موقع الدكتور عمر المقبل
New member
[align=justify]
في عصر يوم الخميس غرة شهر ربيع الأول من هذا العام ـ ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثين ـ سعدتُ بمرافقة معالي شيخنا د.عبد الكريم بن عبد الله الخضير([1]) لزيارة العالِم المحققِ د.عبدالرحمنِ بن سليمان العثيمين، في منزله بمحافظة عنيزة.
لقد كان هذا المجلس مجلساً استثنائياً ومميزاً من بين مجالس علمية كثيرة حضرتُها، وقد خرجت منه بفوائد كثيرة علمية ومنهجية، ولعلي أركز في هذه الأسطر على الجوانب المنهجية، ومنها:
أولاً: هذه الزيارات المتبادلة بين أهل العلم تتجاوز آثارَها العلمية إلى آثارها الأخوية والتربوية، ليس للمتزاوِرين فحسب، بل لمن يستفيد من علوم هؤلاء العلماء، فإن التربية بالقدوة أبلغ وأوقع.
ثانياً: هذه الزيارة من شيخنا عبدالكريم، هي امتداد لعادة حسنة معروفة عنه، وهي المبادرة إلى زيارة أهل العلم والفضل، فإنه إذا نزل بلداً سأل عن طلاب العلم المعروفين الباذلين، وبادر لزيارتهم ـ قبل عضويته في الهيئة وبعدها ـ وشكرَهم على جهودهم، وشجّعهم على بذل المزيد، مع أن بعضهم في طبقة طلابه وأبنائه من حيث السن، لكنها أخلاق الكبار.
ثالثاً: تميز اللقاء بين العلَمين الكبيرين بالعفوية، والبساطة، وكان هذا أحدُ أسرار انقضائه سريعاً دون ملل، مع أنه امتد نحو ساعتين.
فأجملِ بهذه العادة الحسنة، التي تولِّد المودّة، وتزيد الألفة، كما أن التكلّف في أمثال هذه المجالس يفقدها جمالها ورونقها، ويقلِّل فوائدَها.
رابعاً: ظهر في اللقاء أثرُ الخبرة الواسعة لدى الشيخين في الاطلاع على المخطوط والمطبوع، بل ومعرفة خطوط العلماء التي تختم بها بعض المخطوطات.
وهذا لا يكون إلا بدوام المطالعة، واستمرار البحث، والدأب على العلم وتعلمه.
ولئن كان هذا قدراً مشتركاً بين الشيخين ـ وفقهما الله ـ فإن واقع وحال الدكتور عبدالرحمن يستوقفك ولا بد! فهو قد دخل عقده الثامن ـ حفظه الله ومتّع به على حسن عمل ـ ولا زال يطالع ويبحث ويكتب ـ ما شاء الله ـ، ولو كان هذا الجلَدُ في المطبوعات لكان مدهشاً، فكيف به وهو يتعامل مع مخطوطات، تحتاج إلى جهدٍ مضاعَف عند القراءة والبحث.
فأين هذا من بعض طلاب العلم؟! الذين ربما توقَّف أحدُهم عند آخر شهادة عليا حصل عليها، فبقيت معلوماته آسنةً عند آخر ورقة قرأها في بحثه المذكور! بل ربما يكون توقّفه عند السن التي ينبغي لطالب العلم المتأهل أن يصنّف فيها!
لقد رأيت شعارَ (مع المحبرة إلى المقبرة)([2]) حاضراً في حياة الشيخين ـ حفظهما الله ـ وخاصةً د.عبدالرحمن، الذي يعاني ما يعاني من آثار صحية، لكنه الحبُّ الحقيقي للعلم والبحث والتنقيب، وهل الحب إلا هذا؟
خامساً: القصص التي سمعتها من الشيخين عن أخبار الكتب، وطبعاتها، وأثمانها، والرحلات في سبيل الاطلاع عليها واقتنائها، كانت جرعةً قوية لمثلي من المقصِّرين، وإن كانت تبدو لأول وهلةٍ ـ في نظر بعض الباحثين ـ نوعاً من الترف العلمي، لكن الحقيقة أكبر من ذلك، فهي تختصر أخباراً امتدت لأكثر من أربعين سنة، حتى استوت على سوقها.
كان د. عبدالرحمن يسأل شيخنا عبدالكريم، والعكس كذلك، عن بعض الكتب والطبعات والمخطوطات النادرة للكتب، فتذكرتُ ما كنتُ أقرؤه في كتب التراجم، التي نَقلت لنا أخبارَ المحدثين في مجالس المذاكرة، وكيف يجتهد أحدُ الطرفين في أن يُغْرِب على الآخر([3])، وما يحصل في تلك المجالس من اللذة العلمية، وفي ذلك قصص وأخبار عجيبة([4]).
ختاماً: هذه خواطر مجملة، اقتضى المقامُ اختصارَها، وواقعُ العلم وطلابهِ نشرَها، عسى الله أن ينفع بها، ويحرّك بها الهمم، فما الحياة إلا حياة العلم والعلماء العاملين، سلك الله بنا جميعاً سبيلهم، وجزاهم عنا خير الجزاء، وحفظ الله الشيخين الكريمين، وبارك في علومهما، ومتّع بهما على حسن عمل.
[line]-[/line]
([1]) عضو هيئة كبار العلماء.
([2])كلمة مشهورة قالها الإمام أحمد لما شوهد بيده أوراق في أواخر حياته، فقيل له: إلى متى تطلب العلم؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
([3]) أي: يأتي بإسنادٍ أو حديث لا يعرفه صاحبُه.
([4]) تأمل في هذه القصة التي ذكرها الذهبي في "تذكرةالحفاظ" (3/ 86):"قال ابن العميد: ما كنتُ أظن في الدنيا كحلاوة الوزارة والرئاسة التي أنا فيها، حتى شاهدتُ مذاكرة الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، وكان الطبراني يغلبه بكثرة حفظه، وكان أبو بكر يغلبه بفطنته، حتى ارتفعت أصواتُهما، إلى أن قال الجعابي: عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي! فقال الطبراني: هات. قال: أخبرنا أبو خليفة، أخبرنا سليمان بن أيوب, وحدثّ بحديث، فقال الطبراني: أنا سليمان بن أيوب، ومني سمعه أبو خليفة، فاسمعه مني عاليًا! فخجل الجعابي. فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني وفرحتُ كفرحه"ا.هـ.
[/align]
جلسةٌ بين علَمَيْن
في عصر يوم الخميس غرة شهر ربيع الأول من هذا العام ـ ألف وأربعمائة وخمسة وثلاثين ـ سعدتُ بمرافقة معالي شيخنا د.عبد الكريم بن عبد الله الخضير([1]) لزيارة العالِم المحققِ د.عبدالرحمنِ بن سليمان العثيمين، في منزله بمحافظة عنيزة.
لقد كان هذا المجلس مجلساً استثنائياً ومميزاً من بين مجالس علمية كثيرة حضرتُها، وقد خرجت منه بفوائد كثيرة علمية ومنهجية، ولعلي أركز في هذه الأسطر على الجوانب المنهجية، ومنها:
أولاً: هذه الزيارات المتبادلة بين أهل العلم تتجاوز آثارَها العلمية إلى آثارها الأخوية والتربوية، ليس للمتزاوِرين فحسب، بل لمن يستفيد من علوم هؤلاء العلماء، فإن التربية بالقدوة أبلغ وأوقع.
ثانياً: هذه الزيارة من شيخنا عبدالكريم، هي امتداد لعادة حسنة معروفة عنه، وهي المبادرة إلى زيارة أهل العلم والفضل، فإنه إذا نزل بلداً سأل عن طلاب العلم المعروفين الباذلين، وبادر لزيارتهم ـ قبل عضويته في الهيئة وبعدها ـ وشكرَهم على جهودهم، وشجّعهم على بذل المزيد، مع أن بعضهم في طبقة طلابه وأبنائه من حيث السن، لكنها أخلاق الكبار.
ثالثاً: تميز اللقاء بين العلَمين الكبيرين بالعفوية، والبساطة، وكان هذا أحدُ أسرار انقضائه سريعاً دون ملل، مع أنه امتد نحو ساعتين.
فأجملِ بهذه العادة الحسنة، التي تولِّد المودّة، وتزيد الألفة، كما أن التكلّف في أمثال هذه المجالس يفقدها جمالها ورونقها، ويقلِّل فوائدَها.
رابعاً: ظهر في اللقاء أثرُ الخبرة الواسعة لدى الشيخين في الاطلاع على المخطوط والمطبوع، بل ومعرفة خطوط العلماء التي تختم بها بعض المخطوطات.
وهذا لا يكون إلا بدوام المطالعة، واستمرار البحث، والدأب على العلم وتعلمه.
ولئن كان هذا قدراً مشتركاً بين الشيخين ـ وفقهما الله ـ فإن واقع وحال الدكتور عبدالرحمن يستوقفك ولا بد! فهو قد دخل عقده الثامن ـ حفظه الله ومتّع به على حسن عمل ـ ولا زال يطالع ويبحث ويكتب ـ ما شاء الله ـ، ولو كان هذا الجلَدُ في المطبوعات لكان مدهشاً، فكيف به وهو يتعامل مع مخطوطات، تحتاج إلى جهدٍ مضاعَف عند القراءة والبحث.
فأين هذا من بعض طلاب العلم؟! الذين ربما توقَّف أحدُهم عند آخر شهادة عليا حصل عليها، فبقيت معلوماته آسنةً عند آخر ورقة قرأها في بحثه المذكور! بل ربما يكون توقّفه عند السن التي ينبغي لطالب العلم المتأهل أن يصنّف فيها!
لقد رأيت شعارَ (مع المحبرة إلى المقبرة)([2]) حاضراً في حياة الشيخين ـ حفظهما الله ـ وخاصةً د.عبدالرحمن، الذي يعاني ما يعاني من آثار صحية، لكنه الحبُّ الحقيقي للعلم والبحث والتنقيب، وهل الحب إلا هذا؟
خامساً: القصص التي سمعتها من الشيخين عن أخبار الكتب، وطبعاتها، وأثمانها، والرحلات في سبيل الاطلاع عليها واقتنائها، كانت جرعةً قوية لمثلي من المقصِّرين، وإن كانت تبدو لأول وهلةٍ ـ في نظر بعض الباحثين ـ نوعاً من الترف العلمي، لكن الحقيقة أكبر من ذلك، فهي تختصر أخباراً امتدت لأكثر من أربعين سنة، حتى استوت على سوقها.
كان د. عبدالرحمن يسأل شيخنا عبدالكريم، والعكس كذلك، عن بعض الكتب والطبعات والمخطوطات النادرة للكتب، فتذكرتُ ما كنتُ أقرؤه في كتب التراجم، التي نَقلت لنا أخبارَ المحدثين في مجالس المذاكرة، وكيف يجتهد أحدُ الطرفين في أن يُغْرِب على الآخر([3])، وما يحصل في تلك المجالس من اللذة العلمية، وفي ذلك قصص وأخبار عجيبة([4]).
ختاماً: هذه خواطر مجملة، اقتضى المقامُ اختصارَها، وواقعُ العلم وطلابهِ نشرَها، عسى الله أن ينفع بها، ويحرّك بها الهمم، فما الحياة إلا حياة العلم والعلماء العاملين، سلك الله بنا جميعاً سبيلهم، وجزاهم عنا خير الجزاء، وحفظ الله الشيخين الكريمين، وبارك في علومهما، ومتّع بهما على حسن عمل.
[line]-[/line]
([1]) عضو هيئة كبار العلماء.
([2])كلمة مشهورة قالها الإمام أحمد لما شوهد بيده أوراق في أواخر حياته، فقيل له: إلى متى تطلب العلم؟ فقال: مع المحبرة إلى المقبرة.
([3]) أي: يأتي بإسنادٍ أو حديث لا يعرفه صاحبُه.
([4]) تأمل في هذه القصة التي ذكرها الذهبي في "تذكرةالحفاظ" (3/ 86):"قال ابن العميد: ما كنتُ أظن في الدنيا كحلاوة الوزارة والرئاسة التي أنا فيها، حتى شاهدتُ مذاكرة الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، وكان الطبراني يغلبه بكثرة حفظه، وكان أبو بكر يغلبه بفطنته، حتى ارتفعت أصواتُهما، إلى أن قال الجعابي: عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي! فقال الطبراني: هات. قال: أخبرنا أبو خليفة، أخبرنا سليمان بن أيوب, وحدثّ بحديث، فقال الطبراني: أنا سليمان بن أيوب، ومني سمعه أبو خليفة، فاسمعه مني عاليًا! فخجل الجعابي. فوددت أن الوزارة لم تكن، وكنت أنا الطبراني وفرحتُ كفرحه"ا.هـ.
[/align]
* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4114.html