جمعية الإلحاد والزندقة العلم والدين ردا على تناقضات طه حسين (مجلة المنار المجلد27)

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الكاتب : محمود أحمد الغمراوي
جمعية الإلحاد والزندقة
العلم والدين
[*]

( رد على مقال للدكتور طه حسين نشر في العدد 19 من جريدة السياسة
الأسبوعية في 17 يوليو سنة 1926 ) .
نشر الدكتور هيكل في العدد الرابع عشر من السياسة الأسبوعية مقالاً بحث
فيه في العلم والدين وما بينهما من وفاق أو خلاف ، وقد انتهى به بحثه إلى أنه لا
خصومة بين العلم والدين ، ولن تكون بينهما خصومة ، وأن الخلاف والخصومة
هما بين رجال العلم ورجال الدين ، ومنشؤهما سعي كل من الطائفتين سعيًا أنانيًّا
صِرْفًا ليكون بيدها الحكم والسلطان .
وختم بحثه بما ملخصه أن النصر سيكون دائمًا حليف الفريق الذي يرضي
الإنسانية ويخفف أعباءها ، وتجد في يده مفتاح راحتها ومرهم جراحها .
ونصح لرجال الدين بأن ينقطعوا عن العالم ويعتزلوا الدنيا ويبعدوا عن
شئونها ويعكفوا على العبادة والزهد والتقشف
، وقد تناولت أقلام الكاتبين بالبحث
والتحليل والنقد عناصر هذا الموضوع الذي أثاره الدكتور هيكل ، وكتب كاتب ديني
مقالاً قيمًا ألمَّ فيه كاتبه الفاضل بمعلومات نفيسة قال عنها بحق : إنها مقدمات لا بد
منها للحكم فيما بين الدين والعلم من وفاق أو خلاف .
وفي الحق أن من يجهل الأساس التي قام عليها الدين ، والأساس التي قام
عليها العلم ، ولا يعرف من مبادئ الدين تلك المقدمات الأولية التي ألمَّ بها ذلك
المقال لا يحق له أن يتصدى للبحث في هذا الموضوع الخطير ، وبالأولى لا يسوغ
له أن ينصب نفسه منصبا الحكم الذي لا ينقض حكمه ولا يرد قضاؤه ، وهو جاهل
بالقواعد الأساسية التي لا يقوم إلا عليها الحكم .
كنت أظن أن سيجد حضرات الكتَّاب في مقال ديني درسًا ينفعهم ويعصمهم
من الزلل حينما يريدون أن يبحثوا فيما بين الدين والعلم من صلة ، وكان أكثر من
نرجو لهم النفع بهذا الدرس أولئك الذين لم تهيئ لهم تربيتهم المدرسية وسائل
الإلمام بقواعد العلم الديني ، فأما الذين قضوا شطرًا ليس بالقليل من أعمارهم في
دراسة العلوم الدينية ، وقطعوا في الأزهر مرحلة ليست بالقصيرة من مراحل
تربيتهم العقلية ، فما كنا نظنهم بحاجة إلى مثل هذا الدرس ، وما كنا نحسبهم من
الجهل بأمور الدين بحيث لا يعرفون بسائط القواعد المقررة .
دهشت وايم الحق حين قرأت في العدد التاسع عشر من السياسة الأسبوعية
مقال الدكتور طه حسين في العلم والدين وما ضمنه من تناقض وسخف .
وما كان دهشي لأن الدكتور طه أخطأ الصواب وكان من عادته أن يصيب ،
ولا لأنه جانبه التوفيق في هذا البحث وكان قبلاً موفقًا ، كلا فقد عرفنا الدكتور
هجامًا كثير العثرات شديد الجرأة على العلم وعلى الدين ، بعيدًا عن التوفيق
والإصابة في كثير من أبحاثه لا سيما ماله صله بالدين
، ولكن دهشي كان للفرق
العظيم بين عقليتين ممتازتين وذكائين مصدودين ، عقلية تكونت بعيدة فيما نعلم عن
مناهل الدين فكانت موفقة في كثير من آرائها في الدين ، وأخرى نشأت نشأتها
الأولى في معاهد الدين غير أنها فيما تكتب عن الدين تخبط خبط العشواء في الليلة
الظلماء .
عجبت لما بين عقلية الدكتور هيكل وذكائه ، وبين عقلية الدكتور طه وذكائه
من الفوارق العظيمة .
فهذا يتورط في الخطأ تورط من لا يعرف إلى الصواب سبيلاً ، وذاك يهتدي
بفطرته وذكائه إلى مواطن الإصابة حيث كان يخشى عليه من التورط في الزلل ،
وهذا كله في بحث كان المفروض أن المخطئ أولى بالإصابة فيه من المصيب .
وأن من الحق أن أقول : إنني لم أجد مأخذًا على الدكتور هيكل في مقاله وبحثه إلا
في أمرين اثنين :
أحدهما : أنه أرسل الكلام في الدين إرسالاً فهم منه أنه يقصد من الدين
الجنس الذي يتحقق في أي دين من الأديان ، وهذا ما لا يتفق والواقع فإن الوثنية
مثلاً ليست كما لا مقرر القواعد والأركان .
وثانيهما : أنه يريد رجال الدين على أن يكونوا ناسكين بعيدين عن الدنيا
معتزلين شئون العالم
، ولعل هذا هو الهدف الذي يرمي إليه من بحثه ، ولكن هذا
ليس من الإسلام في شيء ، ففي القرآن الكريم { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ
وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } ( القصص : 77 )
وقد يكون هذا النصح غير
المخلص أثرًا من آثار الأنانية والتنازع على الحكم والسلطان كما هو رأي الدكتور .
هاتان النقطتان هما في رأيي موضوع المؤاخذة في مقال الدكتور هيكل ، فأما
مقال الدكتور طه فإنك لن توفق إلى العثور فيه على رأي صائب مهما حسنت نيتك
في طلبه ، ولن تجد فيه إلا عثرات تتلوها سقطات ، ولن تقف منه إلا على
متناقضات تهيب بك إلى أن تدين بالمتناقضات .
لا يعنيني كثيرًا أن أَلْفِتَ القارئ إلى ما يَفْجؤه في مستهل كلام الدكتور من
الركة والتهافت ؛ إذ يقول : ( ليس لي ما يحول بيني وبين التفكير في هذا
الموضوع والتعليق على ما كتب فيه ، وفي الحق أني فكرت في هذا الموضوع
وكتبت فيه ) ، كذلك لا يهمني أن أقف به على ما يعقب هذه الجملة من التناقض
واشتباه الرأي واختلاط الفكر ؛ إذ يقول : قد تكون المسألة ( يعني مسألة العلم والدين )
جديدة في مصر ، ولكنها قديمة في أوربا
ثم يقول ( هي ليست جديدة في مصر ولا
في العالم الإسلامي فقد عرض لها الغزالي وابن رشد ، وعرض لها الأستاذ الإمام
الشيخ محمد عبده وتلاميذه غير مرة ) .
أقول لا يهمني أن أنبه القارئ إلى شيء كثير من أمثال هذه الهنات المعيبة
ولكني أَلْفِتُ القارئ إلى ما يتخلل الجملتين من غرور وتغرير ، فللدكتور طه في
الكتابة سنة قل أن يشاركه فيها غيره من الكاتبين ؛ فهو حين يكتب في موضوع
يحاول جهده أن يغرر بالقارئ ، يوهمه أنه قبل أن يعالج الكتابة في الموضوع
الذي تناوله قد قرأ فيه كتبًا قيمة وأنه قتله بحثًا وفهمًا ، وأنه ألم بجميع أطرافه وخَبُرَ
جميع دُرُوبه ومسالكه ؛ وإذًا فليس على القارئ بعد أن قام عنه الدكتور بكل وسائل
التنقيب والبحث والقراءة والفهم إلا أن يتجرد من دينه ، وإلا أن يلغي عقله
وفهمه ، وكل ما أودع الله فيه من قوة دراكة ، ويسلم بعد ذلك قياده للدكتور يصرف
منه العنان ، كما يصرف الصبي دواجن الطير والحيوان .
أليس الدكتور طه هو صاحب كتاب الشعر الجاهلي ؟ أليس قد طلب إلى
قارئ ذلك الكتاب قبل أن يقرأ كتابه أن يتجرد عن دينه وعقله ووجدانه وعاداته
وقوميته ليسير مع الدكتور فيصرفه كيف يشاء ؟ هذه هي روح الدكتور
طه في كتاب الشعر الجاهلي بارزة صريحة لا حجاب دونها ، وهي هي بعينها في
مقال العلم والدين ، واضحة جلية ، وإن كان وضوحها هنا بمقدار يناسب قدر هذا
المقال الصغير .
فترى الدكتور قبل أن يدخل بك في متناقضاته يلقي عليك أمثال قوله : ( وفي
الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي ، وفي
الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة 23 فصلاً غضب له مولانا
الشيخ بخيت ، وفي الحق أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلاً
آخر كنت أريد أن أنشره ) ثم يعود فيكرر على سمعك مثل قوله : ( لست إذًا حديث
عهد بمسألة العلم والدين ، وما يمكن أن يكون بينهما من خلاف ، وقد قرأت في هذه
المسألة كتبًا قيمة قبل أن أكتب فيها ) إلى غير ذلك من إلحاح ثقيل ممل ، فماذا يقصد
الدكتور من هذا كله ؟ أليست هذه الروح المقنعة بقناع مهتوك يشف عما وراءه ،
هي بعينها تلك الروح البادية العارية في كتاب الشعر الجاهلي ، وكلتاهما تريدان
قارئ كلام الدكتور على أن يلغي عقله وفهمه ليستطيع أن يشترك مع حضرته في
أن يكون ذا نفس واحدة تحمل بين جنبيها شخصيتين متباينتين متعاديتين متناقضتين
،
وفي الحق أن الدكتور لن يجد معه شخصًا آخر يستطيع أن يهيئ نفسه لاحتمال
أمرين متباينين ، ويدين باعتقادين متناقضين - كما يريد في مقاله - إلا شخصًا
ألغى عقله وسفه نفسه وتجرد من كل ما منحه الله من إحساس وإدراك
، فهو من
أجل ذلك يطلب إلى قرائه في إلحاح مضجر أن يتجردوا من عقولهم ووجدانهم
وإدراكهم ليستطيعوا أن يشاركوه في آرائه وأفكاره ، كأنه يأبى أن يكتب أو يتحدث
إلا إلى المجانين .
هذا شيء ألفت القارئ إليه ، وشيء آخر أرجو أن يقف القارئ معي عليه ،
وهو - قصة باستور - فقد ساق الدكتور هذه القصة ليقنع القارئ بأنه ليس فذًّا في
نفسيته العجيبة التي تستطيع أن تكون في وقت واحد مشرقة مغربة ، مصدقة مكذبة،
مؤمنة مرتابة ،
وهل في ذلك من غرابة ؟ ألم يكن باستور العالم الفرنسي المشهور
من أشد الناس إيمانًا بالمسيحية ، ومن أحرصهم على تأدية واجباته الدينية ، وهو من
العلم بالمكان الذي لا ينكر ولا يمارى ؟
لا أجادل الدكتور في شأن باستور ، ولا فيما نعته به من أنه جمع بين الصدق
في الدين والإخلاص للعلم فلست ممن يرون أن من خصائص العلم معاداة الدين ،
ولا أرى من خصائص العالم الإلحاد في الدين والجرأة على العلم ، وقد يصح أن
يكون باستور كغيره من العلماء الذين اختصهم الله بفهم ثاقب وعلم وافر في فن من
الفنون حتى صار رأيه حجة في فنه ، ولكنه إذا اضطر إلى الأخذ بما ليس من
فنه سأل أهل الذكر وأخذ بآراء الأخصائيين من غير نزاع ولا جدال ، كما
يأخذون هم أيضًا برأيه في فنه من غيره مماراة ولا خصومة .
وتفسير قصة باستور وغيره من علماء المسيحية في أخذهم بالعلم واطمئنانهم
إلى الدين على هذا الوجه الذي قدمت قريب من الصواب جدًّا .
فباستور وأضرابه يعملون بحكمة الإنجيل ( أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) .
فإما أن يكونوا مثل دكتورنا الفيلسوف الأديب المؤرخ الحقوقي المتشرع
الأصولي الفقيه المحدث الطبيعي الكيماوي الفلكي الجيولوجي الفيسيولوجي
الأمبريولوجي ، ثم هم مع كل هذا يحملون بين جنوبهم نفسًا قلقة مضطربة تدين
بالمتناقضين وتطمئن إلى المتباينين المتنافرين - فهذا ما أنزّه هؤلاء العلماء عنه ولا
أسلم لدكتورنا بصحته .
ولعل باستور لم يؤثر عنه أنه وقف مرة في حياته من رجال دينه موقف
دكتورنا من علماء الدين ، يقول لهم في جرأة وصلابة وجه : إنني أفهم للدين وأجدر
بمعرفة قضاياه ، وإدراك مراميه منكم ، فهل لدكتورنا أن يتشبه بباستور وغيره من
علماء المسيحية فلا يتعدى طوره ولا يقفو ما ليس له به علم ؟
لا أظن أن الذي حال بين باستور ولم يحل بين دكتورنا وبين هذا الموقف
الجريء هو ما بين طبيعة المسيحية والإسلام من تفاوت في السهولة والسماح
والتوسيع على العقل الإنساني في أن يحلق في سماء الفكر والبحث حيث يشاء
، لا
أظن هذا فما كان لباستور أن يعتقد في المسيحية أنها تغل العقل الإنساني وتحول
بينه وبين التفكير الحر ؛ إذ لو كان هذا رأيه في المسيحية لما كان كما وصفه لنا
دكتورنا من أشد الناس إيمانًا بها ، ولأعلن عليها حربًا عوانًا كما فعل غيره من
ملاحدة المسيحية ، وإذاً فليس جمود المسيحية هو الذي جعل باستور يقف من دينه
هذا الموقف المهذب ، وليست سماحة الإسلام هي التي جعلت دكتورنا يقف من دينه
هذا الموقف الجريء المغموز ، ولكن السبب فيما أظن هو أن باستور قد أوتي حظًّا
من العلم والحياء يحول بينه وبين أن يقف هذا الموقف { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
العُلَمَاءُ } ( فاطر : 28 ) ، على أنه مهما يكن في طبيعة دين من سهولة وسماح ،
ومهما أرخى للعقل الإنساني من عنان لكي يجول في مسارح التفكير إلى حيث يشاء،
فإنه ليس من المعقول أن يأذن الدين بل ولا أن يأذن العلم نفسه للعقل في أن
يخرج في تفكيره وبحثه عن المناهج التي أقراها ، والتي أقر العقل أيضًا أساسها
وقواعدها ، فإن معنى هذا الإذن أن يهدم كلاًّ من الدين والعلم والعقل نفسه بنفسه
ونتيجة ذلك الفوضى والجهالة .
إني لأرجو القارئ بعد أن وقف مما سبق من القول على عقلية الدكتور وما
تتسع له من متناقضات ألا يدهش ولا يستولي عليه الضجر حين يرى الدكتور يعلن
قبل كل شيء أنه يعلم أن الإسلام لم يلغ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير
الحر ، ثم يراه يعلن أثر ذلك أن العلم شيء ، والدين شيء آخر ، وأن منفعة العلم
والدين في أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر ، وحتى
لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي .
لا يضيقن صدرك بما يقول الدكتور ، وسائلْه معي هل يعلم حقًّا إن الإسلام لم
يلغِ العقل الإنساني ولم يحل بينه وبين التفكير الحر ؟ ، وهل هو يدين حقًّا بهذه
القضية ؟ فإذا كان يدين حقًا بهذه القضية فهل هو مع هذا يعتقد أن الإسلام يعطي
العقل هذا الإطلاق ، ويمنحه هذه الحرية الواسعة ثم يعده من أعدائه لا من حلفائه
وأعوانه ؟ فإذا كان الإسلام لا يعد العقل عدوًّا له بل يعتبره حليفًا وصديقًا وفيًّا
فهل مع قيام هذا الحلف ووجود هذه الصداقة بين الإسلام والعقل يصح أن يعادي
الإسلام العلم وهو وليد العقل وربيبه [1] ؟ وإذا لم يكن بين الإسلام والعلم عداء
فكيف يعدو أحدهما على الآخر ؟ وكيف يعتقد الدكتور أن منفعة العلم والدين في
أن يتحقق بينهما الانفصال ، وكيف تصور أن يقع بين الإسلام والعلم في الشرق
الإسلامي من المصادمات والحروب العنيفة مثلما وقع بين المسيحية والعلم في
الغرب المسيحي ؟
آمنت بالله ورسله وآمنت بأن الدكتور طه له عقلية ممتازة قادرة على الإيمان
بالمتناقضات ، وأنه بعيد عن الإلمام بطبائع الإسلام ولا يحسن تطبيق وقائع التاريخ
( يتبع )
... ... ... ... ... ... ... محمود أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
((يتبع بمقال تالٍ))

(*) لصاحب الإمضاء من خيار علماء الأزهر .
(1) المنار : يعني أن العلم وليد العقل وربيبه فما كان للإسلام أن يعاديه مع صداقته للعقل الذي ولده ورباه ، بل لا معنى لصداقة الإسلام للعقل إلا موافقته لما يستنبطه من علم نافع وحكم صحيح في المسائل ، ولا يصح أن يريد أن الإسلام وليد العقل كما قد يظن ضعيف الفهم والفاقد لطرق الاستدلال وقواعد العلم .​
(27/436)
 
الكاتب : محمد أحمد الغمراوي
مجلة المنار لصاحبها محمد رشيد رضا
(رقم المجلد وصفحة المقال مرفقه في نهاية المقال
العلم و الدين
( 2 )
وبعد : فما هي عناصر الخلاف وعوامل الخصومة التي توجب أن يكون
الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى . وأن ليس إلى التقائهما من سبيل ؟
ساق الدكتور في الجواب على هذا السؤال ثلاثة أمور :
( الأمر الأول ) أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس
بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما ، فالعلم لم يصل بعد
إلى إثبات وجود الله ، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء ، ولا سبيل إلى أن
يتفقا إلا يوم يعترف العلم بوجود الله ونبوة الأنبياء ، أو يوم ينزل الدين عن وجود
الله ونبوة الأنبياء ، هذا أمر .
( الأمر الثاني ) أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة
الأنبياء ، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده ولا يستطيع
أن ينصرف عنها ، وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص الكتب السماوية ، وما
وصل إليه العلم من النظريات والقوانين .
( الأمر الثالث ) وهو في رأي الدكتور ثالثة الأثافي أن العلم طمع في أن
يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا
تناقضه ؛ وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث ، وقد فعل ،
وأن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة واللباس من حيث إنها كلها ظواهر
اجتماعية تتبع الجماعة في تصورها وتتأثر بالبيئة والإقليم والوضع الجغرافي ، فهو
لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض .
هذه هي ثلاثة الأدلة التي أرسلها الدكتور في سياق التدليل على متناقضاته .
وإني أسأل الدكتور ما حد الخصومة التي يزعمها قائمة بين العلم والدين ، أليست
الخصومة هي الجدل والغلب حيث يدفع أحد الخصمين ما يثبته الآخر ويثبت ثانيهما
ما ينفيه صاحبه ؟
فإذا كان هذا معنى الخصومة ، فهل نفى العلم ما أثبته الدين من وجود الله
ونبوة الأنبياء ؟ إن في كلام الدكتور جواب هذا السؤال الأخير ، فهو يصرح بأن
العلم لا ينفي وجود الله ونبوة الأنبياء ، ويقرر في وضوح أن العلم ينصرف عنهما
انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص .. . فهو إذن مسلم بأن
العلم لا يستطيع أن يتناول بالبحث والتمحيص هذين الأمرين لعجز آلاته عن بحثهما
وتمحيصهما . وهو إذًا مسلِّم بأن العلم منصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن
يتناوله بالبحث والتمحيص . وإذًا فلا خصومة بين العلم والدين في وجود الله ونبوة
الأنبياء ، إذ كيف تقع الخصومة بين طرفين في أمر يعترف أحدهما بأنه عاجز عن
مباشرة أسباب الخصومة فيه ، وكيف تتصور الخصومة ممن هو منصرف انصرافًا
تامًّا عن تناول ما هو مثار الخصومة ؟
فالحق أنه لا خصومة بين الدين والعلم على وجود الله ونبوة الأنبياء ، وأن
ميدان الدين أوسع دائرة من ميدان العلم الحسي ، وأنه إذا كان العلم الحسي لم
يستطع أن يجري مع الدين في ميدانه الفسيح فإن العقل لم ينقطع عن الجري مع
الدين في هذا الميدان ولم تنضب موارده الخصبة [1] ولم يضن على الدين بالمساعدة
والتأييد فالأدلة العقلية على وجود الله وعلى نبوة الأنبياء متظاهرة متضافرة ،
وليست الصحف اليومية بميدان صالح لنشرها وبسطها [2] ، وهي في كتب العقائد
مبسوطة مدعمة ومن أحسن تلك الكتب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده ، فليرجع القارئ إليها إذا شاء .
بعد هذا نعرض للأمر الثاني الذي ساقه الدكتور للتدليل على رأيه في وجود
الخصومة بين العلم والدين ، وهو أن الكتب السماوية عرضت لمسائل أخرى
يعرض لها العلم بحكم وجوده ، ولا يستطيع أن ينصرف عنها ، قال الدكتور : وهنا
ظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من
النظريات والقوانين .
على أن الدكتور في هذا الموقف الخطير لم يذكر لنا ولو قانونًا واحدًا من تلك
القوانين العلمية التي تناقض نصوص القرآن تناقضاً صريحاً في زعمه ، واكتفى
بالإشارة إلى أن في القرآن ذكراً للخلق وصورته ومدته ، وفي علم الجيولوجيا
تعرض لهذا ، وبين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلاف قوي عنيف ، هذا
خلاف ، وخلاف آخر بين الدين والعلم في نشأة الإنسان .
زعم الدكتور أنه ليس بأقل من الخلاف في خلق السموات والأرض ، وأن
مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه ، ولن
يتفق علم الأمبريولوجيا مع ما جاء في القرآن من تكوّن الجنين ، ومثل ذلك ما بين
نصوص القرآن وعلم الفلك من خلاف ، هذه هي جملة الأمور التي بني الدكتور
عليها حكمه بأن الدين والعلم ليسا متفقين ، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل
أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها .
ولن نرى موقفًا أدنى إلى السخف ، وأدعى إلى السخرية ، والاستهزاء
بصاحبه من هذا الموقف بفقه الدكتور من كتاب الله ، ومن علوم لا يحسن القول
فيها ، ولا يدري الفرق بين نظرياتها وقوانينها ، فيريك كيف يذري الجهل بصاحبه
وكيف تجني الحماقة على جانيها ، ويعطيك صورة مضحكة لأولئك الثرثارين
المتفيهقين الذين يقع نظرك عليهم كثيراً في النوادي ومجالس السمر حتى يتشدقون
بالحديث في مختلف الشئون العلمية والسياسية والاقتصادية وهم لا يدرون شيئًا عما
يتحدثون فيه ، ولا يعرفون إنْ كانت السياسة طعامًا يؤكل ، أو ثيابًا تلبس أو ألعوبة
يتسلى بها الصبية ؛ فلو أن الدكتور كان من علم ما عرض للكلام فيه بالمكان الذي
يدعيه لنفسه وبالمنزلة التي يوهم البسطاء والمخدوعين أنه لا يشق له فيها غبار ؛
لما جهل الفرق بين النظريات والقوانين في العلوم ولا سمح لنفسه أن يتحدث عن
ظهور تناقض صريح بين نصوص القرآن وما وصل إليه العلم من النظريات ، إذ
ما الذي يضير القرآن إذا كان مخالفًا لنظريات لم يبرهن عليها في العلم ، ولم تصر
بعد من اليقينيات المسلمات فيه ؟ ولو أن الدكتور كان يحسن من هذه العلوم شيئًا
كما يوهم لما اكتفى بأن يرسل الكلام إرسالاً يقف فيه عند حد القول بأن بين
نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلافًا قويًّا عنيفًا ، وأن مذهب النشوء
والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه ، إلى غير ذلك من
أقوال مرسلة ودعاوى عريضة ، ولذكر لنا ولو بحثًا من أبحاثه الفلكية المخالفة
لنصوص القرآن .
بيد أننا في هذا الموقف نطمئن الدكتور إشفاقًا عليه ، ونقول له : هون عليك
فإن الأمر أهون مما تظن فلن ينزل الدين عن شخصيته للعلم ، ولن ينازع العلم الدين
في شيء من الأصول الأساسية التي أقرها ، وسيظل العلم والدين صديقين وفيين
وخليلين متناصرين على ترقية الإنسانية وتوفير الخير لها حتى تقوم الساعة .
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ } ( فصلت:
53 ) .
ولأجل أن ننزع عن الدكتور ما أحاط به من اللبس ونكشف له عما اشتبه
عليه من هذه المسائل التي ذكرها نقول له : إن القرآن نزل لهداية البشر لما فيه
سعادتهم في الدنيا والآخرة . وهذه الغاية تتحقق بثلاثة أمور :
أولها : تصحيح عقائد الناس فيما يختص بذات الإله وما يجب لها من صفات
الكمال .
وثانيها : تهذيب الأخلاق بالمواعظ الحسنة ، وتكميل النفوس وترغيبها في
العبادات والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة التي أجمعت العقول على حسنها .
وثالثها : إصلاح حال الجماعة بتجديد علائق بعضهم ببعض ووصف العلاج
الناجح الذي يشفي الجماعة من أمراضها المستعصية ، وهو في كل ذلك لم يعرض إلا
قليلاً لجزيئات الأمور ؛ لأن الجزيئات كثيرة التغير سريعة التحول ، فقرر القواعد
العامة التي تتمارى العقول فيها والتي ترمي إلى إصلاح الأرواح والنفوس من
غير إخلال بمصالح الجسد ، واكتفى من الجزيئات بذكر ما فيه نفع ظاهر أو ما
فيه ضرر بَيِّن .
فالقرآن لم ينزل لتقرير قواعد العلوم وتفصيل مسائل الفنون إذ لو كان كذلك
لكان كسائر الكتب العلمية التي لا ينتفع بها إلا قليل من الناس ، وإذًا يفوت الغرض
المقصود منه - أعني هداية البشر - ولو نزل بتفصيل قواعد العلوم وتفصيل
مسائلها لاستنفد عمر الإنسانية في إدراك قواعده والتصديق بمسائله .
فهو إذاً عرض لذكر شيء من الآيات الكونية في سياق التدليل بها على ما
يقرره من القضايا فإنما يتناوله بالقدر الذي يشترك في التسليم به كافة الناس عامتهم
وعلماؤهم ويلفت الأذهان إلى ما في تلك الآيات من أسرار تدق على عقول الدهماء،
ولا تجل عن أفهام العلماء ، في أسلوب يحفز العقول إلى المعرفة ويستثير ما كَمُن
في النفوس من الغرائز والقوى إلى التبسط في العلم ، واستجلاء آيات الله في
الكائنات ، مجزلاً للعلماء حظهم من الثناء والتكريم .
فتراه حين يدلل على وحدانية الله بما في خلق السموات والأرض واختلاف
الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من الآيات
الكونية تراه حين يدلل على الوحدانية بما في هذه الكائنات وغيرها من سنن ثابتة
محكمة مطردة تدل على وحدانية صانعها وعلمه وقدرته يعقب ذكرها ببيان أن في
ذلك آيات لقَوْمٍ يَعْقِلُون ، وأن في ذلك آيات لقوم يعلمون ، وأن في ذلك آيات لقوم
يتفكرون ، ليوجه العقول إلى معرفة ما فيها من آيات ، ويسوق النفوس والهمم إلى
استجلاء ما في الكائنات من أسرار .
وأما إذا عرض لذكر السموات وما فيها من النجوم والكواكب ، وللأرض وما
فيها من المخلوقات والعجائب ؟ فلا يعرض لبيان حقائق الكواكب وأشكالها ، ولا
لتفصيل مقادير أبعادها ونظام سيرها في أفلاكها ، ورجوعها واستقامتها وميلها ،
واختلاف مناظرها ، إلى غير ذلك من الأبحاث الفلكية ، كذلك لا يعرض عند ذكر
الأرض لوصف شكلها وإثبات حركتها أو سكونها [3] ، وما يترتب على ذلك من
اختلاف الليل والنهار ، والفصول الأربعة ، ولا يذكر أسباب وجود الجبال واختلاف
طبقاتها وألوانها ، ولا أسباب وجود الوديان والزلازل وغير ذلك من الظواهر
الطبيعية ، وإنما يكتفي بذكر تلك الظواهر وما للناس فيها من نفع أو غيره لافتًا
الأذهان إلى ما فيها من سنن وعبر - فهو كما قدمنا يتناولها بالمقدار الذي يشترك سائر
الناس في العلم به لينال كل حظه من الهداية كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ } ( فاطر : 27-28 ) ومن ذا يماري أن الماء منه
حياة كل شيء نامٍ ، وأن الله يخرج به من الأرض ثمرات مختلفًا ألوانها ؟ وأن في
اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام آيات وأسرارًا عظيمة ؟ وإن كان لا
يقف على كنه هذه الآيات والأسرار إلا العلماء .
وكذلك إذا لفت الناس إلى ما في خلق الإنسان من إبداع الصنع وإحسان الخلق
وذكر الأطوار التي تكون للجنين في الرحم وأنه يكون نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم
يصير مضغة فتخلق المضغة عظامًا ، فتكتسي العظام باللحم ؛ فإنما يذكر الظواهر
التي يشترك سائر الناس في إدراكها فإذا أثبت علم الأمبريولوجيا أن النطفة تشتمل
على حيوان إنساني ، وأنه يتصل ببويضات في الرحم يلقحها فيتكون من مجموعها
إنسان يتطور في الرحم في أطوار شتى ، وإذا أثبت هذا العلم بواسطة
الميكروسكوب أن تلك النطفة التي يراها الناس علقة ومضغة هي في الواقع إنسان
تام الأجزاء ، ولكنه غير تام التكوين ، فهل ينفي ذلك أن النطفة صارت علقة وأن
العلقة صارت مضغة ؟ وهل يطعن ذلك في القرآن أو ينقضه ؟ كلا ، وكيف
يكون العلم ناقضًا للقرآن أو مكذبًا له ، وكيف يعادي القرآن العلم والقرآن يحيل
الناظر على العلم ويزكيه ويصدقه وينبئ بأن في الكائنات أسرارًا وآيات قد فصلها
لقوم يعلمون ؟ وهل يزكي القرآن العلم والعلماء هذه التزكية ويأمرنا بسؤال أهل
الذكر في قوله : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ( النحل : 43 ) ثم هو
مع هذا يعادي العلم ويرد حكمه ؟ لا أظن عاقلاً يسلم بهذا .
بقي من الأمثلة التي ساقها الدكتور مسألة خلق السموات والأرض وتحديد مدة
الخلق وما بين مذهب النشوء والارتقاء وبين القرآن من خلاف ؛ فأما مذهب النشوء
والارتقاء ، فلا يزال العلماء الباحثون فيه يرونه نظريًّا غير مدلل ولا مبرهن ،
فليس من بأس منه على القرآن على فرض أن في نظرياته ما يخالف القرآن .
وكذلك مسألة خلق السموات والأرض لم يأت القرآن فيها بتفصيل ينفيه العلم .
فجملة ما يفهم من ظاهر الآيات أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقتا [4]
وأن السماء كانت كالدخان [5] ، وأن الأرض تم تكوينها قبل أن تخلع السماء
صورتها الدخانية المعتمة ، وتلبس هذه الصورة ذات اللون البهيج ، وظاهر القرآن
أيضًا أن السموات سبع طباق ، وأنها ذلك الشيء البديع الصنع ، المنسق الأجزاء
المحكم البناء ، المحيط بالأفق الذي يسحر العقول { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً
مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ } ( الملك :
3 ) .
هذه هي السموات ، لم يعرض القرآن لبيان حقيقتها ولم يكشف عن ماهيتها
ولا عن حقيقة ذلك الشيء ذي اللون الأزرق البديع ؛ فإذا أثبت العلم أن الأرض
جزء من الشمس فليس في القرآن ما ينفي ذلك ، وقد يكون فيه ما يثبته ؛ وإذا أثبت
العلم أن هذا الشيء الأزرق الذي يعلو رؤوسنا ويسمى سماء هو فضاء تسبح فيه
الكواكب ، وأن من الكواكب والنجوم ما لا يصل إلينا نوره إلا بعد ألوف أو ملايين
من السنين ؛ فليس هذا بالذي يضير القرآن في شيء ، أليس هذا الفضاء في رأي
العين متسق الأجزاء كالبناء متناسق التركيب ما ترى فيه من تفاوت ؟ وكونه سبع
طبقات لا يختلف في شيء مع العلم ، أليس العلم قرر أن هذا الفضاء مَسْبَح للكواكب
وأن هذه الكواكب متفاوتة البعد في طبقات متمايزة ؟ وماذا يمنع من أن هذا
الفضاء سبع طبقات متمايزة لكل طبقة منها خصائص ليست للطبقة الأخرى ؟
وأما تحديد مدة الخلق بستة أيام وما فيه من زعم منافاته للعلم فقد أجاب القرآن
الكريم عنه فدل على أنه { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } ( فصلت : 42 ) فلئن كان
العلم يثبت أن الدنيا قديمة العمر ، وأنها مرت في أطوار مختلفة كل طور منها
استنفذ آلافًا من السنين ؛ فإن القرآن يصرح بأن من الأيام ما يقدر عند الله بألف
سنة ، بل منها ما يقدر بخمسين ألف سنة قال تعالى : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } ( الحج : 47 ) وقال : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ( المعارج : 4 ) ثم إذا لاحظنا أن لغة العرب تستعمل السبعين والألف أمثالاً
لإفادة الكثرة من غير قصد إلى التحديد بالعدد المعين ، لم يكن ثمَّ مانع من أن يراد
بهذا العدد الكثرة التي تتناول ملايين السنين [6] .
هذا تأويل بعض ما أشكل على الدكتور من آي القرآن الكريم لم نخرج فيه
عما يفهم من ظاهر اللغة وظاهر القرآن ، ولم تحتج في بيانه إلى ارتكاب تجوّز
نلتمس له القرائن العقلية وإن كان هذا مما أذنت به اللغة ونطق به القرآن في كثير
من الآيات .
ولئن فرض أن السلف أو غيرهم لم يفهموا من بعض آي القرآن ما يفهمه من
بعدهم ، ولئن أَوّل العلماء آية كريمة ، فكان في بعض تأويله غير موفق ؛ فليس
ذلك بالذي يضر القرآن في شيء ، فإن القرآن لم ينزل للسلف وحدهم ، ولقد كان
القرآن ولا يزال حجة قائمة على المدارك والإفهام .
وبعد فماذا بقي في مقال الدكتور من شبهة يحتاج القارئ إلى أن نتحدث معه
في شأنها ؟ أستغفر الله لقد أُنسيت .
بقي الأمر الثالث الذي حدث عنه الدكتور بأنه أعظم من الأمرين الأولين
خطرًا ، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا ، بقيت ثالثة الأثافي ، بقي أن العلم
يطمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ، وأنه يعده ظاهرة اجتماعية وأنه لم
ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض .
وليس بعجيب أن يطمع العلم في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ما دام
هذا العلم من نوع ما يدعيه دكتورنا لنفسه ، ولكن العجيب أن نطمع من دكتورنا في
أن لا يختم بحثه بضرب من التناقض والسخف أفظع وأشنع مما بدأ به بحثه فيترك
القارئ يستمتع ببقية من عقله بعد أن يفرغ من قراءة هذيانه ؛ فلقد رأيت مما
قدمناه من المقال أن الدكتور يقول بملء فِيهِ : ( إن العلم ينصرف انصرافًا تامًّا عن
البحث في وجود الله ونبوة الأنبياء - وهما أساس الدين - إلى ما يمكن أن يتناوله
بالبحث والتمحيص ويقرر أن العلم لا يستطيع أن يتناولهما بالبحث
والتمحيص وأنت لا تراه الآن ينقض ما قرره أولاً ويعود فلا يكتفي بأن
يطمع العلم في إخضاع الدين لبحثه ، بل يزعم أن له الحق في أن يضع الدين
نفسه موضع البحث ، وقد فعل فهل رأيت كهذا التناقض والتخبط ؟
على أننا نصرف النظر عن هذا التناقض أيضًا ، ونسأله ماذا يقصد بالدين
الذي يعده ظاهرة اجتماعية ؟ ويزعم أنه لم ينزل من السماء وإنما خرج من
الأرض ؛ فإذا كان يريد من الدين مجموع العادات والأحوال التي يكون عليها الناس
في وقت من الأوقات ، فله أن يسمى هذا ظاهرة اجتماعية لا ننازعه ولا ندفعه عن
ذلك ؛ وإذا أراد به التعاليم المعينة التي أرسل بها نبي من الأنبياء إلى أمة من الأمم
فإننا لا نسلم له بذلك فإن المعروف من تاريخ الديانات أن الآتين بها لاقوا من
عنت أممهم وعدائهم ما لاقوا ، وكم ذاق الأنبياء من أممهم صنوف العذاب والتنكيل،
وليس حديث موسى وهارون وما لقيا من عنت بني إسرائيل ، وليس حديث محمد
- صلى الله عليه وسلم - وما لقي من أذى قومه بالذي يؤيد زعم الدكتور ، ولو كان
الدين المنزل ظاهرة اجتماعية اقتضتها روح الأمم والجماعات ، كالثورة الفرنسية
وغيرها من الثورات ، لثارت الأمم له ولم تثر عليه ، ولجأت به الجماعة لا الفرد ،
ولكن إذا جاء به الفرد تلقته أمته بالتكريم والتبجيل لا بالتعذيب والتنكيل ، وهذا غير
ما عرف من تاريخ الديانات .
أرجو أن يكون في هذا البيان شفاء لما عسى أن يكون قد علق بنفس القارئ
من شبه الدكتور طه ووساوسه وأن يكون هذا البحث قد انتهى بنا إلى النتائج
الصحيحة الآتية :
وهي أن الدين المنزل من عند الله لا سيما دين الإسلام ليس بينه وبين العلم
من خلاف ولا خصومة ، وأن الإسلام والعلم سيبقيان صديقين وفيين وحميمين
متآلفين يتعاونان على خير الإنسانية حتى يصلا بها إلى منازل السعادة والكرامة
ويكون الناس بهما إخوانًا على سرر متقابلين .
كم أحب أن يفكر الدكتور طه في عاقبة طيشه وتهوره ، وكم أود أن يتروى
في بحثه وفيما يكتب ، وألا يطير وراء الشهوات ، ولا ينخدع بما يقرأ له في كتب
الفرنجة من الأباطيل والترهات ، وأن يتجنب الكلام في شئون الدين ويحتفظ لنفس
إن أراد أن يفتتن بآراء الملحدين ، إنه إن فعل ذلك يعصم مصر من شر مستيطير ،
ويرح نفسه من عناء كثير ، فليس الإسلام كالمسيحية وليست مصر كفرنسا ؛
فللشرق كرمه ووداعته ، وللغرب تهوره وحدته .
ومصر وإن كانت كغيرها من بلاد الله جادة في حياتها العقلية فإنها بالغة
بفضل دينها وإيمانها وعزائم رجالها فوق ما بلغته الأمم الأخرى التي تقدمتها ، فلئن
كانت الأمم الأخرى قد وجدت من دينها عقبة تمنعها من النهوض فاضطرت للثورة
عليه ، فإن مصر ستجد من دينها وتأييده لها على ما تحاوله من الآمال الشريفة خير
عون ، وأقوى ظهير تركن إليه ، إن شاء الله .
... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
***
ملحوظة
هذا البحث قدم إلى جريدة السياسة الأسبوعية في يوم الخميس 29 يوليو
رجاء نشره كما نشرت مقال الدكتور طه حسين فوعدت وسوفت ثم أخلفت .

( المنار )
هذا يدل على أن السياسة لا تنشر أمثال تلك المقالات الإلحادية من باب حرية النشر الواسعة بل هي لسان حال هؤلاء الملاحدة الإباحيين في هذا الباب ، كما أنها لسان حال حزب الأحرار الدستوريين في السياسة ، بل ظاهر إطلاقها أنها لسان حال هؤلاء يشمل هذا ولكننا نعرف منهم أفرادًا أولي دين وعسى أن يحملوها على ترك الدعاية الإلحادية أو ينفصلوا من حزبها محتجين .
__________
(1) المنار : المراد بالموارد الخصبة أنها سبب الخصب وإلا فالظاهر أن توصف بالمذبة .
(2) سبب هذا أن صاحب المقالة أرسلها أولاً إلى جريدة السياسة اليومية لأنها رد على ما نشر فيها كما سيأتي .
(3) المنار : لعل الكاتب يريد أنه لا يقرر ذلك تقريرًا فنيًّا ، صريحًا قطعيًّا ، وهذا لا ينفي أن فيه آيات بينة في ذلك على ما اتفق عليه علماء هذا العصر كقوله تعالى : [ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ] (الزمر : 5) ، وقوله : [ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ] (الأعراف : 54) ، وغير ذلك مما بيناه في المنار بالتفصيل .
(4) سورة الأنبياء .
(5) سورة فصلت .
(6) المنار : التحقيق أن اليوم في اللغة هو زمن مبهم ، يفسره ما يقع فيه من حدث كأيام العرب في حروبها وغيرها ومنه [ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ] (آل عمران : 140) ، قد فصلنا ذلك في التفسير .
(27/521)
 
عودة
أعلى