعة يقولون إن ذلك الكتاب إنما كُتِب فى المدينة. كما أن الكتاب المزعوم لا تصدق معه كلمة "آيات" التى وردت فى عدد من افتتاحيات السور المذكورة لأنه لا يشتمل على آيات بل على شروط وبنود.
على أية حال تعالَوْا نقرأ معا مفتتح سورة "البقرة" لنرى ماذا فيه. يقول المولى سبحانه: "الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ". هذا ما تقوله افتتاحية "البقرة"، فكيف يا ترى يجرؤ زاعم على الادعاء بأن أولئك الصحابة الكرام لا يندرجون، بل لا يأتون على رأس من يندرجون، تحت هذه الصفات: صفات الإيمان بالغيب والإيمان بما نُزِّل على محمد وعلى إخوانه الأنبياء من قبل وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله والإيقان بالآخرة؟ وإن لم يندرج هؤلاء، فمن يا ترى يمكن أن ينجو ويدخل الجنة؟ ثم لقد وُسِم المنافقون فى آياتنا هذه بأنهم "إِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ"، فمتى قال هؤلاء الصحابة الشرفاء النبلاء ذلك؟ ولمن قالوه يا ترى؟ وكيف سكت المسلمون جميعا بما فيهم علىّ فلم يشنّعوا عليهم ويفضحوهم؟ وكيف رضى على بتزويج عمر ابنته أم كلثوم؟ أكان خوّافًا إلى هذا الحد فكان يتبع معهم أسلوب التقية؟ إنه إذن ليس عليًّا البطل الشجاع الجسور المقدام الذى نعرفه. بل كيف سكت النبى عليه السلام فلم يتصرف بمقتضى هذه الآية؟ أم تراه كان يخافهم ويتخذ معهم هو أيضا حيلة التقية؟ ألا إن ذلك لمما تضجّ منه العقول والضمائر والنفوس! بل كيف سكت القرآن فلم يضع نهاية حاسمة لتلك المهزلة، مهزلة أن كل من حول النبى منافقون كافرون، اللهم إلا عليا كرم الله وجهه ونفرا ضئيلا من الصحابة الكرام ممن وقفوا بعد ذلك إلى جانبه؟
ويستمر الفيض الكاشانى على سنته الشريرة فى الطعن على الخلفاء الثلاثة الكرام بكل سبيل. ومن هذا تفسيره لقوله تعالى فى الآية رقم 40 من سورة "التوبة" عن الغار الذى لجأ إليه النبى والصديق أثناء هجرتهما إلى المدينة: "إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)"، إذ يقول فى هذا التفسير: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، وهو أبو بكر: {لاَ تَحْزَنْ}، لا تخف، {إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا} بالعصمة والمعونة. فى الكافى عن الباقر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يقول لأبى بكر فى الغار: "اسكن، فإن الله معنا". وقد أخذته الرعدة وهو لا يسكن. فلما رأى رسول الله حاله قال له: تريد أن أريك أصحابى من الأنصار فى مجالسهم يتحدثون؟ وأريك جعفر وأصحابه فى البحر يغوصون؟ قال: نعم. فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على وجهه فنظر إلى الأنصار يتحدثون، وإلى جعفر وأصحابه فى البحر يغوصون، فأضمر تلك الساعة أنه ساحر، {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ} أَمَنَتَه التى تسكن إليها القلوب {عَلَيْهِ}. فى الكافى عن الرضا أنه قرأها: "على رسوله". قيل له: هكذا؟ قال: هكذا نقرؤها، وهكذا تنزيلها. والعياشى عنه: إنهم يحتجون علينا بقوله تعالى: {ثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ٱلْغَارِ}، وما لهم فى ذلك من حُجَّة، فوالله لقد قال الله: "فأنزل الله سكينته على رسوله" وما ذكره فيها بخير. قيل: هكذا تقرأونها؟ قال: هكذا قراءتها".
وغريبٌ جِدُّ غريبٍ أن يتم تفسير آيات الله بهذه الطريقة المفسدة للنص القرآنى قبل أن تكون مفسدة للذوق والمروءة والدين والحق والصدق والتاريخ، إذ كيف يُتَّهَم بهذه الطريقة البشعة الكريهة أبو بكر، رضى الله عنه، الذى لُقِّب بــ"الصديق" لتصديقه النبى فى كل ما أتى به وتصديه للكفار فى مواقف حاسمة خطيرة متعددة كذّبوه صلى الله عليه وسلم فيها، وبخاصة غداة حادثة الإسراء والمعراج التى زلزلت إيمان بعض المسلمين أنفسهم على ما هو معروف، فيقال عنه إنه كان يعتقد أن رسول الله ساحر؟ وهل مثل أبى بكر، بعد كل الذى صنعه من أجل نصرة الإسلام وبعد كل الذى تلقاه من الأذى وأنفقه من الأموال فى سبيل الله، يمكن أن يشك فى صدق الوعد الإلهى فى تلك الظروف بأنه سبحانه ناصر رسوله ودينه حتى يحتاج إلى أن يريه النبى أصحابه الغائبين على ذلك النحو الإعجازى الذى لم ينجح رغم ذلك فى تهدئة شكوكه ومخاوفه واضطراب أعصابه، بل زاده حيرة وضلالا (أستغفر الله) فأضمر لساعتها أن محمدا ساحر؟ لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا يا ترى استمر فى رحلته معه ولم ينقلب إلى مكة "ويفضّها سيرة" ويتحول إلى معسكر المشركين؟ ولماذا اختار النبى هذه المعجزة بالذات فى ذلك الوقت؟ وهل كانت الظروف ملائمة للقيام بها وهما حابسان أنفاسهما فى الغار على مقربة من أقدام المطاردين؟ ومادام ثَمّ مكان للمعجزة فى تلك الظروف، أفلم يكن الأجدى أن تكون تلك المعجزة هى نقلهما فى لمح البصر إلى يثرب بعيدا عن الخطر المحدق بهما، وكفى الله المؤمنين شر الحيرة والضلال؟ ثم ما معنى أن النبى أراه جعفرا وأصحابه فى البحر يغوصون؟ هل كانوا يمتهنون الصيد أو البحث عن اللؤلؤ تحت الماء فى الحبشة حيث كانوا يقيمون وقتها؟ وأى بحر يا ترى كان ذلك، وهم إنما كانوا يعيشون على مقربة من النجاشى فى عاصمة بلاده بعيدا عن البحار؟ ولماذا هذا المشهد بالذات؟ ولقد قرأت فى تفسير "نـور الثقلين" لعبد على بن جمعة العروسى الحويزى (ت 1112هـ) رواية تقول إن النبى أَرَى أبا بكر جعفرا وأصحابه راكبين السفينة فى البحر. فما معنى ذلك؟ هل كانوا فى طريقهم للعودة إلى بلاد العرب؟ لكنهم لم يعودوا إلا بعد هذا بأعوام على ما هو معلوم، حيث ذهبوا إلى المدينة مباشرة. ثم لماذا جعفر وأصحابه بالذات؟ وهل عبارة "لا تحزن" معناها: "لا تخف"؟ ثم ما دام أبو بكر خائفا إلى هذا الحد، فمن كان أَوْلَى الاثنين بإنزال السكينة: النبى الرابط الجأش الثابت الجَنَان أم أبو بكر المضطرب اللهفان؟ ولماذا ترك الله سبحانه نبيه يطمئنّ إلى صحبة أبى بكر دون غيره من الصحابة فى هذه الرحلة البالغة الخطورة ما دام فى إيمانه دَخَل؟ ولقد كنت أحدث زوجتى فى هذا الأمر ثانى يوم كتبت فيه الفقرات السابقة واللاحقة، فإذا بها تسألنى مستنكرة موقف الشيعة فتقول: فمن يا ترى أخبر هؤلاء الناس بما جرى فى الغار؟ فقلت: ليس أمامنا إلا افتراضان: فإما أن الرسول هو الذى روى ما حدث، وإما أبو بكر نفسه. فأما أبو بكر فلن يقول عن نفسه إنه ضعيف الإيمان بالإسلام ما دام لم يشأ أن يعلن مشاعره الحقيقية تجاه ذلك الدين وتجاه الرجل الذى أتى به. فلم يبق إلا النبى. لكن من الذى روى له النبى ما وقع؟ فليجب هؤلاء الزاعمون إن كان عندهم ما يقولون. ولكن هيهات ثم هيهات ثم هيهات! وإلا ما سكتوا طوال تلك القرون. إنها كذبة غير محبوكة الأطراف كما نرى. وفى تفسير الجنابذى لتلك الآية نقرأ نفس الكلام.
أما الطوسى فرغم أنه لم يورد تلك الرواية البلهاء لم يشأ أن يمر الأمر بسلام، فقال إن وصف القرآن لأبى بكر بأنه "صاحبه"، أى صاحب النبى، لا يوجب له فضيلة، إذ الصحبة تطلق حتى على الكافر واليهودى، بل حتى على البهائم. بارك الله فيك يا مولانا على أدبك الرفيع! ما كل هذا الذوق؟ وما كل تلك اللياقة؟ والطريف أنه يقول، بعد ذلك كله وبعد أن جرَّد أبا بكر من كل فضيلة ولوى الآية ووقائع التاريخ عن وجهتها، إنه لم يذكر هذا للطعن على أبى بكر! وهل تركت يا مولانا شيئا فى عِرْض أبى بكر لم تمزقه بحقدك وسواد قلبك؟ على كل حال هذا هو كلامه نصًّا فى النقطة الأخيرة: "وليس في الآية ما يدل على تفضيل أبي بكر، لأن قوله: {ثاني اثنين} مجرد الإخبار أن النبي صلى الله عليه وآله خرج ومعه غيره، وكذلك قوله: {إذ هما في الغار} خبر عن كونهما فيه، وقوله: {إذ يقول لصاحبه} لا مدح فيه أيضا، لأن تسمية "الصاحب" لا تفيد فضيلة. ألا ترى أن الله تعالى قال في صفة المؤمن والكافر: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك}؟ وقد يسمون البهيمة بأنها صاحب الانسان كقول الشاعر: "وصاحبي بازلٌ شمول". وقد يقول الرجل المسلم لغيره: "أُرْسِلُ اليك صاحبي اليهودي"، ولا يدل ذلك على الفضل. وقوله: {لا تحزن} إن لم يكن ذمًّا فليس بمدح، بل هو نهي محض عن الخوف. وقوله: {إن الله معنا} قيل إن المراد به النبي صلى الله عليه وآله. ولو أريد به أبو بكر معه لم يكن فيه فضيلة، لأنه يحتمل أن يكون ذلك على وجه التهديد، كما يقول القائل لغيره إذا رآه يفعل القبيح: "لا تفعل. إن الله معنا"، يريد أنه متطلع علينا، عالم بحالنا. والسكينة قد بيَّنّا أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وآله بما بيناه من أن التأييد بجنود الملائكة كان يختص بالنبي صلى الله عليه وآله. فأين موضع الفضلية للرجل لولا العناد؟ ولم نذكر هذا للطعن على أبي بكر، بل بينا أن الاستدلال بالآية على الفضل غير صحيح".
وفى تفسير القمى أنه، بعد أن أرى الرسول أبا بكر ما أراه وقال هذا فى نفسه ما قال، نسمعه صلى الله عليه وسلم يقول له: "وأنت الصديق"، وهو ما لا أفهم له معنى، إلا أن تكون الجملة استفهامية إنكارية، بمعنى: "أتقول هذا وأنت المسمَّى بــ"الصدّيق"؟ كأنه عليه السلام ينكر صِدِّيقيّته ويتهكم بها. أعوذ بالله، وإلا فلماذا ظل عليه السلام يقرّبه إليه ويكرمه ويستشيره؟ بل لماذا أتم زواجه من ابنته ما دام قد اتضح له أنه ليس أهلا لتلك المصاهرة؟ ثم يضيف القمى بأن كلمة الله العليا فى قوله عز شأنه عند نهاية الآية: "وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمةُ الله هى العليا" هى قول رسول الله وآله. والمغزى واضح، وهو أن كلمة أبى بكر فى المقابل هى الكلمة السفلى لأنها كلمة الذين كفروا. بل لقد جاء هذا التفسير صراحة منسوبا إلى الإمام أبى جعفر فى تفسير "نـور الثقلين" للعروسى الحويزى حيث قال: "قال أبو جعفر عليه السلام: فأنزل الله سكينته على رسوله. ألا ترى أن السكينة إنما نزلت على رسوله وجعل كلمة الذين كفروا السفلى؟ قال: هو الكلام الذي يتكلم به عتيق". و"عتيق" هو اسم أبى بكر رضى الله عنه وأرضاه.
وفى موقع شيعى اسمه "البرهان موقع أهل السنة والقرآن: www.alborhan.org" يطالعنا مقال طويل غُفْل من التوقيع بعنوان "معاناة النبي صلى الله عليه وآله من أبي بكر في الغار" جاء فيه "أن الكفار أخرجوا النبي صلى الله عليه وآله ولم يكن معه إلا شخص واحد، وقد دخل الغار، فلم يكن له أي ملجأ يلجأ إليه أو منفذ يفر إليه بعد أن حوصر فيه. ومع هذه المعاناة الشديدة التي كان يتكبدها من انعدام سبل الخلاص من المشركين بعد أن دخل الغار ووجود الكفار خارج الغار يريدون قتله، مع كل هذه المعاناة "يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا". أي أن النبي صار يتكبد معاناة أخرى غير تلك المآسي المتراكمة، وهي تـهدئة هذا الشخص الذي لم يزل متحسرا على ما فاته خائفا مما سيلحق به مرتعدا مضطربا أوشك أن يوقع بالنبي لشدة خوفه واضطرابه ورعدته! ومازال النبي يقنعه أن الله لن يترك رسوله!... (و)أن الآية الكريمة صريحة في ذم أبي بكر وذم موقفه المثبّط ورعدته واضطرابه وحزنه ومحاولة النبي جاهدا تـهدئته بأن الله معهما، إذ الآية في مقام بيان عظم المأساة وتكالب المصائب عليه وفقدان الناصر للنبي حينها إلا الله لتتجلى عظمة قدرة الله وعظيم سلطانه... (و)أن أبا بكر فشل فشلا ذريعا في هذا الاختبار ولم يكن من الصابرين، (وأنه قد) اختص الله عز وجل معيته وسكينته برسوله، الذي قلق من اضطراب أبي بكر، وأيده بجنود من السماء، وحرم أبا بكر من هذه السكينة التي كان بأشد الحاجة إليها... (وأن) قول النبي مهدئا أبا بكر: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} دليل صريح وواضح على ما قلناه من أن أبا بكر لم يكن ناصرا للنبي في خروجه للغار، وإنما كان عالة ومعاناة ومصدر إزعاج وقلق للنبي حتى احتاج النبي صلى الله عليه وآله لسكينة من الله وأن يذكّر أبا بكر بألف باء الإسلام، وهي معية الله للمؤمنين وصونـهم من الكافرين وأن الله عز وجل يراقبهم ويسمع ويبصر ما يجري بـهم وأن الله ليس بغافل عنهم! ومع كل هذا فشل أبو بكر في هذا الاختبار!... والآية الكريمة الصريحة في موقف أبي بكر المخزي تتعاضد مع الروايات التي تحكي لنا سوء نيته وما أضمره في نفسه عن شخصية النبي صلى الله عليه وآله بأنه ساحر، والعياذ بالله، عندما جرت على يديه صلى الله عليه وآله كرامة عَلَّها تـهدئ روع أبي بكر! ولكن دونما فائدة!".
 
لكن تُرَى لو كان الصِّدّيق رضى الله عنه على النحو الذى يصفه به هذا الكاتب، فكيف نفسر يا ترى استمرار النبى الكريم صلى الله عليه وسلم فى تقريبه إياه إليه ومعاملته بإكرام ومودة وحرصه على مشاورته فى كل أموره؟ وكيف يحكم مثل ذلك الشخص عليه بهذا الحكم الغريب، وهو رضى الله عنه لم تسجَّل عليه مأخوذة مما تؤخذ على المنافقين والمذبذبين وضعفاء الدين؟ فلا هو رجع مرة عن الجيش ولا تخلف عن معركة ولا كانت له مع اليهود مودة ولا كان صديقا لجماعة المنافقين ولا تأخر يوما عن الإنفاق فى سبيل الله ولا اتصل بمشركى مكة يؤلبهم على الإسلام ورسوله؟ بل كل ما أُثِر عنه إنما يدل على نبل وشرف وقوة إيمان وصلابة فى الحق والخير والغيرة على دين الله ورسول الله. ولو كان كارها للنبى ودينه فكيف أبلى هذا البلاء العظيم الرائع فى محاربة الردة وفى الجهاد فى سبيل الله ونشر الإسلام بعد توليه الخلافة؟ أهذه أعمال المنافقين المذبذبين الضارعين الخائفين الذين يعتقدون أن رسول الله ساحر؟ أستعغفر الله العظيم! وليلاحظ القارئ أننى لا أستشهد على فضل أبى بكر بأحاديث أهل السنة أو رواياتهم، بل أستعمل المنطق العام وأستنطق وقائع التاريخ التى لا يستطيع أن يشكك فيها أحد.
أما الطبرسى والطباطبائى فلم يصدر عنهما ما ينال من أبى بكر على النحو الجلف الذى شاهدناه عند الطوسى والجنابذى والكاشانى، وإن كان الطباطبائى قد استفرغ كل وسعه للحيلولة دون القول بنزول السكينة على أبى بكر رضى الله عنه.وكأن الطبرسى قد تبرأ من اجتهاد علماء مذهبه فى إخراج الصديق رضى الله عنه من فضيلة نزول السكينة عليه، إذ قال: "وقد ذكرت الشيعة في تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بالسكينة كلاما رأينا الإضراب عن ذكره أَحْرَى لئلا ينسبنا ناسبٌ إلى شيء". ولا شك أن هذه تُحْسَب له وتُشْكَر مهما يكن باعثه عليها. أما ناصر مكارم الشيرازى صاحب "الأَمْثَل فى تفسير كتاب الله الـمُنْزَل" فقد وقف موقفا وسطا، إذ لم يتعال تماما على التنقص من أبى بكر كالطبرسى، لكنه فى ذات الوقت لم يسئ إليه بشكل مباشر، مكتفيا بالقول بأن الصحبة لا تدل بالضرورة على أن الموصوف بها رجل صالح، بل تصدق على الصالح والطالح جميعا، وإن لم يضرب المثل هنا بالكافر واليهودى والبهائم كما فعل زميل له من قبل. كما أصر على نفى نزول السكينة على الصديق رضى الله عنه.
وتبلغ كراهية الشيعة للصحابة الكرام الذين يَرَوْن أنهم اغتصبوا حق على فى الخلافة أن يقول بعض مفسريهم إن "الجبت والطاغوت" فى قوله تعالى فى الآية الحادية والخمسين من سورة "النساء" هما فلان وفلان، أى أبو بكر وعمر، جاعلين إياهما من الكفار. يقول الكاشانى: "{أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ}. القمّي قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب: أديننا أفضل أم دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: بل دينكم أفضل. قال: ورُوِيَ أيضًا أنها نزلت في الذين غصبوا آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين حقهم وحسدوا منزلتهم. والعياشي عن الباقر عليه السلام: "الجبت والطاغوت" فلان وفلان. أقول: "الجبت" في الأصل: اسم صنم، فاستُعْمِل في كل ما عُبِد من دون الله تعالى. و"الطاغوت" يطلق على الشيطان وعلى كل باطل من معبود أو غيره. {وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا} لأجلهم وفيهم: {أَهَؤُلاءِ} إشارة إليهم {أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}: أقوم دينًا وأرشد طريقًا؟ في الكافي عن الباقر عليه السلام: يقولون لأئمة الضلال والدعاة إلى النار: هؤلاء أهدى من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين. {أُولَئِكَ الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا}.{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ}: إنكار. يعني ليس لهم ذلك. {فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النّاسَ نَقِيرًا}: يعني لو كان لهم نصيب في الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا. في الكافي عن الباقر عليه الصلاة والسلام: أم لهم نصيب من الملك؟ يعني الإمامة والخلافة. قال: ونحن الناس الذين عَنَى الله. و"النقير": النقطة التي في وسط النواة. أقول: لعل التخصيص لأجل أن الدنيا خُلِقَتْ لهم، والخلافة حقهم. فلو كانت الأموال في أيديهم لا نتفع بها سائر الناس، ولو مُنِعوا عن حقوقهم لـمُنِع سائر الناس، فكأنهم كل الناس. وقد ورد: نحن الناس، وشيعتنا أشباه الناس، وسائر الناس نسناس".
وغريب أن يُنْسَب إلى إمام من أهل البيت القول بأنه وأهل بيته هم الناس وحدهم، أما أتباعهم فليسوا ناسا، بل أشباه ناس. وأما بقية البشر فنسناس، يستوى فى ذلك المسلمون وغير المسلمين. ولا أظن الباقر أبدا أو سواه من العترة النبوية يمكن أن تصدر عنه هذه الجلافة والعنجهية التى لا مسوغ لها لا من دين ولا من مروءة ولا من لياقة. وليست هذه سنة جده التى لا أشك لحظة أنه كان حريصا على السير فى نورها وعلى دربها. ثم متى كان النبى وعترته حرصاء على أن تكون الأموال تحت أيديهم على هذا النحو الجشع الذى يحاول أن يتستر برداء الكرم والأَرْيَحِيّة والحرص على مصالح الناس كما فى الكلام المنسوب للإمام الباقر؟ وأمعن من ذلك فى الغرابة وأضل سبيلا أن يقال إن الآية نزلت فى فلان وفلان، أى فى أبى بكر وعمر، والآية إنما نزلت قبل حادثة الغدير بوقت طويل حتى لو صدّقنا بأن النبى عليه السلام قد أوصى بالخلافة فى ذلك اليوم فعلا لعلى وذريته من بعده. فكيف إذن يصدّق عاقل بأن آيةً تتحدث عن حادثة وقعت، وتتحدث عنها بصيغة الماضى (هكذا: "ألم تر...؟")، ثم يقال رغم هذا وذاك إنها نزلت فى أمر لم يقع بعد؟ كما أن الآية واضحة الدلالة على أن المقصود هم أهل الكتاب لا نفر من المسلمين حتى لو كان فى إسلام هؤلاء النفر تهمة. فهل كان الشيخان الكريمان ومن يحبهما ينتسبون إلى أهل الكتاب؟ ثم إن السياق هو سياق حديث عن انتقال النبوة من بنى إسرائيل إلى بنى إسماعيل واضطغان اليهود على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بسبب اختيار الله له رسولا وخروج النبوة بهذه الطريقة من دائرتهم التى لم يكونوا يحسبون يوما أنها يمكن أن تخرج منها. فما علاقة هذا بالخلافة وحكم المسلمين؟ إنهما أفقان مختلفان تماما.
وغريب كذلك أن ينسب الكاشانى إلى القمى الكلام التالى كله: "القمّي قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب: أديننا أفضل أم دين محمد صلّى الله عليه وآله وسلم؟ قالوا: بل دينكم أفضل. قال: ورُوِيَ أيضًا أنها نزلت في الذين غصبوا آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين حقهم وحسدوا منزلتهم"، مع أن كل ما قاله القمى فى تفسيره هو ما يلى لا أكثر ولا أقل: "قوله: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً}، قال: نزلت في اليهود حين سألهم مشركو العرب، فقالوا: ديننا أفضل أم دين محمد؟ قالوا: بل دينكم أفضل". وكما هو واضح ليس فى كلام القمى شىء من التفسير الأخير المنسوب له، فكيف إذن ينسب إلى ذلك المفسر ما لم يقله؟ من البين أن الكاشانى إنما صنع ما صنع على سبيل التكثر من التفاسير المسيئة، ولمجرد النكاية فى الشيخين الكريمين! ومع هذا فإن القمى يفسر قوله تعالى قبيل ذلك: "{أَلَمْ تَرَ إلَى الّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ} بأن المقصود هنا "هم الذين سَمَّوْا أنفسهم بالصِّدّيق والفاروق وذي النورين". أما الطوسى والطبرسى والطباطبائى فقد اكتفَوْا بالقول بأن الكلام فى الآيات كلها عن اليهود، ولم يتطرقوا إلى ذكرالصِّدّيق والفاروق وذي النورين، عليهم رضوان الله، ونزهوا أقلامهم هنا عن التشنيع عليهم. وأما الجنابذى فإنه، وإن لم يصف الشيخين بــ"الجبت والطاغوت"، قد أخرج كل من ليس بشيعى من زمرة المؤمنين الذين سوف يغفر الله لهم، وسوف يكون الغفران آليًّا لا لشىء إلا لمجرد تذوق شيعة على لتجربة الموت ليس إلا. وهذا كلام الرسول حسبما يزعمون، إذ ينسبون إليه الحديث التالى: "لو انّ المؤمن خرج من الدّنيا وعليه مثل ذنوب اهل الارض لكان الموت كفّارة لتلك الذّنوب". والمؤمن لديهم هو المؤمن بولاية على، أما المشرك فهو من أشرك فى تلك الولاية، وهو أيضا منافق.
وعلى كلٍّ فهذا هو النص فى سياقه كاملا حتى يتبين القارئ أنه لا علاقة بتاتا بينه وبين أبى بكر وعمر وعلىّ رضى الله عن الجميع رضا واسعا، وأن الجبت والطاغوت يستحيل أن يكون المقصود بهما الخليفتين الأولين، إذ الكلام فى النص من أوله إلى آخره إنما يدور على اليهود فى المدينة وانحيازهم لوثنيى مكة ضد الرسول ودينه وأتباعه وشهادتهم الكاذبة بأن شركهم أفضل من التوحيد الذى أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ* وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا* مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً* إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً* انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلاً* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا* أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا* أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا* فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا". إن القول بأن "الجبت والطاغوت" فى النص الشريف هما أبو بكر وعمر إنما هو جهل باللغة والتاريخ وضلال فى العقل والفهم قبل أن يكون إثما دينيا. ومن العيب بل من الخزى أن يتصدى لتفسير القرآن الكريم من لا يفهمون لغته ويصلون فى الجهل بها إلى هذا المدى! وقد فسّر الطبرسى والطباطبائى الآيات على أنها جميعها فى اليهود كما سلفت الإشارة.
وفى قوله جل جلاله من سورة "المائدة": "إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)" يقول الطوسى: "اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية فيه: فروى أبو بكر الرازي في كتاب "أحكام القرآن" على ما حكاه المغربي عنه، والطبري والرماني ومجاهد والسدي، أنها نزلت في علي (ع) حين تصدق بخاتمه وهو راكع. وهو قول أبي جعفر وأبي عبد الله (ع) وجميع علماء أهل البيت. وقال الحسن والجبائي: إنها نزلت في جميع المؤمنين. وقال قوم: نزلت في عبادة بن الصامت في تبرُّئه من يهود بني قينقاع وحلفهم إلى رسول الله والمؤمنين. وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا فقطعت اليهود موالاتهم، فنزلت الآية. واعلم أن هذه الآية من الأدلة الواضحة على إمامة أمير المؤمنين (ع) بعد النبي بلا فصل.
ووجه الدلالة فيها أنه قد ثبت أن "الوليَّ" في الآية بمعنى الأولى والأحقّ. وثبت أيضا أن المعنيّ بقوله: {والذين آمنوا} أمير المؤمنين (ع). فإذا ثبت هذان الأصلان دل على إمامته، لأن كل من قال إن معنى "الوليّ" في الآية ما ذكرناه قال إنها خاصة فيه، ومن قال باختصاصها به (ع) قال: المراد بها الإمامة... فالذي يدل على أن أمير المؤمنين (ع) هو المخصوص بها أشياء: منها أن كل من قال إن معنى الولي في الآية معنى الأحقّ قال إِنه هو المخصوص به. ومن خالف في اختصاص الآية يجعل الآية عامة في المؤمنين، وذلك قد أبطلناه. ومنها أن الطائفتين المختلفتين: الشيعة وأصحاب الحديث رووا أن الآية نزلت فيه عليه السلام خاصة. ومنها أن الله تعالى وصف الذين آمنوا بصفات ليست حاصلة إِلا فيه، لأنه قال: {والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}، فبين أن المعنيّ بالآية هو الذي آتى الزكاة في حال الركوع. وأجمعت الأمة على أنه لم يُؤْتِ الزكاة في حال الركوع غير أمير المؤمنين (ع)، وليس لأحد أن يقول: إِن قوله: {وهم راكعون} ليس هو حالاً لـ{يؤتون الزكاة}، بل المراد به من صفتهم إِيتاء الزكاة، لأن ذلك خلاف لأهل العربية، لأن القائل إِذا قال لغيره: "لقيت فلانا وهو راكب" لم يُفْهَم منه الا لقاؤه له في حال الركوب، ولم يفهم منه أن من شأنه الركوب. وإذا قال: "رأيته وهو جالس أو جاءني وهو ماش" لم يفهم من ذلك كله إِلا موافقة رؤيته في حال الجلوس أو مجيئه ماشيا. واذا ثبت ذلك وجب أن يكون حكم الآية مثل ذلك.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون الركوع المذكور في الآية المراد به الخضوع؟ كأنه قال: يؤتون الزكاة خاضعين متواضعين كما قال الشاعر:
ولا تهين الفقير عَلَّكَ أن* تركع يومًا، والدهر قد رَفَعَهْ
والمراد "عَلَّك أن تخضع"، قلنا الركوع هو التطأطؤ المخصوص. وإِنما يقال للخضوع ركوعا تشبيها ومجازا لأن فيه ضربا من الانخفاض. يدل على ما قلناه نص أهل اللغة عليه. قال صاحب العين: كل شئ ينكبّ لوجهه فتمس ركبتيه الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطئ رأسه فهو راكع. قال لبيد:
أخبّر أخبار القرون التي مضت* أدبّ كأني، كلما قمت، راكعُ
وقال ابن دريد: الراكع الذي يكبو على وجهه، ومنه الركوع في الصلاة... فإن قيل: قوله: {الذين آمنوا} لفظ جمع كيف تحملون ذلك على الواحد؟ قيل: قد يعبر عن الواحد لفظ الجمع إِذا كان معظما عالي الذكر. قال تعالى: {إِنا نحن نزلنا الذكر وإِنا له لحافظون}، {ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها}، ونظائر ذلك كثيرة. وقال: {الذين قال لهم الناس إِن الناس قد جمعوا لكم}، ولا خلاف في أن المراد به واحد، وهو نُعَيْم بن مسعود الأشجعي... فإذا ثبت استعمال ذلك كان قوله: {الذين يقيمون الصلاة} محمولا على الواحد الذي قدمناه. فإن قيل: لو كانت الآية تفيد الإمامة لوجب أن يكون ذلك إماما فى الحال ولجاز له أن يأمر وينهى ويقوم بما يقوم به الأئمة، قلنا: من أصحابنا من قال: إِنه كان إِمامًا في الحال، ولكن لم يأمر لوجود النبي صلى الله عليه وسلم، وكان وجوده مانعًا من تصرفه. فلما مضى النبي صلى الله عليه وسلم قام بما كان له. ومنهم من قال، وهو الذي نعتمده، إن الآية دلت على فرض طاعته واستحقاقه للامامة. وهذا كان حاصلا له...
فإن قيل: أليس قد رُوِيَ أنها نزلت في عبادة بن الصامت أو عبد الله بن سلام وأصحابه؟ فما أنكرتم أن يكون المراد بالذين آمنوا هم دون من ذهبتم اليه؟ قلنا: أول ما نقوله إِنا دلّلنا على أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين (ع) بنقل الطائفتين، ولما اعتبرناه من اعتبار الصفة المذكورة في الآية وأنها ليست حاصلة في غيره بطل ما يُرْوَى في خلاف ذلك. على أن الذي رُوِيَ في الخبر من نزولها في عبادة بن الصامت لا ينافي ما قلناه، لأن عبادة لما تبرأ من حلف اليهود أُعْطِيَ ولاية من تضمنته الآية... والذي يكشف عما قلناه أنه قد رُوِيَ أنها لما نزلت خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت، فقال لبعض أصحابه: "هل أعطى أحد سائلاً شيئا؟". فقالوا: نعم يا رسول الله. قدأعطى علي بن أبي طالب السائل خاتمه، وهو راكع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر! قد أنزل الله فيه قرآنًا"، ثم تلا الآية الى آخرها. وفي ذلك بطلان ما قالوه... فأما "الولي" بمعنى الناصر فلسنا ندفعه في اللغة، لكن لا يجوز أن يكون مرادا في الآية لما بيناه من نفي الاختصاص. وإِقامة الصلاة ِإتمامها بجميع فروضها، من قولهم: فلان قائم بعمله الذي وَلِيَه، أي يوفي العمل جميع حقوقه، ومنه قوام الآمر. وفي الآية دلالة على أن العمل القليل لا يفسد الصلاة".
والذى قاله الطوسى هنا فى دلالة الآية على حق علىّ فى خلافة النبى فى حكم المسلمين يقوله علماء الشيعة كلهم، سواء منهم من أورد التفاسير والروايات الأخرى أو لا. ورغم محبتى الشديدة لعلى بن أبى طالب، وإن كنت لا أفضله على الشيوخ الثلاثة ولا أفضلهم عليه، بل أَكِلُ ذلك إلى الله وأكتفى بالقول بأن كلا منهم قد خدم الإسلام بعبقريته ومواهبه الخاصة التى أفاضها الله عليه، أقول: إننى، رغم محبتى له كرم الله وجهه، لا أستطيع الاقتناع بما قاله الطوسى للأسباب التالية التى لا أعدّها مع ذلك ملزمة له ولا لغيره، بل هى مجرد رأى اجتهدت فيه ولم آلُ. فالشيعة، كما هو واضح، يفهمون الولاية فى النص الذى بين أيدينا على أنها ولاية الحكم، بمعنى أن خلافة النبى بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى هى من حق علىّ وذريته دون المسلمين جميعا رغم أن السياق لا يقبل هذا الفهم أبدا. فالآية تحدد الذين يجب على المسلم موالاتهم بعد أن حذرته الآيات السابقة عليها من موالاة اليهود والنصارى الذين يتآمرون على الإسلام والمسلمين. فليس الكلام إذن عن الولاية السياسية، بل عن موالاة المودة والتعضيد والمعاونة، ولا يُعْقَل أن يحصر الله سبحانه موضوع هذه الولاية فى علىّ رضى الله عنه لا غير، فعلىّ رغم صفاته النبيلة الكثيرة ليس هو المؤمنين جميعا، بل مجرد فرد واحد منهم فحسب. فرد كريم وعظيم ومن أفذاذ الرجال نعم، لكنه رغم هذا ليس إلا فردا واحدا. وإلا فماذا نسمى سائر الصحابة إن كان علىّ هو المؤمنين جميعا؟ إن هناك رواية تقول إنه كان يصلى يوما حين دخل المسجد سائل، فما كان منه كرم الله وجهه إلا أن خلع خاتمه وهو راكع وأعطاه إياه. لكن هل يعد هذا الفعل إيتاء للزكاة أو لا يعدو أن يكون صدقة نافلة؟
ثم إن الآية قد عبرت عن إيتاء الزكاة بصيغة المضارع (هكذا: "ويؤتون الزكاة وهم راكعون") بما يدل على أن هذا العمل كان يتم بهذه الصورة دائما. فهل كان علىّ يؤتى زكاته باستمرار وهو راكع؟ وهل كان علىّ هو وحده هو الذى يقيم الصلاة دون سائر المسلمين ما دامت الآية قد وصفت الذين آمنوا بأنهم "يقيمون الصلاة"؟ ثم ألا تصح الزكاة إلا إذا أعطاها الإنسان وهو راكع ما دامت الآية قد حددتها بذلك؟ لقد كانت الزكاة تؤدَّى لموظفين مختصين بجمعها فى أوقات معلومة ممن تجب عليهم وإيصالها لمن يستحقونها، وليس للمحتاجين مباشرة أو فى أى وقت كما يزعم أصحاب هذا التفسير الغريب. وفضلا عن ذلك فقد نهى الرسول عن السؤال فى المساجد، فكيف يصح تفسير الآية بما يفيد أنها تُثْنِى على من يخالفون وصية النبى عليه السلام فى هذا الشأن فيعطون الصدقات للذين يسألون داخل المسجد واصفة إياهم بكمال الإيمان؟ ولو غضضنا الطرْف عن هذه، أفلم يكن ممكنا أن ينتظر علىّ، كرم الله وجهه، إلى أن يفرغ من صلاته ويتثبت من حاجة السائل الفعلية ومقدار ما يحتاجه من مال؟
وذلك كله علاوة على صرف "الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة" من الدلالة على الجمع إلى الدلالة على الواحد دون أدنى مسوغ. وفوق هذا فقد ورد فى صفة المؤمنين فى مواضع كثيرة من القرآن الكريم أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ولا يقول عاقل إن المقصود بهذا كله هو على وحده. وقد أوردت الترجمة الإنجليزية لتفسير العالم الباكستانى أبى الأعلى المودودى هذه الآية على النحو التالى: "Only Allah, His Messenger, and those who establish Prayer, pay Zakah, and bow (before Allah) are your allies". وبهذه الطريقة أبعدتها عن أن تكونموضعا للأخذ والرد بين طوائف المسلمين، إذ اصبح معناها هو: "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون اصلاة ويؤتون الزكاة ويركعون"، فــ"الواو" فى "وهم راكعون" ليست "واو حال"، بل "واو عطف أو استئناف". أى أن المؤمنين من صفاتهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع. و"الركوع" هنا بمعناه المجازى، وهو الخضوع والإخبات. أى أن هؤلاء المؤمنين حين يخرجون زكاتهم إنما يفعلون ذلك تواضعًا وبِرًّا بالمحتاجين، ورجاءً فى المثوبة الإلهية، ولا يشمخون بها على الفقراء والمساكين أويراؤون الناس بها من حولهم. وقد ورد فى الشعر الجاهلى لفظ "الركوع" بهذا المعنى:
سيبلغ عذرا أو نجاحا من امرئٍ* إلى ربه رب البرية راكع
كل ذلك، ولم أتطرق إلى تضعيف ابن تيمية وغيره للرواية التى تنسب إلى على تصدقه بخاتمه فى الركوع، لأننى أعرف ماذا سيكون الرد على هذا، إذ سيقال: ولكن الرواية عندنا نحن صحيحة.
ويرتبط بالآيتين السابقتين قوله عز شأنه فى الآية السابعة والستين من ذات السورة: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ"، التى ذكر الطوسى فى تفسيرها أربعة أقوال، مع أخذه بالقول الأخير بطبيعة الحال لأنه هو أساس التمييز بينهم وبين سائر فرق المسلمين، ولأنه منسوب إلى اثنين من أئمتهم: "قيل في سبب نزول هذه الاية أربعة أقوال: أحدها: قال محمد بن كعب القُرَظِيّ وغيره إِن اعرابيا هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه شجرة حتى انتثر دماغه. الثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يهاب قريشا فأزال الله عز وجل بالآية تلك الهيبة. وقيل: كان للنبي صلى الله عليه وسلم حراس بين أصحابه، فلما نزلت الآية قال: الحقوا بملاحقكم، فإن الله عصمني من الناس. الثالث: قالت عائشة إن المراد بذلك إزالة التوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من الوحي للتقيّة. الرابع: قال أبو جعفر وأبو عبد الله عليهما السلام إن الله تعالى لما أوحى الى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستخلف عليا كان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل الله تعالى هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه. والآية فيها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب عليه تبليغ ما أُنْزِل اليه من ربه وتهديد له إن لم يفعل وأنه يجري مجرى إن لم يفعل ولم يبلّغ رسالته". وإن الإنسان ليتساءل: منذ متى كان النبى يخشى أن يثير غضب المسلمين فى أمر نزل به الوحى ووجب عليه تبليغه لهم حتى يقال هنا إنه خاف أن يبلغهم استخلاف الله عليا عليهم بعد لحاقه هو بالرفيق الأعلى؟ وإذا كانت إمامة على من أركان الدين إنها إذن لكارثة أن يتلجلج فيها النبى كل هذا التلجلج حتى لينزل عليه الوحى يهدده على هذا النحو. الواقع أن ما يقال عن استخلاف على، رغم إجلالى وإكبارى إياه وحبى الشديد له ولولديه سِبْطَىْ رسول الله، هو أمر لا يقنعنى أبدا. ومع هذا فمن حق الشيعة أن يؤمنوا بذلك، لكننا كنا نودّ ألا يجرمهم هذا الحب على البذاءة فى حق غيره من الصحابة الأجلاء، وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم وعن علىٍّ أجمعين.
وفى القمى تفسيرا لقوله تعالى من سورة "النحل": "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ... (69)" نقرأ الآتى: "قوله: {وأوحى ربك إلى النحل} قال: وحيُ إلهام. تأخذ النحل من جميع النَّوْر ثم تتخذه عسلاً. وحدثني أبي عن الحسن بن علي الوشّاء عن رجل عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله: "وأوحى ربك إلى النحل"، قال: نحن النحل التي أوحى الله إليها {أن اتخذي من الجبال بيوتا}، أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة. {ومن الشجر}، يقول: من العجم. {ومما يعرشون}، يقول: من الموالي". وكالعادة فإن مثل تلك التفسيرات تتنكر للسياق وتدير ظهرها له وتفسد اللغة والمنطق إفسادا شنيعا، فإن الكلام فى الآيات عن نعم الله فى الماء والبلح والعنب واللبن والعسل، ولا مدخل فى هذا لبنى هاشم ولا حتى للرسول نفسه، فنحن هنا فى طعام وشراب لا فى علم. ولو افترضنا أن هذا التفسير الذى يقدمه القمى صحيح، فلماذا يكون بنو هاشم هم النحل فقط ولا يكونون أيضا أبقارا وجواميس تدر اللبن من بين فرث ودم فى الآية التى تسبق هذه؟ ترى أَثَمّ مسوّغ لهذا الانتقاء لأحد الشيئين دون الآخر؟ ولست بحاجة بطبيعة الحال للتنبيه إلى أننى لا أقصد أبدا النيل من بنى هاشم آل النبى وآل خَتَنه، بل كل ما أردت هو الإيماء إلى أن مثل تلك التفسيرات توقع صاحبها فى مآزق ومهالك ما كان أغناه عنها لولا التنطع!
وقد نقل الكاشانى فى تفسيره ما يلى: "القميّ عن الصادق عليه السلام: نحن والله النحل الذي أوحى الله إليه أن "اتخذي من الجبال بيوتا". أُمِرْنا أن نتخذ من العرب شيعة. "ومن الشجر"، يقول: من العجم. "وممّا يعرشون"، يقول: من الموالي. والذي "يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه"، أي العلم الذي يخرج منّا إليكم. والعياشي عنه عليه السلام: النحل الأئمّة، والجبال العرب، والشّجر الموالي عتاقه. "ومنها يعرشون": يعني الأولاد والعبيد ممن لم يعتق. وهو يتولى الله ورسوله والأئمة. والثمرات المختلفة: ألوانه فنون العلم الذي يعلّمه الأئمّة شيعتهم. فيه شفاء للناس: والشيعة هم الناس، وغيرهم الله أعلم بهم ما هم؟ ولو كان كما تزعم أنّه العسل الذي يأكله الناس إذن ما أكل منه ولا شرب ذو عاهة إلاّ شُفِيَ لقول الله تعالى: "فيه شفاء للناس"، ولا خُلْف لقول الله، وإنّما الشفاء في علم القرآن. ونُنَزِّل من القرآن ما هو شفاء ورحمة لأهله لا شكّ فيه ولا مِرْيَة، وأهله أئمّة الهدى الذين قال الله فيهم: "ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصْطَفينا من عبادنا"...". وفى تفسير العياشى (ت 324 هـ) وفرات الكوفى (ت القرن 4) مثله، أما الطوسى والطبرسى والطباطبائى وتقىّ الدين المدرسى، وهو عالم شيعى معاصر له تفسيرٌ يسمَّى: "من هدى القرآن"، فكانوا من العقل والحكمة بحيث لم يشيروا ولو مجرد إشارة إلى هذا التفسير المضحك! وأما ناصر مكارم الشيرازى صاحب تفسير "الأمثل فى تفسير كتاب الله الـمُنْزَل" فبالإضافة إلى سَيْره على منوال هؤلاء الأربعة الأخيرين فى ضَرْب صَفْحِه عن الخزعبلات التى يريد بعضهم إلصاقها بالآية الكريمة نراه ينفق جهده فى الحديث عن طبائع النحل وأماكن سكنه وطريقته فى إفراز العسل والعناصر الغذائية التى يحتوى عليها ذلك الطعام وما إلى ذلك.
ولقد قرأت ذات مرة منذ وقت طويل أن بشّار بن بُرْد الشاعر العباسى المشهور قد ردّ على أحد المتشيعين الذين يفسرون "النحل" فى الآية الحاليّة بأنهم بنو هاشم ردا مفحما قطعه به فلم يُحِرْ جوابا وأضحك كلّ من كان بالمجلس عليه، وكذلك كل من سمع بالقصة، بل جعله أضحوكة على مَرّ الأجيال. وهذه هى القصة كما وردت فى كل من "الأغانى" للأصفهانى، و"التذكرة الحمدونية" لابن حمدون، و"الكشكول" لبهاء الدين العاملى، و"معاهد التنصيص على شواهد التلخيص" لعبد الرحيم العباسى، واللفظ "للأغانى": "كان بشار جالسا في دار المهدي، والناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي لمن حضر: ما عندكم في قول الله عز وجل: "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر"؟ فقال له بشار: النحل التي يعرفها الناس. قال: هيهات يا أبا معاذ. "النحل": بنو هاشم، وقوله: "يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس" يعني العلم. فقال له بشار: أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك مما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غثاثةً. فغضب وشتم بشارا. وبلغ المهديَّ الخبرُ فدعا بهما فسألهما عن القصة، فحدثه بشار بها، فضحك حتى أمسك بطنه، ثم قال للرجل: أجل! فجعل طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فإنك باردٌ غَثٌّ".
ولم يكتف بعض علماء الشيعة بهذا، بل أوّلوا قوله تعالى فى سورة "الرحمن": "فبأى آلاء ربكما تكذبان؟" بالنبى وعلى. يقول القمى: "قوله: {فبأي آلاء ربكما تكذبان}، قال: في الظاهر مخاطبة الجن والإِنس، وفي الباطن فلان وفلان. حدثنا أحمد بن علي قال: حدثنا محمد بن يحيى عن محمد بن الحسين عن محمد بن أسلم عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ قال: قال الله تبارك وتعالى وتقدس: فبأي النعمتين تكفران: بمحمد صلى الله عليه وآله أم بعلي عليه السلام؟". وعند الكاشانى مثله. وفى تفسير الجنابذى زيادة على ذلك: "{فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}: روى عن الرّضا (ع) أنه قال: {عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ} (الرحمن/ 2): الله علّم القرآن قبل خلق الإنسان، وذلك أمير المؤمنين (ع). قيل: علّمه البيان؟ قال: علّمه بيان كلّ شيءٍ يحتاج إليه النّاس. قيل: الشّمس والقمر بحسبان؟ قال: هما بعذابٍ. قيل: الشّمس والقمر يعذّبان؟ قال: سألتَ عن شيءٍ فأتقنْه. إنّ الشّمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، ضوؤهما من نور عرشه، وحرّهما من جهنّم. فإذا كانت القيامة عاد إلى العرش نورهما، وعاد إلى النّار حرّهما فلا يكون شمسٌ ولا قمرٌ. وإنّما عناهما لعنهما الله! أوليس قد روى النّاس أنّ رسول الله (ص) قال: إنّ الشّمس والقمر نوران فى النّار؟ قال: بلى. قال: أما سمعت قول النّاس: فلان وفلان شمس هذه الامّة ونورها؟ فهما فى النّار. والله ما عَنَى غيرهما".
وهم، فى غمرة التدليس، يَنْسَوْن أن الكلام هكذا لا يستقيم نحويا ولا سياقيا: فأما السياق فهو مخاطبة الجن والإنس، لا فلان وفلان، والمقصود طبعا أبو بكر وعمر. وإذا كان الجن والإنس يرمزان إلى الخليفتين الأولين، فمن منهما الجن يا ترى؟ ومن منهما الإنس؟ ثم ألا يرى المدلسون أنهم قد أَعْلَوْا من شأن الصحابيين الجليلين فى غمرة حقدهم، إذ جعلوهما الثقلين جميعا، بما يعنى أن المقابل للإنس منهما يشمل، فيما يشمل، النبى وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا... إلى آخر فرد فى البشر. وأما النحو فكيف يتحدث الله سبحانه عن "آلاء" جَمْعًا، فيقول الشيعة إن هذه الآلاء اثنتان فقط هما محمد وعلى؟ لقد غطت كراهيتهم للشيخين فخلطا بين المخاطبَيْن اللذين يزعم الشيعة أنهما هما الشيخان وبين "الآلاء" فظنوها بدورها اثنتين هى أيضا. كذلك فهم، فى غمرة تدليسهم، لم يتنبهوا إلى الارتباك فى كلامهم عن الشمس والقمر، إذ بينما جعلوا حرهما يعود يوم القيامة إلى النار، نراهم يقولون بعودة نورها إلى عرش الله. أى أن فى أبى بكر وعمر نورا، وهذا النور مصيره إلى عرش الرحمن، فكيف يتسق هذا مع اجتهاد الشتامين فى لعنهما وتحقيرهما؟ أهناك شرف أعظم من هذا الشرف؟ ثم كيف يتسق هذا مرة أخرى مع كونهما حَرًّا يصير فى الآخرة إلى النار؟
ولقد قرأت فى "شبكة كربلاء المقدسة: www.holykarbala.net" فى باب "عقائدنا بين السائل والمجيب"، ردًّا على سؤال يستفسر فيه صاحبه عن مدى صدق ما يقال من أن الشيعة يفسرون "البقرة" فى قوله تعالى: "إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة" (البقرة/ 67) بأنها "عائشة"، أن هذا التفسير لا يوجد فى أى من التفاسير الشيعية. وقد بحثت فى بعض التفاسير الشيعية المتاحة لى فلم مأجد فعلا تفسيرا كهذا، بل وجدتها كلها تقول إن القصة من قصص بنى إسرائيل، ولم يتطرق أى منها إلى أنها تتعلق بعائشة أو بأحد من المسلمين البتة. ولكن لفت نظرى فى الرد قول المجيب الشيعى بعد ذلك: "ثم هل هناك من مناسبة في الآية من تشبيه ووصف أو مجاز أو استعارات الى غير ذلك يمكن للمفسّر ولغيره أن يربط بين الآية وبين المناسبة: ما علاقة البقرة بعائشة؟ ما علاقة الذبح وغير ذلك مما ورد في الآية الكريمة؟". وهذا ما أريد أن نكون على ذكر منه حين نفسر آيات القرآن، فقد لاحظنا أن بعض المفسرين الشيعة فى تفسيراتهم المسيئة فى حق الشيخين وابنتيهما، يمزقون النص القرآنى وينزعون بعض آياته أو عباراته من سياقها ويحملونها ما لا تحتمل دون أن يكون هناك ما يسوغ مثل هذا الصنيع الذى حذر منه الكاتب صاحب الإجابة على السؤال الحالى.
كما أوّل بعضهم البحرين وما يخرج منهما من اللؤلؤ والمرجان فى قوله عز جلاله: "مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان* فبأى آلاء ربكما تكذبان* يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان" (الرحمن/ 19- 22) بأن البحرين هما على وفاطمة، والبرزخ محمد، واللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين. ففى تفسير فرات الكوفى (ت القرن 4): "حدثنا أبوالقاسم العلوي، قال: حدثنا فرات معنعنا عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: "مرج البحرين يلتقيان"، قال: علي وفاطمة. "بينهما برزخ لا يبغيان"، قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"، قال: الحسن والحسين عليهما السلام... محمد الفزاري معنعنا عن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام قال:... علي وفاطمة بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه، جاء‌هما النبي صلى الله عليه وآله فأدخل رجليه بين فاطمة وعلي. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان": الحسن والحسين عليهما السلام... حدثنا محمد بن إبراهيم الفزاري معنعنا عن علي بن فضيل عن علي بن موسى الرضا عليهما السلام قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: "مرج البحرين يلتقيان". قال: ذلك علي وفاطمة. "بينهما برزخ لا يبغيان"، قال: العهد الذي أخذه عليهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يعني: لا يزنيان. "يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"، قال: الحسن والحسين وذريتهما... وقوله: "لا يزنيان" ربما لا يتناسب مع ظاهر الآية وسمو أهل البيت، بل المتناسب ماورد في حديث ابن عباس الذي رواه الحسكاني في "شواهد التنزيل" بأسانيد، قال: حب دائم لا ينقطع ولا ينفد أبدا. وفى رواية: ود لا يتباغضان.... عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في قوله تعالى: "مرج البحرين يلتقيان" قال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة عليهما السلام. "يخرج منها اللؤلؤ والمرجان": الحسن والحسين عليهما السلام. فمن رأى مثل هؤلاء الاربعة؟ لايحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا كافر. فكونوا مؤمنين بحب أهل البيت، ولا تكونوا كفارا ببغض أهل البيت فتُلْقَوْا في النار. قال: حدثني محمد بن أحمد بن علي الكسائي معنعنا عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وقد سئل يوما في محفل من المهاجرين والانصار في قوله عز وجل: "بينهما برزخ لا يبغيان"، قال: لا يبغي عليٌّ على فاطمة، ولا تبغي فاطمة على علي. ينعم عليٌّ بما أعد الله له وخصَّه من نعيمه بفاطمة، اتصل معها ابناهما حافَّيْنِ بهما منهم فيصل من النور كالحجال. خُصُّوا به من بين أهل الجنان. يقف عليّ من النظر إلى فاطمة فينعم، وإلى ولديه فيفرح. والله يعطي فضله من يشاء، وهذا أوسع وأرحم وألطف! ثم قرأ هذه الآية: "يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم" (الطور/ 23) بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام من غير تكلف، وكل في أماكنه ونعيمه مد بصره، "فيومئذ لا يُسْأَل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ".
وعند الجنابذى: "القمّي عن الصادق عليه السلام قال: عليّ وفاطمة صلوات الله عليهما بحران عميقان لا يبغي أحدهما على صاحبه. "يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان"، قال: الحسن والحسين عليهما السلام. وفي "المجمع" عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وسفيان الثوري أنّ "البحرين" عليّ وفاطمة عليهما السلام، و"البرزخ" محمد صلّى الله عليه وآله، و"اللّؤلؤ والمرجان" الحسن والحسين عليهما السلام". ولايخرج فُرَاتٌ الكوفى فى تفسيره لتلك الآية عن هذا. وبهذه الطريقة يُمْتَلَخ النص من سياقه ويُخْلَع عليه من المعانى ما لا علاقة بينه وبينها، إذ الكلام فى الآيات إنما هو عن الطبيعة ومناظرها والنعم التى بثها الله فيها، والخطاب فيها موجه إلى الجن والإنس، فما دخل ذلك بعلى وفاطمة وحسن وحسين عليهم رضوان الله أجمعين؟ علاوة على أنه من سوء الأدب أن يجعلوا البحرين هما عليا وفاطمة، فى حين أن الرسول لا يزيد عن أن يكون برزخا يحجز بينهما، وإن كنت مع هذا لا أدرى حكمة الحجز هنا، والزوجان إنما يتزوجان ليختلطا وينصهرا ويصبحا كيانا واحدا، لا ليظلا منفصلين يقوم بينهما رقيب يحجز بينهما. وما معنى أن البرزخ، الذى هو محمد، يمنع عليا وفاطمة من أن يبغى أحدهما على الآخر؟ أتراهما لو لم يحجز بينهما البرزخ سوف يتظالمان ويتباغيان؟ فلقد مات قبلهما الرسول إذن، فهل نفهم أن البغى بينهما بدأ بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؟ وإذا كان الحسن والحسين هما اللؤلؤ والمرجان، بغض النظر عن أن مفسرى الآية لم يحددوا من منهما اللؤلؤ، ومن منهما المرجان، فمن هم الجوارى المنشآت فى البحر كالأعلام؟ وينبغى ألا ننسى أنه كان عندنا قبيل قيل بحران اثنان، فأصبح لدينا الآن بحر واحد، فأين ذهب الآخر يا ترى؟ وأى البحرين هو الذى ذهب؟ علىٌّ أم فاطمة؟ أما الطبرسى والطباطبائى وتقىّ الدين المدرسى صاحب تفسير "من هَدْى القرآن" فقد أعرضوا ونَأَوْا بجانبهم عن كل هذا الشطط فلم يَتَدَهْدَوْا إلى ما لا يليق بالعقلاء، ولم ينغمسوا فيما فى ذلك من إثم وإصر.
وفى آيات الإفك التى يعرف القاصى والدانى أنها نزلت تبرئةً للسيدة عائشة رضى الله عنها وأرضاها مما بُهِتَتْ به فى قصة ضياع العِقْد الذى فقدته فى الصحراء مَرْجِعَها هى والنبى والمسلمين من غزوة بنى المصطلق، نرى القمى كبعض علماء الشيعة يصرف القصة عن حقيقتها حتى لا يُضْطَرّوا إلى الإقرار بأى فضل لها. وأى فضل أعظم من الفضل الذى ظلت أم المؤمنين تباهى به نظيراتها، وهو أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل تبرئتها من فوق سبع سماوات؟ ولا ننس أن لعلى صلة بالقصة، إذ لما سأله النبى فى الأمر حين دارت الشائعات فى أرجاء المدينة كان رده حسبما تحكى لنا الروايات أن النساء كثير. صحيح أنه رضى الله عنه لم يلوث لسانه بقالة سوء فى سيدة كريمة لم يلحظ عليها أية ريبة، إلا أنه لم يراع مدى وقع الكلمة على نفسها، إذ وضع كل همه فى إراحة الرسول من القلق الذى كان يعانيه، فظن أن الرسول إن نفض يده منها واقترن بغيرها فقد أراح نفسه. فعلماء الشيعة يحولون قصة الإفك من فضل يزين عرضها وكرامتها إلى منقصة تنال منها، إذ زعموا أن الآيات المذكورة إنما نزلت لإدانة عائشة بسبب اتهامها لمارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله فى سمعتها وسلوكها. ولنقرأ ما كتبه القمى فى تفسير قوله تعالى: "إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُوا بِٱلإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلإِثْمِ وَٱلَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ". قال: "أما قوله: {إن الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم} فإن العامة رَوَوْا أنها نزلت في عائشة وما رُمِيَتْ به في غزوة بني المصطلق من خزاعة. وأما الخاصة فإنهم رَوَوْا أنها نزلت في مارية القبطية وما رمتها به عائشة‌ والمنافقات. حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثنا عبد الله (محمد خ ل) بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر عليهما السلام يقول: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله حزن عليه حزنا شديدا، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ فما هو إلا ابن جريج. فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا وأمره بقتله، فذهب علي عليه السلام إليه ومعه السيف. وكان جريج القبطي في حائط، وضرب علي عليه السلام باب البستان، فأقبل إليه جريج ليفتح له الباب. فلما رأى عليا عليه السلام عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح الباب. فوثب علي عليه السلام على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه وولى جريج مدبرا. فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة، وصعد علي عليه السلام في أثره. فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال ولا ما للنساء. فانصرف علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبت؟ قال: فقال: لا بل تتثبت. فقال: والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال ولا ما للنساء. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحمد لله الذى يصرف عنا السوء أهل البيت".
وبادئ ذى بدء نلفت النظر إلى كلمتى "العامة" و"الخاصة" فى النص السابق: فالعامة هم أهل السنة، والخاصة هم المتشيعون. ومغزى إطلاقهما واضح لا يحتاج منى إلى أى شرح، فهما تتكلمان من تلقاء نفسيهما. كذلك نلفت النظر إلى وضع الكاتب لعائشة مع المنافقات فى خانة واحدة واتهامهن جميعا بنفس الجرم، ألا وهو قذف مارية فى عرضها. وثالثا لا أتصور النبى يخرج على مبدإ التثبت قبل إيقاع العقوبة بالمتهم، فلعله برىء، إذ تقول الرواية إنه عليه السلام ما إن سمع التهمة من ضَرّة فى ضَرّتها حتى بادر بإرسال علىّ لقتل جريج دون أن يكلف نفسه أن يسألها ولو عن مصدر الخبر. ورابعا كيف يأمر بقتل جريج ويترك شريكته فى الإثم ما دام قد صدّق أن الأمر وقع كما قالت عائشة فيما نُسِب لها زورا وبهتانا؟ والغريب أن النبى كان يتريث أشد التريث فى مسائل الزنا وعقوبته حتى إنه إذا أتاه شخص وأقرّ من تلقاء نفسه بمواقعة تلك الفاحشة كان يراجعه مرارا ويفتح له الباب بعد الباب لعله يرجع ويتوب ولا يعود لذلك أبدا. بل إنه كان يستحب الستر فى تلك الأمور ولا يرتاح لمن يأتيه شاهدا على أحد بالزنا قائلا له: لو سترتهما بثوبك لكان أفضل. ثم إن موقفه من اتهام عائشة فى عِرْضها قد اختلف عن ذلك اختلافا تاما، فلم يسارع بعقابها رغم أن الشائعات التى تلوك سيرتها كانت تتطاير فى أرجاء المدينة. كذلك كيف نسى ملفقو القصة أن عائشة وأباها متَّهمان عند رسول الله حسبما يفترون عليهما، لعن الله كل كذاب أشر، فكيف صدّق الرسول عليه الصلاة والسلام بهذه البساطة امرأة يزعم الشيعة أنها منافقة بنت منافق؟ أعوذ بالله، وأستلعنه من يتقول على أم المؤمنين الأقاويل. كذلك كيف يرمى جريج نفسه من فوق النخلة دون أن تنكسر أضلاعه؟ بل كيف يفكر فى الرمى بنفسه من فوقها أصلا ويقدم على ذلك الخطر الفظيع؟ وأغرب من هذا أن تمر الرواية على حادثة السقوط من فوق النخلة دون أن تعلق بكلمة واحدة على ما حدث له من جرائه!
وقبل ذلك كله كيف يريدنا هؤلاء أن نتجاهل قصة الإفك الحقيقية التى تورط فيها حسان ومِسْطَح بن أُثَاثة وحَمْنَة بنت جحش وابن أبى سلول وغيرهم وما يتصل بذلك من قصص معروفة فى كتب الحديث والسيرة والتاريخ؟ كما أننا حين ننظر فى آيات سورة "النور" الخاصة بقضية الإفك نرى أن الكلام من أوله إلى آخره إنما يستخدم ضمير جماعة الذكور بما يدل على أن المتهِمين هم رجال أو خليط من رجال ونساء، وليس عائشة والمنافقات كما تزعم الرواية الآثمة. وفوق ذلك فالقرآن يشير إلى "زعيمٍ" رجلٍ لا إلى "زعيمةٍ" امرأةٍ لتلك الفرية: "والذى تَوَلَّى كِبْرَه منهم له عذابٌ أليم". ثم لقد أرسى القرآن الحكم الشرعى فى تلك الظروف، وهو الإتيان بأربعة شهداء، فكيف تجاهل النبى هذا كله وبعث عليًّا فى الحال ومعه السيف كى يقتل جريج دون توفر أربعة شهود؟ لهذا نجد رواية أخرى لتلك القصة عند القمى فى تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} (الحجرات/ 6)، إذ أضاف الكلام التالى: "فأتى به رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال له: ما شأنك يا جريج؟ فقال: يا رسول الله، إنّ القبط يَجُبّون حشمهم ومن يدخل إلى أهاليهم، والقبطيون لا يأنسون الاّ بالقبطّيين. فبعثني أبوها لأدخل اليها وأخدمها وأُونِسها". وهو كلام يدابر العقل، إذ معناه أن الرسول لم يكن يعرف كل تلك المدة لم جاء جريج مع مارية من مصر وأن جريج كان يخدم مارية طوال الوقت ويدخل عليها ويخرج ويقضى لها مطالبها دون علم الرسول. ومعناه قبل ذلك أن القرآن يتهم رسول الله بأنه قد أقدم بجهالة على معاقبة جريج وكاد أن يصبح نادما على ما فعل لولا لطف الله الذى أراد أن يكشف حقيقة أمره وبراءته بوقوعه الدِّرَامِىّ من فوق النخلة. ثم إن الرواية تذكر أن أباها هو الذى أرسل جريج هذا فى رفقة ابنته، مع أننا نعرف أنها لم تكن فتاة حرة، بل جارية أرسلها المقوقس لا أبوها. فهذه ثغرة خطيرة فى الرواية تحطمها تحطيما. كما أن المقوقس لم يرسل مارية وحدها، بل أرسل سيرين أيضا، وهى التى أهداها الرسول لحسان بن ثابت، فلماذا لم نسمع أن سيرين كان يصاحبها رجل مجبوب كجريج يقوم على شؤونها؟ كذلك هناك صعود جريج النخلة، وهو ليس حلا لأنه لا يستطيع أن يبقى فوقها إلى الأبد، وإن كان صعود علىٍّ كرم الله وجهه النخلة وراءه أبعث على الاستغراب والتعجب، إذ ما الداعى له، وجريج لا يمكن أن يطول مكثه هناك، بل لا بد أن ينزل، وبسرعة: على الأقل حين يقرص بطنه الجوع، أو يحتاج إلى النوم أو قضاء الحاجة. كما أن صعوده النخلة يذكّرنا بما يفعله الشرير عادةً فى الأفلام، إذ يتسلق برجا أو سطح حجرة فوق أعلى المنزل أو صارية سفينة مثلا، مع أن أقل تفكير من جانبه كفيل بأن يباعد بينه وبين اللجوء إلى هذا الحل المضحك لأنه لا يمكنه البقاء هناك إلى آخر العمر. وعادة ما تكون نهايته فوق الموضع المرتفع الذى التجأ إليه نهاية مأساوية كما يعرف مشاهدو الأفلام والمسلسلات. ومع هذا كله فإن إصرار القمى على تلويث صحيفة عائشة يدفعه إلى المضى فى غَيّه والقول بأن الله إنما أراد أن يظهر براءة جريج على يد على. أى أنه سبحانه قد دبّر اندفاع علىّ بالسيف يريد الإجهاز على جريج فى هوج ودون تبصر أو محاكمة بناء على تكليف رسول الله له بذلك لا لشىء إلا لكى يثبت براءة المصرى المسكين! وهو ما يعنى أن الأقدار قد جهزت عليًّا لتصحيح الخطإ الذى كاد أن يقع فيه النبى عليه السلام، أستغفر الله، وإن قال بعضهم إن الرسول كان يعرف براءة مارية منذ البداية وإنه إنما أمر عليا بقتله تظاهرا بذلك ليس إلا، وذلك كى يوقظ ضمير عائشة حين ترى رجلا بريئا يوشك أن يُقْتَل ظلمًا وافتراءً. أى أنهم يريدوننا أن نصدق هذا التوجيه السخيف الذى يقول إن النبى قد أقدم على ترويع جريج المسكين على هذا النحو الشنيع الذى كان يمكن أن ينتهى نهاية مأساوية فتَزْهَق روح الرجل جَرّاء سقوطه من فوق النخلة لا لشىء سوى إيقاظ ضمير عائشة، وهو ما يذكرنا بالمثل الشعبى القائل: جاء يكحّلها فأعماها! وهكذا يتخبط بعض علماء الشيعة لمجرد الرغبة الأثيمة لتشويه أخلاق عائشة ورميها بالفسق طبقا لحكم الآية، أستغفر الله. كذلك فالآيات تتحدث عن شائعات تجوب أنحاء المدينة من لسان إلى لسان، على حين أن روايتنا هذه لا تتحدث إلا عن عائشة وحدها، وإن ذُكِرَتِ "المنافقات" على سبيل "بَرْو العتب" كما نقول فى مصر ليس إلا، وإلا فلماذا لم تظهر فى الصورة أولئك المنافقات اللائى لا أحسب القمى وأضرابه إلا يقصدون بهن بعض زوجات رسول الله الأخريات، وبالذات حفصة كراهيةً منهم للفاروق رضى الله عنه؟
ثم ما موقع الآية التالية من الإعراب فى جملتنا هنا: "وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (النور/ 22)؟ إنها، فيما نعرف جميعا، إنما نزلت لتحضّ أبا بكر على الاستمرار فى معاونة بعض أقربائه الفقراء الذين اشتركوا فى نشر الإشاعات ضد ابنته الكريمة الطاهرة العفيفة والذين أقسم فى حُمُوّ غضبه أن يتوقف عن الإنفاق عليهم. أما على رواية "الخاصّة" فكيف نفهمها؟ لقد أورد القمى فى تفسيره لها ما يلى: "في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى}، وهى قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله، {والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا}، يقول: يعفو بعضكم عن بعض ويصفح، فإذا فعلتم كانت رحمة من الله لكم. يقول الله: {ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم}؟". وهو تكلف بل تنطع، فإن القرآن لا ينزل بتحنين القلوب على قرابة رسول الله، وكأنهم جماعة من الشحاذين، مع أنهم لا تجوز عليهم ولا لهم الصدقات أصلا. كما أن أمر القرآن بالعفو والصفح عن آل رسول الله ليس له من معنى إلا أنهم مشاغبون مستفزون للآخرين وأن على المسلمين الإغضاء والتجاوز عن هذا الشغب والاستفزاز. ترى هل يصح مثل هذا التفسير؟ لكن المفسر الشيعى يمزق الآية كما نرى كى يسلم له ما يريد، وهيهات! كذلك لماذا تخترع عائشة وأنصارها قصة تقوم على اتهام عرضها ثم تبرّئها بعد ذلك إذا لم يكن هذا هو ما حدث؟ أكانت مغرمة بتلويث سمعة نفسها طلبا للشهرة مثلا؟ وأخيرا وليس آخرا فإن الآية الأخيرة فى آيات الإفك تقول بصريح العبارة: "الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)"، وهو ما لم يلتفت المدلسون المفترون إلى أنه ثناء على عائشة وكل زوجات الرسول، إذ تنفى الآية الكريمة أن تكون أى من أمهات المؤمنين خبيثة من الخبيثات، وتؤكد على العكس من ذلك أنهن طيبات طاهرات لأنهن زوجات الرسول الطيب الطاهر.
هذا، ولم يورد الطوسى فى تفسير الآية إلا أنها فى تبرئة عائشة، وإن أورد الكلام مختصرا، ومن بين ما قاله أن "الآية دالة على كذب من قذف عائشة وأفك عليها. فأما في غيرها إذا رماها الانسان فإنا لا نقطع على كذبه عند الله، وإن أقمنا عليه الحد، وقلنا: هو كاذب فى الظاهر، لأنه يجوز أن يكون صادقًا عند الله. وهو قول الجبائي". أما الطبرسى، وهو مِثْلَ الطوسى لم يورد إلا الرواية التى نعرفها، فقد فصّل القول فيها تفصيلا وأتى بالقصة كلها كما هى فى كتب السيرة والأحاديث، ولم يتطرق إلى ذكر سبب النزول الشيعى المزعوم الذى يحول هذه المكرمة إلى مذمة فى حق السيدة عائشة فيتهمها بالنفاق ويعيبها بالعمل على تمزيق الأعراض الطاهرة النظيفة! وأما الجنابذى فقد ذكر أولا سبب النزول المعروف لنا باختصار قائلا: "قد نُقِل فى تفاسير الخاصّة والعامّة أنّ الآيات نزلت فى عائشة"، إلا أنه رغم ذلك قد أورد عقب ذلك أيضا قصة اتهام مارية القبطية رضى الله عنها مع قوله إن هذا ما ترويه الخاصة. وواضح من كلامه مدى الارتباك عندهم فى هذه الآيات واضطرابهم ما بين قول الحقيقة ورغبة بعض مفسريهم فى عدم ترك الفرصة دون الإساءة إلى الصِّدّيقة بنت الصِّدّيق! وينقل الكاشانى الروايتين جميعا سائرا على خطا القمى مع التركيز على كل ما يسىء إلى بنت الصديق! ويبقى الطباطبائى، وهو يورد الروايتين جميعا ويناقشهما بالتفصيل موازنا بينهما مستشكلا على ما يراه باعثا على الاستشكال فى كل منهما، وإنْ فُهِم من كلامه فى النهاية أنه مع رواية عائشة للقصة، تلك الرواية التى تقول إن بعض المنافقين وبعض المسلمين الذين انخدعوا بهم قد ولغوا فى عرضها رضى الله عنها، إلا أنه لم يكن حاسم الوضوح تماما فى موقفه.
وفى تفسير قوله عز شأنه للآية الثالثة والثلاثين من سورة "الأحزاب": "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـرًا" يقول القمى: "وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: {إنما يريد الله ليُذْهِبَ عنكم الرِّجْسَ أهل البيت ويُطَهِّرَكم تطهيرًا}، قال: نزلت هذه الآية في رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وذلك في بيت أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وآله، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله عليًّا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ثم ألبسهم كساء‌ً خيبريًّا، ودخل معهم فيه ثم قال: "اللهم، هؤلاء أهل بيتي الذين وعدتني فيهم ما وعدتني. اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا". نزلت هذه الآية فقالت أم سلمة: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال: أبشري يا أم سلمة. إنك إلى خير. وقال أبو الجارود: قال زيد بن علي بن الحسين عليه السلام: إن جهالا من الناس يزعمون أنما أراد بهذه الآية أزواج النبي، وقد كذبوا وأثموا. لو عَنَى بها أزواجَ النبي لقال: "ليُذْهِب عنكن الرجس ويطهركن تطهيرا"، ولكان الكلام مؤنثا كما قال: "واذكرن ما يُتْلَى في بيوتكن، ولا تبرَّجْن، ولستنّ كأحد من النساء". وقال علي بن ابراهيم: ثم انقطعت مخاطبة نساء النبي، وخاطب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: {إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا}".
وتفسير الآية على هذا النحو هو استمرار لموقف الشيعة، فهم لا يريدون لأحد من بيت رسول الله أن يحظى بأى شرف أو خير إلا إذا كان من طرف فاطمة رضى الله عنها حتى إنهم ليُدْخِلون عليًّا ختن رسول الله وسبطيه فى مفهوم "أهل البيت" ويخرجون زوجاته صلى الله عليه وسلم مع أن "الأهل" بالنسبة إلى الرجل إنما يراد بهم أول ما يراد زوجه أو زوجاته كما هو الاستعمال القرآنى والنبوى. إننا نحب فاطمة وابنيها وزوجها حُبًّا جَمًّا، بيد أننا نؤمن فى ذات الوقت أن شرف الانتساب إلى أهل البيت هو من حق زوجات الرسول أيضا، وأن هذا لا يضر فاطمة وأسرتها الصغيرة ولا يزعجهم فى شىء، وبخاصة أن أهل الرجل، كما قلنا، إنما هن زوجاته فى المقام الأول. ثم إن سياق الآيات إنما هو سياق الحديث عن نسائه صلى الله عليه وسلم، ولا ذكر فيه على الإطلاق لعلى أو فاطمة أو ابنيهما. ولهذا نرى علماء الشيعة يقولون إن الكلام عن نساء النبى قد انقطع وابتدأ كلام آخر عن فاطمة وأسرتها، ثم عاد الكلام مرة أخرى إلى النساء فى قوله سبحانه عقب ذلك: "واذكرن ما يُتْلَى فى بيوتكن من آيات الله والحكمة...". وهو تكلف لا معنى له أبدا وتمزيقٌ أَرْعَنُ لنسيج الآيات، وبخاصة أن الآية الكريمة لا يمكن أن تكون قد نزلت أولا دون عبارة "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا"، وإلا كان معنى هذا أن الآية نزلت وظلت غير مكتملة وعارية عن الفاصلة فترة من الوقت، وهو غريب. أما القول المنسوب إلى زيد بن على رضوان الله عليه بأنه لو كان المقصود زوجات النبى لقالت الآية: إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت..." فليس بشىء، ولا أظنه قاله، فقد أوضحنا أن "الأهل" ليسوا زوجات الرجل فقط، بل لهن فقط المقام الأول. أما إن قيل إن المقصود هم الأفراد المسلمون الذين ينتمون إلى أسرة الرسول، فينبغى إذن أن يَدْخُل فيهم أيضا عمته صفية وجعفر أخو على وحمزة وبنت حمزة. وإذا كان على ذاته حين سئل عن سلمان، حسبما يُرْوَى عنه، قد قال إنه "هو منا أهل البيت"، وفى رواية أخرى: "إنه رجل منا أهل البيت"، وفى رواية ثالثة: "ذاك أميرٌ منا أهل البيت"، مدخلا بذلك هذا الفارسى الذى لم يكن بينه وبين الرسول أو أى أحد من أسرة الرسول ضمن أفراد "أهل البيت"، أيضيق نطاق "أهل البيت" عن أن يستوعب عائشة وحفصة وسائر زوجات النبى، وأغلبتيهن الساحقة من العرب؟ وأخيرا إلى القارئ هذا الدليل الحاسم الذى لا يمكن أى متنطع المماراة فيه، ألا وهو قوله تعالى على لسان الملائكة خِطَابًا لسارة زوجة الخليل إبراهيم عليه السلام حين تعجبت من بشارتهم لها بأنها ستحمل وتلد رغم كبر سنها: "قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ" (هود/ 73). فها هم أولاء الملائكة يتحدثون إلى سارة زوجة إبراهيم على أنها "أهل البيت" الإبراهيمى، أو على الأقل: فرد من أفراده. فما القول فى هذا؟ لا أظن أن هناك عاقلا ولا حتى مجنونا يمكن أن يجادل فى أن معنى الآية الكريمة هو ما قلناه!
ولقد سبق أن حذّر القرآن نساء النبى فى الآيتين السابقتين ألا يخضعن بالقول حتى لا يطمع الذين فى قلوبهم مرض وأن يلزمن بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأن يُقِمْن الصلاة ويُؤْتِين الزكاة ويُطِعْن الله ورسوله تمام الطاعة. ومن قبل قال لهن سبحانه وتعالى إنه من يأت منهن بفاحشة مبينة يضاعَفْ لها العذاب ضعفين، ومن يقنت منهن لله ورسوله يؤتها الله أجرها مرتين. وعلى هذا لا يمكن أن يُفْهَم قوله سبحانه عقب ذلك: "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" إلا بمعنى أن هذا الحساب المخصوص لَكُنّ عنده سبحانه وتلك الأوامر والنواهى منه إليكن إنما يراد بها إذهاب الرجس عنكن وتطهيركن تطهيرا مع سائر بيت الرسول. هذا هو وجه الكلام لغةً وعقلاً وذوقًا، أما سوى ذلك فلا.
ولو كان القرآن قد استعمل فى هذه الآية عبارة "يا نساء النبى" بدلا من "أَهْلَ البيت" لكان قد أنّثَ الكلام فقال: "إنما يريد الله ليُذْهِب عنكن الرِّجْس يا نساء النبى ويطهّركن تطهيرا"، لكنه إنما عنى "أهل البيت" كلهم لا "نساءه" عليه السلام فقط، وهو ما لم يفطن له من اعترض بهذا الاعتراض. أما تعقيب الطوسى على قول عكرمة إنها "في أزواج النبي خاصة" بأن "هذا غلط، لأنه لو كانت الآية فيهن خاصة لكنَّى عنهن بكناية المؤنث كما فعل في جميع ما تقدم من الآيات نحو قوله: {وقَرْنَ في بيوتكن ولا تبرجن، وأطعن الله، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة}، فذكر جميع ذلك بكناية المؤنث، فكان يجب أن يقول: "إنما يريد الله ليذهب عنكن الرجس أهل البيت ويطهركن"، فلما كنَّى بكناية المذكر دل على أن النساء لا مدخل لهن فيها"، أقول: أما تعقيب الطوسى هذا فهو حجة عليه لا له، لأن استعمال ضمير جماعة المذكرين فى الآية القرآنية كان ينبغى أن يُخْرِج فاطمة هى أيضا من "أهل البيت" طبقا لكلامه، مع أن السيدة الزهراء عند الشيعة هى المحور فى كل هذا. وبالمناسبة فإخراج زوجاته صلى الله عليه وسلم من "أهل البيت" هو موقف عام عند جميع المفسرين الشيعة الذين رجعت إليهم فى هذه الدراسة، ولست أظن إلا أنه هو موقف المفسرين الشيعة كلهم بلا استثناء.
ولأن التقية من مبادئ التشيع نرى علماءهم يحرصون على إبرازها فى تفاسيرهم كما هو الحال عند تناولهم لقوله جل شأنه فى الآية 28 من سورة آل عمران: "لا يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً..."، إذ يقول الكاشانى مثلا: "{إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}: إلا أن تخافوا من جهتهم خوفًا وأمرًا يجب أن يُخَاف منه. وقُرِئ: "تقيّة". منع عن موالاتهم ظاهرًا وباطنًا فى الأوقات كلها إلا وقت المخافة، فإن إظهار الموالاة حينئذ جائز بالمخالفة كما قيل: كن وسطًا، وامش جانبًا. ثم قال: وفى العياشى عن الصادق قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا إيمان لمن لا تقية له". ويقول: قال الله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً}. وفى "الكافى" عنه قال: التقية تُرْس الله بينه وبين خلقه. وعن الباقر قال: التقية فى كل شئ يُضْطَر إليه ابن آدم، وقد أحلَّ الله له. والأخبار فى ذلك مما لا يحصى". وفى تفسير القمى أن "الآية رخصةٌ ظاهرُها خلافُ باطنها. يُدَان بظاهرها ولا يُدَان بباطنها إلا عند التقية"، وأن "التقية رخصة للمؤمن أن يراه الكافر فيصلي بصلاته ويصوم بصيامه إذا اتقاه في الظاهر. وفي الباطن يدين الله بخلاف ذلك". ولسنا بحاجة إلى كبير ذكاء كى نفهم مَنِ المقصود بالكافر هنا الذى ينبغى أن يداجيه الشيعى فيصلى ويصوم معه عند الاضطرار، لكنه فى باطنه لا ينوى مشاركته صلاته ولا صيامه لأنه لا يدين بدينه. وهل هناك "كافر" يشترك معه الشيعى فى الصلاة والصيام سوى أهل السنة؟ أما الطوسى فرأيه أنها رخصة عند خوف الضرر، وإن كان الفضل هو الإفصاح. وأما الطبرسى فيقسمها حسب درجة الضرورة: فيجعلها مرة واجبة، وأخرى جائزة، وثالثة يتساوى فيها فعلها وتركها، ورابعة يكون فعلها أفضل من تركها، وخامسة يكون العكس هو الصحيح.
 
وفى "الميزان" للطباطبائى أن "في الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما رُوِيَ عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمّار وأبويه ياسر وسمية، وهي قوله تعالى: {مَنْ كَفَر بالله من بعد إيمانه إلاَّ من أُكْرِه وقلبه مطمئنٌّ بالإِيمان ولكنْ مَنْ شَرَحَ بالكفر صدرًا فعليهم غضبٌ من الله ولهم عذاب عظيم} (النحل/ 106). وبالجملة الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة، والاعتبار العقلي يؤكده، إذ لا بُغْيَة للدين ولا هَمَّ لشارعه إلا ظهور الحق وحياته. وربما يترتب على التقيّة والمجاراة مع أعداء الدين ومخالفي الحق مِنْ حِفْظ مصلحة الدين وحياة الحق ما لا يترتب على تركها. وإنكار ذلك مكابرة وتعسف". وبعد عدة فقرات يضيف قائلا: "وفي تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام قال: كان رسول الله يقول: "لا دين لمن لا تقية له"... والأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما بلغت حد التواتر. وقد عرفتَ دلالة الآية عليها دلالةً غير قابلة للدفع". ومن الجلى أن التقية تشغل من التشيع مساحة كبيرة لا نجدها عند أهل السنة أبدا، مع أن الآية القرآنية عند هؤلاء هى نفسها عند أولئك، إلا أن كثرة كلام الشيعة فى هذا الأمر وبهذا التفصيل وانشغالهم بها كل ذاك الانشغال وإلحاحهم على أهميتها بهذا الأسلوب، كل ذلك يدل على مكانها الراسخ والمتأصل فى فكرهم بحيث إن السؤال التالى يثار دائما كلما قال عالم من علمائهم شيئا أو وقف موقفا لا ينسجم مع ما هو معروف من آراء جموعهم ومواقفهم: ترى أهو يتكلم بما فى قلبه أم يستعمل التقية؟ وبهذا أصبحت التقية مشكلة كبيرة ومعقدة، وخرجت عن أن تكون موقفا قد يلجأ إليه الشخص إذا كان هناك خوف على حياته مثلا، وأضحت مبدأ يدافع علماؤهم عنه بطريقة توحى بأنه قد بات هدفا فى حد ذاته، وكأننا أمام شبكة سرية من النشطاء السياسيين لا يعرف مَنْ بالخارج شيئا عنها يُطْمَأَنّ إليه، وهو ما يبعث على الارتياب فى كل شىء يأتونه أو يدعونه، إذ لا يعرف الشخص آنذاك أهذا أمر يفعلونه من قلبهم أم هى تقية يستترون وراءها!
ومما يختلف فيه الشيعة أيضا عن السنة تجويزهم نكاح المتعة. يقول الكاشانى مثلا فى الآية 24 من سورة "النساء": "{فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}: مهورهن. سُمِّىَ: "أجرًا" لأنه فى مقابلة الاستمتاع. "فَرِيضَةًً": مصدر مؤكد. فى "الكافى" عن الصادق: وإنما أُنْزِلَتْ "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أُجورهن فريضة". والعياشى عن الباقر أنه كان يقرؤها كذلك. وروته العامّة أيضًا عن جماعة من الصحابة. {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ ٱلْفَرِيضَةِ}: من زيادة فى المهر أو الأجل أو نقصان فيهما أو غير ذلك مما لا يخالف الشرع. فى "الكافى" مقطوعًا والعياشى عن الباقر: لا بأس بأن تزيدها وتزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما. تقول: "استحللتكِ بأجرٍ آخر" برضًا منها، ولا تحل لغيرك حتى تنقضى عِدَّتها، وعِدَّتها حيضتان. {إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيمًا} بالمصالح، {حَكِيمًا} فيما شرع من الأحكام. فى "الكافى" عن الصادق: المتعة نزل بها القرآن، وجَرَتْ بها السُّنَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله. وعن الباقر: كان علىّ يقول: لولا ما سبقنى به ابن الخطاب ما زنى إلا شَفًى" (بالفاء)، يعنى إلا قليل. أراد أنه لولا ما سبقنى به عمر من نهيه عن المتعة وتمكُّن نهيه من قلوب الناس لندبتُ الناس عليها ورغَّبتهم فيها، فاستغنَوْا بها عن الزنا، فما زنى منهم إلا قليل. وكان نهيه عنها تارة بقوله: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مُحرِّمهما ومُعاقِبٌ عليهما: مُتعة الحج، ومُتعة النساء. وأخرى بقوله: ثلاث كُنّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا مُحرِّمهن ومُعاقِبٌ عليهن: مُتعة الحج، ومُتعة النساء، و"حَىَّ على خير العمل" فى الأذان. وفيه: جاء عبد الله بن عمر الليثى إلى أبى جعفر فقال له: ما تقول فى مُتْعة النساء؟ فقال: أحلَّها الله فى كتابه وعلى لسان نبيه، فهى حلال إلى يوم القيامة. فقال: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرَّمها عمر ونهى عنها؟ فقال: وإن كان فعل. قال: فإنى أُعيذك بالله من ذلك أن تُحِلّ شيئًا حرَّمه عمر. فقال له: فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلم أُلاعِنْك أن القول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الباطل ما قال صاحبك. وقال: فأقبل عبد الله بن عمر فقال: أَيَسُرّك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن ذلك؟ فأعرض عنه أبو جعفر حين ذكر نساءه وبنات عمه. وفيه: سأل أبو حنيفة أبا جعفر محمد ابن النعمان صاحب الطاق فقال: يا أبا جعفر، ما تقول فى المتعة؟ أتزعم أنها حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أن تأمر نساءك ليستمتعن ويكسبن عليك؟ فقال أبو جعفر: ليست كل الصناعات يُرْغَب فيها، وإن كانت حلالا. وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة فى النبيذ؟ أتزعم أنه حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أن تُقْعِد نساءك فى الحوانيت نَبّاذات فيكسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ. ثم قال: يا أبا جعفر، إن الآية التى فى "سأل سائل" تنطق بتحريم المتعة، والرواية عن النبى قد جاءت بنسخها. فقال أبو جعفر: يا أبا حنيفة، إن سورة "سأل سائل" مكية، وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة رديّة. فقال أبو حنيفة: وآية الميراث أيضًا تنطق بنسخ المتعة. فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث. فقال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟ فقال أبو جعفر: لو أن رجلا من المسلمين تزوج بامرأة من أهل الكتاب ثم تُوُفِّىَ عنها، ما تقول فيها؟ قال: لا ترث منه. فقال: قد ثبت النكاح بغير ميراث. ثم افترقا. وعن الصادق أنه سأله أبو حنيفة عن المتعة فقال: عن أى المتعتين تسأل؟ فقال: سألتك عن متعة الحج، فأنبئنى عن متعة النساء: أحق هى؟ فقال: سبحان الله. أما تقرأ كتاب الله: {فَمَا ٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}؟ فقال أبو حنيفة: واللهِ لكأنها آية لم أقرأها قط. وفى الفقه عنه: ليس منا مَن لم يؤمن بكَرَّتنا ويستحلّ متعتنا. أقول: "الكرَّة": الرجعة، وهى إشارة إلى ما ثبت عندهم من رجوعهم إلى الدنيا مع جماعة من شيعتهم فى زمن القائم لينصروه". وفى "الميزان": "والمراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك، فإن الآية مدنية نازلة في سورة "النساء" في النصف الأول من عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها. وهذا النكاح، أعني نكاح المتعة، كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك، وقد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك، سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن. فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي ومسمع منه لا شك فيه، وكان اسمه هذا الاسم، ولا يعبَّر عنه إلا بهذا اللفظ، فلا مناص من كون قوله: {فما استمتعتم به منهن} محمولاً عليه مفهومًا منه هذا المعنى".
ولست أريد أن أدخل فى جدال فقهى حول جواز نكاح المتعة أو حرمته فى وقتنا هذا، بل كل ما أريده هو لفت الانتباه إلى أن الآية لا تدل على جوازه، ثم بعد هذا ليكن الحكم الفقهى فيه ما يكون، فذلك شأن آخر. كيف؟ لقد سردت الآية السابقة على هذه أصناف النساء اللاتى لا يحل للمسلم التزوج بهن، وهن الأمهات والبنات والأخوات والخالات والعمات... إلى أن وصل الكلام إلى المتزوجات، أى مَنْ هنّ على ذمة رجل آخر، ثم عقبت آيتنا بأنه يحل للمسلم التزوج بما وراء هؤلاء، أى بأية امرأة لم يرد ذكرها فى ذلك المسرد: "حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)". ومعنى الكلام، كما هو واضح، أن مَنْ سوى أولئك النسوة يجوز لكم الزواج بهن بمهر، وهذا هو الأجر الذى ذكرت الآية أن الرجل يدفعه للمرأة مقابل الاستمتاع بها: "فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً". ولو كان المقصود هو زواج المتعة لكان معنى الكلام أن هناك وضعين هما: حُرْمَة النكاح من الفئات المذكورة من النساء، وحِلِّيّة المتعة مع سواهن. ولا يقول بهذا أحد، لأن المتعة لدى من يقولون بها ليست هى النكاح بإطلاق، ولا حتى أصل النكاح كى توضع مقابل حرمة النكاح، بل هى لدى من يجوّزونها شىء يباح للضرورة، وعلى مضض كما يتضح من رد أبى جعفر على عبد الله بن عمر الليثى وأبى حنيفة فى النص الذى أورده الطباطبائى. أما كلمة "استمتعتم" فلا تدل بالضرورة على نكاح المتعة لمجرد أنها مشتقة من تلك الكلمة، وإلا فالقرآن يقول: "ومَتِّعوهنّ على الـمُوسِع قَدَرُه، وعلى الـمُقْتِر قَدَرُه متاعا بالمعروف" (البقرة/ 236)، "وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين" (البقرة/ 241)، "فتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكنّ وأُسَرِّحْكنّ سَرَاحًا جميلا" (الأحزاب/ 28)، وليس للكلام هنا أية صلة بالمتعة البتة، بل الكلام عن المطلقات اللاتى ينبغى أن يُعْطَيْن مقدارا من المال لتطييب خواطرهن، وهذا المال يسمَّى: "متعة". كذلك فالكلام فى الشاهد الأخير من سورة "الأحزاب" هو عن الرسول ونسائه، ويستحيل أن يقول أحد من الشيعة إنه عليه السلام كان متزوجا بهن زواج متعة. والواقع أن استشهاد الشيعة بكلمة "استمتعتم" على أن المقصود هو زواج المتعة يذكّرنى بما قاله المستشرق هفننج من أن الرسول قد مارس هذا الزواج، إذ فهم من قول المؤرخين وكتاب السيرة إنه رد زوجته أسماء الجونية إلى أهلها قبل أن يدخل بها و"متّعها" بكذا وكذا أنه عليه السلام كان قد تزوج بها زواج "متعة". ولله فى خلقه شؤون (انظر مادة "متعة" فى "Shorter Encyclopaedia of Islam"، وانظر كذلك الصفحتين اللتين كتبتهما فى هذه النقطة فى كتابى: "دائرة المعارف الإسلامية- أضاليل واباطيل"/ مكتبة البلد الأمين/ القاهرة/ 1419هـ- 1998م/ 133- 134). لكن ذلك مستشرق، أما مفسرونا هؤلاء فَلَيْسُوا.
ثم لو كان أبو حنيفة قد اقتنع بما قاله الصادق فى الحوار الذى قيل إنه جرى بينهما وأبدى دهشته من أنه لم يتنبه لهذا المعنى من قبل رغم صحته أو وجاهته، فلم يا ترى استمر ذلك الفقيه على موقفه من المتعة ولم يحللها فى مذهبه؟ بل ما الذى منع عليا كرم الله وجهه من إعادة الأمر فى المتعة إلى نصابه لو كان يرى، كما رووا عنه، أن عمر أخطأ بتحريمها؟ وعلام يدل هذا فى شخصية علىّ لو صحت الرواية، وما هى بالصحيحة؟ ألا يدل على أنه كان يعرف الحق لكنه لم بحاول العمل على إعادة الناس إليه؟ فلم يا ترى؟ أكان عمر فى قبره يمثل تهديدا له؟ فكيف؟ أم إنه كان لا يهتم بالدين ولا بإقرار الحق والمكافحة دونه؟ إن الذين يروون هذا عنه إنما يسيئون إليه فى شخصيته وإيمانه رضى الله عنه لا إلى عمر، لكنهم لا يبصرون مواقع الكلام للأسف! وإذا كان علىّ قد ترك الأمر على ما أرساه عمر، فلماذا يا ترى لم تسر الشيعة على منهاجه؟ أليس هو إمامهم الأكبر والخليفة الشرعى الوحيد لنبيهم فى نظرهم؟ فكيف يخالفون عن أمره إذن؟ ثم ألم يلاحظ هؤلاء كيف يتحدث علىٌّ كرم الله وجهه عن الفاروق رضى الله عنه بكل احترام فلم ينسبه إلى كفر أو نفاق أو يومئ إلى عمله هذا مجرد إيماء بما يغمز فى دينه؟ وأخيرا حتى لو قلنامع القائلين إن المتعة جائزة، أيسوّغ هذا قول الصادق: "ليس منا من لم يستحلّ متعتنا"، وبخاصة أننا قد رأيناه يتحدث عنها على أنها أمر يُشْمَأَزّ منه رغم حِلّه؟ إنها فى أحسن الأحوال لا تتعدى حدود الجواز، فكيف تتحول على هذا النحو إلى ركن من أركان الدين لدى الشيعة بحيث إن من لا يستحلها لا يكون مؤمنا عندهم؟
وفى تفسير الآية السابعة عشرة من سورة "العنكبوت"، وهى قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}، لا يحيد الطبرسى عما تقرّره إلى ما يصنعه مفسرون شيعيون آخرون من اتخاذها فرصة للبرهنة على صحة وجود المهدى فى السرداب الآن رغم مرور ما يزيد على ألف عام منذ اختفائه، إذ كان كل ما قاله هو: "{ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه} يدعوهم إلى توحيد الله عزّ وجل، {فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا}، فلم يجيبوه وكفروا به {فأخذهم الطوفان} جزاء على كفرهم فهلكوا {وهم ظالمون} لأنفسهم بما فعلوه من الشرك والعصيان.{فأنجيناه وأصحاب السفينة}، أي فأنجينا نوحًا من ذلك الطوفان والذين ركبوا معه في السفينة من المؤمنين به {وجعلناها}، أي وجعلنا السفينة {آية للعالمين}، أي علامة للخلائق أجمعين يعتبرون بها إلى يوم القيامة لأنها فرَّقت بين المؤمنين والكافرين والأبرار والفجار، وهي دلالة للخلق على صدق نوح وكفر قومه". ونفس الشىء فى تفاسير الطوسى والقمى والجنابذى والكاشانى، إذ لم يعرج أى منهم على موضوع عُمْر المهدى أثناء تعرضه لتفسير تلك الآية.
أما فى تفسير "الأمثل فى تفسير كتابِ اللهِ الـمُنْزَل" للشَّيخ نَاصِر مَكارم الشِيرازي فنقرأ: "الألف، وأيّ ألف؟ ألف سنة! يعدّ رقمًا مهمًّا وعددًا كبيرًا بالنسبة لمدّة التبليغ. وظاهر الآية الآنفة أنّ هذا المقدار لم يكن هو عمر نوح عليه السلام بتمامه، وإن ذُكِر ذلك في التوراة الحديثة، في سفر "التكوين": الفصل التاسع، بل عاش بعد الطوفان فترة أخرى. وطبقًا لما قاله بعض المفسّرين فقد كانت الفترة هذه ثلاثمائة سنة! طبعًا هذا العمر الطويل بالقياس إلى أعمار زماننا كثير جدًا ولا يعدّ طبيعيًّا أبدًا، ويمكن أن يكون ميزان العمر في ذلك العصر متفاوتًا مع عصرنا هذا. وبناءً على المصادر التي وصلت إلى أيدينا فإنّ قوم نوح كانوا معمَّرين، وعمر نوح بينهم أيضًا كان أكثر من المعتاد، ويشير هذا الأمر ضمنًا إلى أن هيئة تركيب أجسامهم كانت تمكّنهم من أن يعمَّروا طويلا. إنّ دراسات العلماء في العصر الحاضر تدلّ على أن عمر الإنسان ليس له حد ثابت، وما يقوله بعضهم بأنه محدود بمائة وعشرين سنة وأكثر أو أقل فلا أساس له... بل يمكن أن يتغير بحسب اختلاف الظروف. واليوم وبواسطة التجارب استطاع العلماء أن يضاعفوا عمر قسم من النباتات أو الموجودات الحيّة، إلى اثني عشر ضعفًا على العمر الطبيعي. وحتى في بعض الموارد، ولا تتعجبوا، أوصلوا هذه الفترة للنباتات أو غيرها إلى تسعمائة مرّة ضعف عمرها الطبيعي. وإذا حالفهم التوفيق فيمكنهم أن يضاعفوا عمر الإنسان، فيمكن أن يعمّر الإنسان عندئذ آلاف السنين. وينبغي الإلتفات ضمنًا إلى أن كلمة "الطوفان" في الأصل معناها كل حادثة تحيط بالإنسان، وهي مشتقّة من مادة "الطواف". ثمّ استعمل هذا التعبير للماء الغزير أو السيل الشديد الذي يستوعب مساحة كبيرة من الأرض ويغرقها. كما يطلق على كل شيء كثير وشديد، وفيه حالة الاستيعاب، سواءً كان ريحًا أو نارًا". وقد اشتممت فى الكلام رائحة الإيماء إلى عمر المهدى عليه السلام. ولم يكذب المفسر الشيعى خبرا، إذ وجدته فى الهامش يقول ما نصه: "لمزيد التوضيح في مسألة طول العمر بمناسبة الأبحاث المتعلقة بطول عمر المهدي عليه السلام، يراجع كتاب ‘المهدي تحول كبير‘".
وفى موقع "arabic.irib.ir"، وفى قسم "البرامج المسجلة"، وتحت عنوان "شمس خلف السحاب" نجد الشيخ الشيعى محمد الشوكي يقول: "تعلمون أن من سنن الأنبياء عليهم السلام التي جرت في قضية مولانا المهدي عجَّل الله فَرَجه هي سُنّة طول العمر التي ظهرت في نوح عليه السلام أشهر من غيره من الأنبياء عليهم السلام. والقرآن الكريم يصرح بأن نوحا عليه السلام ظل يدعو قومه الى الهدى على‌ مدى ما يقارب الألف عام قبل الطوفان ويرعى من آمن معه منهم، وهذا أيضا من أوجه الشبه بينه وبين مولانا المهدي عليهما السلام. فالمهدي يقوم في غيبته أيضا بالدعوة إلى‌ الهدى ورعاية المؤمنين ودفع الأخطار عنهم، ولكن بأساليب خفية. ولولا ذلك لنزلت بهم اللأواء والشدائد واصطلمهم وأبادهم الأعداء كما يصرح بذلك عليه السلام في رسالته المشهورة للشيخ المفيد رضوان الله عليه. والقرآن الكريم يشير إلى‌ أن الأساليب الخفية في الدعوة إلى الهدى كانت أيضا‌ من سنة نبي الله نوح عليه السلام، فقد قال عز وجل حاكيا‌ دعاءه: "ثم إني دعوتهم جهارا* ثم اني أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا". ويستفاد من الأحاديث الشريفة أن من علل إطالة عمر نبي الله نوح عليه السلام هو تمحيص إيمان الذين آمنوا به وغربلتهم لإيصال المستعدين منهم إلى الدرجات العالية من الإيمان. وهذه الحكمة ‌متوفرة في إطالة عمر مولانا المهدي وطول غيبته، عجل الله فرجه، ففيها يغربَل المؤمنون ويمحَّصون حتى‌ لا يبقى إلا الأندر الأندر كما ورد في حديث الإمام علي عليه السلام الذي رواه الشيخ النعماني رحمه الله في كتاب "الغيبة". وهؤلاء المؤمنون الثابتون على الدين الحق رغم طول الغيبة هم الأنصار الحقيقيون للمهدي المنتظر، وهم أصحابه الخلَّص الذين يبعثهم الله أحياءً لنصرته عند ظهوره إذا توفاهم قبل ذلك".
وهو كلام غير مقنع على الإطلاق: فنوح قد أخبرنا القرآن بخبره، أما المهدى فأين الدليل على أنه قد عُمِّر كل هذا العمر الطويل؟ ثم إن الأعمار فى زمن نوح كانت طويلة، بخلافها منذ زمن المهدى حتى الآن. وحتى لو قلنا إن طول عمر نوح معجزة انفرد بها، فأين الدليل على أن المهدى قد حَظِىَ هو أيضا بتلك المعجزة؟ لا القرآن ولا الحديث قال ذلك. وكذلك لم يره أحد حيًّا، وإلا فليأت من رآه ويأخذنا إليه لنتأكد أن ما يقال عنه صحيح. وبطبيعة الحال فإن كل إنسان حى يحتاج إلى طعام وشراب وقضاء حاجة واغتسال ومشى ونوم وما إلى ذلك، فمن يقوم له بتلك الحاجات يا ترى؟ ولماذا لا يتحدث الناس الذين يقومون بخدمته إن كان هناك أمثال أولئك الناس؟ أما إن قيل إنه لا يحتاج إلى شىء من هذا، فمعنى ذلك أننا، كرة أخرى، أمام معجزة، فأين الدليل على هذه المعجزة؟ مرة ثانية لا القرآن والحديث قال شيئا عن هذا، فكيف يراد منا أن نؤمن به؟ ومعنى ذلك كرة ثانية أن أحدا لم يره من قبل ولا يراه الآن، فكيف نعرف إذن أنه موجود؟ وعلى كل حال فإن وسائل البحث عن الأشخاص المفقودين والغائبين والمختفين قد تطورت تطورا هائلا فى العصر الحديث، ومِثْلُ المهدى تجنَّد له كل الإمكانات لمعرفة موضعه وحاله، فلماذا لا يقوم من يؤمنون به، ويبحثون عنه فى المنطقة التى يقال إنه اختفى فيها منذ نحو ألف عام ويمشطونها تمشيطا حتى يعثروا عليه؟ إنهم يَدْعُون دائما بأن يعجِّل الله فرجه، فما المانع أن يبذلوا ما يستطيعون من جهد للتعجيل بهذا الفرج بدلا من ذلك الانتظار الطويل دون جدوى؟ ولم يبقى المهدى كل هذا الوقت دون أن يظهر؟ أولم يحركه كل ما وقع بالمسلمين طوال هاتيك القرون من مصائب ونكبات حتى لو قلنا إن المسلمين هم الشيعة وحدهم؟ والغريب أن الشيخ يقول إن المهدى، مثل نوح عليه السلام، يقوم منذ اختفائه بهداية الناس. فكيف ذلك يا ترى؟ لقد كان نوح يخالط قومه وهو يدعوهم ويعمل على هدايتهم فيسمعه الناس ويَرَوْنه ويسخر منه الكافرون ويصدّق به المؤمنون. أما هداية الناس غيبًا فلا أدرى كيف تكون؟ هل هناك وسيط ينقل لهم ما يريد المهدى تبليغه إياهم؟ فمن هو ذلك الوسيط يا ترى؟ ولماذا لا يأخذ محبِّى المهدى إليه فيختصر الجهد ويعجّل بسعادتهم ويكمل هدايتهم؟ كذلك يقول الشيخ إن المهدى يرعى أتباعه ويحميهم من الأخطار. ترى بالله العظيم كيف يكون ذلك؟ إن إيران تتعرض مثلا للزلازل فتنهدم بيوتها ويموت الناس تحت أنقاضها كما يفعلون فى أية دولة أخرى. كذلك عندما كانت هناك حرب بين العراق وإيران كانت القنابل تنزل على المبانى الإيرانية فتحولها إلى خرائب يندفن الناس تحتها، وكان الجنود الشيعة على الجانب الإيرانى يُقْتَلون مثلما يقتل الجنود السنة عل الجانب العراقى سواء بسواء. وحتى فى الكُرَة كثيرا ما تنهزم الفرق الإيرانية أمام فرق آسيوية، وما أدراك ما مستوى الفرق الآسيوية؟ فما بالنا بمسابقات كأس العالم التى لا مكان فى صفوف صدارتها لأية دولة مسلمة فى وقتنا الحالى، شيعية كانت أم سنية؟ ترى لم لا يرينا المهدى عجائب قدرته فى هذا الميدان، والمعاونة فيه أسهل كثيرا منها فى ميدان الحروب والقنابل والقتل والدمار بما لا يقاس؟ أما إن قام بتدمير أمريكا وتخليصنا من بوش وعصابته قبل أن تعتدى على إيران، فلسوف نكون له من الشاكرين الحامدين، ولسوف يكون هذا دليلا لا يُصَدّ ولا يُرَدّ بشرط أن يكون هناك برهان على أنه من صنعه هو. ثم هل يصح أن يقال عن المهدى إنه هو الذى يحمى ويرعى ويقى المؤمنين به من الأخطار والمهالك، وكأنه هو الله سبحانه؟ إننى لا أسخر، بل أحاول أن أفهم.
وفى موقع شيعى آخر هو موقع "www.shiastudies.com" صادفتنى الاسئلة والأجوبة التالية التى تتعلق بموضوعنا قيد البحث، وقد وردت تحت عنوان "العمر الطويل للإمام المهدي عليه السلام": "س: إذا كان المهدي يعبر عن إنسان حي عاصر هذه الأجيال المتعاقبة منذ أكثر من عشرة قرون، وسيظل يعاصر امتداداتها إلى أن يظهر على الساحة، فكيف تأتي لهذا الإنسان أن يعيش هذه العمر الطويل وينجو من قوانين الطبيعة التي تفرض على كلّ إنسان أن يمر بمرحلة الشيوخة والهرم في وقت سابق على ذلك جدا وتؤدي به تلك المرحلة طبيعيا إلى الموت، أو ليس ذلك مستحيلا من الناحية الواقعية؟
الجواب: يمكن صياغة السؤال بكلمة أخرى، وهي هل بالإمكان أن يعيش الإنسان قرونا كثيرة؟ وكلمة الإمكان هنا تعني أحد ثلاثة معانِ: الإمكان العملي، والإمكان العلمي، والإمكان المنطقي أو الفلسفي. والإمكان العملي هو أن يكون الشيء ممكنا على نحو يتاح لي أو لك أو لإنسان آخر فعلا أن يحقّقه: فالسفر عبر المحيط، والوصول إلى قاع البحر، والصعود إلى القمر أشياء أصبح لها إمكان عملي فعلا، فهناك من يمارس هذه الأشياء فعلا بشكل وآخر. أما الإمكان العلمي هو أن هناك أشياء قد لا يكون بالإمكان عمليا لي أو لك أن نمارسها فعلا بوسائل المدنية المعاصرة، ولكن لا يوجد لدى العلم ولا تشير اتجاهاته المتحركة إلى ما يبرر رفض هذه الأشياء ووقوعها وفقا لظروف ووسائل خاصة، فصعود الإنسان إلى كوكب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه. بل إن اتجاهاته القائمة فعلا تشير إلى ذلك، وإن لم يكن الصعود فعلا ميسورا لي أو لك، لأن الفارق بين الصعود إلى الزهرة والصعود إلى القمر ليس إلاّ فارق درجة، ولا يمثل الصعود إلى الزهرة إلا مرحلة تذليل الصعاب الإضافية التي تنشأ من كون المسافة أبعد، فالصعود إلى الزهرة ممكن علميا وإن لم يكن ممكنا عمليا فعلا. وعلى العكس من ذلك الصعودُ إلى قرص الشمس في كبد السماء، فإنه غير ممكن عمليا، بمعنى أن العلم لا أمل له في وقوع ذلك، إذ لا يتصور علميا وتجربيا إمكانية صنع ذلك الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثل أتونا هائلا مستعرًا...
فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون كسر إلى نصفين ليس له منطق لأن العقل يدرك، قبل أن يمارس أي تجربة، أن الثلاثة عدد فردي وليس زوجا، فلا يمكن أن تنقسم بالتساوي لأن انقسامها بالتساوي يعني كونها زوجا فتكون فردا وزوجا في وقت واحد. وهذا تناقض، والتناقض مستحيل منطقيا. ولكن دخول الإنسان في النار دون أن يحترق وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلا من الناحية المنطقية، إذ لا تناقض في افتراض أن الحرارة لا تتسرب من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وإنما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرب الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة إلى أن يتساوى الجسمان فى الحرارة. وهكذا نعرف أن الإمكان المنطقي أوسع دائرة من الإمكان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الإمكان العملي. ولا شك في أن امتداد عمر الإنسان آلاف السنين ممكن منطقيا، لأن ذلك ليس مستحيلا، لأن الحياة كمفهوم لا تستبطن الموت السريع، ولا نقاش في ذلك.
كما لا شك أيضا ولا نقاش في أنّ هذا العمر الطويل ليس ممكنا إمكانا عمليا على نحو الإمكانات العملية للنزول إلى قاع البحر أو الصعود إلى القمر، وذلك لأن العمل بوسائله وأدواته الحاضرة فعلا والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة لا تستطيع أن تمدد عمر الإنسان مئات السنين. ولهذا نجد أن أكثر الناس حرصا على الحياة وقدرة على تسخير إمكانات العلم لا يتاح لها من العمر إلا بقدر ما هو مألوف. وأما الإمكان العلمي فلا يوجد علميا اليوم ما يبرر رفض ذلك من الناحية النظرية. وهذا بحث يتصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسيولوجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدى الإنسان. فهل تعبّر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض على أنسجة جسم الإنسان وخلاياه بعد أن تبلغ قمة نموها أن تتصلب بالتدريج وتصحب أقل كفاءة للاستمرار في العمل، إلى أن تتعطل في لحظة معينة حتى لو عزلناها عن تأثير أي عامل خارجي، أو أنّ هذا التصلّب وهذا التناقض في كفاءة الأنسجة والخلايا الجسمية للقيام بأدوارها الفسيولوجية نتيجة صراع مع عوامل خارجية كالميكروبات أو التسمم الذي يتسرب إلى الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مكثّف أو ما يقوم به من عمل مكثّف أو أي عامل آخر؟ وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم على نفسه، وهو جادٌّ في الإجابة عليه... فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتجه إلى تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي بوصفه نتيجة صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية معينة فهذا يعني أنّ بالإمكان نظريا، إذا عُزِلت الأنسجة التي يتكون منها جسم الإنسان عن تلك المؤثرات المعينة، أن تمتد بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة وتتغلب عليها نهائيا.
وإذا أخذنا بوجهة النظر الأخرى التي تميل إلى افتراض الشيخوخة قانونا طبيعيا للخلايا والأنسجة الحية نفسها بمعنى أنّها تحمل في أحشائها بذرة فنائها المحتوم، مرورا بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاء بالموت، أقول: إذا أخذنا بوجهة النظر هذه فليس معنى هذا عدم افتراض أي مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو على افتراض وجوده قانون مرن، لأننا نجد في حياتنا الاعتيادية ولأن العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية أنّ الشيخوخة كظاهرة فسيولوجية قد تأتي مبكرة وقد تتأخر ولا تظهر إلا في فترة متأخرة، حتى إنّ الرجل قد يكون طاعنا في السن ولكنه يملك أعضاء لينة ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة كما نص على ذلك الأطباء. بل إنّ العلماء استطاعوا عمليا أن يستفيدوا من مرونة ذلك القانون الطبيعي المفترض فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرات بالنسبة على أعمارها.
وبهذا يثبت علميا أن تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معينة أمر ممكن علميا، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلا هذا التأجيل بالنسبة إلى كائن معقد معين كالإنسان فليس ذلك إلا لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلى الإنسان وصعوبتها بالنسبة إلى أحياء أخرى. وهذا يعني أن العلم من الناحية النظرية، وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحركة، لا يوجد فيه أبدا ما يرفض إمكانية إطالة عمر الإنسان، سواء فسرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتكاك مع مؤثرات خارجية أو نتاج قانون طبيعي للخلية الحية نفسها يسير بها نحو الفناء.
ويتلخص من ذلك أن طول عمر الإنسان وبقاءه قرونا متعددة أمر ممكن منطقيا وممكن علميا، ولكنه لا يزال غير ممكن عمليا، إلا أنّ اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الإمكان عبر طريق طويل. وعلى هذا الضوء نتناول عمر المهدي علیه السلام وما أحيط به من استفهام أو استغراب. ونلاحظ أنّه بعد أن ثبت هذا العمر الطويل منطقيا وعلميا، وثبت أنّ العلم سائر في طريق تحويل الإمكان النظري إلى عملي تدريجيا، لا يبقى للاستغراب محتوى إلا استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه، العلم في تطوره إلى مستوى القدرة الفعلية على هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اكتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.
س: كيف سبق الإسلام، الذي صمم عمر هذا القائد المنتظر، حركة العلم في مجال هذا التحويل؟
الجواب: أنّه ليس ذلك هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الإسلام حركة العلم. أوَ ليست الشريعة الإسلامية ككل قد سبقت حركة العلم والتطور الطبيعي للفكر الإنساني قرونا عديدة؟ أوَ لم تنادِ بشعارات طرحت خططا للتطبيق لم ينضج الإنسان للتوصل إليها في حركته المستقلة إلا بعد مئات السنين؟ أو لم تأت بتشريعات في غاية الحكمة لم يستطع الإنسان أن يدرك أسرارها ووجه الحكمة فيها إلا قبل برهة وجيزة من الزمن؟ أوَ لم تكشف رسالة السماء أسرارا من الكون لم تكن تخطر على بال إنسان، ثم جاء ليثبتها ويدعمها؟ فإذا كنا نؤمن بهذا كلّه أنستكثر على مرسل هذه الرسالة سبحانه وتعالى أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي؟ وأنا هنا لم أتكلّم إلا عن مظاهر السبق التي نستطيع أنّ نحسّها نحن بصورة مباشرة. ويمكن أن نضيف إلى ذلك مظاهر السبق التي تحدثنا بها رسالة السماء نفسها. ومثال ذلك أنها تخبرنا بأن النبي صلى الله عليه وآله قد أُسْرِيَ به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وهذا الإسراء، إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية، فهو يعبر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشكل لم يتح للعلم أن يحققه إلا بعد مئات السنين. فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول صلى الله عليه وآله التحرك السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك أتاحت لآخر خلفائه المعصومين العمر المديد قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلك.
نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالى للمنقذ المنتظر يبدو غريبا في حدود المألوف حتى اليوم في حياة الناس وفي ما أنجز فعلا من تجارب العلماء. ولكن أليس الدور التغيري الحاسم الذي أعد له هذا المنقذ غريبا في حدود المألوف في حياة الناس وما مرّت بهم من تطورات التاريخ؟ أو ليس قد أنيط به تغيير العالم وإعادة بنائه الحضاري من جديد على أساس الحق والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتسم التحضير لهذا الدور الكبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف كطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإن غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف مهما كان شديدا لا يفوق بحالٍ غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب على اليوم الموعود إنجازه. فإذا كنا نستسيغ ذلك الدور الفريد تاريخيا على الرغم من أنه لا يوجد دور مناظر له في تاريخ الإنسان، فلماذا لا نستسيغ ذاك العمر المديد الذي لا نجد عمرا مناظرا له في حياتنا المألوفة؟
ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الإنسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد فيكون لكل منهما عمر مديد يزيد على أعمارنا الاعتيادية أضعافا مضاعفة؟ أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية، وهو نوح الذي نصّ القرآن الكريم على أنه مكث في قومه ألف سنة خلا خمسين سنة، وقدر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد. والآخر يمارس دوره في مستقبل البشرية، وهو المهدي الذي مكث في قومه حتى الآن أكثر من ألف عام، وسيقدَّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد. فلماذا نقبل نوح الذي ناهز ألف عام على أقل تقدير ولا نقبل المهدي علیه السلام؟
س: لو فرضنا أن العمر الطويل غير ممكن علميا، أو أن قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمكن للبشرية اليوم وفي المستقبل التغلّب عليه وتغير من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلك؟ ألا يعني أن طول عمر نوح والمهدى علیهما السلام على خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة، وبهذا تكون المعجزة عطلت قانونا طبيعيا في حالة معينة للحفاظ على حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ على رسالة السماء؟
الجواب: ليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة على عقيدة المسلم المستمدة من نص القرآن و السنة، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشد صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة حتى يتساويان، وقد عطل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم علیه السلام حين كان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلك القانون، فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم: "قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلاَما عَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ" (الأنبياء/ 69)، فخرج منها كما دخل سليما لم يصبه أذى، إلى كثير من القوانين الطبيعية التي عُطِّلَتْ لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله على الأرض، ففُلِق البحر لموسى، وشُبِّه للرومان أنهم قبضوا على عيسى ولم يكونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبي محمد من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربص به لتهجم عليه، فستره الله تعالى عن عيونهم وهو يمشي بينهم. كل هذه الحالات التي تمثل قوانين طبيعية عطّلت لحماية شخص كانت الحكمة الربانية تقتضي الحفاظ على حياته، فليكن قانون الشيخوخة والهرم من تلك القوانين.
وقد يمكن أن نخرج من ذلك بمفهوم عام، وهو أنه كلما توقف الحفاظ على حياة حجّة الله في الأرض على تعطيل قانون طبيعي، وكانت إدامة حياة ذلك الشخص ضرورية لإنجاز مهمته التي أُعِدّ لها، تدخلت العناية الربانية في تعطيل ذلك القانون لإنجاز ذلك. وعلى العكس إذا كان الشخص قد انتهت مهمّته التى أُعِدّ لها ربانيا فإنه سيلقى حتفه ويموت أو يُسْتَشْهَد وفقا لما تقرره القوانين الطبيعة.
س: كيف يمكن أن يتعطّل القانون الطبيعي، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلا مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على أسس تجريبية واستقرائية؟
الجواب: إن العلم نفسه قد أجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي. وتوضيح ذلك أن القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطَّرد وقع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخرى يُسْتَدَلّ بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو أنّه كلما وُجِدت الظاهرة الأولى وُجِدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية. كما أن العلم لا يتحدث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين. فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدى الظاهرتين عن الأخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصما لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.
والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الديني قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية إلى علاقات السببية، فقد كانت وجهة النظر القديمة تفترض أنّ كلّ ظاهرتين اطرد اقتران إحداهما بالأخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أنّ من المستحيل أن تفصل إحدى الظاهرتين عن الأخرى. ولكن هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلى قانون الاقتران أو التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية. وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أن تؤدي إلى استحالة. وأما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أن الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنا نرى أنه يدل على وجود تفسير مشترك لا طراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار. وهذا التفسير المشترك، كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على أساس افتراض حكمة دعت منظم الكون إلى الربط ظواهر أخرى باستمرار. وهذه الحكمة نفسها تدعو أحيانا إلى الاستثناء فتحدث المعجزة". وتعليقنا هنا هو نفس تعليقنا السابق، وهو أنه لا يوجد قرآن ولا حديث يثبتان هذا الذى يقوله الشيخ، كما أنه لا يوجد أحدٌ شاهد المهدى فى سردابه الذى يختفى فيه حسب دعواهم. فأنَّى يراد للناس أن يؤمنوا به؟ لو كان الأمر بهذه البساطة لادعيت أنا مثلا أن أبى الذى مات فى طفولتى لم يمت فى الحقيقة، بل مختبئ فى مكان تحت بيتنا، وسوف يظهر فى مقبل الأيام. وهو، كما يرى القارئ، ادعاء سهل لا يكلف شيئا، لكن المشكلة كل المشكلة، بل الاستحالة كل الاستحالة، فى إثباته! ثم لماذا نقول مع الإمامية بأن المهدى المنتظر هو فلان وليس علانا أىّ علان من آل بيت النبى؟ فمعروف أن الشيعة منقسمون على سلسلة علىّ التى من حقها وراثته فى خلافة المسلمين، فلماذا ينبغى أن يكون الإمام المختفى هو محمد بن الحسن العسكرى وليس شخصا آخر من أحفاد علىّ كرم الله وجهه؟ بل لو افترضنا أننا سلمنا بأن هناك نصا فى الإسلام (أين؟ لاأدرى) يعين الخليفة بعد النبى بعلى كرم الله وجهه، أفهناك نص على أنها لا بد أن تستمر فى ذريته؟ وهل وراثة الحكم فى الإسلام مقبولة؟ أم إن الواجب تولى من تختاره الأمة فى انتخابات حرة مفتوحة؟ إن علماء الإسلام قد وصفوا ما فعله معاوية من توريث السلطان ليزيد بأنه جبرية وكسروية، فكيف يراد منا أن نقبل من علىٍّ ما أنكرناه على معاوية؟
وعندنا الغنائم، وهى عند الشيعة أوسع من أن تقتصر على غنائم الحرب، بل تشمل تلك مع غنائم الغوص، والكنز الذى يعثر الإنسان عليه، والمعدن المستنبط من الأرض، وأرباح المكاسب...إلخ كما يوضح الدكتور محمد حسين الذهبى فى كتابه: "التفسير والمفسرون" لدى تعرضه لتلك النقطة أثناء تناوله لتفسير للطبرسى وكما سنرى ذلك بعد قليل فيما كتبه ذلك المفسر نفسه. يقول صاحب "مجمع البيان فى علوم القرآن" فى تفسير قوله تعالى فى الآية الحادية والأربعين من سورة "الأنفال": "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ": "اختلف العلماء فى كيفية قسمة الخُمس ومن يستحقه على أقوال: أحدها: ما ذهب إليه أصحابنا، وهو أن الخـُمْس يُقَسَّم على ستة أسهم: فسهم الله، وسهم للرسول، وهذان السهمان مع سهم ذى القُرَبى للإمام القائم مقام الرسول، وسهم ليتامى آل محمد، وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم، ولا يَشْرَكهم فى ذلك غيرهم لأن الله سبحانه حَرَّم عليهم الصدقات لكونها أوساخ الناس وعوَّضهم من ذلك الـخُمْس. وروى ذلك الطبرى عن علىّ بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علىّ الباقر. وروى أيضًا عن أبى العالية والربيع أنه يُقَسَّم على ستة أسهم، إلا أنهما قالا: سهم الله للكعبة، والباقى لمن ذكره الله. وهذا القسم مما يقتضيه ظاهر الكتاب ويقوّيه. الثانى: أن الـخُمْس يُقَسَّم على خمسة أسهم، وأن سهم الله والرسول واحد، ويُصْرَف هذا السهم إلى الكُرَاع والسلاح، وهو المروى عن ابن عباس وإبراهيم وقتادة وعطاء. الثالث: أن يُقسم على أربعة أسهم: سهم لذوى القُرَبى: لقرابة النبى صلى الله عليه وسلم، والأسهم الثلاثة لمن ذُكِروا بعد ذلك من سائر المسلمين، وهو مذهب الشافعى. الرابع: أنه يُقَسَّم على ثلاثة أسهم، لأن سهم الرسول قد سقط بوفاته لأن الأنبياء لا تُورَث فيما يزعمون، وسهم ذى القُرْبَى قد سقط لأن أبا بكر وعمر لم يعطيا سهم ذى القُرَبى، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة عليهما، وهو مذهب أبى حنيفة وأهل العراق. ومنهم مَن قال: لو أعطى فقراء ذوى القُربى سهمًا والآخرين ثلاثة أسهم جاز، ولو جعل ذوى القُرَبى أُسوةً بالفقراء، ولا يُفْرَد لهم سهمٌ جارٍ. واختُلِف فى ذى القُرْبَى: فقيل: هم بنو هاشم خاصة من ولد عبد المطلب لأن هاشمًا لم يعقب إلا منه: عن ابن عباس ومجاهد، وإليه ذهب أصحابنا. وقيل: هم بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو عبد المطلب بن عبد مناف. وهو مذهب الشافعى. وروى ذلك عن جبير بن مطعم عن النبى صلى الله عليه وسلم. وقال أصحابنا: إن الخـُمْس واجب فى كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات وفى الكنوز والمعادن والغوص وغير ذلك مما هو مذكور فى الكتب. ويمكن أن يُسْتَدَلّ على ذلك بهذه الآية، فإن فى عُرْف اللغة يُطلق على جميع ذلك اسم الغُنْم والغنيمة". وعند تفسيره للآية السابعة من سورة الحشر: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} يقول: {مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ}، أى من أموال كفار أهل القرى، {فَلِلَّهِ} يأمركم فيه بما أحب، {وَلِلرَّسُولِ} بتمليك الله إياه، {وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ} يعنى أهل بيت رسول الله وقرابته، وهم بنو هاشم، {وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ} منهم، لأن التقدير: ولذى قُرْباه ويتامى أهل بيته ومساكينهم وابن السبيل منهم. وروى المنهال بن عمرو عن علىّ بن الحسين، قال: قلت: قوله: {وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ}، قال: هم أقرباؤنا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة، وكذلك المساكين وأبناء السبيل. وقد روى أيضًا ذلك عنهم. وروى محمد بن مسلم عن أبى جعفر أنه قال: "كان أبى يقول: لنا سهم رسول الله، وسهم ذوى القُرَبى، ونحن شركاء الناس فيما بقى. والظاهر يقتضى أن ذلك لهم، سواء أكانوا أغنياء أو فقراء. وهو مذهب الشافعى. وقيل إن مال الفَىْء للفقراء من قرابة رسول الله، وهم بنو هاشم وبنو المطلب. وروى عن الصادق أنه قال: نحن قومٌ فرض الله طاعتنا، ولنا الأنفال، ولنا صَفْوُ المال". وفى هذا النص نرى الطبرسى قد جمع ما يقوله الشيعة فى هذه القضية، ومن ثم نكتفى بما قاله.
 
عودة
أعلى