أيها الأفاضل هذا كلام بن القيم في كتابه القيم : مفتاح دار السعادة
بذلت وسعي في ترتيبه وتصحيحه من الناحية الإملائية وها هو في مشاركة مفردة حتى يكون الكلام مترابطا وفي سياق واحد ثم بعد ذلك تكون المشاركة حول الموضوع خاصة وأن بن القيم رحمه الله تعالى قد ختمه بكلمات فيها شيء من استنهاض الهمم وشيء من التحدي.
********
قال بن القيم في مفتاح دار السعادة : "....فإن قيل ما ذكرتموه من هذه الوجوه وأمثالها إنما يتم إذا قيل إن الجنة التي اسكنها آدم وأهبط منها جنة الخلد التي أعدت للمتقين والمؤمنين يوم القيامة وحينئذ يظهر سر اهبطاه وإخراجه منها ولكن قد قالت طائفة منهم أبو مسلم ومنذر بن سعيد البلوطي وغيرهما أنها إنما كانت جنة في الأرض في موضع عال منها لا أنها جنة المأوى التي أعدها الله لعباده المؤمنين يوم القيامة وذكر منذر بن سعيد هذا القول في تفسيره عن جماعة فقال وأما قوله لآدم اسكن أنت وزوجك الجنة فقالت طائفة اسكن الله تعالى آدم صلى الله عليه و سلم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له وأسكنه إياها ليست جنة الخلد قال وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجبة للقول به لان : 1. الجنة التي تدخل بعد القيامة هي من حيز الآخرة وفي اليوم الأخر تدخل ولم يأت بعد. 2. وقد وصفها الله تعالى لنا في كتابه بصفاتها ومحال إن يصف الله شيئا بصفة ثم يكون ذلك الشيء بغير تلك الصفة التي وصفها به والقول بهذا دافع لما اخبر الله به قالوا: · وجدنا الله تبارك وتعالى وصف الجنة التي أعدت للمتقين بعد قيام القيامة بدار المقامة ولم يقم آدم فيها. · ووصفها بأنها جنة الخلد ولم يخلد آدم فيها. · ووصفها بأنها دار جزاء ولم يقل إنها دار ابتلاء وقد ابتلى آدم فيها بالمعصية والفتنة · ووصفها بأنها ليس فيها حزن وأن الداخلين إليها يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وقد حزن فيها آدم. · ووجدناه سماها دار السلام ولم يسلم فيها آدم من الآفات التي تكون في الدنيا. · وسماها دار القرار ولم يستقر فيها آدم. · وقال فيمن يدخلها وما هم منها بمخرجين وقد اخرج منها آدم بمعصيته. · وقال لا يمسهم فيها نصب وقد ند آدم فيها هاربا فارا عند إصابته المعصية وطفق يخصف ورق الجنة على نفسه وهذا النصب بعينه الذي نفاه الله عنها. · وأخبر انه لا يسمع فيها لغو ولا تأثيم وقد أثم فيها آدم واسمع فيها ما هو اكبر من اللغو وهو انه أمر فيها بمعصية ربه وأخبر أنه لا يسمع فيها لغو ولا كذب وقد اسمعه فيها إبليس الكذب وغره وقاسمه عليه أيضا بعد أن اسمعه إياه. · وقد شرب آدم من شرابها الذي سماه في كتابه شرابا طهورا أي مطهرا من جميع الآفات المذمومة وآدم لم يطهر من تلك الآفات. · وسماها الله تعالى مقعد صدق وقد كذب إبليس فيها آدم ومقعد الصدق لا كذب فيه. · وعليون لم يكن فيه استحالة قط ولا تبديل ولا يكون بإجماع المصلين والجنة في أعلى عليين والله تعالى إنما قال إني جاعل في الأرض خليفة ولم يقل إني جاعله في جنة الماوى فقالت الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء "والملائكة اتقى لله من أن تقول مالا تعلم وهم القائلون لا علم لنا إلا ما علمتنا وفي هذا دلالة على أن الله قد كان أعلمهم أن بني آدم سيفسدون في الأرض وإلا فكيف كانوا يقولون مالا يعلمون والله تعالى يقول وقوله الحق : "لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعلمون "والملائكة لا تقول ولا تعمل إلا بما تؤمر به لا غير قال الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون. · والله تعالى أخبرنا أن إبليس قال لآدم "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " فإن كان قد اسكنه الله جنة الخلد والملك الذي لا يبلى فكيف لم يرد عليه نصيحته ويكذبه في قول فيقول وكيف تدلني على شيء أنا فيه قد أعطيته واخترته بل كيف لم يحث التراب في وجهه ويسبه لان إبليس لئن كان يكون بهذا الكلام مغويا له إنما كان يكون زاريا عليه لأنه إنما وعده على معصية ربه بما كان فيه لا زائدا عليه ومثل هذا لا يخاطب به إلا المجانين الذين لا يعقلون لان العوض الذي وعده به بمعصية ربه قد كان أحرزه وهو الخلد والملك الذي لا يبلى ولم يخبر الله آدم إذ اسكنه الجنة انه فيها من الخالدين ولو كان فيها من الخالدين لما ركن إلى قول إبليس ولا قبل نصيحته ولكنه لما كان في غير دار خلود غره بما أطمعه فيه من الخلد فقبل منه ولو اخبر الله آدم انه في دار الخلد ثم شك في خبر ربه لسماه كافرا ولما سماه عاصيا لان من شك في خبر الله فهو كافر ومن فعل غير ما أمره الله به وهو معتقد للتصديق بخبر ربه فهو عاص وإنما سمى الله آدم عاصيا ولم يسمه كافرا. · قالوا فإن كان آدم اسكن جنة الخلد وهي دار القدس التي لا يدخلها إلا طاهر مقدس فكيف توصل إليها إبليس الرجس النجس الملعون المذموم المدحور حتى فتن فيها آدم. · وإبليس فاسق قد فسق عن أمر ربه وليست جنة الخلد دار الفاسقين ولا يدخلها فاسق البتة إنما هي دار المتقين وإبليس غير تقي فبعد أن قيل له "اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" أنفسح له أن يرقى إلى جنة المأوى فوق السماء السابعة بعد السخط والإبعاد له بالعتو والاستكبار هذا مضاد لقوله تعالى "اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" فإن كانت مخاطبته آدم بما خاطبه به وقاسمه عليه ليس تكبرا فليس تعقل العرب التي أنزل القرآن بلسانها ما التكبر ولعل من ضعفت رويته وقصر بحثه أن يقول :إن إبليس لم يصل إليها ولكن وسوسته وصلت فهذا قول يشبه قائله ويشاكل معتقده وقول الله تعالى حكم بيننا وبينه وقوله تعالى : "وقاسمهما" يرد ما قال لأن المقاسمة ليست وسوسة ولكنها مخاطبة ومشافهة ولا تكون إلا من اثنين شاهدين غير غائبين ولا أحدهما ، ومما يدل على أن وسوسته كانت مخاطبة قول الله تعالى :" فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" فأخبر أنه قال له ودل ذلك على أنه إنما وسوس إليه مخاطبة لا انه أوقع ذلك في نفسه بلا مقاولة فمن ادعى على الظاهر تأويلا ولم يقم عليه دليلا لم يجب قبول قوله وعلى أن الوسوسة قد تكون كلاما مسموعا أو صوتا قال رؤبة:
وسوس يدعو مخلصا رب الفلق ... وقال الأعشى:
تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت ... كما استعان بريح كشرق زجل. · قالوا وفي قول إبليس لهما ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة دليل على مشاهدته لهما وللشجرة ولما كان آدم خارجا من الجنة وغير ساكن فيها قال الله : "الم أنهكما عن تلكما الشجرة" ولم يقل : "عن هذه الشجرة" كما قال له إبليس لان آدم لم يكن حينئذ في الجنة ولا مشاهدا للشجرة . · مع قوله عز و جل : "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" فقد اخبر سبحانه خبرا محكما غير مشتبه انه لا يصعد إليه إلا كلم طيب وعمل صالح وهذا مما قدمنا ذكره انه لا يلج المقدس المطهر إلا مقدس مطهر طيب ومعاذ الله أن تكون وسوسة إبليس مقدسة أو طاهرة أو خيرا بل هي شر كلها وظلمة وخبث ورجس تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وكما أن أعمال الكافرين لا تلج القدس الطاهر ولا تصل إليه لأنها خبيثة غير طيبة كذلك لا تصل ولم تصل وسوسة إبليس ولا ولجت القدس قال تعالى كلا إن كتاب الفجار لفي سجين. · وقد روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أن آدم نام في جنته وجنة الخلد لا نوم فيها بإجماع من المسلمين لان النوم وفاة وقد نطق به القرآن والوفاة تقلب حال ودار السلام مسلمة من تقلب الأحوال والنائم ميت أو كالميت. · قالوا وقد روى عنه صلى الله عليه و سلم انه قال لأم حارثة لما قالت له يا رسول الله إن حارثة قتل معك فإن كان صار إلى الجنة صبرت واحتسبت وان كان صار إلى ما سوى ذلك رأيت ما أفعل فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم أو جنة واحدة هي إنما هي جنان كثيرة فاخبر صلى الله عليه و سلم أن لله جنات كثيرة فلعل آدم اسكنه الله جنة من جنانه ليست هي جنة الخلد. · قالوا وقد جاء في بعض الأخبار أن جنة آدم كانت بأرض الهند قالوا وهذا وإن كان لا يصححه رواة الأخبار ونقلة الآثار فالذي تقبله الألباب ويشهد له ظاهر الكتاب أن جنة آدم ليست جنة الخلد ولا دار البقاء. · وكيف يجوز أن يكون الله أسكن آدم جنة الخلد ليكون فيها من الخالدين وهو قائل للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . · وكيف اخبر الملائكة انه يريد أن يجعل في الأرض خليفة ثم يسكنه دار الخلود ودار الخلود لا يدخلها إلا من يخلد فيها كما سميت بدار الخلود فقد سماها الله بالأسماء التي تقدم ذكرنا لها تسمية مطلقة لا خصوص فيها فإذا قيل للجنة دار الخلد لم يجزان ينقص مسمى هذا الاسم بحال. فهذا بعض ما احتج به القائلون بهذا المذهب وعلى هذا فإسكان آدم وذريته في هذه الجنة لا ينافي كونهم في دار الابتلاء والامتحان وحينئذ كانت تلك الوجوه والفوائد التي ذكرتموها ممكنة الحصول في الجنة . ***
فالجواب أن يقال هذا فيه قولان للناس ونحن نذكر القولين واحتجاج الفريقين ونبين ثبوت الوجوه التي ذكرناها وأمثالها على كلا القولين ونذكر أولا قول من قال أنها جنة الخلد التي وعدها الله المتقين وما احتجوا به وما نقضوا به حجج من قال إنها غيرها ثم نتبعها مقالة الآخرين وما احتجوا به وما أجابوا به عن حجج منازعيهم من غير انتصاب لنصرة احد القولين وإبطال الآخر إذ ليس غرضنا ذلك وإنما الغرض ذكر بعض الحكم والمصالح المقتضية لإخراج آدم من الجنة وإسكانه في الأرض في دار الابتلاء والامتحان وكان الغرض بذلك الرد على من زعم أن حكمة الله سبحانه تأبى إدخال آدم الجنة وتعريضه للذنب الذي اخرج منها به وأنه أي فائدة في ذلك والرد على أن من أبطل أن يكون له في ذلك حكمة وإنما هو صادر عن محض المشيئة التي لا حكمه الحكمة وراءها ولما كان المقصود حاصلا على كل تقدير سواء كانت جنة الخلد أو غيرها بينا الكلام على التقديرين ورأينا أن الرد على هؤلاء بدبوس السلاق لا يحصل غرضا ولا يزيل مرضا فسلكنا هذا السبيل ليكون قولهم مردودا على كل قول من أقوال الأمة وبالله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فنقول أما ما ذكرتموه من كون الجنة التي اهبط منها آدم ليست جنة الخلد وإنما هي جنة غيرها فهذا مما قد اختلف فيه الناس والأشهر عند الخاصة والعامة الذي لا يخطر بقلوبهم سواه أنها جنة الخلد التي أعدت للمتقين وقد نص غير واحد من السلف على ذلك واحتج من نصر هذا: 1. بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي بن حراش عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:
يجمع الله عز و جل الناس حتى يزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم" وذكر الحديث ، قالوا : فهذا يدل على أن الجنة التي اخرج منها آدم هي بعينها التي يطلب منه أن يستفتحها لهم.
2. قالوا ويدل عليه أن الله سبحانه قال "يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة " إلى قوله "اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" عقيب قوله اهبطوا فدل على أنهم لم يكونوا أولا في الأرض.
3. وأيضا فإنه سبحانه وصف الجنة التي أسكنها آدم بصفات لا تكون في الجنة الدنيوية فقال تعالى "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى " وهذا لا يكون في الدنيا أصلا ولو كان الرجل في أطيب منازلها فلا بد أن يعرض له الجوع والظمأ والتعري والضحى للشمس.
4. وأيضا فإنها لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وان ملكها يبلى.
5. وأيضا فإن قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في أن الجنة التي أخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال : ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36))
فهذا اهباط آدم وحواء وإبليس من الجنة ولهذا أتى فيه بضمير الجمع وقيل انه خطاب لهم وللحية وهذا يحتاج إلى نقل ثابت إذ لا ذكر للحية في شيء من قصة آدم وإبليس وقيل خطاب لآدم وحواء وأتى فيه بلفظ الجمع كقوله تعالى :" وكنا لحكمهم شاهدين " وقيل لآدم وحواء وذريتهما ، وهذه الأقوال ضعيفة غير الأول لأنها بين قول لا دليل عليه وبين ما يدل ظاهر الخطاب على خلافه فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وأنه من المهبطين من الجنة ثم قال تعالى : " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " وهذا الإهباط الثاني لا بد أن يكون غير الأول وهو إهباطه من السماء إلى الأرض وحينئذ فتكون الجنة التي اهبطوا منها الأول فوق السماء وهي جنة الخلد ، وقد ذهبت طائفة منهم الزمخشري إلى أن قوله : "اهبطوا منها جميعا " خطاب لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذرياتهما قال والدليل عليه قوله تعالى : "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى" وقال ويدل على ذلك قوله " فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى بعضكم لبعض عدو ما عليه الناس من التعادي والتباغض وتضليل بعضهم لبعض. وهذا الذي اختاره أضعف الأقوال في الآية فإن العداوة التي ذكرها الله إنما هي بين آدم وإبليس وذرياتهما كما قال تعالى : " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا" وأما آدم وزوجه فإن الله سبحانه أخبر في كتابه أنه خلقها منه ليسكن إليها وقال سبحانه : "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة " فهو سبحانه جعل المودة بين الرجل وزوجه وجعل العداوة بين آدم وإبليس وذرياتهما، ويدل عليه أيضا عود الضمير إليهم بلفظ الجمع وقد تقدم ذكر آدم وزوجه وإبليس في قولهم فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما فهؤلاء ثلاثة آدم وحواء وإبليس فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام ولا يعود على جميع المذكور مع أنه وجه الكلام فإن قيل فما تصنعون بقوله في سورة طه : "قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو" وهذا خطاب لآدم وحواء وقد أخبر بعداوة بعضهم بعضا ؟ قيل: إما أن يكون الضمير في قوله اهبطا راجعا إلى آدم وزوجه أو يكون راجعا إلى آدم وإبليس ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له . وعلى الثاني : فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالاهباط وهما آدم وإبليس. وعلى الأول تكون الآية قد اشتملت على أمرين : أحدهما: أمره لآدم وزوجه بالهبوط.
والثاني : جعله العداوة بين آدم وزوجه وإبليس ولا بد أن يكون إبليس داخلا في حكم هذه العداوة قطعا كما قال تعالى : "إن هذا عدو لك ولزوجك" وقال لذريته : "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا" وتأمل كيف اتفقت المواضع التي فيها العداوة على ضمير الجمع دون التثنية وأما ذكر الإهباط فتارة يأتي بلفظ ضمير الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة يأتي بلفظ الإفراد لإبليس وحده كقوله تعالى في سورة الأعراف:
" قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين * قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" فهذا الإهباط لإبليس وحده والضمير في قوله منها قيل إنه عائد إلى الجنة وقيل عائد إلى السماء وحيث أتى بصيغة الجمع كان لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم. وحيث أتى بلفظ التثنية فإما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة وأقدما على المعصية وإما أن يكون لآدم وإبليس إذ هما أبوا الثقلين فذكر حالهما وما آل إليه أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما والقولان محكيان في ذلك. وحيث أتى بلفظ الإفراد فهو لإبليس وحده. وأيضا فالذي يوضح أن الضمير في قوله : "اهبطا منها جميعا" لآدم وإبليس أن الله سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال : " وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتابه ربه فتاب عليه وهدى * قال اهبطا منها جميعا " وهذا يدل على أن المخاطب بالاهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا وهذا لأن المقصود إخبار الله تعالى لعباده المكلفين من الجن والإنس بما جرى على أبويهما من شؤم المعصية ومخالفة الأمر لئلا يقتدوا بهما في ذلك فذكر أبو الثقلين ابلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الأنس فقط وقد اخبر سبحانه عن الزوجة أنها أكلت مع آدم وأخبر انه أهبطه وأخرجه من الجنة بتلك الأكلة فعلم أن هذا اقتضاه حكم الزوجية وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم فكان تجريد العناية إلى ذكر الأبوين الذين هما اصل الذرية أولى من تجريدها إلى ذكر أبي الإنس وأمهم والله اعلم. وبالجملة فقوله : "اهبطوا بعضكم لبعض عدو" ظاهر في الجمع فلا يسوغ حمله على الاثنين في قوله : "اهبطا".
قالوا: وأما قولكم كيف وسوس له بعد إهباطه منها ومحال أن يصعد إليها بعد قوله تعالى " اهبط" فجوابه من وجوه: أحدهما: انه أخرج منها ومنع من دخولها على وجه السكنى والكرامة واتخاذها دارا فمن أين لكم أنه منع من دخولها على وجه الابتلاء والامتحان لآدم وزوجه ويكون هذا دخولا عارضا كما يدخل شرط دار من أمروا بابتلائه ومحنته وان لم يكونوا أهلا لسكنى تلك الدار. الثاني : أنه كان يدنو من السماء فيكلمهما ولا يدخل عليهما دارهما. الثالث: أنه لعله قام على الباب فناداهما وقاسمهما ولم يلج الجنة. الرابع : أنه قد روى انه أراد الدخول عليهما فمنعته الخزنة فدخل في فم الحية حتى دخلت به عليهما ولا يشعر الخزنة بذلك. 6. قالوا ومما يدل على أنها جنة الخلد بعينها أنها جاءت معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله "اسكن أنت وزوجك الجنة" ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة وإن كان في أصل الوضع عبارة عن البستان ذي الثمار والفواكه وهذا كالمدينة الطيبة والنجم للثريا ونظائرها فحيث ورد اللفظ معرفا بالألف واللام انصرف إلى الجنة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين وأما إن أريد به جنة غيرها فإنها تجيء منكرة كقوله جنتين من أعناب أو مقيدة بالإضافة كقوله :" ولولا إذ دخلت جنتك" أو مقيدة من السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض كقوله إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين" الآيات فهذا السياق والتقييد يدل على أنها بستان في الأرض.
7. قالوا وأيضا فإنه قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان وقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه و سلم بذلك كما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة. وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم قال اختصمت الجنة والنار فقالت الجنة مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وقالت النار مالي لا يدخلني إلا الجبارون والمتكبرون فقال للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، وقال للنار أنت عذابي أعذب بك من أشاء. الحديث ، وفي السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها قال فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها. الحديث ، وفي الصحيحين في حديث الإسراء: ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت ما هذا يا جبريل ؟ قال: أما النهران الظاهران فالنيل والفرات وأما الباطنان فنهران في الجنة . وفيه أيضا: ثم أدخلت الجنة فإذا جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك. وفي صحيح البخاري عن أنس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف قال قلت ما هذا يا جبريل قال هذا الكوثر الذي أعطاك ربك فضرب الملك بيده فإذا طينه مسك اذفر. وفي صحيح مسلم في حديث صلاة الكسوف أن النبي صلى الله عليه و سلم جعل يتقدم ويتأخر في الصلاة ثم أقبل على أصحابه فقال إنه عرضت لي الجنة والنار فقربت مني الجنة حتى لو تناولت منها قطفا لأخذته فلو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود في قوله تعالى: " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون" أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل فاطلع عليهم ربك إطلاعة فقال هل تشتهون شيئا ؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا. الحديث ، وفي الصحيح من حديث ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتاوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ عنا إخواننا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلوا عند الحرب فقال الله أنا ابلغهم عنكم فانزل الله عز و جل : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله" الآية ، وفي الموطأ من حديث كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه. وفي البخاري : أن إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما توفي قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن له مرضعا في الجنة. وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء. والآثار في هذا الباب أكثر من أن تذكرا. وأما القول بان الجنة والنار لم تخلقا بعد فهو قول أهل البدع من ضلال المعتزلة ومن قال بقولهم وهم الذين يقولون إن الجنة التي اهبط منها آدم إنما كانت جنة بشرقي الأرض وهذه الأحاديث وأمثالها ترد قولهم.
8. قالوا وأما احتجاجكم بسائر الوجوه التي ذكرتموها في الجنة وأنها منتفية في الجنة التي اسكنها آدم من اللغو والكذب والنصب والعرى وغير ذلك فهذا كله حق لا ننكره نحن ولا احد من أهل الإسلام ولكن هذا إنما هو إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة كما يدل عليه سياق الكلام وهذا لا ينفى أن يكون فيها بين آدم وإبليس ما حكاه الله عز و جل من الامتحان والابتلاء ثم يصير الأمر عند دخول المؤمنين إليها إلى ما أخبر الله عز و جل به فلا تنافي بين الأمرين.
9. قالوا وأما قولكم إن الجنة دار جزاء وثواب وليست دار تكليف وقد كلف الله سبحانه آدم فيها بالنهي عن الشجرة فجوابه من وجهين: أحدهما: انه إنما يمتنع أن تكون دار تكليف إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة فحينئذ ينقطع التكليف وأما امتناع وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل عليه. الثاني: إن التكليف فيها لم يكن بالأعمال التي يكلف بها الناس في الدنيا من الصيام والصلاة والجهاد ونحوها وإنما كان حجرا عليه في شجرة من جملة أشجارها وهذا لا يمتنع وقوعه في جنة الخلد كما أن كل أحد محجور عليه أن يقرب أهل غيره فيها فإن أردتم بأن الجنة ليست دار كيف امتناع وقوع مثل هذا فيها في وقت من الأوقات فلا دليل لكم عليه ، وإن أردتم أن غالب التكاليف التي تكون في الدنيا منتفية فيها فهو حق ولكن لا يدل على مطلوبكم قالوا وهذا كما أنه موجب الأدلة وقول سلف الأمة فلا يعرف بقولكم قائل من أئمة العلم ولا يعرج عليه ولا يلتفت إليه .
قال الأولون : الجواب عما ذكرتم من وجهين مجمل ومفصل : أما المجمل : فإنكم لم تأتوا على قولكم بدليل يتعين المصير إليه لا من قرآن ولا من سنة ولا أثر ثابت عن احد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا التابعين لا مسندا ولا مقطوعا ونحن نوجدكم من قال بقولنا هذا أحد أئمة الإسلام سفيان بن عيينة قال في قوله عز و جل : "إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى" قال : يعني في الأرض. وهذا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال في معارفه بعد أن ذكر خلق الله لآدم وزوجه إن الله سبحانه أخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ وهذا أبي قد حكى الحسن عنه أن آدم لما احتضر اشتهى قطفا من قطف الجنة فانطلق بنوه ليطلبوه له فلقيتهم الملائكة فقالوا أين تريدون يا بني آدم قالوا إن أبانا اشتهى قطفا من قطف الجنة . فقالوا لهم :ارجعوا فقد كفيتموه فانتهوا إليه فقبضوا روحه وغسلوه وحنطوه وكفنوه وصلى عليه جبريل وبنوه خلف الملائكة ودفنوه وقالوا هذه سنتكم في موتاكم . وهذا أبو صالح قد نقل عن ابن عباس في قوله : "اهبطوا منها" قال : هو كما يقال هبط فلان في أرض كذا وكذا وهذا وهب بن منبه يذكر آن آدم خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس وأنه كان بعدن وأن سيحون وجيحون والفرات انقسمت من النهر الذي كان في وسط الجنة وهو الذي كان يسقيها ، وهذا منذر بن سعيد البلوطي اختاره في تفسيره ونصره بما حكيناه عنه وحكاه في غير التفسير عن أبي حنيفة فيما خالفه فيه فلم قال بقوله في هذه المسألة ، وهذا أبو مسلم الأصبهاني صاحب التفسير وغيره احد الفضلاء المشهورين قال بهذا وانتصر له واحتج عليه بما هو معروف في كتابه وهذا أبو محمد عبد الحق بن عطية ذكر القولين في تفسيره في قصة آدم في البقرة ، وهذا أبو محمد بن حزم ذكر القولين في كتاب الملل والنحل له فقال : وكان المنذر بن سعيد القاضي يذهب إلى أن الجنة والنار مخلوقتان إلا أنه كان يقول إنها ليست هي التي كان فيها آدم وامرأته ، وممن حكى القولين أيضا أبو عيسى الرماني في تفسيره واختار أنها جنة الخلد ثم قال والمذهب الذي اخترناه قول الحسن وعمرو بن واصل وأكثر أصحابنا وهو قول أبي علي وشيخنا أبي بكر وعليه أهل التفسير وممن ذكر القولين أبو القاسم الراغب في تفسيره فقال : واختلف في الجنة التي اسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانا جعله الله له امتحانا ولم يكن جنة المأوى ثم قال ومن قال لم يكن جنة المأوى لأنه لا تكليف في الجنة وآدم كان مكلفا قال وقد قيل في جوابه: أنها لا تكون دار التكليف في الآخرة ولا يمتنع أن تكون في وقت دار تكليف دون وقت كما أن الإنسان يكون في وقت مكلفا دون وقت . وممن ذكر الخلاف في المسألة أبو عبد الله بن الخطيب الرازي في تفسيره فذكر هذين القولين وقولا ثالثا وهو التوقف قال لإمكان الجميع وعدم الوصول إلى القطع كما سيأتي حكاية كلامه ومن المفسرين من لم يذكر غير هذا القول وهو أنها لم تكن جنة الخلد إنما كانت حيث شاء الله من الأرض وقالوا كانت تطلع فيها الشمس والقمر وكان إبليس فيها ثم أخرج قال ولو كانت جنة الخلد لما اخرج منها ممن ذكر القولين أيضا أبو الحسن الماوردي فقال في تفسيره : واختلف في الجنة التي اسكناها على قولين :
أحدهما: أنها جنة الخلد. الثاني: أنها جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء وليست جنة الخلد التي جعلها الله دار جزاء. ومن قال بهذا اختلفوا فيه على قولين: أحدهما : أنها في السماء لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن. الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها دون غيرها من الثمار وهذا قول ابن يحيى وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم والله اعلم بصواب ذلك هذا كلامه.
وقال ابن الخطيب في تفسيره : اختلفوا في أن الجنة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنة التي هي دار الثواب وجنة الخلد أو جنة أخرى ؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني هذه الجنة في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى : "اهبطوا مصرا" القول الثاني : وهو قول الجبائي أن تلك كانت في السماء السابعة قال والدليل عليه قوله : "اهبطوا" ثم إن الإهباط الأول كان من السماء السابعة إلى السماء الأولى والإهباط الثاني كان من السماء إلى الأرض. والقول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الجنة هي دار الثواب والدليل عليه هو أن الألف واللام في لفظ الجنة لا يفيد العموم لان سكنى آدم جميع الجنان محال فلا بد من صرفها إلى المعهود السابق والجنة المعهودة المعلومة بين المسلمين هي دار الثواب فوجب صرف اللفظ إليها. قال والقول الرابع أن الكل ممكن والأدلة النقلية ضعيفة ومتعارضة فوجب التوقف وترك القطع. قالوا ونحن لا نقلد هؤلاء ولا نعتمد على ما حكى عنهم والحجة الصحيحة حكم بين المتنازعين. قالوا وقد ذكرنا على هذا القول ما فيه كفاية وأما الجواب المفصل فنحن نتكلم على ما ذكرتم من الحجج لينكشف وجه الصواب فنقول وبالله التوفيق:
أما استدلالكم بحديث أبي هريرة وحذيفة حين يقول الناس لآدم استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم فهذا الحديث لا يدل على أن الجنة التي طلبوا منه أن يستفتحها لهم هي التي أخرج منها بعينها فإن الجنة اسم جنس فكل بستان يسمى جنة كما قال تعالى : " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين " وقال تعالى:" وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا أو تكون لك جنة من نخيل وعنب" وقال تعالى : " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة" وقال تعالى : "واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل" إلى قوله : "ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله" فإن الجنة اسم جنس فهم لما طلبوا من آدم أن يستفتح لهم جنة الخلد اخبرهم بأنه لا يحسن منه أن يقدم على ذلك وقد أخرج نفسه وذريته من الجنة التي أسكنه الله إياها بذنبه وخطيئته هذا الذي دل عليه الحديث.
وأما كون الجنة التي أخرج منها هي بعينها التي طلبوا منه أن يستفتحها لهم فلا يدل الحديث عليه بشيء من وجوه الدلالات الثلاث ولو دل عليه لوجب المصير إلى مدلول الحديث وامتنع القول بمخالفته وهل مدارنا إلا على فهم مقتضى كلام الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
قالوا: وأما استدلالكم بالهبوط وأنه نزول من علو إلى سفل فجوابه من وجهين: أحدهما: أن الهبوط قد استنقل في النقلة من ارض إلى أرض كما يقال هبط فلان بلد كذا وكذا، وقال تعالى: "اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم" وهذا كثير في نظم العرب ونثرها قال : إن تهبطين بلاد قو ... م يرتعون من الطلاح وقد روى أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال هو كما يقال: هبط فلان أرض كذا وكذا. الثاني: أنا لا ننازعكم في أن الهبوط حقيقة ما ذكرتموه ولكن من أين يلزم أن تكون الجنة التي منها الهبوط فوق السموات فإذا كانت في أعلى الأرض أما يصح أن يقال هبط منها كما يهبط الحجر من أعلى الجبل إلى أسفله ونحوه وأما قوله تعالى : " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين" فهذا يدل على أن الأرض التي اهبطوا إليها لهم فيها مستقر ومتاع إلى حين ولا يدل على أنهم لم يكونوا في جنة عالية أعلى من الأرض التي اهبطوا إليها تخالف الأرض في صفاتها وأشجارها ونعيمها وطيبها فالله سبحانه فاوت بين بقاع الأرض أعظم تفاوت وهذا مشهود بالحس فمن أين لكم أن تلك لم تكن جنة تميزت عن سائر بقاع الأرض بما لا يكون إلا فيها ثم اهبطوا منها إلى الأرض التي هي محل التعب والنصب والابتلاء والامتحان وهذا بعينه هو الجواب عن استدلالكم بقوله تعالى : "إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى" إلى آخر ما ذكرتموه مع أن هذا حكم معلق بشرط والشرط لم يحصل فإنه سبحانه إنما قال ذلك عقيب قوله: " ولا تقربا هذه الشجرة " وقوله : " إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى " هو صيغة وعد مرتبطة بما قبلها والمعنى إن اجتنبت الشجرة التي نهيتك عنها ولم تقربها كان لك هذا الوعد والحكم المعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فلما أكل من الشجرة زال استحقاقه لهذا الوعد.
قال : وأما قولكم أنه لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله "هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" إلى آخره . فدعوى لا دليل عليها لأنه لا دليل لكم على أن الله سبحانه كان قد أعلم آدم حين خلقه أن الدنيا منقضية فانية وأن ملكها يبلى ويزول وعلى تقدير أن يكون آدم حينئذ قد أعلم ذلك فقول إبليس " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" لا يدل على انه أراد بالخلد مالا يتناهى فإن الخلد في لغة العرب هو اللبث الطويل كقولهم قيد مخلد وحبس مخلد وقد قال تعالى لثمود تبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون وكذلك قوله " وملك لا يبلى" يراد به الملك الطويل الثابت وأيضا فلا وجه للاعتذار عن قول إبليس مع تحقق كذبه ومقاسمته آدم وحواء على الكذب والله سبحانه قد أخبر أنه قاسمهما ودلاهما بغرور وهذا يدل على أنهما اغترا بقوله فغرهما بان أطمعهما في خلد الأبد والملك الذي لا يبلى وبالجملة فالاستدلال بهذا على كون الجنة التي سكنها آدم هي جنة الخلد التي وعدها المتقون غير بين.
ثم نقول لو كانت الجنة هي جنة الخلد التي لا يزول ملكها لكانت جميع أشجارها شجر الخلد فلم يكن لتلك الشجرة اختصاص من بين سائر الشجر بكونها شجرة الخلد وكان آدم يسخر من إبليس إذ قد علم أن الجنة دار الخلد .
فإن قلتم لعل آدم لم يعلم حينئذ ذلك فغره الخبيث وخدعه بأن هذه الشجرة وحدها هي شجرة الخلد. قلنا فاقنعوا منا بهذا الجواب بعينه عن قولكم لو كانت الجنة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في ذلك لأن قوله كان خداعا وغرورا محضا على كل تقدير فانقلب دليلكم حجة عليكم وبالله التوفيق.
قالوا : وأما قولكم إن قصة آدم في البقرة ظاهرة جدا في أن جنة آدم كانت فوق السماء فنحن نطالبكم بهذا الظهور ولا سبيل لكم إلى إثباته. قولكم انه كرر فيه ذكر الهبوط مرتين ولا بد أن يفيد الثاني غير ما أفاد الأول فيكون الهبوط الأول من الجنة والثاني من السماء فهذا فيه خلاف بين أهل التفسير : فقالت طائفة هذا القول الذي ذكرتموه ، وقالت طائفة منهم النقاش وغيره أن الهبوط الثاني إنما هو من الجنة إلى السماء والهبوط الأول إلى الأرض وهو آخر الهبوطين في الوقوع وإن كان أولهما في الذكر. وقالت طائفة أتى به على جهة التغليظ والتأكيد كما تقول للرجل أخرج أخرج وهذه الأقوال ضعيفة .
فأما القول الأول فيظهر ضعفه من وجوه: أحدها: أنه مجرد دعوى لا دليل عليها من اللفظ ولا من خبر يجب المصير إليه وما كان هذا سبيله لا يحمل القرآن عليه . الثاني: أن الله سبحانه قد اهبط إبليس لما امتنع من السجود لآدم اهباط كونيا قدريا لا سبيل له إلى التخلف عنه فقال تعالى : "اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج انك من الصاغرين" وقال في موضع آخر: "فاخرج منها فانك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين" وفي موضع آخر : " اخرج منها مذموما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين". وسواء كان الضمير في قوله منها راجعا إلى السماء أو إلى الجنة فهذا صريح في إهباطه وطرده ولعنه وادحاره والمدحور المبعد وعلى هذا فلو كانت الجنة فوق السموات لكان قد صعد إليها بعد اهباط الله له وهذا وان كان ممكنا فهو في غاية البعد عن حكمة الله ولا يقتضيه خبره فلا ينبغي أن يصار إليه وأما الوجوه الأربعة التي ذكرتموها من صعوده للوسوسة فهي مع أمر الله تعالى بالهبوط مطلقا وطرده ولعنه ودحوره لا دليل عليها لا من اللفظ ولا من الخبر الذي يجب المصير إليه وما هي إلا احتمالات مجردة وتقديرات لا دليل عليها. الثالث : أن سياق قصة اهباط الله تعالى لإبليس ظاهرة في أنه إهباط إلى الأرض من وجوه : أحدها : أنه سبحانه نبه على حكمة إهباطه بما قام به من التكبر المقتضى غاية ذله وطرده ومعاملته بنقيض قصده وهو إهباطه من فوق السموات إلى قرار الأرض ولا تقتضى الحكمة أن يكون فوق السماء مع كبره ومنافاة حاله لحال الملائكة الأكرمين. الثاني : أنه قال " فاخرج منها فإنك رجيم وأن عليك لعنتي إلى يوم الدين" وكونه رجيما ملعونا ينفى أن يكون في السماء بين المقربين المطهرين. الثالث: أنه قال " اخرج منها مذؤما مدحورا" وملكوت السموات لا يعلوه المذموم المدحور أبدا. وأما القول الثاني فهو القول الأول بعينه مع زيادة ما لا يدل عليه السياق بحال من تقديم ما هو مؤخر في الواقع وتأخير ما هو مقدم فيه فيرد بما رد به القول الذي قبله. وأما القول الثالث وهو أنه للتأكيد فإن أريد التأكيد اللفظي المجرد فهذا لا يقع في القرآن وان أريد به أنه مستلزم للتغليظ والتأكيد مع ما يشتمل عليه من الفائدة فصحيح. فالصواب أن يقال أعيد الإهباط مرة ثانية لأنه علق عليه حكما غير المعلق على الإهباط الأول ، فإنه علق على الأول عداوة بعضهم بعضا فقال : "اهبطوا بعضكم لبعض عدو " وهذه جملة حالية وهي اسمية بالضمير وحده عند الأكثرين والمعنى اهبطوا متعادين وعلق على الهبوط الثاني حكمين آخرين:
أحدهما: هبوطهم جميعا. والثاني :قوله " فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون " فكأنه قيل اهبطوا بهذا الشرط مأخوذا عليكم هذا العهد وهو أنه مهما جاءكم مني هدى فمن اتبعه منكم فلا خوف عليه ولا حزن يلحقه. ففي الإهباط الأول إيذان بالعقوبة ومقابلتهم على الجريمة، وفي الإهباط الثاني روح التسلية والاستبشار بحسن عاقبة هذا الهبوط لمن تبع هداي ومصيره إلى الأمن والسرور المضاد للخوف والحزن فكسرهم بالإهباط الأول وجبر من اتبع هداه بالاهباط الثاني على عادته سبحانه ولطفه بعباده وأهل طاعته كما كسر آدم بالإخراج من الجنة وجبره بالكلمات التي تلقاها منه فتاب عليه وهداه ومن تدبر حكمته سبحانه ولطفه وبره بعباده وأهل طاعته في كسره لهم ثم جبره بعد الانكسار كما يكسر العبد بالذنب ويذله به ثم يجبره بتوبته عليه ومغفرته له وكما يكسره بأنواع المصائب والمحن ثم يجبره بالعافية والنعمة انفتح له باب عظيم من أبواب معرفته ومحبته وعلم انه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأن ذلك الكسر هو نفس رحمته به وبره ولطفه وهو أعلم بمصلحة عبده منه ولكن العبد لضعف بصيرته ومعرفته بأسماء ربه وصفاته لا يكاد يشعر بذلك ولا ينال رضا المحبوب وقربه والابتهاج والفرح بالدنو منه والزلفى لديه الأعلى جسر من الذلة والمسكنة وعلى هذا قام أمر المحبة فلا سبيل إلى الوصول إلى المحبوب إلا بذلك كما قيل: تذلل لمن تهوى لتحظى بقربه ... فكم عزة قد نالها العبد بالذل إذا كان من تهوى عزيز او لم تكن ... ذليلا له فاقرا السلام على الوصل. وقال آخر: اخضع وذل لمن تحب فليس في ... شرع الهوى انف يشال ويقعد. وقال آخر: وما فرحت بالوصل نفس عزيزة ... وما العز إلا ذلها وانكسارها.
قالوا: وإذا علم أن إبليس اهبط من دار العز عقب امتناعه وإبائه من السجود لآدم ثبت أن وسوسته له ولزوجه كانت في غير المحل الذي اهبط منه والله اعلم.
قالوا: وأما قولكم أن الجنة إنما جاءت معرفة باللام وهي تنصرف إلى الجنة التي لا يعهد بنو آدم سواها ، فلا ريب أنها جاءت كذلك ولكن العهد وقع في خطاب الله تعالى آدم لسكناها بقوله :" اسكن أنت وزوجك الجنة فهي كانت معهودة عند آدم" ثم أخبرنا سبحانه عنها معرفا لها بلام التعريف فانصرف العرف بها إلى تلك الجنة المعهودة في الذهن وهي التي سكنها آدم ثم اخرج منها فمن أين في هذا ما يدل على محلها وموضعها بنفي أو إثبات؟
وأما مجيء جنة الخلد معرفة باللام فلأنها الجنة التي أخبرت بها الرسل لأممهم ووعدها الرحمن عباده بالغيب فحيث ذكرت انصرف الذهن إليها دون غيرها لأنها قد صارت معلومة في القلوب مستقرة فيها ولا ينصرف الذهن إلى غيرها ولا يتوجه الخطاب إلى سواها وقد جاءت الجنة في القرآن معرفة باللام والمراد بها بستان في بقعة من الأرض كقوله تعالى: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ اقسموا ليصرمنها مصبحين" فهذا لا ينصرف الذهن فيها إلى جنة الخلد ولا إلى جنة آدم بحال.
قالوا : وأما قولكم أنه قد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الجنة والنار مخلوقتان وإنه لم ينازع في ذلك إلا بعض أهل البدع والضلال واستدلالكم على وجود الجنة الآن فحق لا ننازعكم فيه وعندنا من الأدلة على وجودها أضعاف ما ذكرتم ولكن أي تلازم بين أن تكون جنة الخلد مخلوقة وبين أن تكون هي جنة آدم بعينها فكأنكم تزعمون أن كل من قال أن جنة آدم هي جنة في الأرض فلا بد له أن يقول إن الجنة والنار لم يخلقا بعد وهذا غلط منكم منشؤه من توهمكم أن كل من قال بأن الجنة لم تخلق بعد فإنه يقول إن جنة آدم هي في الأرض كذلك بالعكس أن كل من قال إن جنة آدم في الأرض فيقول إن الجنة لم تخلق. فأما الأول فلا ريب فيه ، وأما الثاني فوهم لا تلازم بينهما لا في المذهب ولا في الدليل فأنتم نصبتم دليلكم مع طائفة نحن وأنتم متفقون على إنكار قولهم ورده وإبطاله ولكن لا يلزم من هذا بطلان هذا القول الثالث وهذا واضح.
قالوا: وأما قولكم إن جميع ما نفاه الله سبحانه عن الجنة من اللغو والعذاب وسائر الآفات التي وجد بعضها من إبليس عدو الله فهذا إنما يكون بعد القيامة إذا دخلها المؤمنون كما يدل عليه السياق فجوابه من وجهين: أحدهما: أن ظاهر الخبر يقتضي نفيه مطلقا لقوله تعالى : " لا لغو فيها ولا تأثيم" ولقوله تعالى : " لا تسمع فيها لاغية" فهذا نفي عام لا يجوز تخصيصه إلا بمخصص بين ، والله سبحانه قد حكم بأنها دار الخلد حكما مطلقا فلا يدخلها إلا خالد فيها فتخصيصكم هذه التسمية بما بعد القيامة خلاف الظاهر. الثاني: إن ما ذكرتم إنما يصار إليه إذا قام الدليل السالم عن المعارض المقاوم أنها جنة الخلد بعينها وحينئذ يتعين المصير إلى ما ذكرتم ، فأما إذا لم يقم دليل سالم على ذلك ولم تجمع الأمة عليه فلا يسوغ مخالفة ما دلت عليه النصوص البينة بغير موجب والله اعلم.
قالوا: ومما يدل على أنها ليست جنة الخلد التي وعدها المتقون أن الله سبحانه لما خلق آدم اعلمه أن لعمره أجلا ينتهي إليه وأنه لم يخلقه للبقاء ويدل على هذا ما رواه الترمذي في جامعه قال حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا صفوان بن عيسى حدثنا الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذياب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال الحمد لله يا رب . فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملاء منهم جلوس فقل السلام عليكم قالوا وعليك السلام ، ثم رجع إلى ربه. فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. فقال الله له ويداه مقبوضتان اختر أيتهما شئت فقال أخترت يمين ربي كلتا يدي ربي يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته. قال : أي رب ما هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذريتك فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه فإذا رجل أضوؤهم أو من أضوئهم ، قال يا رب من هذا ؟ قال : هذا ابنك داود وقد كتبت له عمرا أربعين سنة. قال يا رب زد في عمره. قال : ذاك الذي كتبت له . قال أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال أنت وذاك. قال ثم اسكن الجنة ما شاء الله ثم اهبط منها وكان آدم يعد لنفسه فأتاه ملك الموت فقال له آدم قد عجلت أليس قد كتبت لي ألف سنة ؟ قال بلى ولكنك جعلت لابنك داود ستين سنة. فجحد فجحدت ذريته ونسى فنسيت ذريته. قال فمن يومئذ أمر بالكتاب والشهود. هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وروى من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم .
قالوا فهذا صريح في أن آدم لم يكن مخلوقا في دار الخلد التي لا يموت من دخلها وإنما خلق في دار الفناء التي جعل الله لها ولأهلها أجلا معلوما وفيها اسكن. فإن قيل فإذا كان آدم قد علم أن له عمرا ينتهي إليه وأنه ليس من الخالدين فكيف لم يكذب إبليس ويعلم بطلان قوله حيث قال له " هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى" بل جوز ذلك وأكل من الشجرة طمعا في الخلد ؟ فالجواب ما تقدم من الوجهين إما أن يكون المراد بالخلد المكث الطويل إلى أبد الأبد ، أو يكون عدوه إبليس لما قاسمه وزوجه وغيرهما وأطمعهما بدوامهما في الجنة نسى ما قدر له من عمره.
قالوا: والمعول عليه في ذلك قوله تعالى للملائكة :"إني جاعل في الأرض خليفة" وهذا الخليفة هو آدم باتفاق الناس ولما عجبت الملائكة من ذلك وقالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" عرفهم سبحانه أن هذا الخليفة الذي هو جاعله في الأرض ليس حاله كما توهمتم من الفساد بل أعلمه من علمي مالا تعلمونه ، فأظهر من فضله وشرفه بأن علمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فلم يعرفوها و قالوا "سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" وهذا يدل على أن هذا الخليفة الذي سبق به إخبار الرب تعالى لملائكته وأظهر تعالى فضله وشرفه وأعلمه بما لم تعلمه الملائكة وهو خليفة مجعول في الأرض لا فوق السماء.
فإن قيل قوله تعالى:" إني جاعل في الأرض خليفة" إنما هو بمعنى سأجعله في الأرض فهي مآله ومصيره وهذا لا ينافي أن يكون في جنة الخلد فوق السماء أولا ثم يصير إلى الأرض للخلافة التي جعلها الله له ، واسم الفاعل هنا بمعنى الاستقبال ولهذا انتصب عنه المفعول. فالجواب إن الله سبحانه أعلم ملائكته بأنه يخلقه لخلافة الأرض لا لسكنى جنة الخلود وخبره الصدق وقوله الحق وقد علمت الملائكة أنه هو آدم فلو كان قد اسكنه دار الخلود فوق السماء لم يظهر للملائكة وقوع المخبر ولم يحتاجوا إلى أن يبين لهم فضله وشرفه وعلمه المتضمن رد قولهم: " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " فإنهم إنما سألوا هذا السؤال في حق الخليفة المجعول في الأرض فأما من هو في دار الخلد فوق السماء فلم تتوهم الملائكة منه سفك الدماء والفساد في الأرض ولا كان إظهار فضله وشرفه وعلمه وهو فوق السماء رادا لقولهم وجوابا لسؤالهم بل الذي يحصل به جوابهم وضد ما توهموه إظهار تلك الفضائل والعلوم منه وهو في محل خلافته التي خلق لها وتوهمت الملائكة انه لا يحصل منه هناك إلا ضدها من الفساد وسفك الدماء وهذا واضح لمن تأمله . وأما اسم الفاعل وهو فاعل وإن كان بمعنى الاستقبال فلأن هذا إخبار عما سيفعله الرب تعالى في المستقبل من جعله الخليفة في الأرض وقد صدق وعده ووقع ما أخبر به وهذا ظاهر في أنه من أول الأمر جعله خليفة في الأرض. وأما جعله في السماء أولا ثم جعله خليفة في الأرض ثانيا وإن كان مما لا ينافي الاستخلاف المذكور فهو ممالا يقتضيه اللفظ بوجه بل يقتضى ظاهره خلافه فلا يصار إليه إلا بدليل يوجب المصير إليه وحوله ندندن.
قالوا: وأيضا فمن المعلوم الذي لا يخالف فيه مسلم أن الله سبحانه خلق آدم من تراب وهو تراب هذه الأرض بلا ريب كما روى الترمذي في جامعه من حديث عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والسهل والحزن والخبيث والطيب. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقد رواه الإمام احمد في مسنده من طرق عدة.
وقد أخبر سبحانه أنه خلقه من تراب وأخبر أنه خلقه من سلالة من طين وأخبر انه خلقه من صلصال من حمأ مسنون والصلصال قيل فيه هو الطين اليابس الذي له صلصلة ما لم يطبخ فإذا طبخ فهو فخار وقيل فيه هو المتغير الرائحة من قولهم صل إذا انتن والحمأ الطين الأسود المتغير والمسنون قيل المصبوب من سننت الماء إذا صببته وقيل المنتن المسن من قولهم سننت الحجر على الحجر إذا حككته فإذا سال بينهما شيء فهو سنين ولا يكون إلا منتنا وهذه كلها أطوار التراب الذي هو مبدؤه الأول كما أخبر عن خلق الذرية من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة وهذه أحوال النطفة التي هي مبدأ الذرية ولم يخبر سبحانه أنه رفعه من الأرض إلى فوق السموات لا قبل التخليق ولا بعده وإنما اخبر عن اسجاد الملائكة له وعن إدخاله الجنة وما جرى له مع إبليس بعد خلقه فأخبر سبحانه بالأمور الثلاثة في نسق واحد مرتبطا بعضها ببعض .
قالوا : فأين الدليل الدال على إصعاد مادته وإصعاده بعد خلقه إلى فوق السموات ؟ هذا مما لا دليل لكم عليه أصلا ولا هو لازم من لوازم ما أخبر الله به. قالوا: ومن المعلوم أن ما فوق السموات ليس بمكان للطين الأرضي المتغير الرائحة الذي قد انتن من تغيره وإنما محله هذا الأرض التي هي محل المتغيرات والفاسدات وأما ما كان فوق الأملاك فلا يلحقه تغير ولا نتن ولا فساد ولا استحاله قالوا وهذا أمر لا يرتاب فيه العقلاء.
قالوا : وقد قال تعالى :" وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ" فأخبر سبحانه أن هذا العطاء في جنة الخلد غير مقطوع وما أعطيه آدم فقد انقطع فلم تكن تلك جنة الخلد قالوا وأيضا فلا نزاع في أن الله تعالى خلق آدم في الأرض كما تقدم ولم يذكر في قصته أنه نقله إلى السماء ولو كان تعالى قد نقله إلى السماء لكان هذا أولى بالذكر لأنه من أعظم أنواع النعم عليه وأكبر أسباب تفضيله وتشريفه وأبلغ في بيان آيات قدرته وربوبيته وحكمته وأبلغ في بيان المقصود من عاقبة المعصية وهو الإهباط من السماء التي نقل إليها كما ذكر ذلك في حق إبليس فحيث لم يجيء في القرآن ولا في السنة حرف واحد أنه نقله إلى السماء ورفعه إليها بعد خلقه في الأرض علم أن الجنة التي أدخلها لم تكن هي جنة الخلد التي فوق السموات.
قالوا: وأيضا فإنه سبحانه قد اخبر في كتابه أنه لم يخلق عباده عبثا ولا سدى وأنكر على من زعم ذلك فدل على أن هذا مناف لحكمته ولو كانتا جنة آدم هي جنة الخلد لكانوا قد خلقوا في دار لا يؤمرون فيها ولا ينهون وهذا باطل بقوله : "أيحسب الإنسان أن يترك سدى" قال الشافعي وغيره معطلا لا يؤمر ولا ينهى. وقال : "أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا" فهو تعالى لم يخلقهم عبثا ولا تركهم سدى وجنة الخلد لا تكليف فيها.
قالوا : وأيضا فإنه خلقها جزاء للعاملين بقوله تعالى: " نعم أجر العالمين " وجزاء للمتقين بقوله:" ولنعم دار المتقين" ودار الثواب بقوله : "ثوابا من عند الله" فلم يكن ليسكنها إلا من خلقها لهم من العاملين ومن المتقين ومن تبعهم من ذرياتهم وغيرهم من الحور والولدان ، وبالجملة فحكمته تعالى اقتضت أنها لا تنال إلا بعد الابتلاء والامتحان والصبر والجهاد وأنواع الطاعات وإذا كان هذا مقتضى حكمته فإنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مطابق لها.
قالوا : فإذا جمع ما أخبر الله عز و جل به من أنه خلقه من الأرض وجعله خليفة في الأرض وأن إبليس وسوس له في مكانه الذي أسكنه فيه بعد أن اهبط إبليس من السماء وأنه أخبر ملائكته أنه جاعل في الأرض خليفة وأن دار الجنة لا لغو فيها ولا تأثيم وأن من دخلها لا يخرج منها أبدا وأن من دخلها ينعم لا يبأس وأنه لا يخاف ولا يحزن وأن الله سبحانه حرمها على الكافرين وعدو الله إبليس أكفر الكافرين فمحال أن يدخلها أصلا لا دخول عبور ولا دخول قرار وأنها دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان إلى غير ذلك مما ذكرناه من منافاة أوصاف جنة الخلد للجنة التي اسكنها آدم إذا جمع ذلك بعضه إلى بعض ونظر فيه بعين الإنصاف والتجرد عن نصرة المقالات تبين الصواب من ذلك والله المستعان.
قال الآخرون: بل الجنة التي أسكنها آدم عند سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد ومن قال إنها كانت جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتفسلفة والمعتزلة. والكتاب يرد هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول قال تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)) فقد أخبر سبحانه أنه أمرهم بالهبوط وان بعضهم لبعض عدو ثم قال ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين وهذا بين أنهم لم يكونوا في الأرض وإنما اهبطوا إلى الأرض فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا منها إلى أرض أخرى كما انتقل قوم موسى من أرض إلى أرض كان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط كما هو بعده وهذا باطل. قالوا: وقد قال تعالى في سورة الأعراف لما قال إبليس :" أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" " قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين" يبين اختصاص الجنة التي في السماء بهذا الحكم بخلاف جنة الأرض فإن إبليس كان غير ممنوع من التكبر فيها والضمير في قوله منها عائد إلى معلوم وإن كان غير مذكور في اللفظ لأن العلم به أغنى عن ذكره قالوا وهذا بخلاف قوله: " اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم" فإنه لم يذكر هنا ما اهبطوا منه وإنما ذكر ما اهبطوا إليه بخلاف اهباط إبليس فإنه ذكر مبدأ هبوطه وهو الجنة والهبوط يكون من علو إلى سفل وبنو إسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على مصر الذي يهبطون إليه ومن هبط من جبل إلى واد قيل له اهبط ، قالوا وأيضا فبنو إسرائيل كانوا يسيرون ويرحلون والذي يسير ويرحل إذا جاء بلدة يقال نزل فيها لان من عادته أن يركب في مسيره فإذا وصل نزل عن دوابه ، ويقال نزل العدو بأرض كذا ونزل القفل ونحوه ، ولفظ النزول كلفظ الهبوط فلا يستعمل نزل وهبط إلا إذا كان من علو إلى سفل وقال تعالى عقب قوله :" اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"" قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون" فهذا دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في مكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون والقرآن صريح في أنهم إنما صاروا إليه بعد الإهباط.
قالوا: ولو لم يكن في هذه إلا قصة آدم وموسى لكانت كافية فإن موسى صلى الله عليه و سلم إنما لام آدم عليه السلام لما حصل له ولذريته من الخروج من الجنة من النكد والمشقة فلو كانت بستانا في الأرض لكان غيره من بساتين الأرض يعوض عنه وموسى أعظم قدرا من أن يلومه على أن اخرج نفسه وذريته من بستان في الأرض.
قالوا: وكذلك قول آدم يوم القيامة لما يرغب إليه الناس أن يستفتح لهم باب الجنة فيقول وهل أخرجكم منها إلا خطيئة أبيكم. فإن ظهور هذا في كونها جنة الخلد وأنه اعتذر لهم بأنه لا يحسن منه أن يستفتحها وقد اخرج منها بخطيئته من أظهر الأدلة .
قال الأولون: أما قولكم إن من قال إنها جنة في الأرض فهو من المتفلسفة والملحدين والمعتزلة أو من إخوانهم فقد أوجدناكم من قال بهذا وليس من أحد من هؤلاء ، ومشاركة أهل الباطل للمحق في المسألة لا يدل على بطلانها ولا تكون إضافتها لهم موجبة لبطلانها ما لم يختص بها ، فإن أردتم أنه لم يقل بذلك إلا هؤلاء فليس كذلك وإن أردتم أن هؤلاء من جملة القائمين بهذا لم يفدكم شيئا.
قالوا: وأما قولكم وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول فنحن نطالبكم بنقل صحيح عن واحد من الصحابة ومن بعدهم من أئمة السلف فضلا عن اتفاقهم.
قالوا: ولا يوجد عن صاحب ولا تابع ولا تابع تابع خبر يصح موصولا ولا شاذا ولا مشهورا أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الله تعالى أسكن آدم جنة الخلد التي هي دار المتقين يوم المعاد.
قالوا وهذا القاضي منذر بن سعيد قد حكى عن غير واحد من السلف أنها ليست جنة الخلد فقال ونحن نوجدكم أن أبا حنيفة فقيه العراق ومن قال بقوله قد قالوا إن جنة آدم التي خلقها الله ليست جنة الخلد وليسوا عند أحد من العالمين من الشاذين بل من رؤساء المخالفين وهذه الدواوين مشحونة من علومهم وقد ذكرنا قول ابن عيينة وقد ذكر ابن مزين في تفسيره قال : سألت ابن نافع عن الجنة أمخلوقة ؟ فقال السكوت عن هذا أفضل. قالوا فلو كان عند ابن نافع أن الحنة التي اسكنها آدم هي جنة الخلد لم يشك أنها مخلوقة ولم يتوقف في ذلك وقال ابن قتيبة في كتابه غريب القرآن في قوله تعالى: " قلنا اهبطوا منها "قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أبي صالح هو كما يقال هبط فلان ارض كذا وكذا ولم يذكر في كتابه غيره فأين إجماع سلف الأمة وأئمتها؟ قالوا: وأما احتجاجكم بقوله تعالى :" ولكم في الأرض مستقر" عقيب قوله :" اهبطوا" فهذا لا يدل على أنهم كانوا في جنة الخلد فإن أحد الأقوال في المسألة أنها كانت جنة في السماء غير جنة الخلد كما حكاه الماوردي في تفسره وقد تقدم وأيضا فإن قوله : "ولكم في الأرض مستقر" يدل على أن لهم مستقرا إلى حين في الأرض المنقطعة عن الجنة ولا بد فإن الجنة أيضا لها أرض قال تعالى عن أهل الجنة : "وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين" فدل على أن قوله ولكم في الأرض مستقر المراد به الأرض الخالية من تلك الجنة لا كل ما يسمى أرضا وكان مستقرهم الأول في أرض الجنة ثم صار في أرض الابتلاء والامتحان ثم يصير مستقر المؤمنين يوم الجزاء أرض الجنة أيضا فلا تدل الآية على أن جنة آدم هي جنة الخلد. قالوا وهذا هو الجواب بعينه عن استدلالكم بقوله تعالى :" قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون" فإن المراد به الأرض التي اهبطوا إليها وجعلت مسكنا لهم بدل الجنة وهذا تفسير المستقر المذكور في البقرة مع تضمنه ذكر الإخراج منها.
قالوا : وأما قوله تعالى لإبليس :" اهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها" وقولكم إن هذا إنما هو في الجنة التي في السماء وإلا فجنة الأرض لم يمنع إبليس من التكبر فيها فهو دليل لنا في المسألة فإن جنة الخلد لا سبيل لإبليس إلى دخولها والتكبر فيها أصلا وقد اخبر تعالى انه وسوس لآدم وزوجه وكذبهما وغرهما وخانهما وتكبر عليهما وحسدهما وهما حينئذ في الجنة فدل على أنها لم تكن جنة الخلد ومحال أن يصعد إليها بعد إهباطه وإخراجه منها.
قالوا: والضمير في قوله : "اهبطوا منها" إما أن يكون عائدا إلى السماء كما هو أحد القولين وعلى هذا فيكون سبحانه قد أهبطه من السماء عقب امتناعه من السجود وأخبر أنه ليس له أن يتكبر ثم تكبر وكذب وخان في الجنة فدل على أنها ليست في السماء أو يكون عائدا إلى الجنة على القول الأخر ولا يلزم من هذا القول أن تكون الجنة التي كاد فيها آدم وغره قاسمه كاذبا في تلك التي اهبط منها بل القرآن يدل على أنها غيرها كما ذكرناه فعلى التقديرين لا تدل الآية على أن الجنة التي جرى لآدم مع إبليس ما جرى فيها هي جنة الخلد.
قالوا : وأما قولكم أن بني إسرائيل كانوا بجبال السراة المشرفة على الأرض التي يهبطون وهم كانوا يسيرون ويرحلون فلذلك قيل لهم اهبطوا فهذا حق لا ننازعكم فيه وهو بعينه جواب لنا فإن الهبوط يدل على أن تلك الجنة كانت أعلى من الأرض التي اهبطوا إليها وأما كونها جنة الخلد فلا. قالوا: والفرق بين قوله اهبطوا مصرا وقوله اهبطوا منها فإن الأول لنهاية الهبوط وغايته وهبطوا منها متضمن لمبدئه وأوله لا تأثير له فيما نحن فيه فإن هبط من كذا إلى كذا يتضمن معنى الانتقال من مكان عال إلى مكان سافل فأي تأثير لابتداء الغاية ونهايتها في تعيين محل الهبوط بأنه جنة الخلد.
قالوا : وأما قصة موسى ولومه لآدم على إخراجهم من الجنة فلا يدل على أنها جنة الخلد وقولكم لا يظن بموسى أنه يلوم آدم على إخراجه نفسه وذريته من بستان في الأرض تشنيع لا يفيد شيئا افترى كان ذلك بستانا مثل آحاد هذه البساتين المقطوعة المهوعة التي هي عرضة الآفات والتعب والنصب والظمأ والحرث والسقي والتلقيح وسائر وجوه النصب الذي يلحق هذه البساتين ولا ريب أن موسى عليه الصلاة و السلام أعلم واجل من أن يلوم آدم على خروجه وإخراج بنيه من بستان هذا شأنه ولكن من قال بهذا وإنما كانت جنة لا يلحقها آفة ولا تنقطع ثمارها ولا تغور أنهارها ولا يجوع ساكنها ولا يظمأ ولا يضحى للشمس ولا يعرى ولا يمسه فيها التعب والنصب والشقاء ومثل هذه الجنة يحسن لوم الإنسان على التسبب في خروجه منها.
قالوا: وأما اعتذار آدم عليه الصلاة و السلام يوم القيامة لأهل الموقف بأن خطيئته هي التي أخرجته من الجنة فلا يحسن أن يستفتحها لهم فهذا لا يستلزم أن تكون هي بعينها التي أخرج منها بل إذا كانت غيرها كان أبلغ في الاعتذار فإنه إذا كان الخروج من غير جنة الخلد حصل بسبب الخطيئة فكيف يليق استفتاح جنة الخلد والشفاعة فيها ثم خرج من غيرها بخطيئة.
فهذا موقف نظر الفريقين ونهاية أقدام الطائفتين فمن كان له فضل علم في هذه المسألة فليجد به فهذا وقت الحاجة إليه ومن علم منتهى خطوته ومقدار بضاعته فليكل الأمر إلى عالمه ولا يرضى لنفسه بالتنقيص والإزراء عليه وليكن من أهل التلول الذين هم نظارة الحرب إذا لم يكن من أهل الكر والفر والطعن والضرب فقد تلاقت الفحول وتطاعنت الأقران وضاق بهم المجال في حلبة هذا الميدان: إذا تلاقى الفحول في لجب ... فكيف حال الغصيص في الوسط. هذه معاقد حجج الطائفتين مجتازة ببابك وإليك تساق وهذه بضائع تجار العلماء ينادي عليها في سوق الكساد لا في سوق النفاق فمن لم يكن له به شيء من أسباب البيان والتبصرة فلا يعدم من قد استفرغ وسعه وبذل جهده منه التصويب والمعذرة ولا يرضى لنفسه بشر الخطتين وابخس الحظين جهل الحق وأسبابه ومعاداة أهله وطلابه وإذا عظم المطلوب وأعوزك الرفيق الناصح العليم فارحل بهمتك من بين الأموات وعليك بمعلم إبراهيم فقد ذكرنا في هذه المسألة من النقول والأدلة والنكت البديعة ما لعله لا يوجد في شيء من كتب المصنفين ولا يعرف قدره إلا من كان من الفضلاء المنصفين ومن الله سبحانه الاستمداد وعليه التوكل واليه الاستناد فإنه لا يخيب من توكل عليه ولا يضيع من لاذ به وفوض أمره إليه وهو حسبنا ونعم الوكيل .
يقول سيد قطب رحمه الله: "وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة . قصة البشرية الأولى . لقد قال الله تعالى للملائكة : { إني جاعل في الأرض خليفة } . . وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى . ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة؟ وفيم إذن كان بلاء آدم؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض ، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى؟ لعلني المح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعداداً . كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه . كانت تدريباً له على تلقي الغواية ، وتذوق العاقبة ، وتجرع الندامة ، ومعرفة العدو ، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين . إن قصة الشجرة المحرمة ، ووسوسة الشيطان باللذة ، ونسيان العهد بالمعصية ، والصحوة من بعد السكرة ، والندم وطلب المغفرة . . إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكرورة! لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته ، مزوداً بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلاً ، استعداداً للمعركة الدائبة وموعظة وتحذيراً . . وبعد . . مرة أخرى . . فأين كان هذا الذي كان؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان؟ ومن هم الملائكة؟ ومن هو إبليس؟ . . كيف قال الله تعالى لهم؟ وكيف أجابوه؟ . . . هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته ، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به ، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض ، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب . وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرّفه بأسرارها ، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب ، فيما لا جدوى له في معرفته . وما يزال الإنسان مثلاً على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلاً مطلقاً ، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة ، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر ، لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة ، بل ربما كان معوِّقا لها لو كشف للإنسان عنه! وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان ، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله . ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه ، لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره . وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع ، ذاهب سدى ، بلا ثمرة ولا جدوى .
وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للإطلاع على هذا الغيب المحجوب؛ فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر . . فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة . والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل ، وليست في طوق وسائله ، ولا هي ضرورية له في وظيفته! إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة .
ولكن أضر منه وأخطر ، التنكر للمجهول كله وإنكاره ، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده ، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق . فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه ، وحسبنا ما يقص لنا عنه ، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا ، ويصلح سرائرنا ومعاشنا . ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية ، ومن تصور للوجود وارتباطاته ، ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى . وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مروراً مجملا سريعاً . إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود ، وللقيم التي يوزن بها . ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه . . وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض؛ كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له . وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى ، وفي رعاية الله له أولاً وأخيراً . . ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور وفي عالم الواقع على السواء .
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصاً - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعاً . ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . . لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو تكثير أي عنصر مادي . . فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله . من أجل تحقيق إنسانيته . من أجل تقريروجوده الإنساني . فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية ، أو نقص مقوم من مقومات كرامته .
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول . فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج ولا توزيع الإنتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلاً سلبياً كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر! إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض ، عاملاً مهما في نظام الكون ، ملحوظا في هذا النظام .
ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي ، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - ( ابن الله بزعمهم ) قام به بصلبه ، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم! . . كلا!
خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة . وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور مريح صريح . يحمل كل إنسان وزره ، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط . . { إن الله تواب رحيم } هذا طرف من إيحاءات قصة آدم - في هذا الموضع - نكتفي به في ظلال القرآن . وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة؛ وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة؛ وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية ، يحكمها الخلق والخير والفضيلة . ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي؛ وإيضاح القيم التي يرتكز عليها . وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله ، متجه إلى الله ، صائر إلى الله في نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله ، والتقيد بمنهجه في الحياة . ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله ، أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان . وليس هناك طريق ثالث . . إما الله وإما الشيطان . إما الهدى وإما الضلال . إما الحق وإما الباطل . إما الفلاح وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الأولى ، التي تقوم عليها سائر التصورات ، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان"
بارك الله في أخينا أبي سعد الغامدي على اثارة هذا الموضوع القيم وهذه التفصيلات التي وضّحت كثيراً من اشكالات حقيقة الجنة التي أسكنها الله تعالى لادم وزوجه، وأسال الله تعالى دوام النفع بكم وبعلمكم،واسأل الله تعالى ان يعلمنا ما ينفعنا.