فضيلة د. محي الدين غازي،
تاريخ حفظ القرآن هو موضوع المنهج العلمي في التعرّف على حفظ القرآن وإلا أصبح هذا الحفظ عقيدة دوغمائية كعقيدة النصارى أن الأناجيل محفوظة لأن الكتّاب ألهموا بـ "روح القدس"! فالإشكال المطروح الآن سيذهب بنا إلى علاقة العلم بالإيمان وأي صراع في هذه العلاقة هو صراع غيرنا لا صراعنا نحن المسلمين إلا من شاء الضلالة وادعى العقلنة بينما في الحقيقة لا يفقه يتصنّع هذا الصراع وينقله من تاريخ غيرنا ليسقطه على تاريخنا كفعلة بعض المؤلفيين الماركسيين والحداثويين وومن لف لفيفهم -إذا صح هذا التعبير في اللغة-. وتبقى تلك المسألة تستحق الأخذ والرد في ملتقى الإنتصار لو تكرّمت بمقدمة في موضوع حول "تاريخ حفظ القرآن"، بارك الله فيك.
شيخنا الدكتور عبدالرحمن الشهري حفظك الله،،
لا أريد لهذا الموضوع أن يتراجع لأهميته وفطنة الإشارة إليه، أرجو أن تستكمل التوجيه، التصويب والإنتقاد لنتقدّم إلى الأمام ونفهم الأسئلة المطروحة للنقاش فهما صحيحا لا تشوبها شائبة والفهم الصحيح للسؤال مفتاح من مفاتيح طلب العلم في الباب الذي يطرح فيه السؤال.
-
جهود عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالذات في مسألة جمع القرآن.
-
جمع القرآن في عهد عمر.
- وبما أن الجمع أو الحفظ مفهوم أوسع من المتبادر إلى الذهن أرى في سياق الأسئلة المطروحة توسيع دائرة الجمع لتشمل
تعليم القرآن ونشره بين المسلمين في البلاد الجديدة.
تلك ثلاث أسئلة مختلفة. إذن: لابد من التحديد.
والدعوى الآن قبل التحديد هي: لا جمع متميز في خلافة سيدنا عمر.
منطلق هذا الإدعاء: حرص المسلمين وإهتمامهم بكل ما يتعلّق بالقرآن.
من مقتضيات هذا المنطلق: إشتهار الروايات في هذا الجمع العمري المتميّز كما إشتهرت الروايات الأخرى.
واقع التأليف والتصنيف في هذا الباب بالخصوص: لا وجود لهذه الروايات "المشهورة".
سأعود إلى توسيع مفهوم "الجمع". هناك مناهج للتمييز بين حلقات الجمع وأستذكر في هذه اللحظة منهاج عبد القيوم السندي في كتابه "جمع القرآن الكريم في عهد الخلفاء الراشدين" حيث يعتمد الآليتين: الباعث والكيفية. إذا تتبعنا هذه الخطوات فلن نحتاج إلى روايات فقط بل إلى المنهج الذي يقوم عليه إفتراض جمع عمري خاص.
الباعث مقترح، وهنا مفترض:
والتوسع في رقعة الدولة الإسلامية مما يستدعي زيادة الحاجة لتعلم القرآن ونشره بين المسلمين في البلاد الجديدة ، وهذا يستدعي زيادة الحاجة لكتابة نُسَخٍ كثيرة من المصحف ونشرها
الكيفية مجهولة، وهنا سؤال:
وكيف كان حال كتابة القرآن الكريم ونشره في عهد عمر بن الخطاب
هذا المنهج مهم جدا وآلية الباعث فيه واضحة في أجوبة الشيخ محمد طاهر بن عبد القادر الكردي في "تاريخ القرآن" على أسئلة في نفس الموضوع:
".. ويسأل بعضهم: لماذا لم يأمر أبو بكر أو عمر أن ينسخ الناس مصاحف مما كتبه زيد بن ثابت ولماذا لم يحرص كبار الصحابة على ان يكون لدي كل واحد منهم أو لدى بعضهم على الاقل نسخ من هذه الصحف التى تتضمن كتاب الله.
فنقول: إن ابا بكر رضى الله عنه لم يجمع القرآن لحدوث خلل في قراءته وانما جمعه خوفا من ذهاب حملته بقتلهم في الغزوات وكان جمعه له بالاحرف السبعة والناس يقرؤن بها إلى زمن عثمان فلا يختلف مصحف ابى بكر عما يقرؤه الناس ويحفظونه فلا داعى إذا لحمل الناس على مصحفه.
أما عثمان رضى الله عنه فانه لم يجمع القرآن الا بعد أن رآى اختلاف الناس في قراءته حتى ان بعضهم كان يقول ان قراءتى خير من قراءتك وكان جمعه له بحرف واحد وهو لغة قريش وترك الاحرف الستة الباقية فكان من الواجب حمل الناس على اتباع مصحفه وعلى قراءته بحرف واحد فقط قبل ان يختلفوا فيه اختلاف اليهود والنصارى كما ترى تفصيل ذلك في الجمع الثالث اما عدم نسخ كبار الصحابة مصاحف على نمط ما جمعه أبو بكر فلم يكن هناك ما يدعو لذلك لعدم اختلاف ما جمعه أبو بكر بما عند الناس، وان بعضهم كتبوا مصاحفهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتلقوه منه سماعا - فكان جمع أبى بكر رضي الله عنه بمثابة سجل للقرآن يرجع إليه إذا حدث أمر كما وقع لعثمان رضي الله عنه حين جمعه القرآن فانه رجع إلى الصحف البكرية وكانت عند حفصة بنت عمر .. ويسأل بعضهم ايضا: لم لم يجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وعلى على نسخ المصحف وهم يحفظونه كله في صدورهم. فنقول: ان ابا بكر هو خليفة المسلمين وهؤلاء هم كبار الصحابة وهم اصحاب الرأى والشورى ومنهمكون في الغزوات ونشر الاسلام والنظر في مصالح الامة فاشتغالهم بأنفسهم بجمع القرآن يمنعهم عن النظر في شؤن المسلمين لان التفرغ لجمعه يحتاج إلى مدة طويلة وعناء عظيم - وإذا عرفت انهم كانوا يجمعونه مما كتب على نحو العظام والالواح والحجارة وانهم ما كانوا يقبلون من احد شيئا من القرآن الا بشاهدين علمت انهم يحتاجون في البحث والترتيب والمراجعة والتصحيح إلى مدة غير قصيرة، وظهر لك ما تحملوه من المشقة العظمى والتعب الكبير - خصوصا وانهم في هذه المرة جمعوه بالاحرف السبعة كلها وهذا يستلزم أن يكون حجم مصحف ابى بكر أضعاف حجم مصحف عثمان لان هذا جمعه على حرف واحد من الاحرف السبعة.".
من هذه الأسئلة تظهر أهمية المنهج في التمييز بين محطات الجمع. ولا يلزم من غياب روايات مشهورة في الجمع بالنشر والتعليم من خلال نسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار أي قدح في جهود الصحابة رضي الله عنهم في تعليم القرآن لأنهم كانوا شيوخا بالحق درسوا وتخرجوا من المعهد النبوي وسيدنا عمر كان حريصا على إختيار كبار العلماء والفقهاء من الصحابة ليتحمّلوا مسؤولية الإدارة، العدل والتعليم.