ظاهر التعارض بين نبوةِ آدم وعلمه الأسماء كلها ووقوعه في الشرك
ظاهر التعارض بين نبوةِ آدم وعلمه الأسماء كلها ووقوعه في الشرك
مسألة ظاهر التعارض بين نبوةِ آدم وعلمه الأسماء كلها ووقوعه في الشرك:
المسألة تتقاطعُ بجلاءٍ معَ قضيتين مما أشكل في القرآن:
- الأولى أوَّل شرك وقع في الأرض (
رابط مهم).
- والثانيةُ هي مفهوم عصمة الأنبياء.
ولن أخوض فيهما إلا بما يمتُّ للآية محل النزاع بصلة باختصارٍ، وأضيفُ على بعض ما سبقني إليه الإخوة الكرام بالتعقيب والبيانِ مسترشدًا بالله سبحانه.
وأنوّهُ إلى:
• أنَّ نسبة الضلال بمعنى الزَّيغ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ بظاهر آية الضحى باطلٌ؛ وأن لكلمة الضلال في العربية والقرآن معانيَ ذات مراتب:
- أدناها النسيان
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (البقرة 282).
- ويليها التيه والفقدان حقيقة
{ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (الإسراء 67).
- أومجازًا بمعنى الحيرة
{وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} (الضحى 7).
- وما هو أعلى من ذلك كالغفلة والمعصية
{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (الشعراء 20).
- وأقصى معانيها ضلال الديانة والمعتقد بالكفر
{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} (الشعراء 86).
كما لا أُفوّتُ:
• أنَّ الجهد المشكور والأدلة الإحصائية الوافية التي عرضها الأخ شايب من أقوال أمهات التفاسير -إن لم أقل جلَّ المعتبرِ منها- تبيِّنُ أن غالبيةَ الأمة بعد الصحابة والتابعينَ تميلُ إلى تزكية آدم عليه السلامُ عن كونه المراد في آية الشركِ في سورة الأعراف.
لكن الذي يضعنا في إشكالية عويصة هو أقوال
ابن عباسٍ وسمرة بن جندب وقتادةَ وعكرمةَ ومجاهد وسعيد بن جبيرٍ القائلين أن من أشركا هما آدم وحواءُ؛ والتي هي عندي أرجح وأقوى من آراء المفسرين جميعا ممن جاء بعدهم، ولو كان الصحابة يرون المعارضةَ قائمةً بحجج قوية لعلمنا منهم النكير الشديد كمثل ما فعلوا في مسائل أدنى من هذه.
وتحديد معنى الشرك عندهم قويٌّ مفهوم:
فابن عباس قال: (
أشركه في طاعته في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه).
وقتادة قال: (
وكان شركاً في طاعته، ولم يكن شركاً في عبادته).
وأما سعيد بن جبير فــ: (
قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أنَّ آدم أشرك، .... فإنما كان شركه في الاسم).
والذي أراه أنه شركٌ جمع إلى كونه "شركًا دون شركٍ" ملابساتٍ وظروفًا تحُجُّ كل من أشركَ بعدُ على علمٍ وهدى.
وبفرض كون آدم هو المقصود في الآية محل النقاش؛ فعلينا أن نستحضر الآتي:
•
أولًا: أنَّ مسألة عصمة الأنبياء محلُّ نزاعٍ عند علماء المسلمينَ بالأدلة النقلية والعقلية؛ واختُلِفَ في العصمة هل هي بعد النبوة مطلقًا من كل المعاصي أو هيَ عصمةٌ من عدم التوبة بعد مقارفة الذنب، فأما قبل إيتائهم النبوةَ فالاختلاف فيها أشد؛ ونمثل له بالأسباط هل كانوا إخوة يوسف المتآمرين وتابوا وصلُحوا ونُبِّئوا؛ أم ليسوا همْ، وأما الثاني الذي فيه التوبة من الذنبِ فمثله أَبَقُ يونسَ وفتنتا داوودَ وسليمانَ وهمُّ يوسفَ عليهم وعلى نبينا السَّلام.
•
ثانيًا: لا غلوَّ كما غلا أهل الكتاب وأساؤوا الأدب مع أنبياء الله فجعلوا منهم الزاني والسكير والمتعارك مع الله وغيرها مما تشيب لمسمعه الولدان، ولا نطريهم حتى نجعل منهم أربابًا وآلهة كما في حالتي عيسى وعزير عليهما السلام.
ومن حِكمة الله أنْ أورَدَ في كتابه مآخذ على أنبيائه أو معاصي تابوا منها، وتهديدًا لهم أحيانًا؛ لنعلم أنهم عبادٌ لله مصطفَونَ لا نتجاوز فيهم حدَّ الاتباع والحب والموالاة، وليصدقَ استغراقُ الكلية بالخطإ على الآدميين كما في الحديث عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"
كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُون". أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَسَنَدُهُ قَوِيٌّ.
•
ثالثًا:
إن وقع آدم بعد علم الأسماء كلها في معصية الأكل من الشجرة، فلا يستحيل وقوعه في معاصٍ أخرى، وإن أُتي وزوجَه من قبل شهوة حب الرقيِّ لمكانة الملائكة أو الرغبة في الخلد في الأولى بمغالطة عقلية منطقية من إبليس لهما، فإنهما أُتيا من جهة شهوة حب الولد في الثانية ومغالطة عقلية منطقية من إبليس مرة أخرى لهما.
وبينَ علم الأسماءِ (تخزين المعلومات والمعارف) وإعمال العقل والحواس للتحليل والاستدلال والاستنباط والاختيار فارقٌ لا يخفى على ذي لب. وكثرة الحوار مع العدوّ المفروضِ مكاشفةً أو وسواسًا لآدم ولزوجه يوجبُ وجودَ كثير حقٍّ في كلام إبليس ليدلس عليه، وأنه وقع في القليل المعدودِ من معصيته عليه السلام بعد جهود شيطانية مضنيةٍ؛ وتاب آدمُ من المعصية إنْ مرَّةً أو مرَّاتٍ فكانت توبتهُ حسرة على إبليس.
•
رابعًا: أن الكشف عن الغيب في الزمن الأول كانَ أظهر منه عما هو في الأزمان اللاحقة للبشرية، وكذلك الشأنُ في كشف المعصية؛ ولو أطلع الله كثيرا ممن يظنون من أنفسهم التوحيد الخالص على ما في أفئدتهم من الشرك بنوعيه لم يزالوا يتندمون أبد الدهر، ولودوا لو وقعوا في معصية آدم المفترضة لا أكثرَ من ذلك؛ لكنِ {
اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} (الشورى 19) {
وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى 30). وقد َتَأَوَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: {
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (يوسف 106) قَالَ: "
إِنَّ أَحَدَهُمْ يُشْرِكُ حَتَّى يُشْرِكَ بِكَلْبِهِ: لَوْلَا الْكَلْبُ لَسُرِقْنَا اللَّيْلَةَ". وصح ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "
مَا يَنْبَغِى لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى عَلَيْهِ السَّلاَمُ".
•
خامسًا: أنه كلما اقتربنا من قصص القرآن الحادثة في الزمن البعيد من عمر البشرية زاد اللبس في فهم حيثياتها وتفاصيلها ودرجة الاتفاق على تفسير آياتها.
وبالتلازم كلما بعدنا عن المرحلة المدنية ورجعنا إلى المرحلة المكية الأقدم فالأقدم إلى بدء نزول الوحي؛ وجدنا الظاهرة نفسها ماثلةً للدارسين لأسبابٍ موضوعيةٍ ليس هنا مقام إبرازها.
وكأن في الأولى إشارةً إلى ضعف علم ابن آدمَ عن إدراك ما كان من نبإ أبيه الأول، وما كان قبله.
•
سادسًا: أن
أولَ ذكرٍ لآدمَ حسب ترتيب النزول كان في سورة الأعرافِ، وذكر بها ست مراتٍ باللفظ، وفي بداية السورة قصته وزوجه مع الشجرة، فلا عجب إن جاء آخِر السورة بمعصيةٍ أخرى هي شرك الطاعة وتابا فتاب الله عليهما، على أن شركًا من عارفٍ ليس كشركٍ ممن جهِلَه ولَمْ يرَ له سابقة.
•
سابعًا: أن السورة السابقة للأعراف في النزول هي سورة ص وفيها فتنة داوود وسليمان عليهما السلام.
وهاتان السورتان نزلتا قبيل الهجرة الأولى إلى الحبشة التي تدين بعبادة عيسى عليه السلام وأمِّه، ومناسبتها المقصودة فيما بلَّغني الله من اجتهاد هي طرد الغلو في الأنبياء من قلوب المؤمنين الذين سيساكنون النصارى؛ وتهيئة لهم هم، ولمن سيعيشون معهم من النصارى فيبلغونهم.
فإن قيل فلِمَ لَمْ يذكُر أو يوجد الله لعيسى معصيةً إن كان ذلك كذلك؛ قلتُ أنَّ اشتراك المسلمين مع النصارى في تعظيمه عليه السلام وأُمَّهُ الصديقة عليها السلام أولى وأنفع للإسلام في الحاضنة الحبشية الجديدةِ من أن يُذكر له معصيةٌ إلى ذلك التعظيمِ، وأحرى ألا يَصْرِفَ عن دحض ألوهيته جدالٌ هامشيٌّ آخرُ ينضافُ إلى إعجاز مولده وتكليمه الناس في المهد وبركته وعظمة خلقه وبرِّه مما نزلَ في سورة مريمَ بعدئذٍ بأربع سورٍ؛ وحاجَّ به جعفرُ رضي الله عنه النجاشي وقومه.
•
ثامنًا: أنَّ سورة الأعراف تحدثت عن
مجموع الأمم من الثقلين في ترتيبٍ بديعٍ؛ وناسبَ أن يكون في أولها وآخرها حديثٌ عن أبَوَي البشرية، وناسب أن أولها فيه معصية شهوةٍ بالأكل من شجرة منهي عنها، وآخرها به شركٌ ناجمٌ عن شبهةٍ غلبتْ بشهوةِ البنوّة والتكاثر.
فحالُ الذريَّةِ وهي تلك الأمم الكثيرة مختزلةٌ في حال الأبوين من أدنى المعاصي إلى أعلاها؛ ومصداقه الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "
لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ عَنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ، فَقَالَ أَيْ رَبِّ! مَنْ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ ذُرِّيَّتُكَ. فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ، وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، قَالَ: أَيْ رَبِّ! مَنْ هَذَا؟ قَالَ: دَاوُدُ. فَقَالَ: رَبِّ! كَمْ جَعَلْتَ عُمُرَهُ؟ قَالَ: سِتِّينَ سَنَةً. قَالَ : رَبِّ زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً). قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَلَمَّا انْقَضَى عُمْرُ آدَمَ إِلَّا أَرْبَعِينَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَقَالَ آدَمُ): أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَكَ دَاوُدَ ؟! فَجَحَدَ آدَمُ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ آدَمُ فَأَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَخَطَأَ وَخَطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. أو هكذا جاء: "..
وَخَطِئَ آدَمُ فَخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُهُ". وخَطَأَ من الخطأ أيسر من خطِئَ من الخطيئة.
•
تاسعًا: أنَّه بتتبع النزول الترتيبيّ خارجَ السورةِ مما نزل من القرآن وفيه "آدم" إثر سورة الأعراف؛ وبالتحديد بعد قصة الشرك تلك نجد: {
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يس 60)، وذلك يسترعي النظر.
•
عاشرًا: أنه قد يكون آدم غير آدم باعتبار الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "
سبع أَرضين، وَفِي كُلِّ أَرْضٍ نَبِيٌّ كَنَبِيِّكُمْ، وَآدَمُ كَآدَمِكُمْ، وَنُوحٌ كَنُوحٍ، وَإِبْرَاهِيمُ كَإِبْرَاهِيمَ، وَعِيسَى كَعِيسَى" ؛ أو أن آدم المذكور أول السورة وزوجه خلاف آدم وحواءَ الذَيْن تناهى الخبرُ إلى المفسرين أنهما المرادانِ في قصة الشركِ آخر السورةِ؛ ويعضده دليلان؛ الأول ثبوت تشابه الأسماءِ في غير هذا الموضع؛ كما في مريم ابنة عمران أخت هارون، وموسى بن عمران أخي هارون، والثاني
كلامٌ نفيسٌ للشيخ بسام جرار في تفسير آية آل عمران التي فيها تشابه خلق عيسى وآدم عليهما السلام، وأن آدم {
مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (الأَنعام 133).
والله أعلى وأعلم.