جهود أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في الدراسات القرآنية

إنضم
03/02/2005
المشاركات
100
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الأحساء
جهود أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري في الدراسات القرآنية

تلقيت من شقيقي كتاباً بعنوان "شيخ الكَتَبَة أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري...", وهو عبارة عن ببليوجرافية تشتمل على مؤلفات وتحقيقات الموسوعي أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري, وكذلك ما كُتِب عنه من قِبل بعض المثقفين, مع التنبيه إلى أنَّ هذا الاستقراء لأعمال ابن عقيل كان حتى نهاية شهر جمادى الآخرة لعام 1424هـ- أغسطس 2003م. .

والكتاب من تأليف الدكتور. أمين سليمان سيدو وهو من إصدارات النادي الأدبي في الرياض, الطبعة الأولى 1425هـ-2004م.

وقد لاحظت أنَّ ابن عقيل ساهم بدراسات ومقالات تخص الدراسات القرآنية, أحببت أن أقوم بنشر عناوينها في هذا الملتقى المبارك حتى ينتفع منها الدارسون والباحثون.

ويمكن تقسيم جهوده في النقاط الآتية:

(1)الكتب المستقلة:

- مراتب الجزاء يوم القيامة على ما جاءت به نصوص القرآن..., لأبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي الظاهري, "تحقيق" في (48ص).

- المعاني المستنبطة من سورة الفاتحة ط1, دار ابن حزم- الرياض, 1423هـ-2002م, في (130ص).

(2) البحوث والدراسات المنشورة في الدوريات:

- أُوصيكم بفهم الإعجاز الغيبي- المجلة العربية- عدد(217) صفر 1416هـ-يوليو 1995م, ص66-67.

- السياق القرآني من عاد قوم هود- الفيصل- عدد(247) محرم 1418هـ, مايو-يونيو 1997م, ص48-50.

- شيء من التحشية على تفسير ابن جرير- اليمامة- عدد(1746) 5محرم 1424هـ, 8مارس 2003م, ص8-9.

- معنى أن الأرجل منصوبة في آية الوضوء –الفيصل- عدد (235) محرم 1417هـ, مايو-يونيو 1996م, ص48-50.

(3) المقالات المنشورة في الصحف اليومية:

- أمر الله للمترفين بين الزمخشري وابن قيم الجوزية –الجزيرة- عدد (7471) 20 رمضان 1413هـ, 13 آذار 1993م, ص8.

- تفسير قصة أيوب بيقين أو رجحان –الجزيرة- عدد (10313) 27 رمضان 1421هـ, 23 كانون الأول 2000م, ص13.

- الجَصَّاص..ونية الوضوء – المسائية- عدد (3951) 3 رمضان 1415هـ, 2شباط 1995م, ص11.

- الجن أهل الأرض قبل بني آدم "ومقتضى ذلك, وحوار الله للملائكة" –الجزيرة- عدد (7926) 2 محرم 1415هـ, 11 حزيران 1994م.

- سورة التكوير وغوامض التأويل –الجزيرة- عدد (7828) 23رمضان 1414هـ, 5 آذار 1994م, ص8.

- سورة عبس وتبكيت الإنسان –الجزيرة- عدد (7821) 16 رمضان 1414هـ, 16شباط 1994م, ص7.

- سورة النازعات وتأكيد البعث – الجزيرة- عدد (7814) 9 رمضان 1414هـ, 19شباط 1994م, ص8.

- سورة النبأ عن اليوم الحق – الجزيرة- عدد (7807) 2 رمضان 1414هـ, 12شباط 1994م, ص8.

- معنى الآيات المحكمات –الجزيرة- عدد (8885) 2 محرم 1409هـ, 14 آب 1988م, ص7.

(4) التفسير الإذاعي:

شارك ابن عقيل في إذاعة القرآن الكريم السعودية ببرنامج تفسير القرآن الكريم وسمَّاه "تفسير التفاسير" حيث فَسَّر فيه سورتي الفاتحة وأول البقرة, وذلك قبل خمس عشرة سنة تقريباً وقد استغرق ما يُقارب ثلاث إلى أربع سنوات.

وقد أطال في هذا التفسير فلم يدع شاردةً ولا واردةً إلا ذكرها, فتناول الجوانب الفقهية والبلاغية والنحوية والدعوية وغير ذلك, وتوسع في النقل عن المتقدمين من الصحابة والتابعين إلى المعاصرين في وقته أمثال سيد قطب وعبد الرحمن الدوسري, وهذا واضحٌ من خلال اسمه فهو تفسير التفاسير.

حُرِّر في عصر الثلاثاء (2/8/1426هـ)

 
الآن اكتشفتُ نفسي (1-3) [مع استطرادٍ عن السريالية والتسبيح]لأبي عبد الرحمن بن عقيل

الآن اكتشفتُ نفسي (1-3) [مع استطرادٍ عن السريالية والتسبيح]لأبي عبد الرحمن بن عقيل

هذه ثلاث مقالات بقلم أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وفقه الله وختم لنا وله بخاتمة حسنة ، وفيها كثير من العبر والذكريات المفيدة لطالب العلم ، وفيها بعض الفوائد المتعلقة بتفسيره الإذاعي (تفسير التفاسير) الذي أشار إليه أخي عبدالعزيز الضامر في موضوعه هذا . وأشكر أخي د. عمر المقبل الذي أفادني بهذه المقالات المنشورة في جريدة الجزيرة السعودية في أعدادها (13567) بتاريخ الجمعة 3/12/1430هـ ، ورقم (13568) بتاريخ السبت 4/12/1430هـ ، ورقم (13569) بتاريخ الأحد 5/12/1430هـ

وأترككم مع المقالات ..

[p5s][/p5s]

[align=center]أكرموا آل البيت[/align]

قال أبو عبدالرحمن: هذا البَثُّ العلميُّ النفسي الأدبي الفني أرجو الله أن ينفع به دنياً وآخرة، وكذلك ما تعلق به من ذُيول.. ولقد أخذ مني وقتاً كبيراً وأنا في إِثْرِ مرض يتجدَّد ما بين 2-7-1430هـ و23- 10-1430هـ لم أَنْقَهْ منه إلا قريباً (وذلك خبر لا شكوى)، وكنت أعمل في غيره عن طارش من الطيور وفد من الشام، وحلَّ في بلدي، فأُعطي رعوية سعودية، ولا يزال والده سوري الجنسية، وكان منتسباً إلى جماعة من آل عقيل بشقراء أهل (القُطْعَة) وسط البلد، ثم زحف إلى أبناء عمي الأدنين، ثم علَّمهم ما لم يعلموه من التزوير والزعم الكاذب أنه نقيب آل عقيل الأشراف في نجد، وهذا كذب ليس عندنا نقباء ألبتة، بل نحن من عباد الله الضعفاء، بل لا تعرف المنطقة الوسطى مهنة النقيب ألبتة، والنقابة في مثل الحجاز إرث يستند إلى سجلات ضبطٍ من نقيب سابق؛ وإنما أحدث هذا الوافد فتنة، وربما كانت له أهداف غامضة.. وهو استخفَّ بعض ضعفاء العقول من آل عقيل فأطاعوه، والمنطقة الوسطى لا تعرف في كل أُسَرِها بالإجماع شيئاً اسمه نقابة.. ولقد ردعته في الرد على الكتاب الأول المزوَّر، وإذا به يتجدَّد بتزوير آخر ، ووراءه تزوير ثالث، وقد أراد السفهاء صدِّي عن دحض تزويره ورضاهم به بإرسال أحد أبناء عمي إليَّ يبلغونني تهديدهم لي بالضرب.. والجعلان أحقر من ذلك، وليتهم يخبرونني عن الموعد لأنام لهم عند الباب، ولن أخرج لهم مثل ابني عبدالوهاب السبع الخادر، وكم عندي من أمثال عبدالوهاب.. ولقد اتصل بي جمهور آل عقيل بالوسطى (وهم العقلاء الأخيار) وغيرها يتظلمون من افتراء الوافد، ويستنجدون بزعماء الأشراف معلنين براءتهم من النسب المزوَّر، داعين إلى إكرام آل البيت وحفظ نسبهم.. المهم أنني إن شاء الله مصمم على فضح تزوير الوافد، وتسفيههم ببيان ضعف عقولهم باتباعه، ومحاربتهم لشرع الله المكفر من انتسب إلى غير أبيه.. وكنت أعمل في (أكرموا آل البيت) على مهلٍ وبتعب؛ لما أعانيه من إجهاد مرضي، ثم انثال عليَّ موضوع (الآن اكتشفت نفسي)؛ فكانت الأفكار والأشجان والأحاسيس تُسابق قلمي؛ فتفرغتُ له حتى أنجزته، وقلت في نفسي: (ليكن من حظ جريدة الجزيرة هذا الحديث النافع دنيا وآخرة).. وأما (أكرموا آل البيت) فأنقل معركتها إلى جريدة أقرب اتصالاً بهذا الموضوع، وأردتُ أن يكون الموضوع رسالة للشريف حقيقةً الدكتور عصام الهجاري؛ ليقوم بما يجب عليه (شرعياً، وإدارياً) من حفظ نسب آل البيت الطاهر من التزوير والادِّعاء وإدخال البُعَداء الغُرباء فيه أفواجاً بغير حق.. وأما دور أبي عبدالرحمن علمياً وبمرافعةٍ شرعية وإدارية: فيكون واجباً عليَّ من جهة تبرئة أبناء العم عقيل بن عمر، وأبناء العم الأقرب أهل شقراء أبناء (عمر بن عبدالرحمن) جدي الخامس رحمهم الله جميعاً، وإيقاف المزور عند حدِّه، وردعه إدارياً وشرعياً عن الفتنة والتزوير، أو إعادة النظر في تجنيسه؛ لأن نظام الجنسية يلغي التجنيس إذا أخل المجنَّس بحق المواطنة، وسيرى هذا البيان العلمي النور قريباً إن شاء الله في كتاب مستقل بعد النشر في الجريدة التي اخترتها؛ فلما قفز موضوع (الآن اكتشفت نفسي) على موضوع (أكرموا آل البيت)، وأن يكون هو نصيب جريدتي الجزيرة: تذكرت قول العامة، وهو قول صحيح المعنى، ولا أعلمه مأثور اللفظ.. جاء على صيغة الحديث القدسي، ونصه: (تُرِيد يا عبدي وأنا أريد، وليس لك يا عبدي إلا ما أريد)؛ فهو صحيح المعنى، لأنه مقتضى قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (سورة التكوير:29) ؛ فهنيئاً لي بإنجاز هذا الموضوع الإيماني الأهمِّ، وهنيئاً لي بكونه أول نشاط لي بجريدتي الجزيرة بعد الانقطاع القسري منذ أول شهر رجب؛ فإلى ممهدات هذا الموضوع، وهو هذا الحديث الذي هو هذا الخليط من العلم الشرعي، والعلم اللغوي, والإبداع الأدبي الحديث، والأدب الحداثي، وفن الغناء والرسم.. وكل هذا الخليط يصب في مصب واحد هو ابتغاء مرضاة الله بمعرفة مراده الشرعي، وتنبيه الأذهان عن المَلَلِ بالإحماض؛ فاصبروا واعجبوا واضحكوا معي وابكوا؛ فأنتم على خير إن شاء الله.. ومن هذا الاستكشاف الذي استجدَّ لي أنه مضى عمري لم أصدر عملاً متخصِّصاً مستوعباً لفن بعينه؛ لأن مزاجي عنيد لا يخضع للأَرْشفة (1)؛ فلما أردت أن أرثي نفسي وجدتُ أنني غير محروم من الخير، وأن المنهج الذي أريده منقاد لي طوعاً بإذن الله لو أردتُ سلوكه؛ لأنني مزيج مركَّب من أخلاط المعارف النظرية، وما ينتج عنها من علم يُغذِّي كل حقل معرفي، وهو ما يظهر من الفروق والعلاقات بين المعارف.. ويصحب ذلك حسٌّ جمالي مفرط الشفافِيَّة، وتحديثٌ بنعمة الله عن موهبة فكرية لا تخلط الأوراق.. ثم حرصت أن لا أَحْرِمَ نفسي من التخصُّص في جناحين للمعرفة لا ثالث لهما: هما أسرار اللغة، والتأصيل الفكري.. ويلتقي مع كل ذلك ذكريات غير محمودة خَلَّفتْ ندماً وامْتعاضاً، ولذَّةُ إنابةٍ انبثق عنها شفافية أيضاً مفرطة في التورُّع؛ ولاختلاط الماضي بالحاضر يحار المتلقي: هل أنا واعظ، أو مُطْرِب، أو نديم.. وليس في الجمع بين ذلك تناقض؛ لاختلاف الزمان.. كما أنه لا يوجد تضاد؛ لأنه جائز أن لا أكون شيئاً من ذلك، وجائز أن أكون شيئاً غيرَ ذلك.. والنديم صيغة مبالغة لفعل المنادمة؛ فذلك هو الوجود بالفعل.. والنَّدْمان عن بلوغ الغاية في الذات، وذلك هو الوجود بالقوة الذي يظهر منه الوجود بالفعل مثل شبعان وملآن، فالملآن عنده قوة على أن يملأ غيره مِمَّن هو دونه على أقل تقدير، وأما بمعنى بلوغ الغاية فالفَعْلان لا ينقص مهما ملأ غيره.. وأما فيما يتعلق بربنا سبحانه فالرحيم لغاية الكمال في فعله جلّ وعلا الرحمةَ لخلقه، والرحمان لبلوغ غاية الكمال للاتصاف بهذه الصفة التي يصدر عنها رحمته لخلقه من غير أن ينقص شيئ من كمال الاتصاف تعالى الله.. وأما بعد فلقد أثْنَى عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم على شاب ليست له صبوة، وبشَّره بأنه من الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله؛ فعصيتُ سلوكاً وتقصيراً وغلبةَ هوىً لا عقيدةً؛ فامتلأتْ حياتي بالصَّبوات وإن كان لي فيئات كأفاويق (2) الناقة.. وقال ربنا سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (سورة الأحقاف -15)؛ فكان أهل المدينة المنورة - بلَّغني الله قضاء حياتي بها - يشدُّون المئزر للعبادة إذا بلغوا هذا العمر؛ فعصيتُ سلوكاً لا عقيدة، وأوضعتُ وأرْقلتُ (3) في الغفلة والتقصير والتسويف وإن كانت أفاويقي أكثر.. وأخبر الرسول أن الله أعْذَر لابن ستين عاماً؛ فعصيتُ سلوكاً لا عقيدة، ولكن الألم يعصر قلبي؛ فلما بلغتُ سبعين عاماً إلى هذا العام الرابع بعد السبعين استيقظتُ، وأخذتُ نفسي بالرياضة تدريجياً ولَمَّا أبلغ ما أريده؛ فلماذا هذا الإيضاع والغفلة وأنا ابن الفطرة ومن مدينة شقراء بين رجال جباههم مُطَيَّبات من ثفنات السجود ؟!.

قال أبو عبدالرحمن:: الجواب من ثلاثة أمور:

أولها: أنني منذ نضجتْ مداركي سلَّمتُ قيادي لابن حزم بالتتلمذ الأعمى، وهو إمام عالم مجاهد متين الدين أدَّاه اجتهاده الخاطئ إلى ورطات غطستُ فيها غطسة الغريق، ولبيئته رحمه الله أثَرٌ في ذلك، ولكن أي بيئة لي مثل بيئته وأنا من بيئة الحرمل والحنظل.. لا عطورَ، ولا نوافيرَ، ولا أوتارَ زرياب، ولا حسناوات النورمان؛ فتكلَّفتُ التَّصابي تقليداً له حتى كان التطبُّع طبعاً؛ فتوحَّلْتُ في الحب والطرب، وإن كان مرَّ بي أزمة عاطفية في زواج فاشل فهي لا تُبيح لي تلك الورطات لو ظللتُ على فطرة النشأة في مدينتي شقراء مدينة الفطرة، ومدينة مسجد الحسيني المبارك.. قرأتُ طوق الحمامة، وقرأت إباحته للغناء الملهي في رسالة خاصة، وفي مسألة من كتاب البيوع بالمحلى؛ فانْماع قلبي ووجداني، وتقاطر طرسي.

وثانيها: الإيغال في العمل الفكري، وهو خير وبركة، ولكن بعد أن يرقَّ القلبُ بممارسة أشواق الروح مما صحَّ من ممارسات الربانيين ككتب ابن قيم الجوزية رحمه الله في الرقائق، وكشيئ من مُبكيات القلوب آخُذُه بحذرِ من تجربات القشيري والمحاسبي وأبي طالب المكي وغيرهم بعد تحقيق الدلالة والثبوت؛ لأن المرجع إلى نصوص الشرع وسِيَر قدوة الأمة من السلف كالصحابة رضوان الله عليهم.. ولكن أنَّى لقلب يرقُّ ويَهَشُّ (4) لهذه الرياضة وقد أُفعم بالطرب والحب؛ فكان علمي فكرياً عقلياً لا يلامس القلب إلا في الأفاويق التي ذكرتها.

وثالثها: التعلم لذات العلم مع شوائب من الرياء وطلب السمعة؛ فكانت قراءتي الشرعية تتسرَّب من الذاكرة بسرعة؛ لأن وعاء العلم القلبُ لا العقلُ العابر المتغطرس، وكانت صناعتي الجدل، وأَقْبِحْ بها من حرفة تُقَسِّي القلب !!.. ولكن ربي جلّ جلاله لم يحرمني من الخير؛ لأن للفطرة والنشأة والميل للعلم الشرعي (وإن كان بتلك الصفة) أثراً مباركاً؛ فكان لطف الله بي كزخَّات المطر في الأفاويق التي ذكرتها، وأذكر نماذج:

مرة أكون في بلد أجنبي، ونافذتا غرفتي الكبيرتان تُطلان على البحر، والقوم - وليس بعد الكفر ذنب - في رقص وزمر وغناء خواجي أجمل منه صوت الحمير، فتنقبض نفسي، وأقفل النوافذ، وأتوضأ وأقرأ ما تيسر من القرآن، وربما قدَّمتُ بركعتين لقصة سلمان الفارسي رضي الله عنه كلما توضأ تنفَّل (5)، ثم يمر بي آيات مؤثرة تقترن بوضعيَّة حياتي، فأطبق المصحف، وأرفع رأسي إلى السماء (ودعوة المسافر مُجابة)، وأذهل عن نفسي فلا أذكر إلا قليلاً من الدعاء الذي يفتحه الله عليَّ, ومنه: (أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت بنوره السموات والأرض أن تقذفني في النار طرفة عين؛ فإني عبدك الضعيف لا أقوى على ذلك)، وأستعيذ بالله من عذاب القبر وضغطته ووحشته، وأشفق من الموقف العظيم؛ فلا تمنعني إساءتي من دعاء ربي بإلحاح أن يظلني تحت ظل عرشه.. ومما كنت أقوله تلقائياً وليس كلُّه مأثورَ اللفظ: (اللهم اجعلني ممن طال عمره وحسن عمله.. اللهم أحيني حياة سعيدة مديدة تكسب عملاً صالحاً عامرة بالعلم النافع والعمل الصالح إلى يوم ألقاك غير مبدِّل ولا مُغِّير، وأنت راضٍ عني، وأنا مشتاق إلى لقائك، واثق بعفوك، غير مستوحش من ذنوبي).. وأسأله تعالى العصمة من الذنوب كبيرها وصغيرها ولمَمِها، وأسأله حسن الثناء عليه، وصدق التوكل عليه؛ فوجدت أثر ذلك عاجلاً وآجلاً؛ فالعاجل أنه ينزاح عني كابوس، وينشرح صدري؛ فأتفاءل بأن ذلك من بشرى المؤمن في حياته على الرغم من ظلمي نفسي، لقوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة يونس 62- 64)، ومن الآجل أن الله أنعم عليَّ في وقتٍ قصير بحفظ مأثوري من الأدعية الشرعية الصحيحة الموظَّفة والمطلقة، واستزدت بحفظ ما لم أكن أحفظه؛ فهذه بشرى من الله أن وفَّقني لحسن الثناء عليه، وبدأت أنخل كتب الأدعية رواية ودراية، وأُنقِّيها من أو شاب علماء زهاد أرادوا الخير؛ فتزيدوا بغير المأثور، وحملوا بعض المعاني على آثار من الزهد تأتَّت إليهم من متصوفين ليسوا علماء في الشريعة يُلَقَّبون بالعارفين بالله، وبدأت بكتاب العالم الورع أبي بكر الطرطوشي رحمه الله؛ فهو خليق بالتنقية، وأما كتب أبي حامد الغَزَّالي في الزهد والذكر ففيها خيٌر يُعين على الرياضة، ولكنَّ تنقيتها أشق.. ومن ذلك الآجل أن الله بغضَّ إليَّ الطرب في وقت قصير؛ فوجدتُ قبحه في الأذن والنفس، وآليتُ على نفسي بِأَخرة أن لا أُجامل أحداً فيه؛ فإن كان سماعه لا استماعه ضربة لازب سبَّحتُ ربي في قلبي، ولن أكرر ما نشرته عن الطرب في هذه الجريدة، ولكن براءةً لذمتي، وتكفيراً لما سوَّدته من أوراق خاسئة: أُشهد الله، وملائكته، وحملة عرشه الكرام، وجميع خلقه - من غير جدال في تصحيح حديث وتضعيف آخر، بل الأمر تجربة نفسية -: أن الغناء مهما كابر المكابرون يُقسِّي القلب، ويُعين على هجر القرآن الكريم وحديث رسول الله وسير الصالحين؛ فإن عانى ذلك بالرياضة حصل له فهم وإدراك عقلي، ولم يحصل انفعال قلبي كما ينفعل مع أصوات خنافس البشر وعلب الليل.. وأشهد ثانية أنه ليس مَجْلبة سرور وفرح وطمأنينة، بل هو كباطِيَّة (6) أبي نواس يتداوى منها بها، وهي تزيد هماً وحسرة، وتصدُّ عن خير كثير.. وأشهد ثالثة أنه ليس غاية المسلم أن يدخل الجنة بعد تطهير بالنار، بل غايته أن يدخل الجنة بدءاً، ثم غايته أن يزداد مُلْكاً كبيراً في يوم التغابن، وهذا يحصل بعفو الله ورحمته والاستكثار من المستحب بعد الواجب، والعزوف عن المكروه؛ ليجبر نقصه في الواجب؛ فرحم الله شيخي الإمام أبا محمد ابن حزم، وجمعني به ووالديَّ وأحبابي وعامة المسلمين في دار كرامته؛ فقد ضَلَّلني في الانمياع في حب من ذكريات شبابه تراجع عنه، ومن تصميم على إباحة الغناء باجتهاد خاطئ وإن صرَّح بأن ترك سماعه أفضل، وأسال الله تعالى أن يجعله ممن يحصل على أجر ومغفرة في هذا الاجتهاد الخاطئ؛ فالمعروف عنه رحمه الله أنه ليس صاحب هوى، وأنه لا تأخذه في الحق لومة لائم؛ فأَحْمِلُ هفواته وهفوات غيره من العلماء الفضلاء على خطإ الاجتهاد.

قال أبو عبدالرحمن: هذا هو مقياس الفضائل الأُخْروية الذي ينبغي أن يكون معيارنا في دنيانا، وبالمقياس الدنيوي أقول: لو كان الغناء خيراً - وهو لا خير فيه بيقين - لوجب على السِّميعة في هذا العصر أن يرحموا أنفسهم؛ فالفن الآن قُبح أصباغٍ وتجاعيدَ، وعفنُ هز وغمز بلا ملاحة، وكلمات عامية بلهجات قبيحة، ومخارج للحروف تجلب الغثيان، وشعر رعاة خليٌّ من الفكر والوجدان المجنِّح والثقافة الآسرة، وضحولة طبقات صوتية تليق بشعر عامي قصير النَّفَس ضعيف النبر.. ومن العجب أن يُطلَق اليوم لقبُ (مطرب العرب) على صوتٍ شعبي غنَّى بالشعر العامي؛ فرفعوا شأنه؛ لأنه لغة الجمهور.. وهو عاجز عن مسايرة ألَقِ الشعر الفصيح، مع مداخل موسيقية صاخبة مُلفَّقة أو مسروقة هي في وادٍ واللحن الساذَج في واد.. حقاً لقد فسدت الأذواق؛ فإذا كانت هذه الحشرجةُ العاميةُ كلمةً، الشعبيةُ أداءً هي صفة المطرب للعرب: فأين نضع مثل (محمد عبدالوهاب) الذي ما رأيت في حياتي أسرع منه بديهة، ولا أجمل منه نبرة؟!.. إذا تحدَّثَ خلتَه من عرب الجاهلية في فصاحتهم وإعطائهم مخارج الحروف حَقَّها، وما رأيت أوعى منه ذاكرةً لشعر الفحول أمثال شيخه أحمد شوقي، وهو الذي أعاد للَّحن العربي مجده، وأرضى أَثْرى المؤدِّين طبقات صوتية.. تمنَّيتُ لو قلتُ ذلك مُبكِّراً، وأما اليوم فسلوتي الكريمة المعيارية في غير هذا؛ فيا مَنْ لا ترون بأساً في الطرب ارحموا أنفسكم، وحَسِّنوا أذواقكم بكلمات: تُرْهِف المشاعر، وتصقل اللسان، وتُورث المُتْعَة.. وارحموا أنفسكم باختيار الثلاثي العبقري (الشاعر، والمُلَحِّنُ، والمؤدِّي)، وإن تبتم فهو خير لكم.. واعلموا أن اللهجات المحلية في جزيرة العرب على الرغم من صلتها الحميمة بالفصحى ليست جميلة الأداء من قِبَلِ الناطق بها مخرجاً ونبْراً؛ فستظل لهجة محلية مثل عامية لبنان والشام ونصف أفريقيا الشمالي، وما أَصْعَد من بلاد العرب جنوباً.. ولعل أكل القُعْقاع (ثمر العاقول)، ومَضْغَ طَلْع النخل - وهو أصل القنو (العِذْق) الذي تسميه العامة كافوراً - أثَّر في حناجرنا بالبُحَّة والحشرجة.. وليست كذلك عامية أرض الكنانة (باستثناء أعماق الصعيد)؛ فتلك العامية هي الوسيط الثالث الذي يجتمع عليه فهمُ النُّخبِ والعاديين، وهو الذي تجتمع عليه أذواق كل شرائح المجتمع في الوطن العربي.. وأشدُّ أهل الكنانة عامية أهل الأرياف؛ فالمسحَّراتي مثلاً وهو عامي يترنَّم بالفصيح مثل:

(أيها النُّوام قُوموا للفلاح.
واذكروا الله الذي أجرى الرياح.. إلخ)
ويغني بالعامية فلا ينبو عنه ذوق ولا فهم مثل:
(قومي يا أم محمد وصحي جوزك.
بلاش كسل.
وأنت يا سي فؤاد: هو النوم مالوش آخر).

لقد كسى الله نطق عوامهم ملاحةً وجاذبية تأخذ بتلابيب القلوب، وليس كذلك عامية السواحل ووسط الجزيرة.. وأما زجل أمثال أحمد رامي وعبدالوهاب محمد وبيرم التونسي فهو لغة المثقفين.. وفي أيام الصبوة بثثتُ شكواي من فساد الذوق في حلقة نشرتها بعنوان: (بكائية لأم الملايين) ، ثم توقَّفتُ عن نشر الباقي؛ مخافةَ أن أجرح بعض المشاعر.. وهكذا فعلتُ في قصائد لي من الشعر المُبَعْثر إلا أنه يحكمها قفزات الخبَبِ النِّزاريَّة.. وذوق بعض السِّمِّيعة في بلادي إنما هو تَذَوُّقُ شعر عامي قصير النفس تردح به الطَّقَّاقات الأُمِّيَّات في الأعراس، وردحهن كلعب الفطَّر الشِّيب (الإبل)، والعامة تقول: (يا شين لِعْبِ الفطَّر)!!.. يعجبون من القبح.. وردح الطقاقات يجعل الأرض تراب صِير الباب (7), ولا جمال فيه أداء, ولا مخارج، ولا نبراً.. ولا جمال في رقص الإبل فتبارك الله أحسن الخالقين!!.. ولو أنصفوا لقالوا: (مطرب العامية، أو المطرب الشعبي).

قال أبو عبدالرحمن: ومن ذلك العاجل أنني كنت أحفظُ كثيراً من القرآن الكريم، وأنوب عن الإمام في صلاة التراويح فيما بين عام 1382هـ و1388هـ، وكان أحد المشايخ الفضلاء من أترابي يأتي إليَّ بعد صلاة الفجر لنُكْمل حفظ القرآن الكريم.. ولكن لتعاطي الغناء والانمياع مع الظرفاء والمطربين كبليغ حمدي ومحمد سلطان وغيرهما، وبتأثير المُجَّان: تراجعت القهقرى عن المسجد إلا لِمَاماً، وقطعتُ مواصلة حفظ القرآن، واستوحشتُ من مجالسة الصالحين سوى عدد من المشايخ يأنسون بي، وشعرتُ أني عندهم من المؤلَّفة قلوبهم يستألفونني، ومن أكثرهم تَخَوُّلاً لي بالموعظة سماحة الشيخ عبدالله ابن حميد(8) بعد شيىء من الممازحة، وسماحة الشيخ صالح ابن غصون، وشيخي الدكتور عمر ابن مترك رحمهم الله جميعاً.. وأما سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله فقد انقطعتُ عن درسه بالجامع الكبير قبل أن يكثر جمهوره من طلبة العلم لما كان يأمُّ المصلين أحياناً قبل تفرُّغ ابن هُدَيَّان رحمه الله للإمامة، ثم عاودتُ ذلك في آخر حياته على استحياء، ولا أزوره إلا لماماً لحاجة، وكان أشدهم عتباً وتعنيفاً، ولكن يتبع ذلك البكاء والدعاء.. وقد ذكرت في التباريح أن سماحة الشيخ محمد ابن عودة متعه الله بالصحة والعافية اتصل بي هاتفياً وبيتي شرق شارع جرير؛ فقال: (السلام عليكم)، فرددت عليه بتحية الإسلام ولم أعرف صوته، فقال: (يا شيخ محمد)؛ فعاجلته قبل أن يتم كلامه بعجرفة (9)، وقلت: (لست شيخاً، ولا أحب المشايخ).. فقال: أنا أخوك محمد ابن عودة، وعدم حبك للمشايخ سلمك الله لن يضعهم، وحبك لهم لن يرفعهم، ولكنني مدعوٌّ عندك الليلة (وكان عندي معالي الشيخ ناصر الشثري، وسماحة الشيخ راشد ابن خنين متعهما الله بالصحة والعافية، والشيخ محمد البواردي رحمه الله، وآخرون نسيتهم): فخجلتُ أشد الخجل، وغصصتُ بريقي، وقلت: يا شيخ محمد: لا تؤاخذني فإنني كثير المزاح.. فقال: عذرك مقبول، ولكن صِف لي البيت!!.. وقبل أن تنقطع عني أخباره كان يذكرني دائماً بهذا الموقف.. ومن تأثير أولئك المُجَّان أنني أُنسيتُ ما حفظته من القرآن الكريم، وعَسُر عليَّ جداً استذكاره، بل كانت معاناتي لحفظ سورة جديدة أيسر؛ وبفضل الله كان من الأثر العاجل الذي أسلفته أن يسر الله لي استعادة كثير مما أُنسيته مع مواصلة حفظ جديد.. ولكنَّ تلاوتي للقرآن مطالعة أو حفظاً على غير ما أعهده؛ بل كانت قراءة واعية يَرِقُّ لها قلبي، وتدمع لها عيني على خلاف سنوات الغفلة والانهماك؛ فقد كانت عيني جامدة، وقلبي قاسياً إلا في لحظات نادرة، وكان الله يفتح عليَّ من فهم المعنى ما كان يمرُّ سابقاً من حنجرتي من غير وعي.. ومن ذلك العاجل أنني أتابع إذاعة القرآن الكريم إن كنت في عملٍ حِرفي كترتيب مكتبتي، وأضع الراديو على مكتبي بصوت خافت؛ فإذا لفت نظري تلاوة أو حديث رفعت الصوت وأصغيت.. وكنت أتأذى أحياناً من أحاديث ودروس غير محققة، ومن بعض التمعلُم، ومن بعض أصوات لا تلج معانيها في قلبي، وسأذكر شيئاً من ذلك إن شاء الله.. ولكن في مرات أخرى أسبح مع بعض المتحدِّثين بخشية؛ لأن ما خرج من القلب دخل في القلب كسماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله؛ وإنني لأعجب كيف يهزني حديثه بعد لقائه ربه ولم أُلْقِ له بالاً في حياته؟!!.. وهكذا سماحة المفتي، ومعالي الدكتور الشيخ صالح الفوزان؛ فإنه كما يهزني حديثُهم فأشتدُّ حسرة، وأكاد أبصق على لحيتي، وأقول في نفسي: كيف قضيت حياتك وقضى هؤلاء حياتهم؟.. وهكذا شيخي عبدالعزيز الداود متعه الله بالصحة والعافية على نُدْرة لقائي له تدمع عيني من حديثه العادي لورعه وعلمه وبعده عن الفضول.. اللهم إني أحبهم في الله وكفى بالله عليَّ حسيباً، وتحسُّري بجانبهم إنما هو غِبطة مأجورة وليس حسداً مأزوراً.. وكم قرأتُ وقرأتُ مما يُلْقونه ولكن الذي استجدَّ التأثر والانفعال.. ثم راجعتُ ما أنا فيه من ميل فكري، وغربلتي مسألة واحدة وإن جهلت عشر مسائل؛ فما رأيتُ الفكر عيباً، ولا التحقيقَ مثلبةً، ولكن بشرط الاستيعاب ونزاهة القصد، وتحرِّي مراد الله، والبُعْد عن الحميَّة لمذهب أو إِلْف أو عالم بعينه أو ابتغاء السمعة والشهرة؛ فآليتُ على نفسي أن أصدع - حيثما تسمح الظروف - بما أعتقده حقاً لا تأخذني في الله لومة لائم.. مُصْغِياً إلى ما عند معارضي من حق، وأن أبتعد عن شهوة الجدال غير المشروع؛ فأعرض عمن يتكلم بغير علم، أو من يتحدث بعلم غيره لا بتحقيقه هو، ولا أشْتَدُّ في النزاع، بل أُبَيِّن وجهة نظري وبراهيني، وكل واحد مؤتمن على ما استقر في نفسه عن علم وبرهان إلا ما يتعلق بتقديس الرب سبحانه من تعطيل أو تشبيه، وما يمس جوهر الديانة في ثبوتها وحجيتها وأنها من عند الله، وما يتعلق بكيان أمتي تاريخاً ولغة ورقعة؛ فهذا لا مساومة فيه ألبتة (10)، ولا مسامحة في الحقائق. ولي تجربات نفسية قبل الإنابة وبعدها هي أكبر برهاناً من براهين العلماء الربانيين والمتكلمين والفلاسفة على الإيمان بالله الكبير المتعال بصفات الكمال المطلق.. عرفت بها ربي وأحببته مع غفلتي, وعلمت أنني بين يدي قدير رؤوف بالعباد لا تخفى عليه خافية ولا يعجزه شيء، وأحببت من جرَّاء ذلك أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام وعباده الصالحين وشرعه.. ووجوه ذلك البرهان لا أحصيها، ولكنني أذكر ما يعنِّ لي؛ فمن ذلك أنه يمرُّ بي ما يمر بالآخرين من هموم زوجية أو عائلية أو عقوق ولد أو ضائقة مالية أو ظلم اجتماعي أو ما يتنافس فيه الناس من حظوظ الدنيا التافهة التي لا تستحق أن يرفع بها المسلم رأساً.. وهذه الأمور إذا حزبت يحدث بها انتحار في عالم الكفر، وعند من ضَعُف يقينه وإيمانه؛ فيا غوثاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ فالحي لا تؤمن عليه الفتنة، فاللهم عصمتك؛ فلا ملجأ منك إلا إليك.. أعوذ بوجهك الكريم من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وجهد البلاء، وأسألك حسن الخاتمة؛ فإذا حزبتني هذه الأمور وأنا فرد وحيد ضعيف بنفسي.. ضعيف برهطي: فإنني أَفِرُّ إلى ربي بإحسانِ وضوءٍ وصلاة، وعند مضجعي أريد النوم, وفي أوقات الإجابة، وربما لازمت الأماكن المقدسة كالحرمين الشريفين؛ فأستمطر رحمة ربي بتسبيحه وتقديسه واستغفاره، وربما طال انتظاري النوم من الهم في مضجعي؛ فيأخذني النوم على غرة بعد ما لا أحصيه من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير ودعاء.. وفي الصلاة مثل ذلك، وأُقدِّم بين يدي ذلك الدعاء بأن يكون ما أنعم الله به عليَّ من صحة ونشاط ورزق وفراغ وعلم عوناً لي على طاعته, وأن لا يكون استدراجاً, وأستقيل ربي من ذنوبي معترفاً باستحقاقي العقوبة، وأسأله الرحمة قائلاً: (عافيتك يا ربي أوسع لي)، وأعلم أنه لابد من ابتلاء المسلم وامتحانه من ربه؛ ليظهر لجنده الكرام صدق إيمانه؛ فإن أصابني شيىء بذنبي ألححتُ في الحمد والشكر بأن جعل إصابته مني على قدر تحمُّلي؛ فإن حصل لي طُمأنينة عرفتُ أن ذلك بشرى وانتظرت الفرج؛ فإن لم أجد لعبادتي طعماً، ولا حضورَ قلب، ولا بشرى طمأنينة: علمت أن الله مُعْرِضٌ عني، وأن عملي مردود؛ فأنسى ما حزبني من الأمر, ويحزبني ما هو أدهى من ذلك من خوفي من الطرد والرد, فأعاود دعاء الغنيِّ الحميد الحَييِّ الكريم الذي لا يردَّ يدي عبده صفراً إذا رفعهما، وأُلح بدعاء علَّمني إياه أبي في الصغر مع ما غذَّيته في وعاء قلبي بالتعلم.. وكنت تعلمت من أبي رحمه الله - وهو رجل شبه عامي - دعاءً غير مأثور، وهو أن أقول إذا استعجم لساني ما قالته الجارية: (ربي إني لقيتك سوادي وأنت تعلم ما في فؤادي)، وربما سبق إلى خاطري سهواً بعد أن استبدلته بالدعاء المأثور، ولقد نفعني الله به على الرغم من أنه غير مأثور؛ فهو دعاء مجرَّب نفع الله به العوام؛ لضعف تعبيرهم، وقلة تحصيلهم العلمي، وأحسبهم خيراً منا وأزكى على عاميتهم؛ فألح في الدعاء، وأتخلله بما سمَّاه العلماء بالباقيات الصالحات - وهي تسبيح معيَّن -، والحق أنها نوع من الباقيات الصالحات وإن قال بتعيينها بعض العلماء لورود أحاديث بذلك، وألَّفوا في ذلك الكتيِّبات.. والصواب من القول ما ذهب إليه الإمام ابن جرير رحمه الله تعالى: أن الباقيات الصالحات كل عمل خيرٍ من واجب ومندوب يُقَرِّب إلى الجنَّة؛ لأن هذا هو عموم مقتضى سياق قوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} (سورة الكهف - 46)، وقوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً)}(سورة مريم - 76)؛ فكل نية صالحة، وقول صالح، وعمل صالح بنية العبادة لله وحده سبحانه يُقَدِّمه المكلَّف لآخرته؛ فيكون خيراً له أملاً وخيراً له مرداً: فهو موصوف بضرورة اللغة بأنه من الباقيات الصالحات.. والأحاديث التي ذكرت الباقيات الصالحات مُعَيَّنة في التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل: محالٌ في دين الله بضرورة الشرع أن تنفي صفة الباقيات الصالحات عما هو صالحٌ آخَرُ كالصلوات والصوم والزكاة الواجبة والصدقة المستحبة وإكرام الضيف والجار وصلة ذوي القربى وإطعام الطعام وإفشاء السلام؛ فصحَّ أن تلك الأحاديث تعني ما هو من أنواع الباقيات الصالحات.. كما كنت أتخلَّل الدعاء باللجوء إلى الله، والبراءة من الحول والقوة، والاستعاذة من مقته وغضبه وسخطه ومكره، وهو جل وعلا خير الماكرين لا يمكر إلا بمن مكر به وحادَّ شرعه؛ فأول برهان لي على أنني في عناية رب كريم غني حميد لا يعجزه شيىء زوال الهمِّ عني؛ فلا أعبأ بما حزبني، ولا أحزن على فائت، ولا أخاف من آت إلا لقاء ربي الكريم ما دمتُ سليم الأديم والإدراك، فإذا عجزتُ فليس لي إلا حسن الظن بربي، والله يلهم عبده في الضراء نتيجة إيمانه في السراء.. وأظل في أنس وابتسام ضامناً الفرج من ربي وأنا لا أعلم كيف سيكون عليه الأمر، ولكنني بانتظار الفرج يقيناً؛ فيأتي الفرج بأسهل الأسباب، ولا أحصي المرات التي حصلتُ فيها على بشرى من ربي طمأنينة، وعلى فرج بقضاءٍ كوني من ربي رحمةً منه؛ فأُحِسُّ الوجدانَ في قلبي محبةً وشوقاً وشكراناً لما أولاني إياه مع ضعفي وتقصيري، والله يرحم عبده المضطر اللاجئ إليه مهما علم العبد من نفسه من شنيع الذنوب.. ولولا خوف الحِنْث من غياب شيىء لا أعلمه لأقسمت بالله أن مثل هذه التجربة النفسية دلتني على ربي أكثر مما كنت أحذقه من البراهين الفكرية العلمية حتى لكأني أرى ربي بعين قلبي رعاية ولطفاً ورحمة وعلماً كما قال حملة العرش عليهم السلام فيما قصه الله عنهم بقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (سورة غافر - 7)، وكما قال سبحانه عن إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} (سورة الأنعام - 80).. مع أنني أقلُّ من الجُزْءِ الذي لا يتجزَّأ عند الفلاسفة في كون ربي الوسيع العريض؛ فخيَّب الله المعتزلة الذين لم يقدروا المولى الجليل حق قدره، وقالوا قبحهم الله : (إن الله لا يعلم الجزئيات)؛ فسبحان المولى الكريم (عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضا نفسه، ومداد كلماته)، السميعِ نداء عبده الضعيف في ملكوته الواسع العظيم الذي لا تبلغ كنهه الظنون.. ثم يعتريني غفلة وتقصير وكثرة دعابة ومزاح إلا أنني اعترافاً بفضل ربي وتحديثاً بنعمته لم أفقد في حياتي - والله المستعصم فيما بقي - شيئاً من يقيني القلبي؛ فأعود إلى ربي بالاستغفار والتمجيد؛ فيعاودني باللطف والرحمة.. إن من شرع الله ما هو خبر يُصدَّق به على ظهر الغيب من قِبَل المؤمن، ويُكذِّب به مَن كفر، ولكنَّ وجدانَ آثاره في نفس المؤمن برهانٌ عظيم على معرفة الرب سبحانه أكبرُ أثراً من البراهين العلمية العقلية.. ومن أخبار الشرع المطهر التي يمتحن الله بها عباده تكذيباً أو تصديقاً خبره الكريم عن الشيطان الرجيم المغيَّب عن حواسنا الظاهرة، وهو عدونا منذ أبوينا عليهما السلام: يعدنا الفقر، ويأمرنا بالفحشاء, ويزيِّن لنا سوء أعمالنا، ويلبِّس علينا في عبادتنا.. هذا خبر؛ فليحمله الحاملون على ما شاؤوا، ولكن لي تجارب عجيبة ثبَّتتْ إيماني بأن الله الحق، وقوله الحق؛ حتى أيقنت أن العناء في العبادة الذي سأذكره بعد قليل إن شاء الله في جهاد الشيطان عند العبادة هو في ذاته نوع عظيم كريم من أنواع العبادة، فمرة كنت في بلاد الخواجات عند النافذتين اللتين أسلفتهما، وربما حكمت ظروفي ولاسيما الصحية أن أصلي الظهر والعصر جمعاً وقصراً منفرداً؛ فيكثر سهوي، ولا أدري كم صليت، ولا أعلم ما ذا قرأت، ويكثر سجودي للسهو، وأحياناً تحضرني نكتة سخيفة فأبتسم في صلاتي، وأحياناً تحضرني مقطوعة أدبية ماجنة لا أعي بها لبَّ الصلاة من التلاوة والدعاء، وأتذكر أشياء بعيدة المدى، وأشياء أريدها قبل الصلاة وأنساها فإذا شرعت في الصلاة ذكرتها؛ فلا أكتفي بسجود السهو بل أعيد صلاتي.. ولما طالت معاناتي لاب ببالي - وإني لأميِّز في قلبي بين لمَّة المَلك الكريم، ووسواس الشيطان الرجيم - أن لا أكتفي بالإقامة، بل الأذان أفضل الذكر في بلاد الفسق والكفر؛ فأذنت.. وأقسم لكم بالله العلي العظيم، ولعنة الله على الكاذبين (وقد أقسم لكم أبو عبدالرحمن وعمره أربعة وسبعون عاماً لا يدري متى يلقى ربَّه؛ فصدِّقوه, ولا تستكثروا بما يُخيَّل إليكم من حصافة عقولكم): أنه (11) أصابتني وحشة عظيمة، وما أعرف الوحشة في حياتي، بل كنت مِدْباس (12) ليل، وأحسستُ أن مخلوقاً يفرك قلبي بأصابعه، وأنا أدافع ذلك قبل الشروع في الصلاة بالتهليل والتقديس والتعوُّذ؛ فشرعت في الصلاة وأنا على وحشتي كأن الغرفة تدور بي، وكانت تلتبس علي قراءة سورة الفاتحة، ولا أكاد أحصي من صلاتي شيئاً، وكرهتُ أن أقطع صلاتي وأنا على نية إعادتها، فلما فرغتُ من صلاتي ثاب إليَّ رشدي، وصرت كأنني أحاور رجلاً عن يساري, وأقول: أنت عدو الله تأمرنا بالفحشاء، وتعدنا الفقر، وتُلَبِّس علينا ديننا, وتصدنا عن الأنس بالله.. إن شيطان المؤمن هزيل، والله قسماً برب كريم لأدحرنَّك ولأحرقنَّك؛ فنهضت بنشاط كأني شاب ابن عشرين عاماً؛ فرفعت عقيرتي بالأذان مرة أخرى بجهُوريَّةٍ وأناة وترجيع, فانزاح عن نفسي كابوس عظيم، وأديت صلاتي بخشوع وطمأنينة .
وكانت هذه الغُريفة سكينة أنسي بالله، وأعمرها بتلاوة كلام الله أطراف الليل وأطراف النهار، فيحصل لي وعيٌ بمعاني كلام الله لم يحصل لي بالبحث والتنقيب في كتب التفسير مما كنت أُعانيه أيام شهوة التمظهر العلمي في برنامجي (تفسير التفاسير) - الذي هو مماحكةٌ علميةٌ وليس ذوقاً قلبياً -.. وأحياناً تخضلُّ لحيتي بالدموع رعشة وقشعريرة، وقد قلت لكم كثيراً: (إن لملائكة الرحمن السُّياح عليهم السلام أثراً في ذلك؛ فهم يحضرون مجالس الذكر، ويستغفرون للمسلم مسيئاً أو محسناً)، وكان يُفتح عليَّ بدعاء حفظه الله لي، فوجدت أثره وحلاوته في ثمالة عمري، وأسأل الله أن يصحبني صدق الإنابة إليه، والتوكل عليه, وأن يمنحني العصمة حتى ألقاه راضياً عني؛ فهذه تجربة نفسية حَدَث بها برهان علمي على صدق خبر ربي عن الخناس الوسواس.. ومنذ ذلك اليوم علمتُ يقيناً أن الشروع في العبادة ليس اعتباطاً، وأن جهاد الوسواس الخناس ليس سهلاً؛ فعدو الله يُشامُّك في كل أنواع العبادة كما يشامُّ الذئبُ الغنم؛ فتعهدت نفسي إن كنت مأموماً أن أسدَّ الفُرج، وإن كنت منفرداً أن أباعد ما بين رِجْليَّ بقدر ما يحصل به اتِّزاني في الوقوف، وفي كلتا الحالتين لا يتعدى بصري موضع سجودي حتى لا أحسَّ بشيئ حولي، وتكون يداي أعلى صدري، فهذا أجمع للفكر والخشوع.. فإن كنت منفرداً أطلت القيام والركوع والسجود والجلوس الأخير معادلاً بين أحوال الصلاة في المدة الزمنية بقدر ما تسمح به مدة الدعاء المشروع إلا القيام والسجود وما بعد التشهد الأخير فلا حدَّ له إلا بمقدار ما تنصب وتتعب، وإلى لقاء بحول الله.

ــــــــــــــ الهوامش ـــــــــ :

(1) قال أبو عبدالرحمن: جائزٌ أَخْذُ الفعلِ من اسم (الأرشيف) ؛ لأنه لما عُرِّب صار ملكاً للغة العرب.. وليس هذا نحتاً، ولكنه تحوُّلٌ إلى صيغة (وزن) موجودة في اللغة.

(2) قال أبو عبدالرحمن: الأفاويق جمع فَيْقَة، وهي ما اجتمع من الماء في السحاب على التشبيه بفُوَاق الناقة، وهو رجوع اللبن في ضرعها، واستُعيرت لقِصَر المدة ؛ لأن الفواق رجوع اللبن شيئاً بعد شيئ، ولهذا أُثر في الحديث: (أتفوَّق القرآن شيئاً بعد شيئ) أي لا أقرأ الجزء مرة واحدة.. والأحاديث التي يرويها اللغويون عزيزة التخريج تحتاج إلى ذوي اختصاص مثل اختصاص الذين حققوا مسند الإمام أحمد رحمه الله في خمسين مجلداًَ رحم الله ميتهم ومتَّع بحيِّهم ورحمه.. والصواب مجلداً ؛ لأن المراد الجزء المجلد، ولو قيل: (مجلدة) لكان المراد أن كل الأجزاء في جلد واحد.

(3) الإيضاع: حمل الدابة والنفس على العدو السريع، وهي مجاز من (وضع) اشتق منها كل أمر غير محكم؛ فغلب الإيضاع على خبط عشواء.. وأما الإرقال فالمحقَّق عندي أن الأصل فيه تتابع حركات يحصل بها الصعود ؛ ولهذا سُمِّي الكرُّ (وهو الحبل الذي تصعد به إلى حِجْر نخلة عالية تُسمَّى رَقْلَة) راقولاً، وشُبِّه بذلك تتابع حركات يتحقَّق بها قطع المسافة وإن لم يكن عن سرعة بخلاف ما ظنه اللغويون من كون الإرقال للسرعة، ثم تكون السرعة بعد ذلك مجازاً؛ وإنما الإرقال نوع من السير فوق الخبب، والخبب ليس سريعاً، ولكنه إيقاع حركات متقاربة كل إيقاع من حركتين متساويتي الكَمِّ والمسافة.. ثم توسَّعت المادة في عامية نجد بجعلها اسماً للفراغ وحكاية صوت كقولهم: (جاء فلان يرقل) أي تسمع حركته في مَشْيه وليس معه شيئ، ثم توسَّعوا بها للاهتزاز وعدم الثبات؛ فقالوا: (ضرس يرقل) أبي يهتزَّ مؤذناً بالسقوط.. ثم توسعوا بها لتقليب الشيئ ؛ فيقولون مثلاً: (ارقل المراصيع) أي اجعل عاليها سافلها؛ ليختلط بها الإدام من دهن وحليب وبصل.. إلخ.

(4) قال أبو عبدالرحمن: الهشاشة انقياد عن ارتخاء ولين، ومن ذلك طلاقة المُحيَّا.

(5) قال أبو عبدالرحمن: نبهني الشيخ علي إدريس جزاه الله خيراً إلى أن القصة لبلال رضي الله عنه كما في جامع الترمذي: حدثنا الحسين بن حريث أبوعمار المروزيُّ: حدثنا علي بن الحسين بن واقد قال: حدثني أبي قال: حدثني عبدالله بن بريدة قال: حدثني أبي بريدة قال: أصبح رسول اللهفدعا بلالاً فقال: (يا بلال بم سبقتني إلى الجنة؟.. ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك أمامي).. فقال بلال: يا رسول الله: ما أذَّنت قط إلا توضأت عندها ورأيت أن لله عليَّ ركعتين.. فقال رسول الله: (بهما).. قال الترمذي حديث حسن صحيح غريب - جامع الترمذي ص839/ طبعة دار السلام للنشر والتوزيع/ ط2 المحرم 1421هـ/ طبعة خاصة بجهاز الإرشاد والتوجيه بالحرس الوطني رقم الحديث (3689).. ووردت القصة عند مسلم بلفظ (يا بلال: حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة ؛ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يديَّ في الجنة).. قال بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهوراً تاماً في ساعة من ليل أو نهار إلا صلَّيت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي.. صحيح مسلم حديث رقم 6324 ص1081 /باب من فضائل بلال/ طبعة دار السلام للنشر والتوزيع طبعتهم الثانية المحرم 1421هـ.

قال أبو عبدالرحمن: وأضيف أن القصة وردت عند البخاري في باب فضل الطهور بالليل والنهار وفضل الصلاة بعد الوضوء بالليل والنهار قال: حدثنا إسحاق بن نصر: حدثنا أبوأسامة: عن أبي حيان: عن أبي زرعة: عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبيقال لبلال عند صلاة الفجر: (يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام ؛ فإني سمعت دفَّ نعليك بين يدي في الجنة).. قال: ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهَّر طهوراً في ساعة ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي.. صحيح البخاري /دار ابن حزم للطباعة والنشر/ طبعتهم الأولى عام 1424هـ رقم الحديث (1149) ص200 .

(6) قال أبو عبدالرحمن: الباطيَّة وعاء خمر.

(7) قال أبو عبدالرحمن: الصير من استعمال العامة، وهي صحيحة مجازاً، لأن صيغة (فِعْل) للاسم من صار، وبفتح الفاء للمصدر.. وصير اسم لما صار إليه الشيىء من المآل.. وصير الباب الحفرة السفلى لعمود الباب من يسار، فالباب يصير إليها عند فتحه وإغلاقه، ولهذا يكون تراب الصير دقيقاً جداً كتراب المَرَاغة.. وفي الفصحى فالصير لمطلق شق في الباب، وصير الباب له صوت حكايته (صَرِير) إذا لم تُعمَّق الحفرة ويُرشُّ تُرابها بالماء، وقد لوحظت حكاية الصوت في (الصِّيار) بالصاد المشدَّدة المكسورة المهملة، وهو صوت الصنج.

(8) قال أبو عبدالرحمن: إذا كان الأب غير مباشر وجب إثبات ألف (ابن).

(9) قال أبو عبدالرحمن: العجرفة في لغة العرب الفصحى بمعنى الجفوة في الكلام، واللفظ منحوت من (جرف) و(عجر) بمعنى عَقَّد، ثم توسعت بها العامة للمزاح بعلاقة المراد؛ كأنهم يريدون بالجفوة الممازحة.

(10) قال أبو عبدالرحمن: ألبتة اسم ناب عن المفعول المطلق على نِيَّة حذف الفعل، والتقدير لا أُساوم ما أُبتَّ ألبتة ؛ فناب اسم ألبتة عن الفعل المطلق؛ لأن أصل الأبت المقطوع؛ فلما جُعل اسم (البتة) بلا همزة للمرة الواحدة الدائمة بمعنى الأبد استحقت بالتضمين قطع الألف.. أي همزها.. هذا ما يتعلق بالإعراب، وأما همز ألف (البتة) فقد حكى سماعها عن العرب الصاغاني في العباب والدماميني في شرح التسهيل، وتابعهما جمهور من اللغويين وهما ثقتان رحمهم الله جميعاً.. وليس وجه همز ألف ألبتة على أن معنى (أل) وأصلَها الألفُ المهموزة كما عند ابن جني، ولا على وجه همز ألف اسم الجلالة (ألله) كما في قول حسان بن ثابت رضي الله عنه:

لتسمَعُنُّ وشيكاً في ديارهمُ *** ألله أكبر يا ثارات عثمانا

فذلك ميزة للاسم الكريم الذي لا يطلق إلا على الرب سبحانه.. وشاع اسم (الله) بالألف غير المهموزة ؛ لأنه شاع إطباقاً استعماله لله وحده سبحانه ؛ فاستغنوا عن الهمزة مع جوازها ؛ وإنما وجه ذلك أن (ألبتة) نُقِلَت بتخصيص (ألبتة) لمعنى الأبدية الدائمة ؛ فإذا أردتَ المرة الواحدة من (بتَّ، وأبتَّ) لم تهمز؛ فلما كانت بمعنى الأبدية اكتسبت قطع الهمزة.. قال الخليل بن أحمد رحمه الله تعالى: (أبتَّ فلان طلاق فلانة)، وقال الكسائي رحمه الله تعالى: (كلام العرب أْبتَتُّ عليه القضاء)، وأهل الحجاز يقولون: (بتَّ).. انظر ديوان الأدب للفارابي (-350هـ) رحمه الله تعالى 2 /153، ومقاييس اللغة لابن فارس (-395هـ) رحمه الله تعالى 1/ 170؛ فمعنى أبته جعله مؤبَّداً، والهمزة في الأفعال تفيد عموم نقل المعنى ومنه التعدية، فلا عجب إذا أفادت التسمية فيما نقل معناه؛ فأصبح ماكان نائباً مناب المصدر اسماً، وإنما امتنعت همزة الأسماء في أسماء لا تتعدى عشرة أسماء ليست مما يعمل عمل الفعل كالمصدر مثل ابن واسم.. ويدل على معنى التأبيد قول الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى عن ألبتة: (غير أنه مستعمل في كل أمر يُمضى ولا يُرجع فيه).. ووقع بيدي رسالة نفيسة بعنوان (استدراك الفلتة على مَن قطع بقطع همزة ألبتة) للعلامة أحمد المأمون البلغيثي (- 1348هـ) رحمه الله تعالى، وقد نشرت في مجلة (آفاق الثقافة والتراث) في العدد (33) عام1428هـ بتحقيق الأستاذ عبدالقادر أحمد عبدالقادر، وقد أجاد البلغيثي وأفاد واستوعب، ولكن فاته وجه التخصيص بالاسمية، ولم يدفع الأصل في رواية العدول عن العرب.. كما أن ذهاب جمهور علماء اللغة إلى همز ألف ألبتة لا يُسَمَّى فلتة!!.

(11) قال أبو عبدالرحمن: الصواب ضمير المذكر؛ لأنه يسمى ضمير الشأن.

(12) قال أبو عبدالرحمن: معنى (مِدْباس) عامي عند الجمهور، وهو وصفٌ لرجل يطأ الأرض بعنف في حلك الليل الداجي لا يخاف.. مأخوذة من الدبابيس جمع دبوس بمعنى مقامع الحديد الثقيلة ؛ فَخُطَى المدباس تؤثر في الأرض كأثر الدبابيس.. والدبوس تعريب (دبوز) بالزاي، وقد جاءت في شعر لقيط بن زرارة من أهل السليقة.. وتوسعوا بها للدبوس والدباسة - إن لم تكونا مُعَرَّبتين -؛ لأن لهما تأثيراً بالثقب وإن كان أقل من تأثير المِعْول.. ولصحة (مِفعال) صيغة، وصحة الاشتقاق من مُعَرَّب استعمله الفصحاء أرى صحة (مدباس) لغةً للمعنى الذي أسلفته.


المقالة على هذا الرابط : الجزيرة - الآن اكتشفت نفسي .
 
الآن اكتشفتُ نفسي (2 ـ 3)

الآن اكتشفتُ نفسي (2 ـ 3)

الآن اكتشفتُ نفسي (2 ـ 3)

قال أبو عبدالرحمن: مع المقاومة العنيفة التي أسلفتها للوسواس الخناس فإنه لا ينقطع عني عدو الله كأنه رجل عن يساري يحاورني.. تارة يشككني في ديني؛ فإذا قلت في سجودي الدعاء المأثور الصحيح: (اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)؛ قال لي: (أما تخاف الله تستعيذ من ربك؟!)؛ فأمازح عدو الله، وأقول: (شكراً يا عدو الله على هذه النصيحة الإيمانية)، ثم أعيد هذا الدعاء أكثر من مرة بتصميم، وأُعْقِب ذلك قولي:

(سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رب الملائكة والروح.. اللهم لك الحمد ولك الشكر يا ربي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)؛ فيخنس عدو الله، ونفسي ترتاح لهذا الدعاء؛ لأن الله سبحانه كذلك سبوح قدوس مهما كفر به الجاحدون، ثم أُتبعه بتسبيح لساني؛ فأقول: (سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح.. سبحان الله وبحمده.. سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله).. وتارة يدخل عليَّ العجب والرياء؛ فيوسوس في صدري: (ليت ذلك الوجيه أو الزعيم يشهد عبادتك؛ فَيَعْظُمُ جاهك عنده!!)، أو (لقد أديت عمل المحسنين!!)؛ فينطلق لساني بسبحان ربي الغني الحميد له الفضل والمنة إذ هداني، وله الحمد في الأولى والآخرة، وأي غَناء(1) لي عند ذلك المخلوق وفقره إلى ربي كفقري؟.. ومرة أُشير بأصبعي إلى قلبي كناية عن علم ربي بما في قلبي، ومرة أحرك رأسي تسخُّطاً من هذه الوسوسة، وكل ذلك النطق والحركات تأتي تلقائياً من غير قصد.. وتارة يُلَبِّس عليَّ عدد الركعات؛ فصرت إذا ختمت سجوداً بمثل (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ختمت السجود الآخر بمثل (اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك)؛ فأعلم عدد الركعات بسيما الدعاء في آخر كل سجدة.. وفي الركعتين الأوليين أعرفهما بطولهما وختامهما، فأختم الأولى بمثل (سبحان ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة)، وأختم الثانية بمثل (اللهم إني لك ركعت، ولك أسلمت.. إلخ)، وهكذا وهكذا.. وتارة تزدحم في قلبي الأدعية التي أريدها في السجود أو في الجلوس للتشهد الأخير فأنساها، فأبقى صامتاً لا أستحضر شيئاً؛ فصرت أَكيدُ عَدُوَّ الله بالأناة والتمهل، ولا يكون ببالي أن أستكثر من الأدعية، فينثال عليَّ ما أريده من الدعاء والتقديس بلمة مَلَك كريم.. وكنت ألتذُّ بجهاد عدو الله، وأراه من لُبِّ العبادة؛ فصار يضعف كيده لي على المدى؛ فهذه تجربة نفسية أخرى هي برهان على صدق خبر الله سبحانه عن وسواس خناس ليس في قبضة حسنا.. وعن ممازحتي حتى لعدوِّ الله أسجِّل ظاهرة في حياتي، وهي أن الله فطرني على حبِّ الدعابة والنكتة ولو على نفسي، وأجد بعد ذلك سروراً ونشاطاً، ولقد كنتُ أَرْقي قريباً لي شديداً قوياً يستطيع أن يقبض عليَّ ويهشِّم أضلاعي بقبضة يده الشمال، وكان ينفر من القراءة، فأضمُّه إليَّ من كتفه الأيسر، وأزجره.. والله سبحانه سخَّره لي كما سخر الإبل، وكنت أحاور نفسي: (كيف أقاوم هذا الجند من جنود الله)، وقبل أن أنفث عليه بآية توقَّفتُ عندها إذْ أنا أنفث سهواً بقوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (13) سورة الزخرف، وليست هذه الآية مما يُرْقى به، ولكنه تداعي الخواطر.. وإذا كنتُ في وِردي أسبِّح أو أتلو قرآنا لازمني الخناس الوسواس؛ ليشوش عليَّ في ضبط كلمات الورد وأعداده، وينقل فكري عن الاتعاظ بمعاني التلاوة؛ فأنفث عن شمالي وأتعوذ من الشيطان الرجيم، فيخنس ثم يعود بعد قليل، ومن ثم تأتي الممازحة؛ فأقول هامساً: (كأنك استحليت البصاق!!.. خذ هذه، وعندي لك كنوز من التفلات.. فيخنس مدة أكثر ثم يعود، فأهمس له: خذ ثالثة.. وهكذا دأبي معه حتى يخنس مدة طويلة.. وكنت أحس بعيان كالشمس لذة العبادة وطعمها، وعكس ذلك أحس بوحشة أشعر فيها بإعراض الله عني؛ لذنب ارتكبته، أو لكلمة لم ألق لها بالاً، أو لمجاملة مخلوق في أمر ديني، أو لسمرٍ مع بعض الأحباب ارتفعت فيه الكلفة؛ فكثر اللغط واللمم؛ فأول ما أحسه غلبة النوم عن فريضة أو نافلة، ثم قيامي لإحداهما بتثاقل وكسل، ثم أداؤها بغفلة وعجلة؛ فلا أحس للعبادة والتلاوة طعماً ولا خشية؛ فأعلم أن ذلك إنذار بالطرد والحرمان؛ فألجأ إلى الدعاء، وأستحيي من ربي في عدد من الفرائض أو النوافل فلا أدعوه في حوائج دنياي؛ وألح على الاستغفار والتسبيح والتهليل والاستعاذة والبراءة من الحول والقوة إلا بالله؛ فيعود إليَّ إيماني، ويذهب خجلي، وربما أغمضت عيني في السجود، وذلك مكروه من فعل اليهود ولكنه عمل غير إرادي، وربما قبضت على أصابعي أو اتكأت بها على الأرض أو الصدر بشدة كما يعتري من يخجل، وما هي إلا بضع صلوات فأجد حلاوة العبادة، وينطلق لساني بما أرجوه من ربي في دنياي.. ومرة تأخر نومي، وقلقتُ، فألحفت في الاستغفار بلساني مرة وبقلبي مرة حتى بلغ استغفاري فيما أظن أكثر من ألف مرة، وأكثرت من التهليل والتسبيح والتحميد، وألظظت ب(يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام) والحديث ضعيف، ولكنه نافع بالتجربة؛ فأخذني النوم سُويعات قليلة، ثم قمت مبكراً، ودعوت دعاء اليقظة، ثم أحسنت الوضوء، ثم وقفت على باب يطل على مزيرعة صغيرة في البيت فقرأت آخر سورة آل عمران ابتداءً من: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...}؛ فما مر بحياتي قط على الرغم من إرهاقي وقلة نومي أبرك من ذلك اليوم؛ فقد قضيته في نشاط عظيم على ما شاء الله من شؤوني، وأنجزت أعمالاً كثيرة دينية ودنيوية وما نمت إلا بعد العشاء الآخر.. وأشفقت في هذه السنوات من أن أكون فررت من طرب إلى طرب؛ فكنت يومياً لا آنس إلا بتلاوة الحفلات التي يعتريها شيء من المحدثات، فأستمع إلى تلاوة الحفلات لعبدالباسط والطبلاوي والشيخ محمد رفعت رحمهم الله، وكان التذاذي بجمال الصوت، فدبلجتُ بعض الأشرطة، وأخليتها من صفير السِّميعة، وكان أحبهم إليَّ الشيخ محمد رفعت رحمه الله، وكل تلاوته حفلات، ولم يُحفظ تسجيله للقرآن كاملاً، وكان صوته جميلاً، ويزداد جماله باتكائه على مخارج الحروف، وطولِ نَفَسَه، وما في نغماته من تحزين، وإسراف في المدود حتى شابها شيء من المقامات العراقية(2)، وذلك في أدائه الأذان أظهر، وتلذذت بكلام الله، ولكن التذاذي بالصوت الجميل أكثر؛ فقلت في نفسي: (هذا فرار من طرب إلى طرب)، ومع هذا كنت أستمع إليه كلما صدئت، وأُقاطعه باستماع إذاعة القرآن حتى يأتي ما لا يعجبني فأخفض الصوت؛ فوجدت تأثري بالتلاوة أعظم؛ لأنه لا يبث في الإذاعة إلا أداء شرعي للتلاوة الكريمة.. ثم كانت لي تجارب مع بعض المشايخ الفضلاء كشروح سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله للمنتقى للجد ابن تيمية رحمه الله، وكتعليقات الشيخ صالح الفوزان على كتاب للإمام ابن تيمية(3) رحمه الله تعالى.. وكانا يُلقيان كلامهما على كبر، وتكاد تخرج الحروف من مخرج واحد كما أفعل أنا لما أدركني الكِبَر؛ فأدركني خشوعان وخشيتان معاً:

أولهما: التأثر بالنصوص نفسها، وليست غريبة عليَّ، وطالما قرأتها وقرأت شروحها، ولكن التفاعل مع معانيها لم يحصل في عمري بمثل تلك اللحظات.

وثانيها: التأثر بشخصية الملقين أنفسهم: كيف فنيت أعمارهم في طاعة الله عملاً وعلماً نافعاً، وكيف قضيت عمري رادحاً(4) فيما تعظم الندامة عليه إن لم يتداركني ربي برحمته وعفوه؟؟!.. وكنت أدعو ربي أن يخلف عليَّ ما مضى من عمري بثمالة مُنيبة صادقة؛ فإذا اطمأننت وحصلت لي سكينة عاودني الندم، وقلت: أي شيء بقي مني أعوِّض عنه ما فات: أفي بقية عمر صلاتي في بيتي أكثر من صلاتي مع المسلمين جماعة؛ لما أعانيه من آثار المليِّنات بسبب الإمساك الشديد والدزنطاريا المزمنة المتكيِّسة، فإذا تركتها لم أصبر على الجوع؟!، أو في بقية عمر نومي فيه أكثر من يقظتي، أو في بقية عمر لا أنشط فيه للعمل الصالح الجاد، واستيعاب العلم النافع بسرعة كما كنت في شبابي؟!.. فإذا خشيتُ اليأس والقنوط تذكرتُ أن الله لم يحرمني الخير في سنوات المنعطف في حياتي، ولا في أيام نشأتي: إما لشيء أنعم الله عليَّ به بدءاً: إما جزاء منه سبحانه لي على عملٍ قاصر، وهو كلُّه نعمة من الله عليَّ ابتداء فضلا منه سبحانه ومنَّة بلا حول مني ولا قوة، وهو العمل الصالح الذي هو جزاء من الله سبحانه عائد إلى العمل الصالح الذي كان منه سبحانه ابتداء، فهو ثمرة له، فهو نعمة من الله مبتدأه.. وإما ابتداء منه سبحانه قبل أن يكون لي عمل؛ وذلك هو الإيمان بالله على صفات الكمال المطلق، وإيمان بملائكته عليهم السلام، وبكتبه الكريمة، ورسله وأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.. وهذا هو النعمة الكبرى.. وهذا بحمد الله هو إيمان لم يتزحزح بفضل الله ومنته، والله المستعصم فيما بقي من عمري مع تقصير في العمل، وظُلمي لنفسي، وكثيراً ما توسلتُ إلى ربي بهذه النعمة التي أنعم بها عليَّ.. ومنها ملازمتي مع أبي عمر -رحمه الله- مسجد الحسيني بشقراء قبل المنعطفات، وتلذُّذي بتلاوة مشايخ من العوام في صلاة التراويح والقيام والصلوات الجهرية كالمشايخ شقران وسليمان بن علي وحمد ابن عباس، وغيرهم في غير مسجد الحسيني مثل ابن حنطي وابن شيحة وإبراهيم بن ناصر في حليوة وسديرة - رحمهم الله- ونضَّر وجوههم.. وكان الشيخ إبراهيم بن ناصر -رحمه الله- بطيء الحركة ذا أناة، وكان يُغمِّق لحيته الكريمة بالحناء؛ فزاده ذلك بهاء وبهجة، ولا تزال ترنُّ في أذني تلاوته بعد صلاة العشاء لآيات من سورة يونس ابتداء من قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ}(83) سورة يونس، وإني لأحس بجمال تلك التلاوة حتى يومي هذا مع أن القوم لا يحسنون التلاوة تجويداً؛ فحفظت سورة يونس من جرَّاء ذلك.. وصليت مرة مع الشيخ ابن داوود -رحمه الله- في مسجد الظهيرة أو السويلم -نسيتُ- صلاة المغرب، وكان يريد تلاوة آخر سورة البقرة في الركعتين؛ فنسي وتلاها في ركعة واحدة؛ فاستفتح الركعة الثانية بأول سورة آل عمران، ولم يكن ذا تجويد، ولكنه يُؤثر في القلب.. فقلت في نفسي: ما شاء الله.. حفظةُ كتاب الله لا يُحرجون؟!.. فحفظت ما تيسر من سورتي البقرة وآل عمران؛ فعوقبت بإنسائهما أيام المنعطفات؛ فاصطنعت خشبة طويلة ذات مقعد من فوق مربَّع كبير أضع عليه مصحفاً كبيراً جداً لا أحتاج معه إلى نظارات، فكنت في بعض الصلوات أصلي على بُعدٍ من الخشبة، وأتلو حفظي من القرآن؛ فإذا شككت في آية قربتُ من المصحف؛ فكانت الآيات الكريمة تثبت في قلبي تدريجياً؛ فأنا على يقين إن شاء الله أنني لن أُحرم بركات تلك النشأة؛ فالله يدَّخر لعبده المؤمن العمل الصالح ويضاعفه، ويكتب السيئة سيئة واحدة، ويمحو كبار الذنوب ومحقَّراتها بنعم منه من عمل صالح لم يأبه به الإنسان، وبما ينكِّد حياة المسلم من هَمٍّ وضيق وقلة ذات يد وأعباء رعية وهضم وغبن وظلم وانتهاش لعرضه بالغيبة أو النميمة.. ويلطف ربي بعبده فيصيب منه على قدر تحمُّله؛ ليطهِّره، وما أطمعني في رحمة ربي إلا سعة عفوه؛ فهو الرحيم الودود الرؤوف بالعباد، وهو سبحانه لا يُخيِّب عبده المؤمن إذا علم منه صدق الإيمان.. وقد أسلفتُ لكم في حديث سابق أيام النشأة أنه يصيبني دُوار أو زُكام أو عارض مرضي فلا يكون بين عيني إلا ما بعد الموت؛ إذ ليس في دنياي ما آسى على فقده؛ فأبادر بالتوبة، وغسل ثيابي جديدها وأسمالها، ثم بالاستحمام بالأشنان ثم حدث عوضا عنه بعده صابون أبوعنز.. هذا ديدني؛ فنفعني الله بذلك؛ لأن الله لا يخيب عبدا يخافه؛ وإنني بالله جل وعلا ثم ببركة هذه الظواهر في النشأة لأرجو من ربي حسن الخاتمة، ودموع العصاة تعدل قربات أهل الطاعات.. وفي أيام المنعطفات غير المباركات (الوصف للمنعطفات) لم أخل من فيئات وندم.. كنت عام 1398هـ مع لمة من الأصحاب منهم الأستاذ حمد القاضي -حفظه الله- في العراق في رحلة رسمية انتهت بنزوى في عُمان، ولم نمارس مأثماً بحمد الله، ولكننا منهمكون في المزاح والدعابة، وربما تجاوز المزاح اللمم كموقف طريف للأستاذ حسن القرشي مع أحد المشايخ رحمهما الله تعالى في العلم بقطر لا يخلو من تهكُّم واستغباء (وهذا أمر جارح)، وكان أُنسي بما يستحسنه الجمهور كقصيدة لي عن نجد ألقيتها بالعراق وأخرى بقطر عن (عُود الطرب) على خببٍ نزاري.. وهذه غفلة؛ لأن الأُنس عند المسلم بالله ثم بشرعه ثم بالمباح لا بثناء الناس على عمل دنيوي.. وفي انصرافنا في السيارة كنا نتراجع الحديث والدعابة؛ فأدركني شرود؛ فظن القوم أنني في نعاس، ولم يكدروا عليَّ، وإنما رفعتُ رأسي إلى السماء بحركة تلقائية أدعو ربي في سرِّي أن لا يخترمني كافراً ولا عاصياً ولا مفرطاً، وأن يرفعني إلى درجات المحسنين، وكلما أردت الإخلاد إلى الراحة لم تطاوعني نفسي؛ فأعيد الدعاء السابق، ويُفتح لي بغيره، ودعوة المسافر مجابة، ولله في أيام دهرنا نفحات؛ فهذه نفحات من ربي أشعر أنها لن تضيع وأن الله سينفعني بها بقية عمري.. ومنها أنني أجد مصادفة رجلاً من العوام ذوي الفطرة والثفنات الذين لا يعرفون بنوكاً تلوث المأكل والمشرب والملبس والمركب والمسكن، ولا يعرفون فلسفات تلوث العقول؛ فينشرح صدري لرؤيتهم ومحادثتهم، وأدعوهم إلى منزلي بإلحاح حباً لهم في الله، وحباً لكلماتهم الفطرية المباركة، ودعواتهم وابتهالاتهم الكريمة.. وبعكس أولئك خواجات أحادثهم في الرياض بترجمة الأستاذ سراج الدين إبراهيم رحمه الله، وخواجات في الخارج أحادثهم بواسطة المترجم ممازحة ومجاملة خاسئة، ووجوههم تقطر بالعافية.. ولكن قلبي يلعنهم لكفرهم.. وهناك أدباء عالميون وعرب أُعجب بعطائهم الأدبي فنياً لا دينياً ولا خلقياً؛ فإذا رأيت صور بعضهم استعذت بالله وبصقت عليها.. والحب في الله ذو أثر عجيب في النفس.

وأدركني شيء من مصادر الدادية والسريالية (مع بغضي لعفن هاتين المدرستين)، وقبل ذكر شيء عندي من عناصر السريالية فلا بد من الإحماض بشيء عن الأدب السريالي؛ فهي فلسفة إبداع أدبي وليست إبداعاً أدبياً؛ لأن النموذج الأدبي عقيم فيما تُرجم من شعر الخواجات، وهو معدوم في الأدب العربي الحديث، ولقد رأيت للدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي رحمه الله تعالى تسطيحاً عن السريالية زعم فيه أن السريالية موجودة في أدبنا الحديث، وعدَّ أشخاصاً منهم الشاعر محمود حسن إسماعيل(5)؛ وإنهم لبريئون من السريالية إبداعاً وتفلسفاً، وإنما رام بعض الحداثيين المنتسبين إلى أمة العرب وهم من أهل الثقوب.. راموا الهذر بالسريالية تفلسفاً، وأغربوا بهذر في النموذج الإبداعي لا يختص بالسريالية لو ارتبطت بمعناها اللغوي؛ وإنما هي من مدارس أدبية متناثرة كالوجودية والمثالية واللامعقول والانغلاق الذاتي عند بعض الرومانسيين؛ فإن صنعوا من رومانسيتهم وأحلامهم وأمانيهم ومخاوفهم عوالم خيالية يتصورها الذهن وإن لم يحتملها الواقع فهم سرياليون حقيقة، ولكنهم أندر من الكبريت الأحمر؛ وإنما عند الحُواة أفكار فلسفة سريالية؛ ولكل جديد لذة، ودعوى السريالية جديدة في عصرنا؛ فحاول خنَّاس إنسي هو أدونيس أن يُزيِّن للأدباء الشطح الصوفي فناء ومشاهدة وحلولاً واتحاداً؛ فاستشهد بها، وحملها على نثار(6) من الفلسفة السريالية في كتابه (الصوفية والسريالية)؛ فلما تأملته وجدته عاجزاً عن حمل ما اقتطفه من نماذج صوفية على حقيقة الأفكار السريالية؛ وإنما سوَّد الورق بالهذر والادعاء والمغالطات.. وإبداع أدب سريالي شعراً ونثراً سهلٌ إذا جُرِّدت مصادر السريالية عما استُرحلتْ له من تخريب وشُغل للمواهب بما تتخم به وتقطع به العمر من زخم فلسفي لا يتحصل إلا بعد شدة معاناة مثل السريالية التي تزعم أنها تُبدع أدباً ليس سوى ما تتذكر من عناصر أحلام النوم، وما يشغلنا من أحلام اليقظة، وسأذكر إن شاء الله مصدريهما، وهو في هذر (فرويد) عطاء من (اللاشعور)، وظلت هذه الكلمة بمدلولها المخترع مادة لغوية محفوظة في معاجم (والمعجمات تنطُّع) علم النفس.. وليس في الواقع شيء اسمه (اللاشعور) يكون مصدراً لأي عطاء، وإنما (غير الشعور) الذي سُمِّي اللاشعور يصدق على ثلاثة أمور:

أولها: ما جاء تلقائياً ومصدره الشعور حقيقة إلا أن الإنسان لا يشعر بكيفية اللحظة التي صدر عنها عطاؤه.. وليس المعنى أن العطاء لم يصدر عن شعور.

وثانيها: العجز عن تشخيص عناصر المشعور به بعبارات تحدده كلذة الجِماع مثلاً.. هي شعور لذيذ في النفس تُعبِّر عنه باللذة والشهوة، ولكن لا تستطيع تشخيصه بالوصف.

وثالثها: شيء لم يحصل وِجدانه في المشاعر، أو وُجِدَ ولكن الذاكرة نسيت صورته.. وكما يعمل الفنان لوحته التشكيلية بملكة الخيال التي تُجَرِّدُ أجزاء الصور المشهودة وما بينها من علاقات وفوارق، ثم يُركِّب منها بملكة الخيال أيضاً صورة أخرى لعلها لم تُشاهد في الواقع بذلك التركيب: فكذلك يفعل الخيال السريالي بالأحاسيس الباطنة.. وكلاهما مصدره الحس الظاهر أو الباطن، وفيهما معاً إشباع لِنَهَمِ الخيال وإرادة النفس الحالمة.. والفرد الموهوب في جوع دائم بدافع الطموح، وجوعه أن يُكوِّن لنفسه شخصية فريدة حالمة من مثالية يتمناها.. وخيالُ الموهوبِ أيضاً في جوع دائم إلى إيجاد عوالم غير معهودة التركيب بدافع لذة الإبداع والتجديد، وإذا لم يكن الموهوب الطموح ذا إيمان وعقل حصيف قد يصاب بداء ما يسمونه (انفصام الشخصية)، فيعمى عن واقعه الذي يراه الناس، ولا يبصر إلا مثالية كاملة يتخيلها، ويتكوَّن لديه كبرياء وازدراء للناس وسخط عليهم، إذ لم يقدِّروه حقَّ قدره!!.. وذلك جنون غير مباشر؛ لأنه من وساوس الشيطان لا من مَسَّه.. وكلا الحالمين مصدرهما نِثار من الحس الظاهر والمشاعر الباطنة، والخيالُ يُؤلِّف بينها بالتركيب وإحلال الفوارق والعلاقات التي جَرَّدها من الواقع.. وأداتُه لهذا المطلب من أمرين:

أولهما: عناصر من أحلام النوم التي هي من أضغاث لا رُؤيا تجمعت من ذكريات أماكن وأشخاص مختلفة، وأزمان متباعدة؛ فوحَّد الخيال هُوُيِّتها بأشخاص وأماكن يجمعها زمان محدد أقصر من الأزمنة المتباعدة في حياة الفرد.

وثانيهما: عناصر أحلام اليقظة التي يقتنصها الخيال من طموح الفرد وما يسعده من آمال، وما يؤذيه من آلام.. وهناك باعث غير الطموح المشكور يتعلق بالشهوة وعناصر الهيبية، ولقد نشطت بحمد الله لمداخلة مع السريالية تلي هذا البحث إن شاء الله بجريدة الجزيرة.. وسرياليتي بحمد الله من المباح أو المستحب؛ فأسمع مثلاً بصلاة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بالناس وهو جُنُب تيمَّم بالتراب؛ فلما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أصليت بالناس وأنت جنب؟) أجاب بما معناه: يا رسول الله: هذا قدر استطاعتي؛ فإني وجدت قول الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(195) سورة البقرة؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه الشريفة.. فمن سروري بضحكة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن إعجابي باستنباط سعد رضي الله عنه تمنيت أنني طرف في ذلك المشهد؛ فهذا أول عنصر سريالي من أمنية دافعها المحبَّة.. وأسمع أو أقرأ مواقف للصديق أبي بكر رضي الله عنه كدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم له ليحكم بينه وبين عائشة رضي الله عنهما في خلاف نشب بينهما؛ فقال صلى الله عليه وسلم: إن شئتِ تكلمتُ، وإن شئتِ فتكلمي أنتِ.. فقالت رضي الله عنها: بل تكلم أنتَ، ولا تقل إلا حقاً.. فغضب أبو بكر رضي الله عنه، وشجَّها حتى أدمى وجهها الكريم، وقال: أوَيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الحق يا عدوة نفسها؟.. فلاذت برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كانت تخاصمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جئنا بك يا أبا بكر لهذا.. وصالحها؛ فاختلط عندي بكاء ونشوة ومحبة وإعجاب بالأطراف؛ فتمنيتُ لو كانت عائشة رضي الله عنها بنتي وأني صاحب ذلك الموقف؛ فهذا عنصر سريالي آخر، ولكنه مُحال للفارق الزمني.. ومرَّ بي مشهد آخر حينما دخل أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جدال مع عائشة رضي الله عنها تقول: إنما تذكر كثيراً عمر بن الخطاب ولا تذكر أبي -رضي الله عنهم جميعاً-، فأقبل إليها أبو بكر مغضباً يريد ضربها وهو في إقباله يتمتم بكلمة تعيير لضعف فصيلتها من بني تميم، فحال بينهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما خرج أبو بكر -رضي الله عنه- قال - صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها مسترضياً لها: ألا ترين أنني خلصتك من الرجل؟!..

وموقف ثالث دخل فيه أبو بكر رضي الله عنه ووجه عائشة إلى خلال تطل منها على الأحباش وهم يزفنون ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجدار، فقال أبو بكر رضي الله عنه في غضب شديد: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.. فقال صلى الله عليه وسلم: دعها أو دعهم فإنهم في يوم عيد.. وموقف رابع إذ فقدت عائشة رضي الله عنها خاتمها في سفر فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه للبحث عن الخاتم في الإسفار، فجاء الصديق رضي الله عنه يرتعش ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذ عائشة، فكان الصديق (رضي الله عنهم جميعاً ووهب إساءتي لإحسانهم، لمحبتي لهم) ينخس شاكلتيها بسبابته، ويعنف عائشة باللوم بمثل: أتحبسين رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل خاتمك؟!.. فكانت عائشة رضي الله عنها تتصبر على ألم، ولا تتحرك تخشى أن يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وموقف خامس: في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: (مروا أبا بكر فليصل بالناس)، وتكريره ذلك وغضبه لما تعلل بعض الصحابة بأن أبا بكر رجل أسيف.. أي بكّاء من خشية الله تحشرج التلاوة في صدره.. إلى آخر القصة عندما قال الصديق: ما كان لابن أبي قحافة أن يؤم بحضور رسول الله أو يؤم برسول الله - نسيت، وكل ذلك من الذاكرة - رضي الله عنه وعن أبي قحافة؟!..

وموقف سادس: عندما أيقظ الناس وقد ذهلوا بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقد عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوابه وهو يخطب ويتوعد من قال: (إن محمداً مات)، فأراد من عمر أن يسكت، وقال له: (أيها الحالف على رِسلك)، فأبى عمر السكوت، فقام أبو بكر رضي الله عنه وخطب، وانصرف الناس إليه، وارتجل خطبته الكريمة التي ذكر فيها الناس، واستدل بقوله تعالى:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ}(144) سورة آل عمران.

وموقف سابع وثامن وتاسع... عن صلابة الصديق رضي الله عنه - على الرغم من ضعفه وكبر سنه - مع مانعي الزكاة، وتجهيز جيش أسامة رضي الله عنهم، وذهابه إلى فاطمة رضي الله عنها يستعتبها ويرضيها ويشهد لها بما سمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهد به الآخرون: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة) حتى بكي وبكى آل هاشم رضوان الله عليهم، وكان عمر رضي الله عنه مشفقاً من ذهابه وحده إلى بني هاشم، فانفتل منه الشيخ وكأنه في الفتوة..

وموقف عاشر: عن إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه.. وموقف فوق العاشر: عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة فاتحاً منتصراً مطأطئاً برأسه الشريف إلى الأرض تواضعاً وحمداً لربه وأسود النهار رهبان الليل رضي الله عنهم يحفون به من كل جانب.. ومواقف أمثالها كثيرة لا أحصيها عداً، فهذه مواقف أقرؤها أو أسمعها فتهزني، ويحصل لي إجهاش ونشوة وتفدية ومحبة، ثم تراكمت هذه المواقف في ذاكرتين وتراكمت مشاعرها في قلبي، فكنت في وحدتي وخلوتي أسرح في الخيال، وأركب من تلك المواقف والمشاعر مواقف كأنها واقعية أحلم بها في يقظتي بابتداع موقف نلت به ابتسامة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو دعاء، أو ثناء، وكل ذلك من أماني المحال، للبعد الزمني.. والخناس الوسواس أذل وأحقر من أن يوسوس لي بهذه السريالية الخيرة حتى تنفصم بها شخصيتي، لأنها منبثقة من إيمان ومحبة وأماني خير أرجو أن أثاب عليها.. ونية المؤمن خير من عمله, وذلك حديث قرأته في أحد شروح الإمام ابن عبد البر رضي الله عنه وفي غيره، وهو حديث ضعيف، ولكنه صحيح المعنى، فالنية الصالحة لا يدخلها نقص ولا رياء والعمل يدخله ذانك، والله سبحانه يكتب للمسلم أجر نيته، ويكتب له ما كان يعمله من الخير إذا أقعده مرض، لأن ذلك العمل في نيته وعادته يوم كان صحيحاً.. ولكنني أقطع هذه السريالية ولا أصوغها في عمل أدبي، لأن ذلك تزكية للنفس، وإنما كتبت سرياليتي في أمر مباح نشر أو سينشر في احدى الدوريات بعنوان: (الحية من الحياة).

قال أبو عبدالرحمن: وكنت كررت القول عن خفضي لصوت الراديو في محطة إذاعة القرآن الكريم، ولذلك أسباب منها أنني أسمع أحياناً وعظاً منمقاً مع محاولة التحلية ببعض الملح، ولكن ذلك لا يدخل قلبي لأسباب أعرفها، فتنقبض نفسي.. ومنها أنني أسمع أحياناً تمعلماً يؤذيني عن علم غير محقق، فتسمع أحدهم يقول: (قال فلان كذا، وقال فلان كذا)، ثم يعطف بقوله: (والصواب كذا)، فتشرئب للبرهان، فإذا هو يقول: (قال فلان كذا)، وكل براهينه: (قال فلان كذا) والنقل من كتاب واحد، فأولى به أن يكون كلامه بعنوان: (قراءة في كتاب فلان)، فإن كان من أهل العلم فليعط الاستيعاب وفهم المعنى والبراهين حقها من البسط والتبسيط.. وآخر يتعرض للمجاز، فينفيه، ويستدل بأدلة من شبه غيره، فإذا مر بمثال لا مخرج عن حمله على المجاز قال: (والحق أن هذا من أساليب العرب)، فمن قال للمسكين إن المجاز لم يكن أهم وأكثر أساليب العرب؟.. وإذا كان البدعيون افتروا دعوى المجاز في موضع فالربانيون يلجؤون إلى ما صح من المجاز في مواضع كما في الدعاء الصحيح: (اللهم أنت عضدي وأنت نصيري)، ومثل: (من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً)، فمحال في حق متق لربه أن يحمل مثل هذه النصوص على غير الصحيح من مجاز لغة العرب، والتمحل في جعل المعاني المجازية حقيقة جمع بين النقيضين، ولا يحصل منه تصور، والتكلف فيه كالتكلف في حمل نص الشرع على غير معناه على ما يفعله الباطنيون وأدعياء الكشف وأهل الأهواء.. وهكذا يؤذيني من يتحاكى بعلم غيره ولا يغوص في كتب العلماء فيحقق ويدقق، ثم يبث علمه هو ببراهينه ونتيجة استقرائه.. ومما يؤذيني وعاظ يتفننون في إثارة المشاعر بالتهويل، وتغلبهم العامية أحياناً، ويسيرون على منهج القصاص وسرد ما لم يوثق لأجل التأثير على القلوب، ويذكرون نصوصاً بمداخلات وإضافات غير مأثورة، ومثلهم كمن يتلو شيئاً من الشعر العامي المطبوع على أنه رواية، ثم يسف ويمل بمقدمات يفسر بها بعض أبيات القصيدة و لا وجود لما ادعاه، وربما غير لهجتهن وربما أسرف في الإغراب واصطناع الملح!.

قال أبو عبدالرحمن: الذي أدين لله به أن الاحتجاج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس من دين الله في شيء وإن قال بذلك عدد من العلماء الأفذاذ الربانيين العباد إلا أن يكون الحديث صحيح المعنى، فتذكر ضعف إسناده وتبرهن على معناه من النصوص الصحيحة، وحكم الحديث الضعيف التوقف حتى يقوم البرهان من نص آخر صحيح أو نصوص صحيحة تشهد له، فيكون حسناً رجح ثبوته بالتعضيد، أو يكون صحيحاً لغيره.. وأما ما يسرده الزهاد المتلمذون على بعض مشايخ الطرق من نص عن رجل في القرن الثاني مثلاً: عن عيسى بن مريم أو داوود أو موسى عليهم وعلى نبينا محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام، وكذلك ما يوردونه من حكايات ومنامات واستنباطات ذوقية غير علمية: فكل ذلك ليس من دين الله قطعاً، وقد وجدت في كثير منه ما يخالف الشرع، ووجدته رهبانية ليست في الشرع، وحكم كل ذلك الرد، لأن الله سبحانه لم يتعبدنا بالتكثر بالباطل، ولأن في صحيح الشرع غني عن غيره من الادعاء، ولأن المؤمن مفطور على تصحيح العلم رواية ودراية حتى يذعن عقله المتربي على شرع الله، فينفعل بعد ذلك قلبه، ولأن صحة التصور تسبق دائماً السلوك وتزكيه.. وكنت أصغي في إذاعة القرآن على كره إلى محاضرة وعظية عن بر الوالدين مشحونة بالتكلف في الأداء، والزيادة في المداخلة، مع ذكر قصص معاصرة يذكر أنها واقعية، وفي النفس منها شيء حتى يقوم برهان وقوعها، ولكم تأذيت في حياتي من التباكي، وإنما يأتي البكاء خشية لله، وتأثراً بالمعاني من النصوص الشرعية على الرغم (7) من المسلم، وأكثر ما يكون ذلك في الخلوة، وربما بدأ من الفرد بعض التأثر مع الجماعة، فيكتم ذلك حسب القدرة.. وبكاء الخلوة الذي يغلب المسلم ليس صراخاً ولا عويلاً، كما كنت أسمعه منذ عشر سنوات في صلوات التراويح، وأخشى أن يكون رياء، والصديق أبو بكر رضي الله عنه خير الأمة بعد عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم (وأنوف مبغضي الصحابة راغمة واحلة)، وهو (الأسيف) لم يكن بكاؤه غير أزيز وحشرجة في الصدر، فهو يغالب نفسه رضي الله عنه.. ومما سمعته في خطبة الواعظ قصة أمية ابن الأسكر وابنه كلاب رحمهما الله تعالى، فاضطررت إلى استقراء أخبار آل الأسكر باستقصاء حسب القدرة، لأعلم مدى صحة القصيدة القافية التي هي من موضوع محاضرته، فسجلت رسالة عن آل الأسكر من ناحية حياتهم وحديثهم وشعرهم، وعنيت بالقصيدة القافية المتعلقة بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعتب أمية بن الأسكر عليه ليرد عليه ابنه كلاباً، أو ابنيه كلاباً وأبياً وهما في الغزو والجهاد، وكان أمية قد أوشك عمره على مئة وعشرين عاماً، وقد خرف، فوجدت في المصادر على مدى ستة قرون اختلافاً كثيراً. واضطراباً شديداً، والقصة لها أصل ضعيف محدود، فتورمت بالاضافات والنسيج من قبل كل راو كابن الكلبي وابي اليقظان وإبراهيم البيهقي صاحب كتاب المحاسن والمساوئ، وهو رجل مجهول العين والحال، فمثل هذا الوعظ تنقبض منه نفسي للمبالغة في الأداء، ولأن النص غير موثق، بل فيه تناقض واضطراب.. وإن في النصوص الشرعية الصحيحة ثبوتاً ودلالة ما يغني ويرضي العقل ويستجيش المشاعر.. كما أسمع في رمضان برامج وعظية تستفتح بنوع من الضجيج والتباكي الذي يجلب الغثيان، ودين الله صدق لا تكلف فيه ولا تعمل.

قال أبو عبدالرحمن: وقد يوجد من يتورم عقله بالغرور، فيعتقد أن آثار الخناس الوسواس شيء تخيله الإنسان فصدقه.. وربما زم شفته أمام تجارب المسلمين المتواترة وقال: (أين أهل العقول؟!)، فهذا بين له البراهين العلمية برفق إن وجدت منه اضغاء، ولا تزده جدالاً، بل أجبه عما يسأل عنه برفق، فذلك أرفق به، وادع الله له بالهداية، لأن من بلغ منه الغرور بعقله الفردي إلى هذا الحد في مكابرة الشرع والتجارب المتواترة يخاف عليه أن يتمادى به العناد، فينحرف إلى ردة، وإنما أمرنا أن نكون مبشرين لا منفرين.. وسبق هؤلاء المغرورين زنادقة افتروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب مثل: (لو اعتقد أحدكم في حجر لنفعه)، ليجعلوا الإيمان سكوناً إلى أمر غير صحيح تنتفع به النفس إذا اعتقدته.. مع أن المؤمنين إنما يقيمون إيمانهم على البراهين العلمية، ولا يأنسون بالباطل، والله المستعان.


هوامش

(1) قال أبو عبدالرحمن: الغَنَاء بفتح الغين المعجمة اسم لكفاية وإجزاء من يقوم بكفايتك ما تريده من مال أو فعل.

(2) قال أبو عبدالرحمن: لاحظتُ بعض المرات تعمد الشيخ محمد رفعت رحمه الله طمر آيات الإيعاد بالنار، وحرصه على ترديد آيات الوعد بالجنة.. وتلك طريقة غير محمودة انتهجها التبليغيون، وهذا تجهيل منهم لربهم سبحانه الذي أرسل رسله عليهم الصلاة والسلام مبشرين ومنذرين، وما في ذلك من حكمة قهر الذنوب بالخوف من الله، والإكثار من الخير طلباً لمزيد النعم، وهذه حال العباد الصالحين كما قال سبحانه عن آل زكريا عليهم السلام: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }(90)، سورة الأنبياء (89-90) بل يُغلب المسلم جانب الخوف حال صحته ونشاطه؛ فإذا ضعف وكانت عبادته على قصدٍ وكُلفة فليغلّب جانب الرحمة والعفو وحُسن الظن بربه مهما علم من نفسه من ذنوب وتقصير.. ومن نماذج ما لاحظته على الشيخ ههنا أنه تلا من سورة المائدة ابتداء من قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ.. }حتى وصل إلى قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36 ) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }(37 ) سورة المائدة( 36-37)، فلم يقرأ هاتين الآيتين في الإيعاد، ثم تعوذ وبسمل، وتلا ما بعدهما.. وكان يقرأ في سورة هود إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103)وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104)يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ(105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ }(107)، سورة هود (99-107) فلم يقرأهن؛ لأن هذه الآيات الكريمات في الإيعاد، ثم أخذ يردد كثيراً بتفنن في الأداء قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ } (108)سورة هود. ولم يقرأ غيرها!!

(3) قال أبو عبدالرحمن: (شيخ الإسلام) أُطلقت على الإمام ابن تيمية وعلى من هو دونه في العلم، وكان الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي رحمهم الله تعالى ينكر هذه الألقاب الحادثة، ولكنني كرهتُ هذا اللقب باجتهادي؛ لأنه لا شيخ للإسلام إلا مبلّغه ومبيّنه، وهو رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؛ وإنما للمسلمين كافة من أحيائهم وأمواتهم شيوخ هم الأئمة الأربعة الراشدون رضي الله عنهم الذين أمرنا باتباع سنتهم، ومع هذا لم يطلق على أحد منهم رضي الله عنهم (شيخ الإسلام)، فلو جاز هذا اللقب لكانوا أحق به وأولى.. وإضافة (شيخ) إلى مسلمين جائز لجماعة من المسلمين لهم شيوخ في عصر ومصر، وهم المبرزون في العلم.. وشيخ الإسلام تعني العصمة؛ فاعتقادي الذي أدين به أن هذا اللقب مبتدع لا يجوز إطلاقه على كبير من العلماء، وإنما هو شيخ لمن قلده، وليس شيخاً للإسلام.. وهو شيخ في الإسلام لا له؛ لما يبثه من أحكام الديانة الراجحة في اجتهاده، وهو شيخ لمن تلقى عنه العلم في حياته.. وحصلت مني في صلف الشباب هفوة أستغفر الله منها؛ إذ لقبت الإمام ابن حزم رحمه الله بإمام الدنيا؛ فهذا لقب أكبر شناعة.

(4) قال أبو عبدالرحمن: الرادح بمعنى الراقص عامية مأخذها من معنى الانبساط في مادة (ردح)؛ فكأنه ينبسط خاطره بالرقص، أو من ترديح الشعر بمعنى بسطه واستوائه وزناً وفصاحة، وإيقاع الشعر يصاحب الرقص أحياناً أو يُحاكيه.. والرَّدَح بفتح الدال المهملة انبساط الأيام بطولها.. تقول: (أقام عندنا رَدَحاً من الزمن).. ومن معاني (ردح) ثِقل السحاب بالماء في السحابة المنداحَة، والرقص الشعبي من راقصين ذوي سِمَن يُسرفون في دكِّ الأرض عند الرقص؛ فكأنهم يهضمونها عن ثِقَل.

(5) انظر كتابه مدارس النقد الأدبي الحديث ص176/ الدار المصرية اللبنانية عام 1416هـ.

(6) قال أبو عبدالرحمن: النثار بكسر النون اسم للمنتثِر، والمصدر لنثر (نَثْرٌ)، وجُعل النثار مصدراً ثانياً، وقد حققتُ في غير هذا الموضع أن مصدر الفعل واحد لا غير، ثم يعمل عمل المصدر غيره من الأسماء؛ فقال النحاة بتعدُّدِ المصادر لأجل ذلك.

(7) قال أبو عبدالرحمن: من المعلوم أن الرغم والرغام بمعنى التراب، ويظهر لي من سياق استعمال المادة أن المراد التراب الدقيق لا عموم التراب، لأنه هو الذي يحصل به تعفير الأنف وإذلاله.. والأفصح أن تقول: (على الرغم) بضم الراء المهملة المشددة، للدلالة على الاسمية، وأما فتح الراء المشددة فهو للمصدر.


المصدر : الجزيرة : الآن اكتشفتُ نفسي (2-3)
 
الآن اكتشفت نفسي (3 ـ 3)

الآن اكتشفت نفسي (3 ـ 3)

[align=center]الآن اكتشفت نفسي (3 ـ 3)[/align]

قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ شيئاً مما يغيظني من الوعظ في إذاعة القرآن الكريم، وأذكر ههنا برنامجاً سمعته يوم جمعةٍ مباركة بين الظهر والعصر عن عبادة رائعة هي (التسبيح) لرجل علمٍ فاضل مبارَك.. إلا أنني عزمتُ أن لا أعود إلى سماع مثله؛

ففيه أوَّلاً تقليد محض لأحدِ علماء المسلمين في أمرٍ غيبي، وهو أن الجبال تسَبِّح رَّبها، وأنها مشفقة من تفتُّتها يوم البعث عالمةً بذلك؛ فمثل هذا لو صح لن يقنع به المستمع إلا ببرهان شرعي صحيح الدلالة والثبوت، لا بقول عالم بعينه؛ لأن هذه الدعوى لا تصح إلا بخبر معصوم صحيح صريح، وليس لهذا الأمر الغيبيِّ أيُّ مجالٍ في ظُنونٍ من استنباط بعيد، بل نعلم أن كل شيئ يسبح بحمد ربه، وأن السموات والأرض عندما قال لهما ربهما سبحانه وتعالى :{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(11) سورة فصلت، وأن الأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة، وأن السموات والأرض أشفقتا من حمل الأمانة.. ولا نعلم حقيقة ذلك؛ وإنما عندنا الإيمان بكلام الله على مراد الله، وأن التسبيح كائن حقيقة من الجمادات والعجماوات بالكيفية التي لا يعلمها إلا ربنا، وكفى قول الله سبحانه: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44) سورة الإسراء.. وأما أن الجبال عالمة بأنها ستكون كالعهن، وأنها عالمة بأنها ستندكُّ يوم البعث فأمر لا نثبته ولا ننفيه إلا بنص شرعي صحيح صريح؛ فإن وُجِدَ فذلك هو الحق المتَّبع، وإن لم يوجد فلا يجوز الاحتجاج بظنون عالم من العلماء مثلاً، وأريد بظنون الاستنباط البعيدة أن يقول قائلٌ مثلاً: (سخط الهدهد من عبادة الشمس دلالة على اعترافه بالله سبحانه)؛ فهذا حقٌّ، ولكن ليس فيه دلالة على أن الهدهد يعلم أنه سيبعث.. وقل مثل ذلك عن إشفاق السموات والأرض من حمل الأمانة، وشهادة الأعضاء التي لا تكون إلا يوم القيامة وليس فيها دلالة على علم الجوارح الجماد أنها ستبعث.

ورأيت ثانية تكلُّفاً غير مشروع في إحصاء عدد التسبيح في العام بواسطة الآلة الكاتبة!!.. ما هذا، وهل جاء دين الله بمثل هذا التكلف، وما نتيجته؟!.. وإنما يُقْبل الإحصاء من خبر الشرع المطهَّر أو أمره كخبره بأن ليلة القدر خير من ألف شهر.. وما كانت السِّبحة الألفية بدعة، والعد بالحصى بدعة إلا لأن الإحصاء غير مطلوب، وقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه ذلك، ووعظهم ب {سبِّحوا ولن تُحْصوا}، وردَّهم إلى المشروع من العدِّ بالأصابع المستنطقات، وليس ذلك من أجل إحصاء فضائل نجزم بها؛ فكم من مرةٍ نُشْفِق ونخاف من ردِّ أعمالنا وعدم قبولها؛ وإنما الغرض تأدية العدد الذي أَمَرنا به الشرع مثل ثلاث وثلاثين تسبيحة، ومثلها تحميدة، ومثلها تكبيرة، ونختم بالتهليل فتكون مئةً.. ومثلُ إحصاءِ ما ندبنا الله سبحانه وتعالى إليه من ذكرٍ يطرد الشيطان، وهو (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير) مئة مرة في الصباح، ومئة مرة في المساء؛ فتَعْقِد عَشْراً بيمينك، ثم تعقد الخُنصر في اليسرى عن عشر، ثم البنصر مثل ذلك، ثم الأوسط مثل ذلك، ثم السبَّابة مثل ذلك، ثم الإبهام مثل ذلك؛ فتنعقد أصابع اليسرى على خمسين، ويبقى خمسون تُحصيها بعدَ عدِّ أصابع اليمنى عشر تهليلات فترفع الخنصر من اليسرى، ثم البنصر... إلخ.. والأصابع أولى؛ لأنها مستنطقات، والغرض اليقين أو الرجحان بحصول العدد الذي نُدِبنا إليه شرعاً.

وتأذَّيت ثالثة من نغمة التَّمعلُم والوثوق العارِم بأن عبادة التسبيح مهملة لم يبحثها على وجهها إلا فلان المعاصر.. مع أنها الشُّغْل الشاغل لعلماء اللغة، وعلماء الورع غير البدعيين، وعلماء التصوف.

وتأذيت رابعة من التَّمعلم في تحقيق أصل اشتقاق التسبيح من الإبعاد على سبيل الجزم؛ وهذا حرَّكني إلى تحقيق هذه المسألة، ولا يتَّسع المقام إلا لنبذة موجزة، وقبل ذلك أُبَيِّن أن التسبيح ليس هو العبادة العجيبة، بل هو خَرَزَة رابعة في سِمْط التحميد والتهليل والتكبير، وهو من فضائل الأعمال، ومكفِّرات الذنوب، ولكن لا شيئ أعجب من الركن الثاني العملي بعد الشهادتين وهو الصلاة، ثم النوافل منها كالتهجد؛ فهي أم العجائب، وهي التي تشمل التسبيح وغيره، وهي على الوجوب، ومن نوافلها ما هو على التأكيد، ومن رغائبها ما هو أفضل من غيره على الإطلاق؛ وإنما وَجَدَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الراحة في الصلاة، وكم من الدراويش معهم سِبْحات ألفية يعدون بها ويُحرِّكون رؤوسهم وهم -لو كانوا غير بدعيين، فما بالك بكونهم بدعيين- من أكسل الناس في التهجد والسنن الرواتب.. إن المبالغات والتكلف ليست من دين الله في شيئ.. وأما الذي أحققه لكم في أمر التسبيح: أنه جاء في القرآن الكريم بالنص على أن يكون التسبيح بحمد ربنا كقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44) سورة الإسراء فهذا خبر عن شيئين لا شيئ واحدٍ هما التسبيح والتحميد معاً؛ لأن معنى الباء التي في {بِحَمْدَهِ} وهو الذي لا يصح غيره من الوجوه التي ذكرها بعض النحويين: إنما هو للمصاحبة الدالة على الحال.. أي نسبح متلبسين بحمدك، وأنتم تعلمون أن الحمد أمران هما: مدح الله بصفاته وأفعاله المقدَّسة التي فيها أسماؤه؛ لأنها على الكمال المطلق لا يستحقها غيره بينما الأوصاف في المخلوقين إما عارضة وإما محدودة الأثر.. وثاني الأمرين الشكر على نعم الله وآلائه الصادرة عن كماله جل جلاله في صفاته وأفعاله؛ فهم يسبِّحون الله بتنزيهه عن النقائص -وهذا هو التخلية بالخاء المعجمة- مستصحبين حمد ربهم مدحاً وشكراً (وهذا هو التحلية بالحاء المهملة).. والتسبيح من لوازم معنى الحمد؛ لأن الحمد اعتراف بالكمال المطلق الذي لا يُتصَوَّر معه سلبٌ أو إضافة؛ فتضمَّن ذلك التسبيح لزوماً.. وفي غير التعجب بكلمتي (سبحان الله) يأتي التسبيح في الشرع مع الحمد إما عطفاً مثل (سبحان الله، والحمد لله)، وإما بما سلف من معنى مصاحبة التسبيح للتحميد.. وزادت السنة المطهرة الواو مع باء المصاحبة في مثل حديث السجود والركوع في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك)، وقد جاءت الواو من تأوُّلِ الرسول -صلى الله عليه وسلم) للآية -كما في نص الحديث- من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (3) سورة النصر؛ فالمعنى أسبحك يا ربي وأسبح بحمدك، ومآل المعنى أسبحك بنفي النقائص، وأسبحك بالاعتراف بحمدك مدحاً وشكراً.. وأما الوجه الثاني فقد ضعَّفه بحقّ القاضي عياض رحمه الله وقال: (قيل: (وبحمدك) ابتدائي)(1) فضعيف جداً لا يليق بالسياق؛ لأن التنزيه مقدم؛ ولهذا قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} (256) سورة البقرة فقدَّم التخلية بالمعجمة على التحلية بالمهملة. ورأى الواعظ حفظه الله أن معنى التسبيح بحمد الله أن يكون التسبيح بما شرعه الله من الحمد؛ فأخذ بأبطل الأقوال؛ لأن التسبيح لا يُغني عن الحمد لثلاثة براهين:

أولها: الاختلاف في المعنى؛ فالتسبيح تنزيه لله بنفي النقائص؛ ولهذا جاء في القرآن مثل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }((180 سورة الصافات؛ فنفى سبحانه وتعالى ما ادَّعاه الكفار من نقصٍ بالتسبيح، ثم جاء مقتضى التسبيح في مثل قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}(255) سورة البقرة، و{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64) سورة مريم، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}(58) سورة الفرقان.. والحمد إثبات كمالٍ كما في قوله تعالى في أكثر من موضع: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(137) سورة البقرة، و {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (11) سورة الشورى، و{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) سورة الحديد.

وثانيها: أنه جاء التسبيح وحده، ثم عُطِف عليه الحمدُ في مثل الحديث الصحيح: (سبحان الله، والحمد لله).

وثالثها: أن التسبيح والحمد جاءا مقترنين؛ فحُمِل الحمدُ على المعهود، وهو أن يقترن التحميد بالتسبيح؛ فهما مأمور بهما معاً.. ومع أن التسبيح من لوازم التحميد إلا أن التسبيح مقدَّم؛ لأن هناك كمالاتٍ في عُرْف البشر ولم ترد توقيفاً كالمفكِّر والعاقل والشجاع ومهندس الكون؛ فأنت تردُّ اللفظ بلا تردُّدٍ، ثم تنفي من المعاني ما لا يليق بكمال الله الثابت بأسماء الحمد التوقيفية، فالتسبيح مقدَّم اعتقاداً وقولاً، وهو فكراً من لوازم الحمد، والحمد التوقيفي هو مرجع التنزيه.. وجاء التسبيح في القرآن معلَّلاً بأنه من أجل الله في مثل قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1) سورة الحديد، و{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (44) سورة الإسراء؛ فالتسبيح له سبحانه، ومن أجله.

وجاء في القرآن الكريم الكريم إضافة التسبيح إلى الله سبحانه لا إلى اسمه كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(سورة الفتح 8-9)؛ فهذا نفي لِما لا يجوز في حقِّه من الصفات أصلاً كالنسيان.. وجاء التسبيح باسمه سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) سورة الأعلى.. فهذا تنزيه الاسم الثابت لله من النقص، ومَن لم يفعل فقد ألحد في أسماء الله تعالى بمقتضى قوله تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} (180) سورة الأعراف؛ فمن شبَّهها بصفات مخلوق، أو قدَّرها وحدَّدها، أو عطَّلها فقد ألحد فيها، وهكذا من نقص منها كقول المعتزلة عن علم الله: (لا يعلم الله الجزئيات) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. والأكثر في الشرع اقتران الحمد بالتسبيح لله سبحانه بإطلاق.. وأما (سبحان) فيأتي الكلام عنها إن شاء الله.. وزادت السنة المطهرة (سُبُّوحٌ) بضم السين والباء المشدَّدة المضمومة، ويأتي الكلام عنها إن شاء الله.

وأما اشتقاق التسبيح فاختار جمهور اللغويين أنه مأخوذ من التَّبْعيد، وأصَّل ذلك الإمامُ الراغب الأصفهاني رحمه الله بكلام لا يصح لغةً ولا شرعاً، فقال: السبح المرُّ السريع في الماء أو في الهواء.. ثم قال: (والتسبيح تنزيه الله تعالى.. وأصله المر السريع في عبادة الله)(2).

وأما الإمام ابن فارس رحمه الله (وهو قبل الراغب زمناً) فقد جعل للتسبيح أصلين هما: العبادة، والعوم في الماء(3)، وهذه الثنائية صحيحة لأمرٍ سأذكره إن شاء الله، وإنما الخطأ في ذكره (العوم).

قال أبو عبدالرحمن: وبعد هذه الجولة أحقق لكم المسألة بعدد من الوقفات:

الوقفة الأولى: المحقَّق عندي بيقين كالشمس أن التسبيح والتقديس كلمات شرعية توقيفيَّة عند أهل الأديان؛ فنَقلتْ لغةُ العرب معانيهما من اللغة التوقيفية؛ فأما التقديس فإذا تصفحت معانيها وجدت أصلها شرعياً توقيفياً، ثم وسَّع العرب المادة بالمجاز(4)، وقد لاب بعض هذا ببال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى فقال: (وأظنه من الكلام الشرعي الإسلامي)(5)، ولو قال: (من كلام شرائع الله التوقيفية)؛ لكان أصوب؛ لأنه ليس للشرع الإسلامي معانٍ ليستْ مأخوذة من لغة العرب؛ فهي: إما لغة العرب نفسها مثل قام وعلم، وإما اصطلاح شرعي من معاني لغة العرب كالحج لخصوص قصدٍ ذي هيئات مُعَيَّنة.. وأما التسبيح فتجد عند النصارى السبح صلوات للقديسين والعذراء، وعيد السبح أحد الشعانين(6)، وصلاة السَّحَر(7)، وتصدق أيضاً على تراتيلهم في الكنيسة.

والوقفة الثانية: أن أصل سبح في لغة العرب مرور الإنسان على الماء ببطنه أو ظهره، أو على جنبه، وهو مشتق من معاني السبح التوقيفية في الشرائع بمعنى التنزيه؛ لأن الإنسان في عرف العقلاء لا يرتاض بالسباحة إلا في ماء نظيف نزيه.

والوقفة الثالثة: لا تصحُّ دعوى أن السبح مَرٌّ سريع على الماء؛ وإنما هو لمطلقِ المرور ومنهم غير المسرع لعدم القدرة، أو لعدم القصد مع وجود القدرة.

والوقفة الرابعة: جاء معنى السرعة مثل (فرس سابح) -وفي السرعة معنى البعد- على التشبيه بهيئة السابح في الهواء لا على التشبيه بسرعته؛ فهو مشبَّه بمن يسبح في الهواء، والسبح في الهواء مشبَّه بالسبح في الماء؛ فكأن الفرس سابح في الهواء لا يلمس الأرض، بل أرضه الفضاء.. كما أن السابح تكون أرضه الماء؛ وإنما جاء معنى السرعة لأن هذه الحال مرصودة من أقصى سرعة للفرس.

والوقفة الخامسة: السبح في الهواء على التشبيه بالسبح في الماء، وهو لا يقتضي السرعة، وقد حقَّقْتُ في كتابي (من أحكام الديانة) الطبعة الأولى الضخمة أن أول سورة النازعات كلَّه عن الملائكة الكرام حسب مدى سرعتهم؛ فالسابحات من الملائكة عليهم السلام هم الدرجة الثالثة في السرعة، وفوقهم السابقات، وفوقهم المدبرات كجبريل عليه السلام ومَن أهلكوا قوم لوط بأمر الله لهم.

والوقفة السادسة: اتَّضح أن البعد معنى مجازي في سَبَحَ لا أصلٌ، ثم إنه لا يصح وصف العبادة بالمرِّ السريع إلا ما جاء استثناءً بنص شرعي، والأصل في العبادات الأناة، والأجْرُ على قدر النَّصَب (التعب).

والوقفة السابعة: لا نستطيع تحديد أصل الاشتقاق للتسبيح العِبادي ما دمنا لا نعرف أصل اشتقاق معاني المادة التي جاءت إلى لغة العرب من كلمة شرعية توقيفية متوارثة، ولكن بالتَّتَبُع لمعنى التسبيح والتقديس في الشرع وجدنا التسبيحَ أعمَّ؛ لكونه لنفي كل نقصٍ وعيب بما فيه ما يُخالف الطُّهر.. وهو أخص من جهة اقترانه في مواضع كثيرة بالتعجب.. والتقديس لخصوص تنزيه، وهو تنزيهه سبحاته عما يخالف الطهارة؛ ولهذا لما قال الصحابة رضوان الله عليهم: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه نظيفاً): قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)؛ فدخلت النظافة في الجمال، وهي من عناصره في علم الجمال؛ لأن الدنس والقذارة قبح.. وسبحات ربنا جل جلال أنوار وجهه الكريم، وذلك غاية الطهر؛ لأن النور نصوع؛ ولهذا اشتُقَّت بالجذر الثُّنائي -الواو والضاد- الوضاءةُ وفِعْلها وضُؤَ من الوضوء؛ لأنه نور وضياء يظهر أثره دنياً في العُبَّاد، وتتجلَّى آثار السجود ضياءً يوم القيامة بالنصوص الشرعية الصحيحة؛ فأصبحت (وَضُؤَ) بمعنى (أضاء) بالجِذْر الثنائي، ومن معاني خصوص التطهير نفي الولد والوالد والزوجة عنه سبحانه، وتطهيره سبحانه من دنس كفرة أهل الحلول كقول ملحدهم:
وكلُّ كلامٍ في الوجود كلامُهُ *سواء علينا نَثْرُه ونظامُهُ
فجعلوا مثلَ نبحِ الكلاب ونهيق الحمير كلامَه تقدَّس ربي وجلَّ وعلا، وقبح الله أهل الحلول والاتحاد وخيَّبهم.

والوقفة الثامنة: لا صحة لتقييد الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى السبح بالعَوْم في الماء، بل هو لِمُرور العاقل على سطح الماء على ظهره أو بطنه أو جنبه، وأما العوم لما يطفو على السطح فهو لِمَنْ لا يعقل، وهذا عليه جمهور اللغويين والمفسرين المتأخرين لا سيما تفسير البيضاوي وحواشيه وحواشي حواشيه؛ ولهذا خطَّأوا الفيروزآبادي رحمهم الله تعالى في توحيده بين سبح وعام؛ ولهذا أيضاً جعل العربُ سَيْرَ الإبل التي لا تعقل عَوْماً ، والعُوْمة -بضم العين المهملة وسكون الواو- دويبة لا تعقل تسبح في الماء.. وهذا هو الصحيح في الاشتقاق بجِذْرَي العين المهملة والميم في عَمِيَ وعمهِ وعَام، ووُفِّقَتْ عاميةُ نجد في وصف من لا يَفقه من الناس بكلمة (عُوْمة)؛ فهو يخلط ويملط على غير هدى.

والوقفة التاسعة: القُدُّوس بضم القاف والدال المهملة المضمومة المشدَّدة من أسماء الله الحسنى بيقين كما في سورة الحشر، وهي اسم لبلوغ الغاية في الطهر، والسُّبُّوح بالسين المهملة المشدَّدة المضمومة والباء الموحدة من تحت المشدَّدة المضمومة كذلك لبلوغ الغاية في النزاهة، وحديث (سُبُّوحٌ قُدُّوس رب الملائكة والروح) مشعر بذلك؛ لأن السبوح والقدوس صفة للرب سبحانه.. ومن ضبط حاء سبوح وسين قدوس بغير تنوين فقد أخطأ، بل هو بالتنوين، وهكذا من جعله منصوباً منوَّناً؛ لأنه في سياق وصفٍ لا إضافة.. ولم أجد اسماً عُبِّدَ للسبُّوح، ولم أجدها في الدعاء.. وأما حديث (سبوحٌ قدوسٌ) فهو اعترافٌ عقيدةً بذلك وإن جحده سبحانه الجاحدون؛ فلعلها من أسماء الله الحسنى التي نَدَّت عن بعض المحصين لأسمائه سبحانه؛ فإن الله سبحانه جعل الوعد بالجنة لمن أحصى تسعة وتسعين من أسماء الله الحسنى اختباراً لدرجات الراسخين في العلم.. وأما (سبحان الملك القدوس) فهي إقرار باللسان، ونحن إنما نسبِّح ربنا سبحانه بفعل ألسنتنا وقلوبنا باعترافٍ مُضْمرٍ أو مُظهرٍ باللسان، ولا فعلَ لنا في تنزيه الغنيِّ الحميد جل جلاله؛ فهو الذي يهب النزاهة لمن يشاء، ولا تملك المخلوقات إلا الاعتراف فقط.

والوقفة العاشرة: حكى جمهورٌ من اللغويين جوازَ فتح السين المشدَّدة هكذا (السَّبوح)، ولم يُورِدُوا دليلاً على ذلك، وإنَّما وجدوا الضم قليلاً على وزن (فُعُّول) بضم الفاء وتشديد العين المهملة المضمومة مُهملاً.. وبتتبعي ما ورد في الصيغتين وجدت الفتح يعني بلوغ الغاية في الفعل، ولهذا جاء لما هو آلةٌ مثل السَّفُّود والتَّنُّور والشَّبُّور للبوق الذي هو آلة غناء.. وأما الضم فلم يرد إلا للسبوح القدوس، فهو لصفات الفاعل سبحانه، ولم يرد على الضم (على التحقيق) غير سبوح وقدوح صفةً للرب سبحانه؛ فهو جلَّ جلاله المتميِّز بذلك الكمال في صفاته وأفعاله.. ولما استُعْمِلَتْ المبالغةُ في العرف الأدبي المتأخِّر عن لغة السليقة للادِّعاء والتهويل كان الصواب في حق الله سبحانه (بلوغ الغاية) لا (المبالغة).. والقول بأنه لم يرد على وزن (فُعُّول) بضم الفاء والعين المهملة المشدَّدة غير سبوح وقدوس هو الصحيح، وإليه ذهب القاضي عياض رحمه الله تعالى(8)، وأما (الذُّرُّوح) التي ذكرها أبوإبراهيم الفارابي رحمه الله تعالى(9) فهو حشرة في حجم الذباب، وأصله فتح الذال المعجمة المشدَّدة، وإنما جاء الضم في بعض اللهجات لمراعاة أمرين: أولهما أن المفرد مضموم الحرف الأول مثل ذُرَحْرَح، وثانيهما وجود النون في بعض اللهجات مثل (ذُرنوحة)؛ فهو مفرد ذرانيح في قولك (الذُّروح)، ولم يُقصد به بلوغ الغاية في الصيغة من غير إرادة الجمع، وأصلها (ذُرنوح) على وزن (فُعْنُول)؛ فحُوِّلت إلى (فُعُّول) تخفيفاً.. وعند العامة وصف الصبي بالذرنوح؛ لدقة حركاته، والذرنوح عندهم أيضاً كحلٌ عُنَّابي للاستشفاء به لا للزينة يُسَمُّونه حُمْرَة.

والوقفة الحادية عشرة: كلمة (سبحان) على وزن (فُعْلان) بضمِّ الفاء وسكون العين المهملة تأتي في لغة العرب اسماً جامداً مثل ثُعبان وبستان وعثمان وركبان جمع راكب، وأكثر ما تُستعمل جمعاً، ولما كان السبحان اسماً للتسبيح لا جمعاً له دل على أنه لبلوغ الغاية في التسبيح ما دامت معاني الصيغة في جمهورها للجمع، وقد أُنيبَ مناب المصدر، وهذا جائز؛ لكون الصيغة في لغة النحاة مشتقة، وإنما نابت مناب المصدر لَمَّا أريد معنى بُلوغ الغاية، وأما المصدر حقيقة فهو التسبيح (سَبَّح تسبيحاً).. مصدر للفعل الرباعي (سبَّح) بتشديد الباء.

والوقفة الثانية عشرة -وهي الأخيرة-: أخطأ بعضُ النَّقَلة على سيبويه في زعمه أن سيبويه لم يذكر غير الفتح في سَبُّوح قَدُّوس، والصواب أنه ذكر الوجهين؛ فقال: (ومن العرب مَن يرفع فيقول: سُبُّوح قُدُّوس)(10)، وذلك بعد أسطر من قوله: (وأما سَبُّوحاً قَدُّوساً ربَّ الملائكة والروح) فليس بمنزلة (سبحان الله) (يعني في العمل عملَ المصدر خلاف الاسم المجرَّد للاسمية)؛ لأن السَّبُّوح والقَدُّوس اسم، ولكنه على قوله (أي على إضمار مقدر في قولهم: ذكرتُ سَبُّوحاً).. وقد ضبطها قلمياً لا تنصيصاً في هذا الموضع محقِّق الكتاب الأستاذ عبدالسلام محمد هارون رحمه الله بضم سين سبوح وقاف قدوس.. وهذا خطأ من وجوه:

أولها أنهما جاءا وصفاً ل(ربَّ) بفتح الباء المشددة غير مضافين إليها، وثانيها أن كلام سيبويه لَحَنَ إلى أنهم ظَنُّوها عاملةً عملَ المصدرِ (تسبيحاً) وهذا يقتضي الفتح؛ فبيَّن لهم سيبويه أنها اسم مجرَّد.. وما كذب الإمام سيبويه رحمه الله في حكاية الرفع والنصب عن العرب إذْ قال: (وكل هذا على ما سمعنا من العرب تتكلم به رفعاً ونصباً)(11).. إلا أن المسموع بالفتح خطأ مبنيٌّ على توهُّم بعض العرب أن سَبُّوحاً بفتح السين بمنزلة (تسبيحاً) و (سبحانَ).. وثالثها أن سيبويه ذكر بعد ذلك الضم، فقال: (ومن العرب مَن يرفع، فيقول: سُبُّوحٌ) يعني ضمَّ السين لا الحاء؛ لأن آخر الكلمة ليس محل إشكال؛ فهو خاضع للإعراب؛ فدلَّ ذلك على أن (سَبُّوحاً) التي ذكرها أوَّلاً بفتح السين.. والوجهان اللذان حكاهما عن العرب لا يُعقل أن يكون المراد بهما آخر الكلمة؛ لأن المرجع في ذلك للإعراب النحوي لا لنقل البُنْية عن العرب. قال أبوعبدالرحمن: وأسلفت في حديثي السابق القول عن سريالية الحلم، وههنا أستدرك القول بأنه(12) لا قيمة لإخبار شخص ما بوقائع حلمه في النوم، ولا بوقائع حلمه في اليقظة، ولا بتعبيره المباشر بأنه يحلم بكذا بمعنى يتمناه؛ فقول معالي الدكتور غازي القصيبي حفظه الله - الذي عجزتُ أن أُخرجه من دائرة صمته إلا أن أَهْجُوَه بقصيدة رنانة فوق ما يُبدع هو!! - في قوله الذي سأسوقه إن شاء الله بعد مقدمة فاطمة الرومي؛ إذ قالت: (الحلم واحة خضراء في صحراء الحياة اللاهثة؛ فماذا عسانا نجد في تلك الواحة، وماذا عساهم يغرسون في بستان أحلامهم ؟؟.. هذا ما سنعرفه في بابنا آفاق الحلم الذي نلتقي من خلاله مع عدد من المبدعين والمبدعات؛ لنرافقهم (في) رحلة حالمة إلى مدائن الحلم الجميل)، ثم يأتي كلام معالي الدكتور بعد كل سؤال لفاطمة هكذا:

ما الذي يعنيه لك الحلم؟:
الحلم هو انتصار الخيال المبدع الجميل على الواقع الغبي الكئيب.

بماذا تحلم؟:
*.. بورود أكثر شذى.. بآفاق لم أرها من قبل.. بتجرية لا تشبه التجارب.

يصف الشاعر حلمه بقوله: (يا حلمي المر العذب؛ فما نكهة الأحلام لديك؟:
لها ألف نكهة ونكهة ونكهة!. ما الذي تفعله لحظة أن يغتال حلمك؟:
من طبيعة الأحلام أنها غير قابلة للاغتيال؛ ولهذا يقف أعظم الطغاة والجلادين أمام الأحلام يائسين!.

أحلام طفولتك ماذا تحقق منها؟:
كان لي في طفولتي ألف حلم لم أعد أذكر معظمها، وتَحقَّق حلم واحد كبير: أن أستطيع أن أقرأ وأكتب.

حلم ما زال يداعب مخيلتك؟:
أن أصبح إنساناً أفضل، بعاطفة أرق، وبقلب أكثر تسامياً، بعقل أكثر انفتاحاً.

لو عدتَ صغيراً: ترى هل ستحلم بأحلامك نفسها؟:
أرجعيني إلى الطفولة وسوف أخبرك.. أليس هذا حلماً جميلاً؟!.

أهمية الأحلام أين تكمن؟:
تكمن في أنها لصيقة بالحياة ما دامت هناك أحلام فهناك حياة، وعندما تلفظ الأحلام أنفاسها الأخيرة تتبعها الحياة.

بأي الألوان ترسم لوحة أحلامك؟:
بألوان قوس قزح، وبألوان الظلام الدامس، وبألوان الفجر المشرق.. أعني بكل لون يمكن أن نحلم بوجوده.

متى تتخلى عن حلمك؟:
لا يمكن أن أتخلى عن حلمي.. هذا التوأم يرفض الانفصال!.

لماذا يستبيح الآخرون أحلامنا؟:
قد يحاولون.. ولكنهم لا ينجحون.. ولن ينجحوا.

لماذا نجتهد أحياناً في تفسير أحلام مناماتنا؟:
التفسير في أعمق أعماقنا لا في مفسري القنوات الفضائية.. جعل الله أحلامنا خفيفة على أجفانهم)(13).

قال أبوعبدالرحمن: هذه أخبار بأمانٍ مثالية كريمة، وبأمانٍ جماليَّة، ولكن ليس هذا هو الحُلْم الإبداعي.. الحلم الإبداعي مثل قصة (الحيَّة من الحياة) لما كان أبوعبدالرحمن يعاني أموراً مؤلمة أشدُّها سقوطُ أسنانه حتى كان يسيل كل ما يتناوله بشدقيه، وتخرج حروف الهجاء من مخرج واحد، ويتحاشى ما أمكن الأكل مع الكبراء؛ لأن الشفة السُّفْلى تُجاور أرنبة أنفه، ولحيته تجاور أهداب عينيه؛ فابتدع وقائع خيالية، وجعل بطل القصة الربيع بن خريف القناعَ الذي تقمَّص شخصيته؛ فكانت تلك الأمانيُّ الخياليةُ (وأكْثَرُها همومٌ تساوره دائماً)، ولكنه لم يسرد ما يحلم به؛ وإنما جعل عناصر الحلم أمشاجاً لبناء وقائع إبداعية صنعها الخيال المُضْنَى.. والحلم الإبداعي يظهر على صورٍ، ولكن أفضلها ما كان أسطورةً يتصورها العقل، ولا يقوى على احتمالها واقعاً.. ألا ترى أن (السندباد) شخصيتان (السندباد الحمَّال الفقير) و(السندباد البحري) ذو الأساطير العجائبية السبع التي يقصها بعد كل مغامرة بَحْرية على السندباد الحمَّال الفقير، وكلُّ رحلة يأتي فيها سندباد البحر بما لا يُصدِّقه عقلٌ من الثراء الفاحش بالبضائع والأموال؛ فترك السندباد الحمال المسكين وظيفته، واستغنى عنها بمنادمة السندباد البحري يتلهَّف إلى أخبار كل رحلة، ولم ينل من نديمه مالاً ولا زاداً ولا كساءً ولا سكناً ولا مركباً.. إن البطل واحد هو السندباد الحمال الشخصية الأصلية، والسندباد البحري هو الصورة والقِناع !!.. فإن سألتَ عن البرهان قلتُ: ليس عند سندباد البحر غير أساطير يتخيَّلها ويعيشها، وهو نفسه السندباد الحمَّال الذي استغنى بلذة الاستماع لأماني الخيال عن وظيفته التي هي مصدر رزقه، فتعانق الأصل والصورة على الإفلاس إلا من الأحلام!!.. وحالة سندباد البحر قبل الثراء بأحلام الخيال هي نفسها واقع السندباد الحمال، كما أن مآلهما واحد؛ فكلاهما غنيٌّ بأحلام الأساطير ابتداعاً واستماعاً.. والفرق بين (السندباد) و (الحية من الحياة) أن بطل الأخيرة واحد هو (الربيع بن خريف) المتحدث باسم كاتب النص، وكاتب السندباد جعل قناعه شخصيَّتين يكمِّل بعضهما بعضاً، وكلاهما متحدث باسم كاتب النص؛ فسندباد البحر يعيش إفلاسه بأمانيَّ اخترعها خياله، والسندباد الحمَّال يعيش إفلاسه في تلذُّذه بسماع ما لم يرفع له رأساً من الأماني الخيالية؛ فكان ذلك العِوَض عن وظيفته التي هي مصدر رزقه.

وعناصر الأحلام -مناماً ويقظة التي تكون أمشاجاً للعمل الإبداعي- لابد من تغذيتها بمقومات جمالية كالرمز مثل رمز الحية في حلم النوم، ورمز الشخصيات، فهو ابن خريف سابق، وهو ربيع بالحلم، وهكذا بقية الشخصيات كالنماء والخصب.. وبإيجاز فكل الأساطير التي يسمونها (عجائبيات) تكون أدباً سريالياً إذا كانت حال كاتب النص وحال بطل الأسطورة واحدة، وليست أصول الحلم السريالية اللامعقول (غير المعقول) بإطلاق، بل يكون معقولاً بتصوُّر الذهن، وغير معقولٍ احتمالُه في الواقع.. أما اللامعقول في التصور فعبث مجرد كالحماقة التي ارتكبها تقليداً توفيقُ الحكيم في مسرحيته (يا طالع الشجرة) ولا سيما الأغنية التي فيها:
يا طالع الشجرة
هات لي معاك بقرة
تُحلب وتسقيني
بالملعقة الصيني

ولم يستحِ توفيق الحكيم من تسويغ هذا العبث التقليدي في مقدمته للمسرحية؛ فهو يعلن بأن المغنواتي الشعبي العربي أسبق من الأوربيين في العبث ؟!.. فهنيئاً للحكيم هذا السبق مع أنه افتراءٌ على أبناء الفطرة من مغنينا الشعبيين في بلاد العرب.. إن هذا العبث يبصق عليه الإحساس الجمالي؛ لأن أعْمق حس جمالي لأرقى فئة مثقفة لا يندرج في قيمة الجمال حتى يكون له تزكية من العقل في (قيمة الحق).

قال أبو عبدالرحمن: ورأيت محمد قطب (وهو غير الشيخ محمد) لم يستوعب حقيقة الرؤى والأحلام في الإبداع الأدبي؛ فقد أدرج (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ في كتابه (الرؤى والأحلام- قراءة في نصوص روائية) الذي صدر عام 1995م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة.. وصادف ذلك أن (أولاد حارتنا) من قراءتي الأولى في هذا الفن العربي - وإن كان هيامي بالروايات الرومانسية الخواجية المعرَّبة- ، والرواية التي قرأتها ليس فيها أدنى وشيجة بفاعلية الأحلام في الإبداع، بل هي من الروايات الواقعية الأقرب لمفهوم القصة، صوَّر فيها زملاء له في الدراسة قبل تبدُّل الأحوال بعد ثورة عام 1953م (أي حين تسلم عبدالناصر المقاليد).. وأما ما أورده محمد قطب من نقد لأولاد حارتنا فإنما يتعلق بعفن إلحادي اقترفه نجيب محفوظ في حق الله جل جلاله وأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وما قصةُ التلميعِ ونوبل إلا من أجل هذا.. ولكن هذا العفَنَ الكافرَ لا علاقة له بتأثير الأحلام والرؤى في الإبداع، ولا يُغَيِّر شيئاً من الواقعية الأدبية لأشخاص متخيَّلين ولذوي سلوك مختلف؛ فإن لم يقع ذلك فيقع مثله، وعبثُ ضلالاتِ جيلِ النهضة الحديثة الأوائل كطه حسين وأبناء عصره أو من سبقوه قليلاً على خِسَّته أرحم من تدفُّق العفن الحداثي الذي ترعرع في ظلال ثورة 1953م، وكفى بنجيب محفوظ رائداً للإبداع الإلحادي.. أما الإباحية التي أخْدَجَتْ بها روز اليوسف منذ إحسان عبدالقدوس فهي فسق شنيع دون الكفر ما لم يكن عقيدة، فهو يُسَمَّى خلاعة؛ فإذا كان استباحة عقيدية(14) فهو كفر، وهذا هو الماثل في الفلسفة الإباحية؛ لأنها عقيدة كما في كل فلسفات الحق الطبيعي منذ (روسو) في العقد الاجتماعي إلى (اسبينوزا) في رسالة اللاهوت، وكلاهما مُعرَّبٌ.. كما أنه لم يكن لريادة (إحسان) ديمومة القبول، وإنما نشط لذلك حداثيون مُلَغِّمون.

وأما ما كتبه الدكتور فايز الداية في كتابه (جماليات الأسلوب-الصورة الفنية العربية) عن السندباد في الشعر المعاصر فهو كما تفضَّل الكاتب مجرَّد رمز، ولكنه يُثري المادة اللغوية، وليس الشاعر الرامز بالسندباد مبدعاً وقائعَ خيالية اخترعها خياله من أحلامه؛ وإنما الإبداع من حظ كاتب نص السندباد، والشاعر المعاصر أثرى لغته بالرمز من إبداع سابق، وهو إبداع نسج من الأحلام عوالمَ يحتملها الذهن.

قال أبو عبدالرحمن: إن كنتُ قَدَرْتُ (فتح الدال المهملة هو أصح الوجوه للفعل الذي بمعنى استطاع) على إضحاككم وترقيق قلوبكم معاً، وعلى إتخامكم علمياً وإطرابكم أدبياً: فادْعُوا لي ولكم بأن نكون مِمَّن طال عمرُه وحَسُن عملُه، والله المستعان، وإلى لقاء إن شاء الله مع السريالية.


ـــــــ الهوامش ــــــــــ :
(1) انظر مشارق الأنوار على صحاح الآثار 1 - 200 - المكتبة العتيقة بتنوس، دار التراث بالقاهرة.
(2) مفردات القرآن ص392 - دار القلم بدمشق- الطبعة الثالثة عام 1423هـ.
(3) مقاييس اللغة ص380 - دار إحياء التراث العربي ببيروت- طبعتهم الأولى عام 1422هـ.
(4) قال أبو عبدالرحمن: فيكون على هذا المعنى الجامع في لغة العرب الذي هو الأصل منقولاً من معنى أصليٍّ توقيفي نجهله من جهة كونه أصل الاشتقاق المعنوي، وانظر معاني المادة من القاف والدال والسين المهملتين عند النصارى في تكملة المعاجم العربية 8 - 197- 198.

(5) مقاييس اللغة ص847.
(6) انظر تكلمة المعاجم العربية لرينهارت دوزي بترجمة الدكتور محمد سليم النُّعيمي 6 - 19 - الطبعة الأولى - ط. دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد.
(7) المصدر السابق ص20.
(8) انظر مشارق الأنوار 2 - 203.
(9) انظر ديوان الأدب 1 - 338. (10) الكتاب 1 - 327 ط. م المدني -نشر الخانجي- تصدير دار الكتب العلمية (السَّروقة) ببيروت عام 1408هـ.
(11) المصدر السابق.
(12) قال أبو عبدالرحمن: لا توضع هنا النقطتان الرأسيتان علامةً لمجيئ مقول القول؛ لأنه ليس في السياق نَقْلٌ حرفيٌّ بالتنصيص عن قائل، وإنما هو حكاية للمعنى؛ فثمة فرق بين (قال: كذا وكذا) وبين (قال بكذا وكذا) فالأول تنصيص فتوضع علامة مقول القول، والثاني حكاية معنى قول فلا توضع العلامة.
(13) المجلة العربية - ربيع الآخر عام 1424هـ ص116.
(14) قال أبو عبدالرحمن: هذا هو الصواب حسب الاستقراء اللغوي السماعي لا التقعيد النحوي الاجتهادي.. و(العقدي) بدون ياء قبل الدال المهملة يبقى خاصاً لما وُجِد أو سيوجد من اسم أو صفة من العقد بالتحريك.

المصدر : الجزيرة - الآن اكتشفتُ نفسي (3-3)

 
من جهود ابن عقيل القادمة في الدراسات القرآنية :

1- كتاب براهين القرآن وقوانين الاستنباط

2 - كتاب تفسير التفاسير ، وهو عبارة عن برنامج إذاعي بلغ 1131 حلقة من عشر دقائق .

قال أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري في مقاله الجديد تحقيق أصولي وإيضاح نفسيٌّ لا غير.. وَصَفْحٌ جميل :
"فصار كلام الله متعتي أختمه في الأسبوعين مرة لا ختم هذرمة، بل ختم تأمل وتسجيل وريقات في المصحف أراجع بها كتب التفاسير والتحقيق؛ ليكون كتاباً بعنوان (براهين القرآن، وقوانين الاستنباط) سأجعله إن شاء الله مصاحباً لتدريسي مقاييس اللغة للإمام ابن فارس في المسجد ابتداء من أول سبت من نصف شوال بعد الإجازة، وهو في غاية الاستيعاب والتحقيق... وقام فضيلة الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز الدغيثر بتهذيب بعض كتبي الخطية، وبدأ حفظه الله بتفريغ كتابي (تفسير التفاسير) البالغ 1131 حلقة من عشر دقائق مع بعض زملائه، ثم التوثيق والملاحظات، ثم إكمال ذلك من قبلي بالمراجعة، وبمراجعة ما استجد لي من مصادر مطبوعة وخطية كتفسير مكي بن أبي طالب الهداية، وهو كتاب نفيس جداً، وهكذا ما لم يطبع من كتب التفسير وحواشي الزمخشري والبيضاوي".


المصدر
 
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
هذه الشخصية
تعجبني جداً

و أحرص على اقتناء جميع كتبه

و من أجمل ماقيل في مدح الشيخ الفاضل :

فأنتم ظاهريُّ الاسم لكن
ظهرتُم بالفعال لنا جهارا
نطقتم بالفصيحة في بيانٍ
(لقسّ) بدّهُ، إذ ماتبارى
فكم في القاف من تنضيد شعرٍ
أحطتم معصم الفصحى سوارا
صدحتم بالقوافي في جمالٍ
فجاءت من أديبٍ,, لايُجارى

http://www.al-jazirah.com.sa/2001jaz/jan/8/rv1.htm
 
بعض الكتبة يسمي الحاشية هامشا بينما الحاشية أسفل والطرة من فوق، والهامشان من يمين وشمال.
 
عودة
أعلى