نايف الزهراني
New member
في هذا الموضوع
استشكل أحد الإخوة مسألةً في جمع القرآن , فكتبت خلاصة عاجلة تزيل الإشكال على طريقة : التأصيل ثم التفصيل , ثم أورد إشكالاً آخر , فأجبته , ثم انقلب الإشكال الثاني وأصبح إشكالاً ثالثاً , وهنا توقفت عن المتابعة ؛ لأضع هذه المشاركة , التي أرجوا أن تفيد في جانب :
(( جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما , والفرق بينهما ))
وسنرى أن تصور هذه المقدمة يعين كثيراً على فهم مسائل كثيرة من أبواب علوم القرآن لاتصاله الظاهر بها , وبالأخص " الأحرف السبعة " .
وسأبدأ بذكر خلاصة الباب في نظري , ثم أتبعها بالتفصيل , جاعلاً حاشية كل موضع بعده مباشرةً بين هلالين :
* * *
تأصيلٌ ثم تفصيل
سيُحَل هذا الإشكال وجميع الإشكالات في موضوع الجمع - إن شاء الله تعالى - من خلال تصور ما يلي :
1 - أن أبا بكر رضي الله عنه جمع القرآن , وعثمان رضي الله عنه جمع الناس عليه .
2 - فعليه : جمع عثمان هو جمع أبي بكر رضي الله عنهم , ولم يغير فيه شيئاً .
3 - الذي جمعه أبو بكر رضي الله عنه هو ما عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام في العرضة الأخيرة .
4 - العرضة الأخيرة اشتملت على ما لم يُنسَخ من الأحرف السبعة ؛ بدليل وجود عدد من الصحابة تختلف قرائتهم عمَّا في المصحف الإمام .
هذا القدر من البيان تجتمع به الأدلة , وعليه قامت , وبه نطقت , وهو حلٌّ لكثير من المشكل في هذا الباب , وأكتفي بهذا القدر , لهذا الإشكال , ولعلنا نزيد الموضوع إيضاحاً , بإيرادات أخرى في هذا الباب . والله أعلم .
* * *
( جمع القرآن )
الحمد لله , و صلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد :
فإن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه , وهيأ الأسباب الكونية والقدرية لذلك , فقال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
وهذه مقدمة مهمة لفهم مسالة جمع القرآن على مراحلها الثلاثة كما سنذكر – إن شاء الله تعالى - .
* الجمع الأول : في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :-
يطلق جمع القرآن ويراد به أحد معنيين :
الأول : حفظه في الصدور . والثاني : كتابته في السطور.
( في تسمية القرآن بـ: القرآن والكتاب , إشارة لطيفة إلى هذين النوعين, فالقرآن بمعنى الجمع والحفظ , والكتاب بمعنى المكتوب , ولا يكفي أحدهما عن الآخر , فلا يكفي حفظ حافظ حتى يوافق رسم المصحف , ولا تكفي كتابة كاتب حتى توافق ما نقل بالتواتر . انظر: النبأ العظيم , لمحمد عبد الله دراز, صـ 5 - 7 , ونقلها عنه غالب من كتب في علوم القرآن بعده ) وكلاهما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
فأما النوع الأول : فإن الأمة الأمية التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من أسرع الناس حفظاً , وهكذا الصحابة رضي الله عنهم عُنُوا بسماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه ومدارسته , فلم يكونوا يتجاوزوا عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل , وأقاموا به ليلهم تهجداً وتلاوةً , حتى كان يسمع لبيوتهم دويٌّ كدويّ النحل من التلاوة , فلا عجب أن يكثر حفاظ القرآن من الصحابة , حتى عُرف طائفة منهم بالقراء , وقد كانوا عدداً كبيراً , ففي البخاري (4090) عن أنس رضي الله عنه في قصة بئر معونة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سبعين رجلاً يقال لهم القراء .. الحديث .
وذكر السيوطي في الإتقان (3 – 1 / 72 , نقلاً عن أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه ( القراءات ) وفي مقدمة ( طبقات القراء ) للذهبي أن هذا العدد هم الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم واتصلت بنا أسانيدهم , وأما من جمعه من الصحابة ولم يتصل بنا سندهم فكثير) عدداً كثيراً ممن حفظ القرآن كله من المهاجرين والأنصار , ومثّل أنس بن مالك رضي الله عنه لبعض من جمع القرآن كاملاً عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً منه وعرضاً عليه بقوله عندما سأله قتادة : من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (4 – 6 / 102-103 , وأبو زيد هو قيس بن السكن أحد عمومة أنس رضي الله عنهم . الفتح 6 / 102-103 ).
أما النوع الثاني من جمع القرآن وهو ضم بعضه إلى بعض كتابةً وتدويناً فقد وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك, وقد أذن به صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تكتبوا عني , ومن كتب عني غير القرآن فليمحه " (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه , صحيح مسلم بشرح النووي 18 / 129) , بل كان له عليه الصلاة والسلام كتّاب الوحي ومنهم الخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب ومعاوية وغيرهم كثير رضي الله عنهم (انظر: جوامع السيرة لابن حزم صـ 26-27 , وزاد المعاد لابن القيم 1 / 29) , ووصف هذا الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه بقوله: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع (رواه الحاكم في المستدرك 2 / 229) . فلم تكن أدوات الكتابة متيسرة لهم بل كانوا يكتبون في اللخاف والرقاع والأقتاب والأكتاف وغيرها . وكان على هذه الصورة مفرقاً غير مجموع , وإنما لم يجمع في كتاب واحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتابع نزول الوحي منجّماً حسب الأحداث , ولورود النسخ فيه , مما يستلزم تكرار تغييره دائماً مع كل نزول , ولأن الله أمّنَ نبيّه من نسيانه " سنقرئك فلا تنسى , إلا ّما شاء الله " (انظر:المرشد الوجيز لأبي شامة صـ 62, والبرهان 1 / 300-301) .
وقد كان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الكتابة لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة .
فقُبِض النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن محفوظ في الصدور, ومكتوب في الصحف , مفرقاً بين الصحابة , مرتب الآيات إجماعاً , قال زيد رضي الله عنه : قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء (صحيح البخاري 6 / 58 باب جمع القرآن الكريم) .
* الجمع الثاني : في عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه :-
- تاريخه: بعد معركة اليمامة في السنة الثانية عشر من الهجرة .
- وسببه: أنه قُتل في معركة اليمامة عدد كبير من القراء منهم سالم مولى أبي حذيفة أحد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم , فأمر أبو بكر بجمعه لئلا يضيع , ففي البخاري (4986) أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة, فتوقف , فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه وعنده عمر فقال له أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه , قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمراني به , قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال , فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله , ثم عند عمر حياته , ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما .. . رواه البخاري مطوّلاً .
وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدّوه من حسناته حتى قال علي رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر , رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع ما بين اللوحين (رواه ابن أبي داود في المصاحف صـ11, وحسّنه الحافظ ابن حجر في الفتح 9/12) .
وإنما أُختير زيد رضي الله عنه لهذا الأمر في زمن أبي بكر وعثمان ؛ لما ذكره أبو بكر عنه من رجاحة عقله, وتمام حفظه, وأنه من كتبة الوحي, ولأنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن (شرح السنة للبغوي 4/525 – 526 , والبرهان للزركشي 1/237 , والإتقان للسيوطي 1/118) .
وصفة هذا الجمع قائمةٌ على أربعة أسس :
1 – ما كان محفوظاً في صدور الرجال .
2 – ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .
3 – لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم النبي صلى الله عليه وسلم .
4 – لا يقبل شيء من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو بكر رضي الله عنه لزيد وعمر بن الخطاب : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (المصاحف لابن أبي داود صـ12 , وجمال القراء للسخاوي 1/86 , قال ابن حجر: ورجاله ثقات مع انقطاعه . الفتح 9/14) .
وقام عمر رضي الله عنه في الناس فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به (المصاحف لابن أبي داود صـ17) .
قال زيد رضي الله عنه : فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال (صحيح البخاري برقم 4986) .
قال ابن حجر : وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف على عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (الفتح 9/15) .
وذكر قريباً من ذلك أبو شامة والزركشي رحمهم الله تعالى (المرشد الوجيز لأبي شامة صـ57 , والبرهان للزركشي 1/234) .
وتميز هذا الجمع بمنتهى الدقة والإتقان , وإهماله لما نسخ من الآيات, واشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة دون سواه , وظفر بإجماع الأمة عليه , وتواتر ما فيه , ولم يكن منه إلا نسخة واحدة حفظت عند إمام المسلمين أبي بكر-رضي الله عنه- باتفاق العلماء (البرهان للزركشي 1/297 , ودراسات في علوم القرن لفهد الرومي صـ82) , وسمي بالـ"مصحف" باتفاق الصحابة (رواه ابن أشتة في (المصاحف) من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب , ذكره السيوطي في الإتقان1/89) .
وكان الغرض من هذا الجمع تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف واحد حتى لايضيع منه شيء , دون أن يحمل الناس عليه لعدم ظهور الخلاف في قراءته (أصولٌ في التفسير , لمحمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله ,صـ33) .
* الجمع الثالث : في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه :ـ
تاريخه : في أوائل السنة الخامسة والعشرين من الهجرة .
وسببه : اختلاف الناس في القراءة بحسب ما وصلهم من القرآن , إمّا من الصحابة أو الصحف , فخيفت الفتنة فأمر عثمان رضي الله عنه أن يجمع الناس على مصحف واحد , لئلا يختلف الناس فيتنازعوا في كتاب الله ويتفرقوا (قاله ابن حجر في الفتح 9/17) , ومنه ما رواه البخاري (الفتح 9/17) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق , فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة , فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك , فأرسلت بها حفصة إلى عثمان .
وكان هذا العمل بمشورة من الصحابة واتفاق منهم , قال علي رضي الله عنه : يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف , فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأٍ منّا جميعاً , قال ما تقولون في هذه القراءة ؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك , وهذا يكاد أن يكون كفراً , قلنا: فما ترى ؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد , فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف , قلنا: فنعم ما رأيت , قال علي:والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل (المصاحف لابن أبي داود صـ30 , وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 9/18) .
واختار عثمان رضي الله عنه لهذا الجمع لجنة من ثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير, وسعيد بن العاص, وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام, وواحد من الأنصار هو زيد بن ثابت رضي الله عنه , وقال عثمان للقرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم (صحيح البخاري 6/99) وهذا فيما يتعلق بالرسم الكتابة .
فنسخ مصحف أبي بكر رضي الله عنه في أربعة أو خمسة أو سبعة مصاحف , واحد منها بقي عند عثمان وأرسل البقيّة إلى مكة والشام والبصرة والكوفة , وأرسل مع كل مصحف منها حافظ يقرئ الناس بها (مناهل العرفان 1/396-397) , وأمر بالإقراء بما فيها وما يوافقها ومنع ما عداها(البرهان 1/235 , الإتقان 1/60) , وأمر بإحراق ما كان من صحائف مفرقة عند بعض الصحابة رضي الله عنهم (صحيح البخاري برقم 4987 , والفتح 9/21) .
وتميّز جمع عثمان رضي الله عنه باشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة , وإهمال ما نسخت تلاوته (قال البغوي في(شرح السنّة ) 4/525-526: المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه , وأذهب ما سوى ذلك قطعاً لمادة الخلاف , فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعدوا في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.ا.هـ ونقلها عنه ابن حجر في الفتح8/646) .
وكان مرتب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن , واشتمل على ما لم ينسخ من الأحرف السبعة والتي تفرعت عنها القراءات المتواترة المعروفة .
وكتبت المصاحف بطريقة تجمع وجوه القراءات المختلفة , وذلك بعدم إعجامها وشكلها , وجُرِّدت هذه المصاحف من كل ما ليس قرآناً , كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة من شرح لمعنى أو بيان لمنسوخ أو دعاء أو نحو ذلك (مناهل العرفان 1/260-261) .
وأجمعت الأمّة على جمع عثمان رضي الله عنه , وهو من سنّة الخلفاء الراشدين وقد دلّ الحديث على أن لهم سنّة يجب إتباعها (كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين , عضّوا عليها بالنواجذ , . . الحديث" رواه أبو داود (4607) والترمذي (2672) وابن ماجه (44,43) وأحمد 4/126-127 والدارمي 1/44 وغيرهم) .
* والفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما هو :
1 – أن الباعث لجمع أبي بكر "خشية أن يذهب شيء من القرآن" , والباعث لجمع عثمان "منع الاختلاف في قراءته" ولم يغير رضي الله عنه حرفاً مما في مصحف أبي بكر رضي الله عنه , وأنّى له ذلك , فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال : قلت لعثمان { والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً } قد نسختها الآية الأخرى , فلِمَ تكتبها أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخي لا أغيّر شيئاً من مكانه . (رواه البخاري 6/29 برقم 4530) .
2 – جمع أبي بكر في مصحف واحد , وجمع عثمان بمعنى نسخه في مصاحف متعددة متحد ة الإقراء بما يوافق رسمه .
والله أعلم وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم .
استشكل أحد الإخوة مسألةً في جمع القرآن , فكتبت خلاصة عاجلة تزيل الإشكال على طريقة : التأصيل ثم التفصيل , ثم أورد إشكالاً آخر , فأجبته , ثم انقلب الإشكال الثاني وأصبح إشكالاً ثالثاً , وهنا توقفت عن المتابعة ؛ لأضع هذه المشاركة , التي أرجوا أن تفيد في جانب :
(( جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما , والفرق بينهما ))
وسنرى أن تصور هذه المقدمة يعين كثيراً على فهم مسائل كثيرة من أبواب علوم القرآن لاتصاله الظاهر بها , وبالأخص " الأحرف السبعة " .
وسأبدأ بذكر خلاصة الباب في نظري , ثم أتبعها بالتفصيل , جاعلاً حاشية كل موضع بعده مباشرةً بين هلالين :
* * *
تأصيلٌ ثم تفصيل
سيُحَل هذا الإشكال وجميع الإشكالات في موضوع الجمع - إن شاء الله تعالى - من خلال تصور ما يلي :
1 - أن أبا بكر رضي الله عنه جمع القرآن , وعثمان رضي الله عنه جمع الناس عليه .
2 - فعليه : جمع عثمان هو جمع أبي بكر رضي الله عنهم , ولم يغير فيه شيئاً .
3 - الذي جمعه أبو بكر رضي الله عنه هو ما عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام في العرضة الأخيرة .
4 - العرضة الأخيرة اشتملت على ما لم يُنسَخ من الأحرف السبعة ؛ بدليل وجود عدد من الصحابة تختلف قرائتهم عمَّا في المصحف الإمام .
هذا القدر من البيان تجتمع به الأدلة , وعليه قامت , وبه نطقت , وهو حلٌّ لكثير من المشكل في هذا الباب , وأكتفي بهذا القدر , لهذا الإشكال , ولعلنا نزيد الموضوع إيضاحاً , بإيرادات أخرى في هذا الباب . والله أعلم .
* * *
( جمع القرآن )
الحمد لله , و صلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد :
فإن الله تعالى قد تكفل بحفظ كتابه , وهيأ الأسباب الكونية والقدرية لذلك , فقال تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) .
وهذه مقدمة مهمة لفهم مسالة جمع القرآن على مراحلها الثلاثة كما سنذكر – إن شاء الله تعالى - .
* الجمع الأول : في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم :-
يطلق جمع القرآن ويراد به أحد معنيين :
الأول : حفظه في الصدور . والثاني : كتابته في السطور.
( في تسمية القرآن بـ: القرآن والكتاب , إشارة لطيفة إلى هذين النوعين, فالقرآن بمعنى الجمع والحفظ , والكتاب بمعنى المكتوب , ولا يكفي أحدهما عن الآخر , فلا يكفي حفظ حافظ حتى يوافق رسم المصحف , ولا تكفي كتابة كاتب حتى توافق ما نقل بالتواتر . انظر: النبأ العظيم , لمحمد عبد الله دراز, صـ 5 - 7 , ونقلها عنه غالب من كتب في علوم القرآن بعده ) وكلاهما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
فأما النوع الأول : فإن الأمة الأمية التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من أسرع الناس حفظاً , وهكذا الصحابة رضي الله عنهم عُنُوا بسماع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وحفظه ومدارسته , فلم يكونوا يتجاوزوا عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل , وأقاموا به ليلهم تهجداً وتلاوةً , حتى كان يسمع لبيوتهم دويٌّ كدويّ النحل من التلاوة , فلا عجب أن يكثر حفاظ القرآن من الصحابة , حتى عُرف طائفة منهم بالقراء , وقد كانوا عدداً كبيراً , ففي البخاري (4090) عن أنس رضي الله عنه في قصة بئر معونة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سبعين رجلاً يقال لهم القراء .. الحديث .
وذكر السيوطي في الإتقان (3 – 1 / 72 , نقلاً عن أبي عبيد القاسم بن سلام في كتابه ( القراءات ) وفي مقدمة ( طبقات القراء ) للذهبي أن هذا العدد هم الذين عرضوا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم واتصلت بنا أسانيدهم , وأما من جمعه من الصحابة ولم يتصل بنا سندهم فكثير) عدداً كثيراً ممن حفظ القرآن كله من المهاجرين والأنصار , ومثّل أنس بن مالك رضي الله عنه لبعض من جمع القرآن كاملاً عن النبي صلى الله عليه وسلم سماعاً منه وعرضاً عليه بقوله عندما سأله قتادة : من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار: أبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد (4 – 6 / 102-103 , وأبو زيد هو قيس بن السكن أحد عمومة أنس رضي الله عنهم . الفتح 6 / 102-103 ).
أما النوع الثاني من جمع القرآن وهو ضم بعضه إلى بعض كتابةً وتدويناً فقد وجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك, وقد أذن به صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تكتبوا عني , ومن كتب عني غير القرآن فليمحه " (رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه , صحيح مسلم بشرح النووي 18 / 129) , بل كان له عليه الصلاة والسلام كتّاب الوحي ومنهم الخلفاء الأربعة وزيد بن ثابت وأبيّ بن كعب ومعاوية وغيرهم كثير رضي الله عنهم (انظر: جوامع السيرة لابن حزم صـ 26-27 , وزاد المعاد لابن القيم 1 / 29) , ووصف هذا الجمع زيد بن ثابت رضي الله عنه بقوله: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع (رواه الحاكم في المستدرك 2 / 229) . فلم تكن أدوات الكتابة متيسرة لهم بل كانوا يكتبون في اللخاف والرقاع والأقتاب والأكتاف وغيرها . وكان على هذه الصورة مفرقاً غير مجموع , وإنما لم يجمع في كتاب واحد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتتابع نزول الوحي منجّماً حسب الأحداث , ولورود النسخ فيه , مما يستلزم تكرار تغييره دائماً مع كل نزول , ولأن الله أمّنَ نبيّه من نسيانه " سنقرئك فلا تنسى , إلا ّما شاء الله " (انظر:المرشد الوجيز لأبي شامة صـ 62, والبرهان 1 / 300-301) .
وقد كان الاعتماد في هذه المرحلة على الحفظ أكثر من الكتابة لقوة الذاكرة وسرعة الحفظ وقلة الكاتبين ووسائل الكتابة .
فقُبِض النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن محفوظ في الصدور, ومكتوب في الصحف , مفرقاً بين الصحابة , مرتب الآيات إجماعاً , قال زيد رضي الله عنه : قبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء (صحيح البخاري 6 / 58 باب جمع القرآن الكريم) .
* الجمع الثاني : في عهد أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه :-
- تاريخه: بعد معركة اليمامة في السنة الثانية عشر من الهجرة .
- وسببه: أنه قُتل في معركة اليمامة عدد كبير من القراء منهم سالم مولى أبي حذيفة أحد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن منهم , فأمر أبو بكر بجمعه لئلا يضيع , ففي البخاري (4986) أن عمر بن الخطاب أشار على أبي بكر رضي الله عنهما بجمع القرآن بعد وقعة اليمامة, فتوقف , فلم يزل عمر يراجعه حتى شرح الله صدر أبي بكر لذلك فأرسل إلى زيد بن ثابت فأتاه وعنده عمر فقال له أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه , قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمراني به , قال: فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال , فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله , ثم عند عمر حياته , ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهما .. . رواه البخاري مطوّلاً .
وقد وافق المسلمون أبا بكر على ذلك وعدّوه من حسناته حتى قال علي رضي الله عنه: أعظم الناس في المصاحف أجراً أبو بكر , رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع ما بين اللوحين (رواه ابن أبي داود في المصاحف صـ11, وحسّنه الحافظ ابن حجر في الفتح 9/12) .
وإنما أُختير زيد رضي الله عنه لهذا الأمر في زمن أبي بكر وعثمان ؛ لما ذكره أبو بكر عنه من رجاحة عقله, وتمام حفظه, وأنه من كتبة الوحي, ولأنه شهد العرضة الأخيرة للقرآن (شرح السنة للبغوي 4/525 – 526 , والبرهان للزركشي 1/237 , والإتقان للسيوطي 1/118) .
وصفة هذا الجمع قائمةٌ على أربعة أسس :
1 – ما كان محفوظاً في صدور الرجال .
2 – ما كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .
3 – لا يقبل من صدور الرجال إلا ما تلقوه من فم النبي صلى الله عليه وسلم .
4 – لا يقبل شيء من المكتوب حتى يشهد شاهدان على أنه كُتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو بكر رضي الله عنه لزيد وعمر بن الخطاب : اقعدا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه (المصاحف لابن أبي داود صـ12 , وجمال القراء للسخاوي 1/86 , قال ابن حجر: ورجاله ثقات مع انقطاعه . الفتح 9/14) .
وقام عمر رضي الله عنه في الناس فقال : من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من القرآن فليأتنا به (المصاحف لابن أبي داود صـ17) .
قال زيد رضي الله عنه : فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال (صحيح البخاري برقم 4986) .
قال ابن حجر : وفائدة التتبع المبالغة في الاستظهار والوقوف على عين ما كتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم (الفتح 9/15) .
وذكر قريباً من ذلك أبو شامة والزركشي رحمهم الله تعالى (المرشد الوجيز لأبي شامة صـ57 , والبرهان للزركشي 1/234) .
وتميز هذا الجمع بمنتهى الدقة والإتقان , وإهماله لما نسخ من الآيات, واشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة دون سواه , وظفر بإجماع الأمة عليه , وتواتر ما فيه , ولم يكن منه إلا نسخة واحدة حفظت عند إمام المسلمين أبي بكر-رضي الله عنه- باتفاق العلماء (البرهان للزركشي 1/297 , ودراسات في علوم القرن لفهد الرومي صـ82) , وسمي بالـ"مصحف" باتفاق الصحابة (رواه ابن أشتة في (المصاحف) من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب , ذكره السيوطي في الإتقان1/89) .
وكان الغرض من هذا الجمع تقييد القرآن كله مجموعاً في مصحف واحد حتى لايضيع منه شيء , دون أن يحمل الناس عليه لعدم ظهور الخلاف في قراءته (أصولٌ في التفسير , لمحمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله ,صـ33) .
* الجمع الثالث : في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه :ـ
تاريخه : في أوائل السنة الخامسة والعشرين من الهجرة .
وسببه : اختلاف الناس في القراءة بحسب ما وصلهم من القرآن , إمّا من الصحابة أو الصحف , فخيفت الفتنة فأمر عثمان رضي الله عنه أن يجمع الناس على مصحف واحد , لئلا يختلف الناس فيتنازعوا في كتاب الله ويتفرقوا (قاله ابن حجر في الفتح 9/17) , ومنه ما رواه البخاري (الفتح 9/17) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : إن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق , فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة , فقال حذيفة لعثمان : يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك , فأرسلت بها حفصة إلى عثمان .
وكان هذا العمل بمشورة من الصحابة واتفاق منهم , قال علي رضي الله عنه : يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان ولا تقولوا له إلا خيراً في المصاحف , فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأٍ منّا جميعاً , قال ما تقولون في هذه القراءة ؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك , وهذا يكاد أن يكون كفراً , قلنا: فما ترى ؟ قال: نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد , فلا تكون فرقة ولا يكون اختلاف , قلنا: فنعم ما رأيت , قال علي:والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل (المصاحف لابن أبي داود صـ30 , وإسناده صحيح كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح 9/18) .
واختار عثمان رضي الله عنه لهذا الجمع لجنة من ثلاثة من قريش: عبد الله بن الزبير, وسعيد بن العاص, وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام, وواحد من الأنصار هو زيد بن ثابت رضي الله عنه , وقال عثمان للقرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم (صحيح البخاري 6/99) وهذا فيما يتعلق بالرسم الكتابة .
فنسخ مصحف أبي بكر رضي الله عنه في أربعة أو خمسة أو سبعة مصاحف , واحد منها بقي عند عثمان وأرسل البقيّة إلى مكة والشام والبصرة والكوفة , وأرسل مع كل مصحف منها حافظ يقرئ الناس بها (مناهل العرفان 1/396-397) , وأمر بالإقراء بما فيها وما يوافقها ومنع ما عداها(البرهان 1/235 , الإتقان 1/60) , وأمر بإحراق ما كان من صحائف مفرقة عند بعض الصحابة رضي الله عنهم (صحيح البخاري برقم 4987 , والفتح 9/21) .
وتميّز جمع عثمان رضي الله عنه باشتماله على ما ثبت في العرضة الأخيرة , وإهمال ما نسخت تلاوته (قال البغوي في(شرح السنّة ) 4/525-526: المصحف الذي استقر عليه الأمر هو آخر العرضات على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فأمر عثمان بنسخه في المصاحف وجمع الناس عليه , وأذهب ما سوى ذلك قطعاً لمادة الخلاف , فصار ما يخالف خط المصحف في حكم المنسوخ والمرفوع كسائر ما نسخ ورفع فليس لأحد أن يعدوا في اللفظ إلى ما هو خارج عن الرسم.ا.هـ ونقلها عنه ابن حجر في الفتح8/646) .
وكان مرتب الآيات والسور على الوجه المعروف الآن , واشتمل على ما لم ينسخ من الأحرف السبعة والتي تفرعت عنها القراءات المتواترة المعروفة .
وكتبت المصاحف بطريقة تجمع وجوه القراءات المختلفة , وذلك بعدم إعجامها وشكلها , وجُرِّدت هذه المصاحف من كل ما ليس قرآناً , كالذي كان يكتبه بعض الصحابة في مصاحفهم الخاصة من شرح لمعنى أو بيان لمنسوخ أو دعاء أو نحو ذلك (مناهل العرفان 1/260-261) .
وأجمعت الأمّة على جمع عثمان رضي الله عنه , وهو من سنّة الخلفاء الراشدين وقد دلّ الحديث على أن لهم سنّة يجب إتباعها (كما في حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين , عضّوا عليها بالنواجذ , . . الحديث" رواه أبو داود (4607) والترمذي (2672) وابن ماجه (44,43) وأحمد 4/126-127 والدارمي 1/44 وغيرهم) .
* والفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما هو :
1 – أن الباعث لجمع أبي بكر "خشية أن يذهب شيء من القرآن" , والباعث لجمع عثمان "منع الاختلاف في قراءته" ولم يغير رضي الله عنه حرفاً مما في مصحف أبي بكر رضي الله عنه , وأنّى له ذلك , فعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال : قلت لعثمان { والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً } قد نسختها الآية الأخرى , فلِمَ تكتبها أو تدعها ؟ قال : يا ابن أخي لا أغيّر شيئاً من مكانه . (رواه البخاري 6/29 برقم 4530) .
2 – جمع أبي بكر في مصحف واحد , وجمع عثمان بمعنى نسخه في مصاحف متعددة متحد ة الإقراء بما يوافق رسمه .
والله أعلم وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم .