أبو فهر السلفي
New member
- إنضم
- 26/12/2005
- المشاركات
- 770
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
جنايات على العلم.. والمنهج ..(18) تضييع الغاية العظمى التي ترجى من البحث والنظر وتعلم العلم..
بسم الله والحمد لله..
نعم فمن أعظم الجنايات على العلم والمنهج = تضييع الغاية والهدف السامي للبحث والنظر وطلب العلم .ولاشك أن هناك غاية عظمى هي الإطار الخارجي لكل عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه من طلب علم وغيره وهي: بلوغ مراضي الله ومحابه بحيث يوصل ذلك إلى الجنة والفرار من مساخط الله ومعصيته وما يبغضه وما يعقب ذلك من استحقاق النار.
لكن هناك لكل عبادة غاية عليا تختص بها ،كما إن غاية الصلاة العليا الإتيان بأركانها وواجباتها ومستحباتها على وجه التمام والكمال،وكذلك طلب العلم ليس بدعاً ،بل له غاية عليا تختص به إذا فهمتها وعقلتها أعانك ذلك أيما إعانة على طلبك للعلم وعلى فهم مرادنا بالتفنن.ولما أضاع الناس-إلا من رحم-تلك الغاية أضلتهم عن الاجتهاد والإبداع والابتكار ووقعت بهم في وهدة التقليد والتبعية والتقرير والشرح المجرد.
وهذا أوان الفحص عن تلك الغاية ؛كي لا نُسرف في وصف الباطل من غير أن ندل على الحق..
فالغاية العليا لطلب أي علم من العلوم الشرعية هي بلوغ الهدي الأول ،واللسان الأول،وأعني بالهدي الأول :معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون وأتباعهم (القرون المفضلة) في هذا العلم ثم الأمثل فالأمثل بعد ذلك من الأئمة مالم يختلط كلامهم ومناهجهم بكلام ومناهج الفلاسفة والمتكلمين.
وأعني باللسان الأول: ذلك اللسان الذي عبر به الصدر الأول عن المعاني قبل أن يستبدل قوم الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولعل رجلاً يعجب فيقول: قد كان لمن سميتَ بعض كلام في أبواب العلم التي ندرسها اليوم ولكنهم لم يستوعبوا كل باب بالكلام وثمَ أبواب لم يطرقوها قط ..ثم هذا الصدر الأول ذاته قد اختلف أهله في كثير من مسائل العلم فأصاب بعضهم وأخطأ بعضُ،وإنما يَنْفُقُ قولك لو كانوا قد أجمعوا على شئ في أبواب العلم تلك ..أما وقد اختلفوا فأي هدي تأمرنا أن نطلب(؟؟)
ونكشف عجبه فنقول:
إن الله تبارك وتعالى بعث نبيَه بالهدى ودين الحق فكان فرقاناً فرق الله به بين الحق والباطل،فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم اشتد الناس في طلب الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكان من هذا الحق أبواباً بُينت بياناً ظاهراً لا عذر لأحد في الإعراض عنه ،ولا زالت بينة إلى يوم الناس هذا.
وكانت منه أبواب هي أبين ما تكون عند السلف الصالح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ولازالت بينة عند من رزقه الله معرفتها إلا أنها خفيت على أقوام آخرين أو عرفوها وأعرضوا عنها.
وكان من هذا الحق أبواب اختلف السلف في تمييزها اختلافاً محفوظاً أذن الله به ؛ليبتليهم وليجعل فرض معرفة هذا الحق والاجتهاد في طلبه من أعظم وأجل أبواب عبوديته.وجعل الله هذا الحق مفرقاً في المسلمين فيصيب بعضه بعضهم ويخطئ بعضهم بعضه،ويصيب الذي أخطأ أخرى،ويخطئ الذي أصاب أخرى،ولم يجعل الله عليهم من حرج ولم يحرمهم من أجر ما آمنوا واتقوا ولزموا البينة متى ظهرت لهم ولم يبغ بعضهم على بعض.
فطلب الهدي الأول الذي هو غاية كل طالب علم: هو طلب أبواب الحق هذه بمراتبها الثلاث ،مع معرفة قدر كل مرتبة وما يتعلق بها من أحكام،وأن يكون هذا الطلب وفق منهاج الصدر الأول في معرفة الحق،فيكون همُك معرفة الحق ،وأن تسلك لمعرفة الحق نهج وسبيل الصدر الأول في طلب الحق.
وأنت إذا تأملتَ أحوال هذا الصدر الأول وجدت منهاجهم في طلب الحق منهاجاً فطرياً سوياً وقوامه أمران:
الأول: السُنن والآثار؛يعرفون بها ما بلغه نبيهم عن ربهم جل وعلا وما بلغه نبيهم لصحابته،وما حُفظ عن الصحابة والتابعين وأتباعهم من سنن وهدي يُعين على فهم الوحيين،ثم ما يُنقل بعض ذلك عن أئمة الدين من كلام يكون دليلاً على الحق.
والثاني: العربية؛ ومعرفة أحكامها وسننها الذي يُفهم به مراد القرآن العربي ولسان النبي العربي وكلام العرب الأقحاح الذين حملوا هذا الدين إلينا.
ذلك أن الباطل يدخلُ على الإنسان من بابين:
الأول: قبول الكذب.
الثاني: الخطأ في تفسير الصدق.
فكان الاعتصام بالسنن وضبط أحكام نقلها وأحوال نقلتها عاصماً من قبول الكذب إلا ما شاء الله.
وكان الفقه بالعربية واللسان الأول وكيف كانت العرب تتصرف في لسانها الذي جاء الوحي به ،ثم الفقه بلسان كل متكلم من بعدُ وضبط أحكام فهم كلام المتكلم =عاصماً من الخطأ في تفسير الصدق إلا ما شاء الله.
فالواجب على من طلب علماً من العلوم إذا كان يروم الهدي الأول واللسان الأول أمور:
1-أن يطلبَ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام الله وكلام رسوله .
2-ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام التابعين وأتباعهم القرنين المفضلين بعد الصحابة.
4-ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام أئمة الهدى بعد القرون المفضلة وإلى زماننا هذا.
5-ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام أهل البدع من المعتزلة والأشاعرة وأضرابهم،وأن يُسميهم في ذلك بأسمائهم تلك فهم ما كتبوا في تلك العلوم إلا بمنهاج يتسق وأسماءهم تلك.
حتى إذا اجتمعت لديه مادة الباب وجب عليه أن يعلم:
6-أن اللسان الأول العربي الذي نزل به القرآن كان قد بدأ اختلاطه بألسنة المولدين وألسنة نقلة العلوم عن اليونانية في آخر دولة بني أمية.
7-وأن الهدي الأول الذي كانت عليه القرون المفضلة علماً وعملاً كان قد بدأ اختلاطه بما نقله المترجمون ونشرته المعتزلة وباقي الفرق الناقلة من مذاهب وآراء الفلاسفة.
8-ولازالت معاول الهدم تلك تعمل في بناء الهدي الأول قرناً من بعد قرن،فملأت المعتزلة والأشاعرة وأضرابهم أبواب الإيمان والسنة ضلالاً وبدعاً.وأثرُ بدع المعتزلة والأشاعرة المولدة من الفلاسفة على أبواب الإيمان والسنة=ليس خافياً على جمهرة المشتغلين بالعلم من أهل السنة ولله الحمد.
9-إلا أنَّ الذي غفل أو تغافل عنه أكثر المشتغلين بالعلوم الإسلامية ودسوا رؤوسهم في التراب فراراً منه ،وزعموا عدم وجوده تارة،أو قلته تارة أخرى،أو انحساره في علوم معينة تارة ثالثة=هو أثر مولودي الفلسفة(الاعتزال والتمشعر) على باقي العلوم الإسلامية (النحو والصرف والبلاغة واللغويات وأصول الفقه وعلوم الحديث وعلوم القرآن) لم ينجُ علم من علوم الإسلام من هذا الأثر،وكيف لعلم أن ينجو وجمهرة علماء كل علم بداية من القرن الثالث الهجري(وهو القرن الذي كتبت فيه أصول كتب العلم التي يرجع إليها الناس اليوم)هم من المعتزلة وإخوانهم.
10-وأئمة المعتزلة لم يشغلوا أنفسهم بضبط منهج التلقي والاستدل كما كان عليه الصدر الأول ،وإنما شقوا لأنفسهم منهجاً علمياً ورثوه عن كتب الفلسفة اليونانية ،ومن البين اللائح : أنهم حين يكتبون في أبواب العلم المختلفة إنما يصدرون عن هذا المنهج الذي امتلأت به قلوبهم،فأنى لنا أن نزعم أن كتاباتهم هذه ستكون موافقة للهدي الأول(؟؟)
11-وهذا المنهج الذي ساروا عليه هو عين المنهج الذي سطروا وفقه مذاهبهم في الإيمان والسنة ،ومعركتهم مع مخالفيهم في الإيمان والسنة هي أم المعارك،وكانوا واعين متنبهين لذلك،فما كتبوا في علم من العلوم إلا وأصولهم ومذاهبهم في الإيمان والسنة أمام أعينهم يشدون بما يكتبون في كل علم تلك الأصول ويعضدونها.ومن كان منهم غافلاً عن هذا ،فيكفي وحدة المنهج العلمي المأخوذ عن الفلسفة اليونانية =ليُخرج ما يكتبه عن سنن الهدي الأول.
12-وبواسطة معبر المعتزلة هذا وقع الأشاعرة وإخوانهم فيما وقع فيه المعتزلة فمقل ومستكثر حتى كان قرن الرازي فلم يبق بين الأشاعرة والمعتزلة فروق كبيرة في المنهج،وكان الأشاعرة من القرن الخامس قد تسلموا راية التصنيف في العلوم من المعتزلة.
فباتت الغاية العليا لطالب العلم أن يُخلِّص المنهج الحق من المنهج الباطل في كل علم من العلوم ،وأن يعلم أن اتباع الهدي الأول في دراسة العلوم ليس هو فقط معرفة الحق في نفس الأمر في كل مسألة،بل هو قبل ذلك دراسة مسائل العلم وفق المنهج الإسلامي لصحيح..منهج الصدر الأول..وأن يُخلِّص هذا المنهج من كل قاعدة فلسفية، وأصل يوناني ،وطريقة اعتزالية ومسلك أشعري= في تلقي مسائل العلم ودراستها ومعالجتها.وأن يعلم أنه لن يسطيع بيان الحق الذي كان عليه الصدر الأول مالم يفقه الباطل الذي خرج إليه من حاد عن سنن الصدر الأول .
وإذاً: فالسلف وإن لم يتكلموا في كل علم وإن لم يتكلموا في كل مسألة من مسائل العلم =فقد كان لهم منهج فطري في تناول أبواب العلم وقد هدى الله لهذا المنهج من يشاء ممن بعدهم ومن الأئمة الأربعة ومن عاصرهم ومن بعدهم وضل عنه أكثر الناس،فكان الواجبُ طلبُ هذا المنهج والوقوف عليه ودراسة مسائل العلم على سننه ،ومحاولة تقيل طريقة السلف وقول وفعل ما كانوا ليقولوه وليفعلوه لو كانوا هم درسوه وتكلموا فيه.
ولن تعدمَ وأنت تقرأ في مناهج المحدثين والنحويين والأصوليين وغيرهم من يتقيل هذا المنهج ولكنهم قليل من قليل.
ولا يهولنك أو تغتر بأنك تجد أقواماً من أهل السنة واتباع السلف قد قالوا أو كتبوا أو وافقوا شيئاً مما يجري على أصول وقواعد الفلاسفة والمتكلمين،وأخطأوا إصابة نهج السلف،ولتعلم أن الباطل لا يأتي خالصاً قط بل لابد أن يكون مشوباً بشئ من الحق،ووأن الكذب لا يأتي صريحاً قط،بل لابد وأن يُزين بشئ من الصدق؛ولذا ربما راج على نفر ممن طلبوا منهج السلف وأعرضوا عن مناهج المتكلمين=شئ غير قليل من طرائق أولئك.
ولتعلم أن هذا الأمر الذي ندعو إليه جد صعب وأن طريقه شاق عسير،فنفض غبار اثني عشر قرناً بما فيها من ظلام كثير ونور قليل ومحاولة العودة للنور الغالب في الصدر الأول=من أشق ما يكون على فرد واحد ..ولكن إن كثر السالكون هان الوعر.
ولتعلم أن أقواماً ممن سبقونا من أهل العلم قد حاولوا هذا الباب حتى فتقوا فيه أشياء وهداهم الله إلى شئ غير قليل من الهدي الأول ،كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم .
إلا أنهم ابتلوا برجلين:
الأول: من لا يزال مستمسكاً بزبالات الفلاسفة التي ورثها عن كتب النحو والبلاغة والأصول والحديث،يَعُدُ تحريرات هؤلاء الأئمة مجرد رأي خالفوا فيه من هو أقدم منهم وأعلم غافلاً عن أن هذا كان من هؤلاء الأئمة خرق وكشف لحجاب الظلام العائق عن تبين النور الأول،وإن أحسن هذا الرجل قبل ما أتى به الشيخان وأضرابهم في بعض الأبواب كالاعتقاد والسنة،كأن أئمته يلبسون ثوب السلفية إن تكلموا في النحو والبلاغة ثم يضعوه على المشجب مرتدين ثوب البدعة إن تكلموا في الاعتقاد والسنة.
الثاني: من يظن أن الشيخين وأضرابهما قد أصابوا من باب الكشف عن الهدي الأول=كل شئ،وأنهم ما أخطأوا منه شئ..فإن جئتَ تقول له: ليست المسألة الفلانية مما يجري على أصول السلف بل هي جارية على أصول المتكلمين صك وجهك بقوله: كيف وقد تكلم بها شيخ الإسلام(؟؟)
وكيف ولم يُنبه على ذلك شيخ الإسلام(؟؟)
وغفلوا أولئك عن أن الجبهة أعرض من أن يبلغ الصواب فيها ويملك زمام الحق منها واحد من الناس مهما بلغ كمال عقله ووفور علمه ورجاحة رأيه،وأن زمان عيش الشيخ وأضرابه كان حافلاً بآلاف المسائل التي ضل الناس فيها عن الهدي الأول،وأن أعمارهم محال أن تستوعب الكشف عن كل ضلالة أو حتى تبينها .
فباب الاجتهاد-لمن كان أهلاً له-مفتوح على مصراعيه لكل من رام درس العلوم درساً على منهاج السلف الصالح ،ولكل من رام أن يهدم لبنة في ذلكم البناء المتطاول الذي بناه المعتزلة والأشاعرة في النحو والبلاغة والأصول والحديث على أساس من المنهج الفلسفي اليوناني . وكل من تم له ما ندعوا إليه = تم له شرط التجديد في العلم.
يبقى سؤال مهم: ألا يكون أبداً في كلام أولئك العلماء المصنفين في العلوم =حق يستحق أن يُقبل(؟؟)
أم كل ما قالوه باطل يجب رفضه(؟؟).
والجواب: أن دينَنا علمنا أنه حتى إبليس يُجري اللهُ الحق على لسانه،وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق من يهودي وأقره عليه.
لكنَّ الواجبَ معرفتُه أنه ما من مسألة شرعية أو قدرية،من خلق الله أو أمره،إلا وبيانُها الشافي في الفرقان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم،وطريق الوصول إليها وفق منهج الصدر الأول ممكن غير متعذر ولا ممتنع.
وهل يُمكن لأهل البدع والمناهج الفلسفية والطرق الكلامية أن يَصلوا لشئ من الحق إذا ساروا على مناهجهم تلك(؟؟)
نعم.هذا ممكن غير ممتنع .كما أن المقلد تقليداً محرماً أو المتعصب لشيخه وإمامه قد يُوافق القول الحق تبعاً لشيخه،وما إصابته للحق برافعة عنه إثم سلوكه لطريق غير شرعي في إصابة هذا الحق.فالواجب عدم الاغترار بالحق الذي في كلام أولئك اغتراراً يقود إلى الغفلة عن إعراضهم عن طريق السلف الصالح في التلقي والاستدلال.
فإن وجد منهم-وهو موجود-من يصيبُ الحقَ وفق الطريق الشرعي المأذون به=طريق الصدر الأول ومنهاجه=فأهلاً وحيهلا وهو خير فيهم يُحمد ولا يذم بل يُذكر فيُشكر.
وثم جهة أخرى للصواب في كلام أولئك ترجع لإصابتهم للحق بما بقي معهم من نور الإسلام ،وترجع لسلامة شيء من مناهجهم،وترجع لنوع من البحث الصناعي الذي لا يتعارض مع مع ما قررناه. ولكن لم يتم لي تحرير عبارتها بعدُ فأرجئها إلى حين..
والحمد لله وحده..
بسم الله والحمد لله..
نعم فمن أعظم الجنايات على العلم والمنهج = تضييع الغاية والهدف السامي للبحث والنظر وطلب العلم .ولاشك أن هناك غاية عظمى هي الإطار الخارجي لكل عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه من طلب علم وغيره وهي: بلوغ مراضي الله ومحابه بحيث يوصل ذلك إلى الجنة والفرار من مساخط الله ومعصيته وما يبغضه وما يعقب ذلك من استحقاق النار.
لكن هناك لكل عبادة غاية عليا تختص بها ،كما إن غاية الصلاة العليا الإتيان بأركانها وواجباتها ومستحباتها على وجه التمام والكمال،وكذلك طلب العلم ليس بدعاً ،بل له غاية عليا تختص به إذا فهمتها وعقلتها أعانك ذلك أيما إعانة على طلبك للعلم وعلى فهم مرادنا بالتفنن.ولما أضاع الناس-إلا من رحم-تلك الغاية أضلتهم عن الاجتهاد والإبداع والابتكار ووقعت بهم في وهدة التقليد والتبعية والتقرير والشرح المجرد.
وهذا أوان الفحص عن تلك الغاية ؛كي لا نُسرف في وصف الباطل من غير أن ندل على الحق..
فالغاية العليا لطلب أي علم من العلوم الشرعية هي بلوغ الهدي الأول ،واللسان الأول،وأعني بالهدي الأول :معرفة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون وأتباعهم (القرون المفضلة) في هذا العلم ثم الأمثل فالأمثل بعد ذلك من الأئمة مالم يختلط كلامهم ومناهجهم بكلام ومناهج الفلاسفة والمتكلمين.
وأعني باللسان الأول: ذلك اللسان الذي عبر به الصدر الأول عن المعاني قبل أن يستبدل قوم الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولعل رجلاً يعجب فيقول: قد كان لمن سميتَ بعض كلام في أبواب العلم التي ندرسها اليوم ولكنهم لم يستوعبوا كل باب بالكلام وثمَ أبواب لم يطرقوها قط ..ثم هذا الصدر الأول ذاته قد اختلف أهله في كثير من مسائل العلم فأصاب بعضهم وأخطأ بعضُ،وإنما يَنْفُقُ قولك لو كانوا قد أجمعوا على شئ في أبواب العلم تلك ..أما وقد اختلفوا فأي هدي تأمرنا أن نطلب(؟؟)
ونكشف عجبه فنقول:
إن الله تبارك وتعالى بعث نبيَه بالهدى ودين الحق فكان فرقاناً فرق الله به بين الحق والباطل،فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم اشتد الناس في طلب الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فكان من هذا الحق أبواباً بُينت بياناً ظاهراً لا عذر لأحد في الإعراض عنه ،ولا زالت بينة إلى يوم الناس هذا.
وكانت منه أبواب هي أبين ما تكون عند السلف الصالح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ولازالت بينة عند من رزقه الله معرفتها إلا أنها خفيت على أقوام آخرين أو عرفوها وأعرضوا عنها.
وكان من هذا الحق أبواب اختلف السلف في تمييزها اختلافاً محفوظاً أذن الله به ؛ليبتليهم وليجعل فرض معرفة هذا الحق والاجتهاد في طلبه من أعظم وأجل أبواب عبوديته.وجعل الله هذا الحق مفرقاً في المسلمين فيصيب بعضه بعضهم ويخطئ بعضهم بعضه،ويصيب الذي أخطأ أخرى،ويخطئ الذي أصاب أخرى،ولم يجعل الله عليهم من حرج ولم يحرمهم من أجر ما آمنوا واتقوا ولزموا البينة متى ظهرت لهم ولم يبغ بعضهم على بعض.
فطلب الهدي الأول الذي هو غاية كل طالب علم: هو طلب أبواب الحق هذه بمراتبها الثلاث ،مع معرفة قدر كل مرتبة وما يتعلق بها من أحكام،وأن يكون هذا الطلب وفق منهاج الصدر الأول في معرفة الحق،فيكون همُك معرفة الحق ،وأن تسلك لمعرفة الحق نهج وسبيل الصدر الأول في طلب الحق.
وأنت إذا تأملتَ أحوال هذا الصدر الأول وجدت منهاجهم في طلب الحق منهاجاً فطرياً سوياً وقوامه أمران:
الأول: السُنن والآثار؛يعرفون بها ما بلغه نبيهم عن ربهم جل وعلا وما بلغه نبيهم لصحابته،وما حُفظ عن الصحابة والتابعين وأتباعهم من سنن وهدي يُعين على فهم الوحيين،ثم ما يُنقل بعض ذلك عن أئمة الدين من كلام يكون دليلاً على الحق.
والثاني: العربية؛ ومعرفة أحكامها وسننها الذي يُفهم به مراد القرآن العربي ولسان النبي العربي وكلام العرب الأقحاح الذين حملوا هذا الدين إلينا.
ذلك أن الباطل يدخلُ على الإنسان من بابين:
الأول: قبول الكذب.
الثاني: الخطأ في تفسير الصدق.
فكان الاعتصام بالسنن وضبط أحكام نقلها وأحوال نقلتها عاصماً من قبول الكذب إلا ما شاء الله.
وكان الفقه بالعربية واللسان الأول وكيف كانت العرب تتصرف في لسانها الذي جاء الوحي به ،ثم الفقه بلسان كل متكلم من بعدُ وضبط أحكام فهم كلام المتكلم =عاصماً من الخطأ في تفسير الصدق إلا ما شاء الله.
فالواجب على من طلب علماً من العلوم إذا كان يروم الهدي الأول واللسان الأول أمور:
1-أن يطلبَ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام الله وكلام رسوله .
2-ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
3- ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام التابعين وأتباعهم القرنين المفضلين بعد الصحابة.
4-ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام أئمة الهدى بعد القرون المفضلة وإلى زماننا هذا.
5-ثم يطلبُ ما يتعلق بكل مسألة من مسائل هذا العلم في كلام أهل البدع من المعتزلة والأشاعرة وأضرابهم،وأن يُسميهم في ذلك بأسمائهم تلك فهم ما كتبوا في تلك العلوم إلا بمنهاج يتسق وأسماءهم تلك.
حتى إذا اجتمعت لديه مادة الباب وجب عليه أن يعلم:
6-أن اللسان الأول العربي الذي نزل به القرآن كان قد بدأ اختلاطه بألسنة المولدين وألسنة نقلة العلوم عن اليونانية في آخر دولة بني أمية.
7-وأن الهدي الأول الذي كانت عليه القرون المفضلة علماً وعملاً كان قد بدأ اختلاطه بما نقله المترجمون ونشرته المعتزلة وباقي الفرق الناقلة من مذاهب وآراء الفلاسفة.
8-ولازالت معاول الهدم تلك تعمل في بناء الهدي الأول قرناً من بعد قرن،فملأت المعتزلة والأشاعرة وأضرابهم أبواب الإيمان والسنة ضلالاً وبدعاً.وأثرُ بدع المعتزلة والأشاعرة المولدة من الفلاسفة على أبواب الإيمان والسنة=ليس خافياً على جمهرة المشتغلين بالعلم من أهل السنة ولله الحمد.
9-إلا أنَّ الذي غفل أو تغافل عنه أكثر المشتغلين بالعلوم الإسلامية ودسوا رؤوسهم في التراب فراراً منه ،وزعموا عدم وجوده تارة،أو قلته تارة أخرى،أو انحساره في علوم معينة تارة ثالثة=هو أثر مولودي الفلسفة(الاعتزال والتمشعر) على باقي العلوم الإسلامية (النحو والصرف والبلاغة واللغويات وأصول الفقه وعلوم الحديث وعلوم القرآن) لم ينجُ علم من علوم الإسلام من هذا الأثر،وكيف لعلم أن ينجو وجمهرة علماء كل علم بداية من القرن الثالث الهجري(وهو القرن الذي كتبت فيه أصول كتب العلم التي يرجع إليها الناس اليوم)هم من المعتزلة وإخوانهم.
10-وأئمة المعتزلة لم يشغلوا أنفسهم بضبط منهج التلقي والاستدل كما كان عليه الصدر الأول ،وإنما شقوا لأنفسهم منهجاً علمياً ورثوه عن كتب الفلسفة اليونانية ،ومن البين اللائح : أنهم حين يكتبون في أبواب العلم المختلفة إنما يصدرون عن هذا المنهج الذي امتلأت به قلوبهم،فأنى لنا أن نزعم أن كتاباتهم هذه ستكون موافقة للهدي الأول(؟؟)
11-وهذا المنهج الذي ساروا عليه هو عين المنهج الذي سطروا وفقه مذاهبهم في الإيمان والسنة ،ومعركتهم مع مخالفيهم في الإيمان والسنة هي أم المعارك،وكانوا واعين متنبهين لذلك،فما كتبوا في علم من العلوم إلا وأصولهم ومذاهبهم في الإيمان والسنة أمام أعينهم يشدون بما يكتبون في كل علم تلك الأصول ويعضدونها.ومن كان منهم غافلاً عن هذا ،فيكفي وحدة المنهج العلمي المأخوذ عن الفلسفة اليونانية =ليُخرج ما يكتبه عن سنن الهدي الأول.
12-وبواسطة معبر المعتزلة هذا وقع الأشاعرة وإخوانهم فيما وقع فيه المعتزلة فمقل ومستكثر حتى كان قرن الرازي فلم يبق بين الأشاعرة والمعتزلة فروق كبيرة في المنهج،وكان الأشاعرة من القرن الخامس قد تسلموا راية التصنيف في العلوم من المعتزلة.
فباتت الغاية العليا لطالب العلم أن يُخلِّص المنهج الحق من المنهج الباطل في كل علم من العلوم ،وأن يعلم أن اتباع الهدي الأول في دراسة العلوم ليس هو فقط معرفة الحق في نفس الأمر في كل مسألة،بل هو قبل ذلك دراسة مسائل العلم وفق المنهج الإسلامي لصحيح..منهج الصدر الأول..وأن يُخلِّص هذا المنهج من كل قاعدة فلسفية، وأصل يوناني ،وطريقة اعتزالية ومسلك أشعري= في تلقي مسائل العلم ودراستها ومعالجتها.وأن يعلم أنه لن يسطيع بيان الحق الذي كان عليه الصدر الأول مالم يفقه الباطل الذي خرج إليه من حاد عن سنن الصدر الأول .
وإذاً: فالسلف وإن لم يتكلموا في كل علم وإن لم يتكلموا في كل مسألة من مسائل العلم =فقد كان لهم منهج فطري في تناول أبواب العلم وقد هدى الله لهذا المنهج من يشاء ممن بعدهم ومن الأئمة الأربعة ومن عاصرهم ومن بعدهم وضل عنه أكثر الناس،فكان الواجبُ طلبُ هذا المنهج والوقوف عليه ودراسة مسائل العلم على سننه ،ومحاولة تقيل طريقة السلف وقول وفعل ما كانوا ليقولوه وليفعلوه لو كانوا هم درسوه وتكلموا فيه.
ولن تعدمَ وأنت تقرأ في مناهج المحدثين والنحويين والأصوليين وغيرهم من يتقيل هذا المنهج ولكنهم قليل من قليل.
ولا يهولنك أو تغتر بأنك تجد أقواماً من أهل السنة واتباع السلف قد قالوا أو كتبوا أو وافقوا شيئاً مما يجري على أصول وقواعد الفلاسفة والمتكلمين،وأخطأوا إصابة نهج السلف،ولتعلم أن الباطل لا يأتي خالصاً قط بل لابد أن يكون مشوباً بشئ من الحق،ووأن الكذب لا يأتي صريحاً قط،بل لابد وأن يُزين بشئ من الصدق؛ولذا ربما راج على نفر ممن طلبوا منهج السلف وأعرضوا عن مناهج المتكلمين=شئ غير قليل من طرائق أولئك.
ولتعلم أن هذا الأمر الذي ندعو إليه جد صعب وأن طريقه شاق عسير،فنفض غبار اثني عشر قرناً بما فيها من ظلام كثير ونور قليل ومحاولة العودة للنور الغالب في الصدر الأول=من أشق ما يكون على فرد واحد ..ولكن إن كثر السالكون هان الوعر.
ولتعلم أن أقواماً ممن سبقونا من أهل العلم قد حاولوا هذا الباب حتى فتقوا فيه أشياء وهداهم الله إلى شئ غير قليل من الهدي الأول ،كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب وغيرهم .
إلا أنهم ابتلوا برجلين:
الأول: من لا يزال مستمسكاً بزبالات الفلاسفة التي ورثها عن كتب النحو والبلاغة والأصول والحديث،يَعُدُ تحريرات هؤلاء الأئمة مجرد رأي خالفوا فيه من هو أقدم منهم وأعلم غافلاً عن أن هذا كان من هؤلاء الأئمة خرق وكشف لحجاب الظلام العائق عن تبين النور الأول،وإن أحسن هذا الرجل قبل ما أتى به الشيخان وأضرابهم في بعض الأبواب كالاعتقاد والسنة،كأن أئمته يلبسون ثوب السلفية إن تكلموا في النحو والبلاغة ثم يضعوه على المشجب مرتدين ثوب البدعة إن تكلموا في الاعتقاد والسنة.
الثاني: من يظن أن الشيخين وأضرابهما قد أصابوا من باب الكشف عن الهدي الأول=كل شئ،وأنهم ما أخطأوا منه شئ..فإن جئتَ تقول له: ليست المسألة الفلانية مما يجري على أصول السلف بل هي جارية على أصول المتكلمين صك وجهك بقوله: كيف وقد تكلم بها شيخ الإسلام(؟؟)
وكيف ولم يُنبه على ذلك شيخ الإسلام(؟؟)
وغفلوا أولئك عن أن الجبهة أعرض من أن يبلغ الصواب فيها ويملك زمام الحق منها واحد من الناس مهما بلغ كمال عقله ووفور علمه ورجاحة رأيه،وأن زمان عيش الشيخ وأضرابه كان حافلاً بآلاف المسائل التي ضل الناس فيها عن الهدي الأول،وأن أعمارهم محال أن تستوعب الكشف عن كل ضلالة أو حتى تبينها .
فباب الاجتهاد-لمن كان أهلاً له-مفتوح على مصراعيه لكل من رام درس العلوم درساً على منهاج السلف الصالح ،ولكل من رام أن يهدم لبنة في ذلكم البناء المتطاول الذي بناه المعتزلة والأشاعرة في النحو والبلاغة والأصول والحديث على أساس من المنهج الفلسفي اليوناني . وكل من تم له ما ندعوا إليه = تم له شرط التجديد في العلم.
يبقى سؤال مهم: ألا يكون أبداً في كلام أولئك العلماء المصنفين في العلوم =حق يستحق أن يُقبل(؟؟)
أم كل ما قالوه باطل يجب رفضه(؟؟).
والجواب: أن دينَنا علمنا أنه حتى إبليس يُجري اللهُ الحق على لسانه،وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحق من يهودي وأقره عليه.
لكنَّ الواجبَ معرفتُه أنه ما من مسألة شرعية أو قدرية،من خلق الله أو أمره،إلا وبيانُها الشافي في الفرقان الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم،وطريق الوصول إليها وفق منهج الصدر الأول ممكن غير متعذر ولا ممتنع.
وهل يُمكن لأهل البدع والمناهج الفلسفية والطرق الكلامية أن يَصلوا لشئ من الحق إذا ساروا على مناهجهم تلك(؟؟)
نعم.هذا ممكن غير ممتنع .كما أن المقلد تقليداً محرماً أو المتعصب لشيخه وإمامه قد يُوافق القول الحق تبعاً لشيخه،وما إصابته للحق برافعة عنه إثم سلوكه لطريق غير شرعي في إصابة هذا الحق.فالواجب عدم الاغترار بالحق الذي في كلام أولئك اغتراراً يقود إلى الغفلة عن إعراضهم عن طريق السلف الصالح في التلقي والاستدلال.
فإن وجد منهم-وهو موجود-من يصيبُ الحقَ وفق الطريق الشرعي المأذون به=طريق الصدر الأول ومنهاجه=فأهلاً وحيهلا وهو خير فيهم يُحمد ولا يذم بل يُذكر فيُشكر.
وثم جهة أخرى للصواب في كلام أولئك ترجع لإصابتهم للحق بما بقي معهم من نور الإسلام ،وترجع لسلامة شيء من مناهجهم،وترجع لنوع من البحث الصناعي الذي لا يتعارض مع مع ما قررناه. ولكن لم يتم لي تحرير عبارتها بعدُ فأرجئها إلى حين..
والحمد لله وحده..