(جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد) فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير, بحث مؤصل.

إنضم
28/10/2007
المشاركات
564
مستوى التفاعل
4
النقاط
18
الإقامة
المملكة العربية
الموقع الالكتروني
www.ahlalhdeeth.com


بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم الشيخ سليمان الخرشي

هذا بحث مؤصل موجز ، نشره صاحبه : الشيخ عبدالله البطاطي - وفقه الله - في مجلة " الجندي المسلم " على خمس حلقات ؛ رأيتُ نقله هنا ؛ لما فيه من وضوح ويُسر في توضيح هذا المنهج غير الشرعي الذي بدأ يتسلل للأسف إلى عقول بعض الدعاة ؛ ممن أخذوا على عاتقهم : تأصيله وتجذيره في مجتمعنا خاصة ، وماعلموا - هداهم الله - ، أن مثل هذا المنهج " السائب " سيكون - كما قيل - يومًا لك ، ويومًا عليك ! وأن مايظنه هذا الداعية قيودًا يضبط بها تسيبه ، ستذهب مع الريح ؛ وسيقول له من سيستفيد من هذا المنهج الفاسد في النهاية ، كما قيل في الحكاية الشهيرة : ( لماذا باؤك تجر وبائي لا تجر ) !

وقد سألت الشيخ عن سبب تأخر طبعه ، فأفاد أنه أضاف عليه إضافات كثيرة ، ومبحثًا جديدًا عن مجاملة بعض المفتين للفضائيات في فتاواهم ! والغريب أن منهم من كان يلوم كبار العلماء على ما يظنه مجاملة للحكومة في فتاواهم ! فتأمل ( عدل الله ) .. ثم أفاد أن البحث سيُطبع خلال أشهر - إن شاء الله - ، والله الهادي :


جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
عبد الله بن سالم البطاطي
(1 / 5)

لا يخفى على أحد من أهل الإسلام شأن الفتيا وأهميتها ، وعلو منزلتها وخطورتها ، إذ هي توقيع عن الله عز وجل ورسوله .

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكفي الناس هذا الأمر ؛ فما من نازلة تنزل دقيقة كانت أو جليلة ، خاصة أو عامة إلا ويتوجه الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتغون الهدى والبيان ؛ فيسألونه ويجيبهم ، ويستفتونه فيفتيهم ؛ فيصدرون عنه وقد شفى العليل ، وأروى الغليل ، ولم يترك لهم شاذة ولا فاذة إلا وقضى حاجتهم منها ، وجاءهم الخبر آية من كتاب الله ، أو حديثاً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وخذ مثلاً على ذلك ما جاء في قصة عقبة بن الحارث رضي الله عنه : " أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز ؛ فأتته امرأة فقالت : إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج ، فقال عقبة : ما أعلم أنك أرضعتني ، ولا أخبرتني ، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله فقال : كيف وقد قيل ؟ ففارقها عقبة ، ونكحت زوجاً غيره " [1] .

وهكذا الحال على الدوام . . كلما جاؤوا بالمسائل جاءهم بالدلائل ، فكان الأمر يقيناً كله .

الفتيا في عصر الصحابة :
ثم جاء عصر الصحابة رضي الله عنهم فكانوا أمنة حفاظاً ، حماة للعقيدة ، حراساً للشريعة ، وهم رضي الله عنهم يتفاوتون في حمل العلم تفاوتاً بيناً ، فمقل ومستكثر ؛ ولهذا فقد تجد عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل وكلهم أهل فضل .

قال مسروق رحمه الله : لقد جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجدتهم كالإخاذ جمع إخاذة وهي الغدير أو مجتمع الماء فالإخاذ يروي الرجل ، والإخاذ يروي الرجلين ، والإخاذ يروي العشرة ، والإخاذ يروي المئة ، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم ، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الإخاذ [2] .

وكانوا رضي الله عنهم محط أنظار الناس يومئذ ، يهتدون بهديهم ، ويقتفون أثرهم ، ويتأدبون بسمتهم ، وكل المسلمين يقصدونهم لأجل الفتيا والسؤال والتلقي عنهم ، وأخذ العلم منهم ، ولم يكن في زمنهم من يقوم مقامهم أو يسد مسدهم ، فالكل محتاج إلى ما عندهم من العلم .

زد على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد هيأهم لهذا الأمر ، وأخبرهم أن الناس تبع لهم ، وأمرهم أن يستوصوا بطالب العلم خيراً ، وأن يرحبوا به ويقبلوا عليه .

فعن أبي هارون العبدي قال : كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال : مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا : " إن الناس لكم تبع وإنهم سيأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين ، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيراً " [3] .

فلم يكن بد من التصدي للناس ، والنظر في قضاياهم ، فبذلوا النفس والنفيس لنشر دين الله ، غير ضانين بالعلم على أهله ، واجتهدوا في تفقيه الخلق ، وتحديث الناس ، وقاموا بالوصية خير قيام رضي الله عنهم .

تورع الصحابة في الفتيا :
ومع ما حباهم الله به من الفضل والعلم إلا أنهم كانوا يتهيبون الفتيا ، ويتحرزون منها ، للعجز عن الإحاطة بالسنن والآثار كلها ، فإن هذا ليس في مقدور أحد ، ثم حتى مع العلم بها قد يعتري الإنسان شيء من الذهول والنسيان ، أو أي عارض من العوارض التي تحول دون الإدراك الصحيح ، والفهم المليح ، فلولا حاجة الأمة ، وخشية التأثم ؛ لامتنعوا بالمرة ، لأن الاجتهاد وبذل الرأي مزلة قدم ، ومظنة سوء الفهم .

قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله ( ت82 هـ ) : " لقد أدركت في هذا المسجد عشرين ومئة من الأنصار ، وما منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا " [4] .

الفتيا عقب عصر الصحابة :
ثم جاء من بعدهم من أهل القرون الأولى المباركة وقد ارتشفوا من فضائل الصدر الأول الميمون ، وساروا على الأمر المستقيم ، فكانوا على إدراك تام بأهمية مقام الفتيا ورفعته ، فعظموه حق التعظيم ، وقدروه قدره ، فتحفظوا في الفتوى جهدهم ، وصاروا يتدافعونها طلباً للسلامة ، وقد تدور الفتوى دورتها بينهم حتى تعود إلى الأول ، فإذا رأى أنه لابد من الإجابة فلربما أجاب السائل وأفتاه وفرائصه ترتعد ؛ كل هذا حذراً من القيل على الله بغير علم ، ولا والله حاشاهم أن يقولوا على الله بغير علم لكنه الورع التام ، وهيبة المقام ، وخشية الوقوف بين يدي رب الأنام .
قال سفيان الثوري رحمه الله : " أدركت الفقهاء وهم يكرهون أن يجيبوا في المسائل والفتيا ، حتى لا يجدوا بداً من أن يفتوا " [5] .

وقال عطاء بن السائب رحمه الله : " أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن الشيء ، فيتكلم وإنه لَيَرعدُ [6] .

وعن عمير بن سعيد رحمه الله أنه قال : " سألت علقمة عن مسألة ، فقال : إئت عبيدة فسله فأتيت عبيدة فقال : إئت علقمة فقلت : علقمة أرسلني إليك ، فقال : إئت مسروقاً فسله ، فأتيت مسروقاً فسألته ، فقال إئت علقمة فسله ، فقلت : علقمة أرسلني إلى عبيدة ، وعبيدة أرسلني إليك ، قال : فأت عبد الرحمن بن أبي ليلى ، فأتيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فسألته فكرهه ثم رجعت إلى علقمة فأخبرته " [7] .

وهذا الموقف النبيل من شرع الله الجليل انسحب على أمة الإسلام من عامتهم وخاصتهم تأثراً بعلمائهم ، فإنهم بتعظيمهم للشرع قد أوجدوا سياجاً منيعاً في قلوب الخلق حول أحكام الملة ؛ فاستقر في النفوس تعظيمها وتبجيلها وإكبارها ، وأضفوا على النصوص هالة من الوقار والجلال ، فلم يتجرأ أحد على العبث بالحرام والحلال ، ولا تجاسر على الاستطالة عليها رقيق الحال ، بل كل واحد منهم عرف مكانته ومكانه ، حتى إذا انزلت بأحدهم نازلة يمم شطر هذا العالم أو ذاك ؛ فسألوهم إذ لم يعلموا ، إعمالاً لقوله تعالى :  فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ  (النحل : 43) .

الاستهانة بالفتيا في العصور المتأخرة :
ثم تطاولت الأيام ، ومضت السنون ، ووقعت السنن ، وحلت الأقدار بما مضى به القلم ، وأصاب هذه الأمة ما أصاب سائر الأمم ، وأصبح الحال كما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً ، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا " [8] .

ولا يزال أمر الأمة في انحدار وسفال حتى ظهر الرويبضة التافه يتكلم في أمور العامة واندثر عصر المفتين وجاء عصر المفتونين ، وذهب زمن العلماء وجاء زمن المثقفين ؛ بل وأنصاف المثقفين ! وصار يفتي من ليس بفتي ، وأصبحت مسائل الشرع وأحكام الملة كالكلأ ترتع فيه كل سائمة ، وحتى مصنفات الأئمة ودواوين الإسلام لم تسلم من عبث الأقزام ؛ بل من ذا الذي لم يعد يفهم الدين أصولاً وفروعاً في هذا الزمان ؟! أليست المدارس ، قد انتشرت و الكتب الشرعية قد طبعت ؟! إذن لماذا الكبت على حريات الناس ، وتكميم الأفواه عن الكلام في الشريعة ؟! لماذا التسلط على عقول الآخرين والحجر على أفكارهم ؟! وهل هذه إلا رهبنة ، ولا رهبانية في الإسلام !! " اللهم إنا نشكو إليك هذا الغثاء " .

وما نراه اليوم في الفضائيات من فضائح على هيئة نصائح ، ومواقف مخزية وفتاوى مردية ، وأقوال مخجلة ، وآراء مجلجلة ، " مبنية على التجري لا التحري ، تعنت الخلق ، و تشجي الحلق " ، من قبل مفتي الجمهور ، و العالم الهامور ، الذي " يفتي في وقت أضيق من بياض الميم ، أو من صدر اللئيم ، بما يتوقف فيه شيوخ الإسلام ، وأئمته الأعلام " [9] ؛ لهو أكبر دليل على تسيب الفتوى ، وانحلال عقد الأمور ، والتعدي على حرم الشريعة .

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله ، أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام ، ولا أميراً خيراً من أمير ولكن علماؤكم وخياركم يذهبون ، ثم لا تجدون منهم خلفاً ، ويجيء قوم يقيسون الأمور بآرائهم ، فيهدم الإسلام ويثلم [10] .

ليس البلية في أيامنا عجب بل السلامة فيها أعجب العجب !

وصرنا في زمان قل فيه العلماء وظهر أشباههم ، وارتفع الأدعياء وكثر اتباعهم ، وبرز المتعالم بل والعالم الماجن ! ، وبَدَا إبليس في صورة قديس ، وجاؤوا يركضون وراء " العصرنة " ويلهثون خلف " التنوير " ، وركبوا الصعب والذلول لإحياء المهجور ، وتعلقوا بالرأي الشاذ المغمور ، فكانت النتيجة : إذابة الفوارق ، وتمييع العقيدة ، وتحريف النصوص ، وتعطيل الأدلة ، وتبديل الفضائل وتخريج الرذائل ، والطعن في المسلمات ، والتشبث بالغوامض والمبهمات ، . . . في غيرها من أخواتها النحسات النكدات التي ملؤها التمويت والتمويه والتهوين ، فاللهم غفراً .

ولقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من أناس يتشدقون بالعلم وليسوا أهله ، يلوكون المسائل كما تلوك البقرة بلسانها ، وأخبرنا أن من أشراط الساعة أن يطلب العلم المتين من هذا الصغير المهين كما جاء في حديث أبي أمية الجمحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن من أشراط الساعة أن يلتمس العلم عند الأصاغر " [11] .

وليس المراد بـ ( الأصاغر ) ههنا صغر السن . . كلا ، بل المراد صغير القدر ، ضحل العلم ، ضائع التقوى ، بائع الفتوى ؛ لأن هذا الأمر مداره على الأهلية وليس على طول القامة ، وكبر العمامة ، فالعلم لا يقاس بالأشبار ، ولا يعترف بالأحجام .

قال إبراهيم الحربي رحمه الله ( ت 285 هـ ) : " الصغير إذا أخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين فهو كبير والشيخ الكبير إن ترك السنن فهو صغير " . أهـ [12] .

وذكر الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتابه ( جامع بيان العلم وفضله ) هذا الحديث وأحاديث أخر ، وبوب على ذلك بـ : بابٌ ، حال العلم إذا كان عند الفساق والأرذال ، ثم قال رحمه الله ( ت463هـ ) : " وقال بعض أهل العلم : إن الصغير المذكور في الحديث إنما يراد به الذي يستفتى ولا علم عنده ، وإن الكبير هو العالم في أي شيء كان ، وقالوا : الجاهل صغير وإن كان شيخاً ، والعالم كبير وإن كان حدثاً . . . واستشهد بعضهم بأن عبدالله بن عباس رضي الله عنه كان يستفتى وهو صغير ، وأن معاذ بن جبل وعتاب بن أسيد كانا يفتيان وهما صغيرا السن ، وولاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم الولايات مع صغر أسنانهما ، ومثل هذا في العلماء كثير .

إلى أن قال : ومما يدل على أن الأصاغر من لا علم عنده ما ذكره عبدالرزاق وغيره عن معمر ، عن الزهري قال : " كان مجلس عمر مغتصاً من القراء شباباً وكهولاً ، فربما استشارهم ويقول : لا يمنع أحدكم حداثة سنه أن يشير برأيه ، فإن العلم ليس على حداثة السن وقدمه ولكن الله يضعه حيث يشاء . أهـ [13] .

والآثار عن السلف مستفيضة في ذم الفتيا بغير علم ، والنهي عن سؤال غير العلماء ، والتنفير من الاستماع للجاهل الحقير ، صيانة للإسلام وحماية لبيضته أن تستباح ، ونصحاً لعباد الله المؤمنين ، فكيف بمن جمع " حشفاً وسوء كيلة " ! وصار ضره أقرب من نفعه ! فالحذر الحذر أيها المسلمون ، كما قال هَرِم بن حيان رحمه الله : " إياكم والعالم الفاسق . أهـ [14] .

وهؤلاء المتسلطون على ذخيرة الأمة ، والساطون على ذخائر التراث ، يتقحمون دار الفتيا بدعوى الاجتهاد ، ويتخذونه مطية للتجني على النصوص الشرعية لا للجني منها ، وفتحوا باب " المصلحة " على مصراعيه ، فلا ضابط لها عندهم ولا قيد ، وأصبح واسعاً فضفاضاً يلج منه كل من أراد الانتهاك أو التهوك .

زد على ذلك أنهم إذا تناولوا مسائل الشرع بالبحث والنظر ؛ تناولوها بروح المنهزم المتراجع تحت ضغط الواقع ؛ فينبهرون من وصول الغرب إلى المريخ ، وينسون ما سطره أسلافنا في التاريخ ، ويبهتهم التطور والتحضر والعمران ويجعلونه جزءاً من أصول فقههم ، ومراعاة التكنولوجيا والتمدن مقصد من مقاصد شرعهم !

فهذه ثلاث عورات لهم : " اجتهاد " لا محدود ، و " مصلحة " بلا حدود ، وانهزام أمام الواقع المنكود . . فماذ بقي يا عباد الله !!

ولعل احتمال ظهور أمثال هؤلاء هو الذي حمل بعض من سبق من أهل العلم على القول باقفال باب الاجتهاد ؛ خوفاً من أن يخوض في هذا الأمر من ليس أهلاً له فيعبث بالديانة خاصة في آخر الزمان حين تقل الأمانة ، فلله درهم ما أبعد نظرهم .

وإن كنا نقول : إن الاجتهاد أمر مطلوب لسد حاجات الأمة ، ولا مفر من الإقرار والأخذ به ؛ لكن لابد من ضبطه بالضوابط ، وتقييده بالقيود ، وإلا أصبح مطية ذلولاً لكل مارق ومعاند ؛ فإن الاجتهاد " حركة عقلية في أحكام الدين المشروعة لمصالح الأمة ، وليس الاجتهاد مجرد حركة عقلية تتجه مباشرة إلى المصالح " [15] والقول بغير ذلك يؤدي إلى تلاعب التافهين بكلام رب العالمين وسنة سيد المرسلين وحينئذ ليس ثمة اجتهاد وإنما هو اجتثاث واجهاض ، ينتج عنه قزع من الفتاوى الممسوخة . . عياذاً بالله .

وأنا أذكر لك هنا مثالين اثنين لتستبين سبيل القوم :
المثال الأول : ما قاله الشيخ محمد حبيب الله الشنقيطي رحمه الله تعالى (ت1363هـ) في كتابه : ( فتح المنعم ) في بحثه عن تجويز حلق اللحية ، قال : ولما عمت البلوى بحلقها في البلاد المشرقية حتى إن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره خوفاً من ضحك العامة منه ، لاعتيادهم حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصل أخرِّج عليه جواز حلقها حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق ، فأجريته على القاعدة الأصولية ، وهي : أن صيغة ( افعل ) في قول الأكثرين للوجوب ، وقيل : للندب ، وقيل : للقدر المشترك بين الندب والوجوب ، وقيل بالتفصيل : فإن كانت من الله تعالى في القرآن فهي للوجوب ، وإن كانت من النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث هنا على الروايتين وهما رواية : ( وفروا ) ، ورواية ( اعفوا ) فهي للندب . أهـ .

" فهذا القول حكايته تغني عن التدليل على بطلانه ، فالشيخ قد أقر باتفاق العلماء على حرمة حلقها ، ثم سعى إلى تخريج فاسد ترتب عليه نسف جميع الأوامر النبوية حيث جوز مخالفتها ، لأنها تدل على الندب لا الوجوب كما يدعي ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " [16] .

والمثال الثاني : ما قاله الدكتور وهبه الزحيلي هداه الله وغفر له حين تكلم عن قبول شهادة النصراني ، فقال بعد كلام له حول جواز التلفيق بين المذاهب : فإن الحكم بشهادته ينقض ؛ لأن الفاسق لا تقبل شهادته ، والكافر أشد منه فسوقاً وأبعد عن المناصب الشرعية في مقتضى القياس فينقض الحكم لذلك ولقوله تعالى : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) (الطلاق : 2) ، وهو رأي المذاهب الأربعة ، إلا الحنابلة فقد أجازوا شهادة أهل الكتاب في الوصية في السفر إذا لم يكن غيرهم ، عملا بقوله تعالى : (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (المائدة : 106) .

ثم يأتي بعد هذا التقرير الجيد والمشهور في كتب الفقهاء يستدرك على نفسه فيقول : لكني أرى أن الأسباب المعنوية والاجتماعية ، والظروف الخاصة ، والتعصب الذي كان موجوداً في التاريخ بين المسلمين وغيرهم هو الذي أدى إلى رفض قبول شهادة غير المسلمين ، أما الآن وقد عاش المسلمون مع غيرهم في صعيد واحد ، واتصلوا اتصالاً وثيقاً مع بعضهم ، فلا مانع من قبول شهادتهم على المسلمين للضرورة ، وقد جرى العمل على ذلك في البلاد الإسلامية !! [17] .

هذا هو " الفقه الطائش " ، الذي يتخطى النصوص ، ويخطيء الأسلاف ، ولا ينظر إلا إلى المصلحة ( الضرورة ) . . والمصلحة فقط وبلا قيود .

ولا أريد الوقوف عند هذا القول الباطل للرد عليه ، فإن من شم رائحة الفقه يعلم سقوطه بل وخطورته على الاعتقاد ! ولو تأمل فضيلة الدكتور قليلاً لرأى أنه بكلامه هذا يهدم المسألة من أصلها ؛ فإنه إن كان الكافر تقبل شهادته فالفاسق من المسلمين مهما كان فسقه وجرمه لأنه لن يبلغ درجة الكفر بارتكابه للمعاصي من باب أولى ، وحينئذ لا ترد شهادة أحد أبداً ! وهكذا يفعلون . . يبنون قصراً ، ويهدمون مصراً .

ونحن في هذا الزمان قد ابتلينا بصنفين من المتفيقهة :
الأول : متعالم في الفقه لا يدريه ، فهذا غايته الجهل ؛ لا يعرف من العربية حرفاً ولا من الفقه فرعاً ، ولا في الاصطلاح نوعاً .

الثاني : تلميذ من ( مدرسة الفقه العصرانية ) موئل الإفراز للزيغ بصلابة جبين ، وهذا والله أمرُّ الأمرين ؛ لأنه دخل هذه المدرسة أناس شهروا ، فنفخ في بوقهم الكافرون ؛ حتى نفذوا عن طريقهم ، بإنزال الشرع المبدل ، والشرع المؤوَّل محل الشرع المنزل ، من عدة طرق رتبها القاسطون .

فترى فواقر الرخص ، وبواقر الشذوذ يجتمع منها الكُثُر في الشخص الواحد ، وأجواء العصر المادي على أهبة الاستعداد باحتضان عالم الشقاق ، فتحمل له العلم الخفاق لنشر صيته في الآفاق ، فيغتر بذلك أسير الحظ الزائل ، وما زاد أن صار بوقاً ينفخ به العدو الصائل " [18] .

________________________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب العلم ، باب : الرحلة في المسألة النازلة رقم ( 88 ) ، وتكرر الحديث في المواطن التالية الأرقام : ( 1947 ) ، ( 2497 ) ، ( 2516 ) ، ( 2517 ) ، ( 4816 ) .
(2) أخرجه : أبو خيثمة في كتاب ( العلم ) رقم 59 ، والبيهقي في ( المدخل ) رقم ( 150 ) .
وصححه الألباني في تعليقه على كتاب ( العلم ) لأبي خيثمة زهير بن حرب ( 17 ) .
(3) أخرجه : الترمذي رقم ( 2650 ) ، ( 2651 ) ، وابن ماجة رقم ( 247 ) ، ( 249 ) ، وعبدالرزاق في ( المصنف ) رقم ( 20466 ) ، والحاكم في ( المستدرك ) 1/88 وصححه وقال الذهبي : على شرط مسلم ، ولا علة له - أهـ ، وابن أبي حاتم في ( الجرح والتعديل ) 2/12 ، وأبو نعيم في ( الحلية ) 9/253 ، وابن عدي في ( الكامل ) 5/1733 ، وتمام الرازي في ( الفوائد ) رقم ( 23 ) ، ( 142 ) ، ( 151 ) ، والرامهرمزي في ( المحدث الفاصل ) رقم ( 21 ) ، ( 22 ) ، ( 23 ) ، والخطيب البغدادي في ( الفقيه والمتفقه ) رقم ( 126 ) ، و ( شرف أصحاب الحديث ) رقم ( 28 ) ، ( 29 ) ، ( 30 ) ، ( 31 ) ، و ( الجامع لآداب الراوي ) رقم ( 810 ) ، ( 816 ) ، وحسنه الألباني ( الصحيحة ) رقم ( 280 ) .
(4) أخرجه ابن المبارك في ( الزهد ) رقم ( 58 ) ، وأبو خيثمة في كتاب ( العلم ) ، رقم ( 21 ) ، والدارمي في سننه رقم ( 137 ) ، والبيهقي في ( المدخل ) رقم ( 800 ) وابن سعد في ( الطبقات ) 6/110 ، والخطيب في ( الفقيه والمتفقه ) رقم ( 641 ) ، والفسوي في المعرفة والتاريخ 2/817 ، والآجري في أخلاق العلماء 1 - 2 وابن عبدالبر في جامع بيان العلم رقم ( 2199 - 2201 ) وإسناده صحيح .
(5) أخرجه : الآجري في ( أخلاق العلماء ) 117 ، وعنه الخطيب البغدادي في ( الفقيه والمتفقه ) رقم ( 649 ) ، وإسناده صحيح ، وانظر : ( الآداب الشرعية ) لابن مفلح 2/66 .
(6) أخرجه الخطيب في ( الفقيه والمتفقه ) رقم 1085 ، والفسوي في (المعرفة والتاريخ) 2/718 ، وسنده صحيح .
(7) أخرجه : الخطيب في ( الفقيه والمتفقه ) رقم ( 642 ) ، والآجري في ( أخلاق العلماء ) ( 103 ) ، وسنده ضعيف ، فيه : الحجاج بن أرطأة .
(8) أخرجه : البخاري في كتاب العلم رقم ( 100 ) ، وفي كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة رقم ( 6877 ) ، ومسلم في العلم رقم ( 2673 ) ، باب : رفع العلم وقبضه .
(9) ( التعالم ) بكر أبو زيد ( 31 ) .
(10) أخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها ، ( 80 ) ، والدارمي في سننه برقم ( 194 ) ، والطبراني في ( الكبير ) 9/105 رقم ( 8551 ) ، والبيهقي في ( المدخل ) رقم ( 205 ) ، وابن عبدالبر في ( جامع بيان العلم ) رقم ( 2007 ) ( 2010 ) والخطيب البغدادي في ( الفقيه والمتفقه ) رقم ( 483 ) ، ( 484 ) وفي إسناده : مجالد بن سعيد ، وهو ضعيف ( مجمع الزوائد ) 10/180 وفي لفظ بنحوه من قول ابن مسعود رضي الله عنه موقوفاً ، أخرجه : ابن أبي شيبة في ( المصنف ) رقم ( 19003 ) ، وابن وضاح في ( البدع والنهي عنها ) 89 ، ومختصراً في 34 ، والدارمي في سننه برقم ( 191 ) ، ( 192 ) ، والحاكم في ( المستدرك ) 4/514 - 515 وسكت عنه ، وصححه الذهبي على شرط الشيخين .
(11) أخرجه : ابن المبارك في ( الزهد ) 1/20 - 21، والطبراني في ( الكبير ) 22/361 رقم ( 908 ) ، وفي ( الأوسط ) كما في ( مجمع البحرين ) 1/145 رقم ( 276 ) واللالكائي في ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة ) 1/95 رقم ( 2 ) وأبو عمرو الداني في الفتن 2-62 والهروي في ذم الكلام 2/137 وابن عبدالبر في جامع بيان العلم رقم ( 1051 ) ( 1052 ) ، وعزاه ابن الأثير إلى ابن منده ، وأبي نعيم ( أسد الغابة ) 5/20 رقم ( 5694 ) وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف ( مجمع الزوائد ) 1/135 ، قلت : لكن راويه عنه هو : عبدالله بن المبارك ، وهو ممن روى عنه قبل احتراق كتبه ؛ ولهذا قال الحافظ عنه : صدوق ، خلط بعد احتراق كتبه ، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما ، أهـ ( التقريب ) رقم ( 3563 ) - وصححه الألباني في ( الصحيحة ) رقم ( 695 ) ، و ( صحيح الجامع ) رقم ( 2207 ) .
(12) انظر : ( شرح أصول اعتقاد أهل السنة ) اللالكائي 1/95 .
(13) ( جامع بيان العلم ) ( 617 ) ( 620 ) بتصرف ، والأثر الذي ذكره عن عبدالرزاق موجود في ( المصنف ) 11/440 رقم ( 20946 ) ، وفي صحيح البخاري من طريق الزهري أيضاً ، قال : أخبرني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة ، أن ابن عباس رضي الله عنهما قال ثم ذكر قصة جاء فيها ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته ، كهولاً كانوا أو شباناً ، كتاب التفسير ، باب : " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " رقم ( 4366 ) .
(14) أخرجه الدارمي في سننه رقم ( 308 ) ، وابن سعد في ( الطبقات ) 7/133 ، وسنده صحيح وانظر ( السير ) للذهبي 4/49 .
(15) ( ومضات فكر ) محمد الفاضل ابن عاشور 40 - 41 .
(16) ( زجر السفهاء عن تتبع رخص العلماء ) جاسم الفهيد الدوسري 1110 ، ومنه نقلت كلام الشيخ حبيب الله الشنقيطي ، والكتاب على صغر حجمه مفيد جداً .
(17) ( الفقه الإسلامي وأدلته ) لوهبة الزحيلي 9/64 ، والجزء التاسع ( المستدرك ) صدره بمطلب وهو : الضوابط الشرعية للأخذ بأيسر المذاهب! 9/29 - 80 ، خرج فيه عن الجادة ، وفاته حسن التقرير والاختيار ، ورفض إجماع العلماء في النهي عن تتبع الرخص والسقطات ، وأتى بغرائب من القول كاعتداده بمذاهب الشيعة الإمامية والزيدية والإباضية ضمن الثروات الفقهية للأمة 9/32 ، وكقوله : فالواجب أولاً طلب ما فيه الحق والصواب أو المصلحة من الأقوال الفقهية ، أهـ 9/33 ، وكقوله : وأما المعاملات ، وأداء الأموال ، والعقوبات المقررة في الشرع والقصاص لصيانة الدماء ونحوها من التكاليف المراعى فيها مصالح البشرية والمرافق الحيوية ، فيجب الأخذ فيها من كل مذهب ما هو الأقرب لمصلحة الناس وسعادتهم ، ولو لزم منه التلفيق ، لما فيه من السعي وراء تأييد المصلحة التي يقصدها الشرع ! ، ولأن مصالح الناس تتغير بتغير الزمان والعرف وتطور الحضارة والعمران !! أهـ 9/54 ، إلى غير ذلك من هنات القوم المعروفة ، والله المستعان .
(18) ( التعالم ) بكر أبو زيد 44 ، 54 ، 92 .


 


جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
عبد الله بن سالم البطاطي
( 2 / 5 )


نظرة في طرائق العلم :
من المتقرر عند أهل العلم - تنظيرًا وتسييراً - أن من أراد الوصول إلى معرفة الحكم الشرعي في مسألة ما فإنه يصوب نظره تجاه الأدلة الشرعية ؛ يتأمل فيها ، ويستنبط مناه ، ويرجع إليها ، ويصدر عنها ، ولابد حينها أن يكون ضابطًا لأصول الاستنباط ، ومتقنًا لقواعد الاستنتاج ، ومدركًا لرسوم الاستخراج ، التي قررها أهل العلم وأصلوها وجعلوها أسساً لبيان الصحيح من المجروح ، ومعرفة الراجح من المرجوح .

ثم ايضًا ينبغي عليه أثناء سيره في طريق الاستنباط وطلب الحق أن ينظر في كلام العلماء الأعلام من محدثين ومفسرين وفقهاء وغيرهم ، ويستعين به لفتح مغاليق الفهم ، ومضايق النظر ، وعويصات المسائل ، ويستلهم منه تقريب المعاني وحل المعضلات ، وبيان المشكلات ، ثم تكون نهاية المطاف عند الخلاصة الخالصة لطالب الحق وهو الظفر - فيما يغلب على ظنه - بالحكم الشرعي الصحيح .

فاستنباط الحكم الشرعي من الدليل الشرعي بالطريقة الشرعية هو الجادة الأثرية ، والطريقة السوية ، التي تناقلها الآخرون عن الأولين ، وسطروها في المصنفات ، وتداولوها في محافل العلم والحلقات ، وهي التي كانوا يربون عليها اليافع في العلم منذ نعومة أظفاره ، ويلقنها المبتدئ في الطلب عند أول خطوة يضعها في مشواره ؛ إذ لا ينال العلم من لا يسلك سبيل العلماء .

وبنظرة فاحصة لما سبق يتبين لك تناسق هذه المنظومة تناسقًا تراكبيًا يشد بعضه بعضًا ، ويظهر لك جليًا أصالة صرح التفقه وعراقته ، وأنه ليس وليد عبث أو حدث ، بل هو جادة لمن كان جادًا ، وأنه يرتكز على ثلاثة محاور رئيسة : أصل ، وآلة ، ووسيلة .

فأما الأصل فهو الأدلة الشرعية التي عليها أمر الديانة ، وأما الآلة فهي أصول الاستنباط وقواعده ، وأما الوسيلة فهي كلام الأئمة الأثبات ، وأهل العلم الثقات ، فكل من طرق باب التفقه بهذه الطريقة فهو من أهل الطريقة ، والعالم حقيقة .

تغير المنهج السوي بعد القرون المفضلة :
هذا ما كان سائدًا في القرون الأولى المفضلة وما بعدها بيسير ، ثم في منتصف القرن الرابع وأوائل الخامس فما بعده حصل تغير في طرائق العلم أدى إلى تغيرها ، وخرج بها عن الجادة الأثرية ، وذلك حين صار كلام الأئمة - بل أربعة منهم فقط -هو الأصل الذي يدور عليه التفقه ، وتقوم حوله الدراسات والمؤلفات ، وتعقد لأجله المدارس والحلقات : تدريسًا واستذكارًا ، قراءة واستظهارًا ، تزييفًا وانتصارًا ، شرحًا واختصارًا ، نظمًا ونثارًا .

واعتني بكلام الأئمة الأربعة - أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - عناية فائقة ، بل نزل كلامهم منزلة النصوص ، وأخذ الأتباع يطبقون عليه ما يطبقونه على نصوص الوحي .

وليس هذا من المبالغة في شيء ؛ لأن الواقع المر يحكي لنا ما هو أشد من ذلك ؛ إذ قد وجد من الأتباع من لا يقبل عن إمام مذهبه قولاً حتى ينقل بالسند الصحيح كالشمس وضوحًا ، بينما هو يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ينقل بالسند الضعيف والواهي ! ! فالمذهب لا يكون مذهبًا حتى يثبت عن الإمام ، والأحاديث يحتجون بها ولو لم تثبت عن سيد الأنام صلى الله عليه وسلم .

حتى آل الأمر إلى إحداث تركيبة مخترعة في طرائق الاستنباط ومسالك التعلم لا تمت إلى طريقة الأوائل بصلة ؛ إذ بدل الأصل والآلة والوسيلة .

فبعد أن كان الأصل هو النظر في الأدلة الشرعية احتجاجًا وحجاجًا ، أصبح الأصل هو النظر في كلام الأئمة الأربعة المتبوعين .

وبعد أن كانت الآلة هي أصول الفقه صارت آلة المتأخرين هي أصول المذهب .

وبعد أن كانت الوسيلة هي كلام الأئمة عامة أضحت الوسيلة قاصرة على كلام الأصحاب .

وهذه البدائل الثلاث أخذت مكانها من الحركة العلمية في الأزمنة اللاحقة ، وتبلورت عن حدث غريب جديد يعرف ب " التمذهب " ، الذي بلغ حمأته حين آل الأمر فيما بعد إلى " التعصب المذهبي " ، وصارت نتائجه ما هو مسطر في كتب التاريخ ، ومعروف في فروع الفقهاء !
وقبع المصنفون في تصانيفهم ينصرون هذا المذهب أو ذاك ، ووظيفة العالم صارت لا تعدو أن تكون مجرد نقل لكلام الأئمة من الكتب المعتمدة حتى قال ابن الصلاح الشهرزوري ( ت 643هـ ) .

منذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق ، والمجتهد المستقل المطلق ، والمجتهد المستقل ، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة .. إلى أن قال : فقد ذكر بعض الأصوليين منا - أي من الشافعية - أنه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل أ . هـ [1] .

وأعلن ابن نجيم الحنفي ( ت 790هـ ) أن باب القياس مسدود منذ زمن ، وأن ما يكون من فتوى المجتهدين ليس بفتوى ، وإنما هو نقل كلام المفتي ليأخذ به المستفتي ! [2] .


وجاء من أوجب على الناس اتباع المذاهب الأربعة فقط ، وحرم عليهم أن يأخذوا بمذهب أحد غيرهم ، بل حكي الاجماع على هذه المقالة ! ودونوها في كتب الأصول ، كما قال الشيخ عبدالله بن الحاج إبراهيم الشنقيطي ( ت 1233هـ ) في منظومته الأصولية ( مراقي السعود ) :​

والمجمع اليوم عليه الأربعة أما عداها فالجميع متعه
حتى يجئ الفاطم المجدد دين الهدى لأنه مجتهد

أي أنه لا يوجد مجتهد مطلق كحال الأئمة الأربعة حتى يخرج الفاطمي وهو المهدي المنتظر آخر الزمان !!

وأبعد النجعة الشيخ إبراهيم اللقاني المالكي ( ت1041هـ ) حين أدرج هذه المقالة ضمن منظومته العقائدية وجعلها من أمور الاعتقاد ، حيث قال في ( جوهرة التوحيد ) :


ومالك وسائر والأئمة كذا أبو القاسم هداة الأمة
فواجب تقليد حبر منهم كذا حكى القوم بلفظ يفهم

فهو يقرر وجوب تقليد الأئمة الأربعة في المسائل الفقهية ، ووجوب تقليد أبي القاسم الجنيد في الطريقة الصوفية !

قال البيجوري ( ت 1277 هـ ) شارحًا كلام صاحب الجوهرة :
( فواجب تقليد حبر منهم ) فلا يجوز تقليد غيرهم ، ولو كان من أكابر الصحابة لأن مذاهبهم لم تدون ولم تضبط أ . هـ [3] .

وجاءت قاصمة الظهر ، والفاجعة التي مازال المصلحون يحوقلون منها حين قال الصاوي ( ت 1241هـ ) :
إن من خرج عن المذاهب الأربعة فهو ضال مضل ، ولو وافق الصحابة والحديث الصحيح والآية ، وربما أداه ذلك إلى الكفر ؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر ! ! ! [4] .

فانظر - أخي الموفق - كيف ضيقوا واسعًا ، وأحدثوا ياسقًا ، والأمر كما قال الإمام العلامة أبو شامة المقدسي رحمه الله ( ت 665 هـ ) :
وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن لا يبعث بعد أئمتهم وليًا مجتهدًا ، حتى آل بهم إلى أن أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب أو السنة الثابتة على خلافه يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويلات البعيدة ، نصرة لمذهبه ولقوله ... ثم تفاقم الأمر حتى صار الكثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث ، ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه ، فبدلوا بالطيب خبيثًا ، وبالحق باطلاً ، واشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .

ثم نبغ قوم آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصليين ، يرون أن الأولى منه الاقتصار على نكت خلافية وضعوها ، وأشكال منطقية الفوها ... بل أفنوا زمانهم وعمرهم بالنظر في أقوال من سبقهم من المتأخرين ، وتركوا النظر في نصوص نبيهم المعصوم من الخطأ ، وآثار أصحابه الذين شهدوا الوحي ، وعاينوا المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وفهموا مراد النبي صلى الله عليه وسلم فيما خاطبهم بقرائن الأحوال ؛ إذ ليس الخبر كالمعاينة ، فلا جرم لو حرم هؤلاء رتبة الاجتهاد وبقوا مقلدين [5] .

رمي الشريعة بالجمود بسبب سد باب الاجتهاد :
وفي ذيل الأزمنة المتأخرة كان لهذا التضييق والتحجير والتسلط آثاره السلبية على مجموع الأمة ؛ حيث اتخذه أهل الزيغ والفساد ، وارباب الضلالة والإفساد ممن تولوا أزمة الأمور ومقاليد الحكم في ديار المسلمين : ذريعة إلى الطعن في الشريعة ورميها بالجمود والتخلف ، وقصورها عن مواكبة المستجدات ؛ لأن المدنية الحديثة أفرزت لنا قضايا معقدة تحتاج إلى حلول مناسبة ، وهذه الحلول - قطعًا - غير موجودة في كتب الفقهاء غالبًا ؛ لأنه من النادر - والنادر جدًا - أن ينص الفقهاء على حكم معين لواقعة لم يروها ولم يعاصروا أحداثها ، مهما كان خيالهم خصبًا أو احتمالاتهم وافتراضاتهم بعيدة وواسعة ، فمصنفات العلماء إنما ألفوها بما يناسب زمانهم ، وهذا أمر لا يشك فيه أحد .

وأنا لا أقول ذلك استهانة بما خلفه لنا علماؤنا وأئمتنا - أبدًا والله - بل فيه الخير والخير كله ؛ لكن الذي ينبغي أن يعلم لكل طالب حق أن القضية الفقهية يتجاذبها أصلان لا ثالث لهما :
- الأصل الأول : معرفة حكم المسألة .
- الأصل الثاني : تنزيل الحكم على الواقعة .

فأما الأصل الأول فقد وفاه العلماء حقه ، وأتوا في مصنفاتهم بما لا مزيد عليه ولم يتركوا شاذة ولا فاذة في كافة شؤون الحياة إلا بينوا الحكم فيها وتكلموا عنها ، جزاهم الله خيرًا .

وأما الأصل الثاني فهو الذي يحتاج إلى مجتهد بصير بالدين لينظر : هل الشروط اجتمعت ، والموانع ارتفعت فينزل الحكم على الوقعة أولاً ؟
ولأجل هذا الأصل كان السف يتدافعون الفتيا وهو المعروف عند الأصوليين " بتحقيق المناط "

فكلامنا هنا على هذا الأصل الثاني إذ أين المجتهد الذي يسد حاجة الأمة في هذا الباب وهم يوجبون التقليد ويحرمون الاجتهاد ! وكيف يمكن لنفس أن تتوق لبلوغ رتبة الاجتهاد أو تتشوف لدرك تلك المعالي حيال هذا الزخم الهائل من التشديد والتضييق ؟ !

المهم أنه بسبب ذلك حصل اصطدام رهيب بين " المدنية الحديثة " والحلول الشرعية المناسبة ، أدى إلى حدوث فجوة عميقة بين قضايا العصر وأحكام الشرع ، تسلل من خلال هذه الفجوة أهل الزيغ والضلال إلى القدح في الشريعة الإسلامية ، وأخذوا يناقشون مدى صلاحيتها وحيويتها ، واستيعابها للمستجدات الحضارية ، ثم عزموا - في ردة جريئة - على اقصاء الشريعة ، واستعاروا - في سعار محموم - النتاج الغربي المشؤوم برمته ، وقدموه مشروعًا حضاريًا للأمة المحمدية ، ولا حول ولا قوة إلا الله .

خدمة مشائخ التنوير للمشروع التغريبي :
وفي ردة فعل متوقعة انبرى مشائخ التنوير ودعاة العصرنة لرفع راية التجديد - زعموا - ، وتولوا كبر تمييع الدين لترقيع حال المسلمين ، ودعوا إلى فتح باب الاجتهاد الذي أغلقه من سبقهم ، لكن هذه المرة لم يفتحوه كما كان بضوابطه المعروفة عن السلف ؛ بل فتحوه فتحًا عظيمًا لو أراد أهل الأرض أن يلجوا منه لوسعهم !!

ثم زادوا الطين بلة فأحدثوا أمرين خطيرين للغاية ، أديا إلى ازهاق ما بقي من الروح في جسد " الجادة الأثرية "، وهما :
1-التأثر بالتمدن والحضارة والعمران ، وليس المراد أي حضارة أو أي تمدن وعمران ؛ بل المراد النمط الغربي خاصة لما يتمتع به من الهيمنة العالمية .

2- الانتقاء من المذاهب الفقهية ما يناسب الذوق ، ويلائم العصر ، ويكون الاختيار من الأقوال متمشيًا مع المعطيات الحضارية ، ولو كان في ذلك استدبارًا للأدلة الشرعية بل لو استلزم الأمر اقصاء المذاهب الأربعة كلها لعدم وجود القول المرتضى فيها لم يكن ثم مانع من ذلك ؛ وهذا ما حصل بالفعل حين تم الاعتراف بالمذهب الجعفري ، والمذهب الزيدي ، والمذهب الإباضي ، وادرجت هذه المذاهب ضمن ثروات الأمة الفقهية - زورًا وبهتانًا - وصارت تجتر في البحوث المعاصرة تحت الكلمة النكراء " الفقه المقارن " - تلبيسًا وطغيانًا- فإلى الله المشتكى .

فانظر أخي الكريم - إلى الهوة السحيقة التي حدثت في طرائق العلم بين الأسلاف والأخلاف ، وإلى التنافر الشديد بينهما في مناهج التعلم والطلب ، الأمر الذي كان له أثر كبير في بروز نتاج من التناقضات بل والناقضات لما مضى ، وإفراز أقوال غريبة بل شاذة بل ساقطة !

ولن أقف عند كل الملاحظات التي تدور حول تلك المناهج المنحرفة ، فإن هذا باب واسع يصعب تتبعه ، لكنني سأقف عند نقطة واحدة مهمة أرى أنها انقلاب في موازين الطلب ، ونسف للمنهجية المقررة عند السلف الصالح في تحصيل العلم ومعرفة الصواب من الأقوال ، هذه النقطة هي قولهم : للمرء أن يأخذ بأي قول يناسبه من أقوال العلماء ، وأن ينتقي منها " أطايبها " !

تلك هي " جسارة الانتقاء " ، ولها أخت في الرضاعة والوضاعة ، ورديفتها في سوء البضاعة ، ألا وهي أكذوبة التقليد " : ( من قلد عالمًا ، لقي الله سالمًا ) .

أدلتهم على هذا المنهج الفاسد :
استدل القوم في هذا المقام بما ظنوا أنه يسوع لهم سلوكهم هذه المنهجية المنحرفة ، واستندوا إلى شيء من الأحاديث النبوية ، وأقوال السلف ، والتعليل العقلي .

فأما الأحاديث النبوية فقد استدلوا بحديثين مشهورين على الألسنة وهما :
1- حديث : ( اختلاف أمتي رحمة ) [6] .
2- حديث ( أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم ) [7] .

وأما أقوال السلف فمنها ما يلي :
1- عن عون بن عبدالله بن عتبة قال : قال لي عمر بن عبدالعزيز : " ما يسرني باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حمر النعم ؛ لأنا إن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا ، وإن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا " [8] .

2- وعن عمير قال : قلت لعمر بن عبدالعزيز رحمه الله : لو جمعت الناس على شيء ؟
فقال : ما يسرني أنهم لم يختلفوا ، قال حميد : ثم كتب إلى الآفاق وإلى الأمصار : ليقضي كل قوم بما اجتمع عليه فقهاؤهم [9] .

3- وقال سفيان الثوري رحمه الله : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه ، وأنت ترى غيره فلا تنهه [10] .

4- وقال أيضًا إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد [11] .

5- وقال إياس بن معاوية رحمه الله : إنه لتأتيني القضية أعرف لها وجهين ، فأيهما أخذت به عرفت أني قد قضيت بالحق [12] .

6- عن شريح القاضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه : إذا أتاك أمر فاقض فيه بما في كتاب الله ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله . ولم يسن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما اجتمع عليه الناس ، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد فأي الأمرين شئت فخذ به [13] .

7- وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رحمه الله : لقد نفع الله تعالى باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة ، ورأى أن خيرًا منه قد عمله [14] .

وأما التعليل العقلي فحاصله : أن ألفاظ النصوص محتملة لعدة معان ، والشريعة واسعة ، ومبناها على اليسر والسماحة ، وقد أذن الشارع بالاجتهاد ، وما من مسألة إلا والعلماء فيها طرفان : ما بين مشدد ومخفف ، وهم منزهون عن الرأي المذموم في دين الله تعالى ، وما دام الأمر كذلك فالكل دين الله وشرعه ؛ لأنهم من إذن الشارع انطلقوا ، وفي النصوص نظروا فصارت مذاهبهم على اختلافها كشرائع متعددة ، وصارت هذه الشريعة المحمدية كأنها عدة شرائع بعث النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها !

فلا تثريب على أحد حينئذ أن يأخذ بأي قول ؛ لأن جميع الأئمة على هدى من ربهم ، واختلافهم رحمة الله واسعة للخلق .

زد على ذلك أن توسعة المذاهب ورخصها أقرب سهولة إلى إسلام من يريد اعتناق الإسلام ، وذلك بإرشاده إلى رخص العلماء ترغيبًا له في الدخول في الإسلام وابتعادًا به عن ثقل التكاليف مباشرة خشية نفوره [15] .

ثم إن هذه الانتقائية من المذاهب قد عمل بها جماعة من الأئمة الأعلام ، فقد نقل الشعراني عن جماعة من العلماء : كأبي محمد الجويني ، وعز الدين بن جماعة الكناني ، وعبدالعزيز الديريني ، وشهاب الدين بن الأقيطع ، وغيرهم أنهم كانوا يفتون الناس على المذاهب الأربعة بما يناسب حال المستفتي ، لا سيما إذا كان من العوام الذين لم يلتزموا مذهبًا معينًا لعدم معرفتهم بنصوصه وقواعده [16] .

والخلاصة: " أن مبدأ الأخذ بالرخص أمر محبوب ، ودين الله يسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمفروض أن المقلد لم يقصد تتبع الرخص في كل الوقائع وإنما في بعض المسائل ، وكثيرًا ما قال العلماء : من قلد عالمًا فقد برئ مع الله ، اختلاف العلماء رحمة ، وربما قال بعضهم : حجرت واسعًا " [17] .

وقبل الجواب عن هذه الآثار والأقوال لابد لنا من الوقوف عند أصول مهمة تضبط هذا الباب ، وتقيم اعوجاج الفهم فيه ، ثم نعود للجواب عما أوردوه من الشبهات ، وذلك في مقالة قادمة إن شاء الله تعالى ، والله الموفق .

________________________
(1)(أدب المفتي والمستفتي) لابن الصلاح 29 - 31 .
(2) انظر(الرسائل الزينية) لابن نجيم 108, 168 .
(3) شرح جوهرة التوحيد للبيجوري 150 ، وذكر العلامة ابن بدران الدومي أن الشيخ اللقاني هو أول من أدخل هذه المسألة في علم الاعتقاد(العقود الياقوتية) 99 ، ثم جاء من بعد اللقاني العلامة السفاريني الحنبلي(ت 1188هـ) وأدرجها في منظومته العقدية أيضًا(لوامع الأنوار البهية) 2/457 .
(4)(حاشية الصاوي على الجلالين) 3/10 ، وانظر للرد عليه(أضواء البيان) للشنقيطي 7/438 .
(5)(المؤمل للرد إلى الأمر الأول) لأبي شامة ، نقلته من كتاب الشيخ محمد سعيد الباني(عمدة التحقيق) 162- 163 والغريب أن ابن المنير(ت 683هـ) يقول : إن الدليل يقتضي التزام مذهب معين بعد الأربعة لا قبلهم ‍‍‍‍ ! ! وقد تعقبه في كلامه هذا الشوكاني بكلام جميل يحسن مراجعته(السيل الجرار) 1/22 ويالله العجب ، كيف سلك هذا الزقاق الضيق بعض الأئمة الأعلام كالحافظ ابن رجب الحنبلي ، وألف كتابًا سماه(الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة) ، وهو في سعة علمه ، وجودة حفظه ، وقوة عارضته وتمام معرفته وكمال آلته ، فإذا لم يكن ابن رجب وأمثاله من المجتهدين فمن إذن ؟ ! .
(6) هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له في كتب السنة ، قال تقي الدين السبكي ، هذا الحديث ليس معروفًا عند المحدثين ، ولم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع ، ولا أظن أن له أصلاً(قضاء الأرب في أسئلة حلب) 264 وأقره على ذلك : الكازروفي في حاشيته على تفسير البيضاوي 2/35- 36 ، والشيخ زكريا الأنصاري في حاشيته على تفسير البيضاوي أيضًا 1/100 ، وكذلك ابنه تاج الدين السبكي في(الإبهاج) 3/18 ، وقال الألباني : لا أصل له(الضعيفة) رقم 57 والذي ورد مرفوعًا إنما هو من حديث ابن عباس بلفظ :(اختلاف أصحابي لأمتي رحمة) أخرجه : البيهقي في(المدخل) رقم 152 ، والخطيب في(الكفاية 48 ، والديلمي في(مسند الفردوس) 4/447 ، وعزاه زين الدين العراقي إلى : آدم بن أبي إياس في كتاب(العلم والحلم) انظر(تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي) رقم 60 وإسناده ضعيف جدًا . فيه : سليمان بن أبي كريمة ، وجويبر بن سعيد الأزدي ثم إنه منقطع لأن : الضحاك بن مزاحم لم يدرك ابن عباس رضي الله عنهما وأما ما نقله السخاوي عن شيخه الحافظ ابن حجر من قوله : زعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له . لكن ذكره الخطابي في غريب الحديث مستطردًا ، فأشعر أن له أصلاً عنده(المقاصد) 50 رقم 39 - وقد نقله عنه كل من جاء بعد - فهو كلام غريب جدًا ؛ لأن التعويل في هذا الفن على الاسناد لا على مجرد إيراد الحديث في كتاب ، وإلا فإن الكتب -وخاصة عند المتأخرين - مشحونة بمثل هذه الأحاديث التي لا خطام لها ولا زمام ، فهل يقال في مثلها إن فلانًا من العلماء ذكرها في كتابه فأشعر أن لها أصلاً عنده ؟ ! هذا ظاهر الفساد ؛ لأنه يفتح باب المخرقة وأغرب منه قول السيوطي : ولعله خرج في بعض كتب الحفاظ التي لم تصل إلينا(فيض القدير) 1/210 قال الألباني تعقيبًا عليه : وهذا بعيد عندي إذ يلزم منه أنه ضاع على الأمة بعض أحاديثه(، وهذا مما لا يليق بمسلم اعتقاده(الضعيفة) 1/141
وانظر :(المعتبر) للزركشي رقم 227 ، و(الأسرار المرفوعة) للقاري 108 - 109 رقم 17 ، و(كشف الخفاء) للعجلوني 1/66 رقم 153 ، و(المغير على أحاديث الجامع الصغير) للغماري 16 .
(7) أخرجه : عبد بن حميد في(المنتخب) 2/28 رقم 782 ، والدارقطني في(المؤتلف والمختلف) 4/1778 ، والبيهقي في(المدخل) رقم 152 ، 153 ، والخطيب في(الكفاية) 48 ، وابن عدي في(الكامل 2/785 - 786 الديلمي في(مسند الفردوس) 4/447 ، والقضاعي في(مسند الشهاب) رقم 1346 ، وابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 176 ، وابن حزم في(الإحكام) 6 /82 مسألة رقم 1057 وقال : حديث ساقط وقال البيهقي : هذا حديث متنه مشهور ، وأسانيده ضعيفة ، لم يثبت في هذا إسناد(المدخل) 1/149 وقال ابن عبدالبر إسناده لا تقوم به حجة(جامع بيان العلم) 2/925 وقال الحافظ ابن حجر : ضعيف جدًا ،(المطالب العالية) 4/146 في 4194 وقال الألباني : موضوع(الضعيفة) الأرقام : 58 ، 59 ، 60 ، 61 ، 62 ، 438 وانظر(تلخيص الحبير) 4/190- 191 ،(المعتبر) للزركشي 80 - 85 ، و(العلل المتناهية) لابن الجوزي 1/282 .
(8) اخرجه ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1688 ، والخطيب في(الفقيه والمتفقه) رقم 745 ، وعزاه الحافظ ابن حجر إلى مسدد ، وصححه كما في(المطالب العالية) 3/105 رقم 3005 ، ونقل محققه الأعظمي عن البوصيري تصحيحه ايضًا للأثر .
(9) أخرجه الدارمي في سننه برقم 652 والخطيب في(الفقيه والمتفقه(برقم 743 ، وإسناده صحيح .
(10)(حلية الأولياء) لأبي نعيم 6/368 ، و(التمهيد) لان عبدالبر 9/229 .
(11) أخرجه ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1467 ، بسند حسن ومثله عن معمر ، أخرجه ابن عبدالبر برقم 1468 بسند صحيح .
(12) أخرجه : ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1519 بسند صحيح ، وأخرجه عمر بن شبة في(أخبار المدينة) ومن طريقه وكيع في(أخبار القضاة) 1/341 - 342 ، والمزي في(تهذيب الكمال) 3/434 .
(13) أخرجه النسائي في سننه 8م231 رقم 5399 ، والدارمي في سننه رقم 169 ، والبيهقي في(السنن الكبرى) 10/115 ، وابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم 1995 ، والخطيب في(الفقيه والمتفقه) رقم 444 ، وابن حزم في(الإحكام) 6/29- 30 ، وإسناده صحيح .
(14) أخرجه ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) برقم 1686 ، بسند صحيح .
(15) انظر(عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق) محمد سعيد الباني 72 ، 96 ، 101 ، 109 ، 175 .
(16)(الميزان الكبرى) للشعراني 1/15و 26 .
(17)(الفقه الإسلامي وأدلته) وهبة الزحيلي 9/43 وهو قد اقتبس هذا الكلام من سؤال ورد من طلبة فاس المغربية سنة 884هـ إلى العلامة أحمد بن يحيى الونشريسي(ت 914هـ) يسألونه عن الاجتهاد والتقليد والتلفيق وتتبع الرخص ، فأجاب طويل متين قوي ، منع فيه التلفيق وتتبع الرخص(المعيار المعرب) 12/9-42 .


 


جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
عبد الله بن سالم البطاطي
( 3 / 5 )


الأصول الجامعة :

الأصل الأول :
إن الأصل في أمة الإسلام هو الاجتماع والاتفاق ، أما الاختلاف فإنه حادث طارئ إذ الأصل عدمه .

فالأمة مطالبة باتحاد الكلمة ، وتقارب الرأي ، وتحري الحق ، وطلب الصواب ، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ، وفي نفس الوقت هي مطالبة بنبذ الخلاف وأسباب الفرقة ، وطرح الشقاق ، والبعد عن وسائل الفتنة .

ومع أن الأمة تسعى إلى تحقيق تلك المطالب الشرعية ، إلا أن الله عز وجل قدر أن تختلف أنظار العلماء ، ومدارك الفقهاء ، لتباين فهومهم ، وتفاوت علومهم ، فاختلافهم في المسائل الشرعية حاصل ولا بد ، ولله في ذلك حكمة ، لكن وقوعه حينئذ ليس بحجة على أحد ، لأنه خلاف الأصل ، وكيف يكون الخلاف أصلا والأمة مأمورة بسد بابه ، واقتلاع مضاره ؟

قال تعالى : (( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )) (الروم:31-32) .

وقال سبحانه : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )) ( آل عمران : 103 ) .

وقال أيضا : (( وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )) ( الأنفال : 46 ) .

و قال : (( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )) ( الشورى : 13 ) .

وقال : (( وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) . ( آل عمران : 105 ) .

والأحاديث والآثار في ذلك كثيرا جدا ، وهي مستفيضة ومشهورة ، وكلها تقرر مبدأ واحدا وهو وجوب الاجتماع والاتفاق والائتلاف ، ونبذ الشقاق والافتراق والخلاف ، وهي نصوص عامة تشمل أصول الشريعة وفروعها ، ولا سبيل إلى التفريق بينهما في ذلك ، إذ ليس في النصوص ما يشير إليه أو يدل عليه ، فالكل دين الله وشرعه ، فلا يقال : إن المخالف في الفروع لا يأثم ، هكذا بإطلاق مهما كانت مخالفته ، كلا وألف كلا ، فإن من جاءته النصوص الصحيحة الصريحة في مسألة فرعية ما ثم هو يتركها لأجل قول فلان من الناس ، فلا شك أنه ممن تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ، زد على ذلك أن مسألة تقسيم الشريعة إلى أصول وفروع تحتاج إلى وقفة من حيث الأمور التي رتبت على هذا التقسيم ، ومن حيث التمييز بين الأصول والفروع ، فإن هذه المسألة على جلالة قدرها إلا أنك مهما بذلت من جهد لتقف على ضابط دقيق يكون فيصلا في التفريق بين ما يكون أصلا وما يكون فرعا لن تستطيع البتة ، وهذا من المضايق الحرجة التي يكتنفيها شيء من الغموض أكثر من غموض التفريق بين الصغائر والكبائر ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : أما التفريق بين نوع تسميته مسائل الأصول ، وبين نوع آخر وتسميته مسائل الفروع ، فهذا الفرق ليس له أصل لا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا أئمة الإسلام ، وإنما هو مأخوذ عن المعتزلة وأمثالهم ، من أهل البدع ، وعنهم تلقاه من ذكره من الفقهاء في كتبهم [1] .

وأما من حيث الأمور التي رتبت على هذا التقسيم فلا ينبغي أبدا أن يستفاد منه الاستهانة بالفروع ، أو حط منزلتها ، وتقليل شأنها ، فإن هذا محادة لدين الله الكامل الشامل ، ومطارحة لطريقة السلف الصالح رحمهم الله ، لأن هذا التقسيم اصطلاحي متأخر ، لم يقصد منه تقسيم الدين نفسه ، وإنما أريد منه تقسيم المسائل الفقهية ، وهذا من باب الضبط للأبواب والفصول أثناء الوقوف عند فائدة الاصطلاح وما يراد منه ولا يتعداه .

ومما يؤكد ما ذكرناه أن أهل السنة والجماعة قد درجوا في مصنفاتهم على تدوين كل ما يميزهم عن أهل البدع والضلالة ، ولو كان هذا المميز فرعا فقهيا ، لأنه فارق بين الفرقتين ، ويسطرونه في كتب الاعتقاد على أنه عقيدة مستقرة يجب عقدها لله رب العالمين .

وخذ مثلا على ذلك : مسح الخفين ، فإن أئمة السنة يذكرون ثبوت ذلك في كتب الاعتقاد كعقيدة لأهل السنة والجماعة ، مع أن مسألة المسح على الخفين من مسائل الفروع ، بل هي من الرخص الشرعية وليست من العزائم عند جمهور العلماء ، ولكن لما كان في إثباتها وتقريرها منابذة لأهل الضلالة من الشيعة والخوارج قيدوها في كتب الاعتقاد حتى قال أبو الحسن الكرخي من أئمة الحنفية : إني أخشى الكفر على من لا يرى المسح على الخفين [2] .

أعود فأقول : إن النصوص الشرعية لم تأت حادثة على إنشاء الخلاف وإحداث الاختلاف ، بل على العكس تماما ، إذ لم يكن الاختلاف يوما من الأيام مطلبا شرعيا ، ولا غاية أو هدفا حث الشارع العباد على تحقيقه ، والسعي في إيجاده ، إنما هو من باب الأمر القدري الكوني وليس من باب الأمر الشرعي ، وفرق بين الأمرين عظيم .

والذي يزيد الأمر وضوحا ، أن الشارع سبحانه أمر عن الاختلاف بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، حسما لمادته ، وحدا من آثاره ، وطلبه للوفاق ، فلو كان الاختلاف مطلبا شرعيا لما أمر سبحانه بالرجوع إلى الكتاب والسنة ولأقرهم على حالهم وامتحدهم لذلك ولهذا قال الإمام المزني رحمه الله : قال تعالى : (( وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) . ( آل عمران : 105 ) .

وقال : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) ( النساء : 59 ) فذم الله الاختلاف ، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه ، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة ، وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطأ بعضهم بعضا ، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها ، ولو كان قولهم كله صوابا عندهم لما فعلوا ذلك [3] .

سبب الاختلاف :
من المهم أن ندرك أن حدوث الاختلاف سببه تنوع الاجتهاد لا تخالف الأدلة ، والاجتهاد جهد بشري ، والأدلة وحي منزل ، وحينئذ لا يمكن أن يتصور وجود التعارض بينها ، لأنها خرجت من مشكاة واحدة ، وكلها تصب في معين واحد ، فما يتوهم من وجود التعارض بينها أحيانا إنما هو تعارض صوري قام في ذهن الناظر لها ، أما حقيقة الأمر فلا تعارض بينها البتة .

ولأجل ذلك كان الصحيح من أقوال أهل العلم أن الحق في قول واحد من أقوال المجتهدين وليست كلها صوابا ، وهذا الواحد هو الذي يوفق لإصابة الحق الذي أراده الشارع ، وإنما جعل للمخطئ أجر واحد لا مكافأة له على إحداث الخلاف بل لامتثاله أمر الشارع بالاجتهاد والنظر في الأدلة ، فإذا بذل جهده لطلب الحق ولم يوفق إليه فإنه يعذر في ذلك ، لأنه قد يعتريه شيء من عوارض النفس البشرية يحول دون إصابته الحق ، والإنسان لا يحاسب على القصور ، وإنما يحاسب على التقصير .

قال الإمام البيهقي رحمه الله : وقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث صحيح عنه لمن اجتهد فأصاب أجرين ، ولمن اجتهد فأخطأ أجرا واحدا ، ولا يكن الأجر على الخطأ ، وإما يكون على ما تكلف من الاجتهاد ، ويرفع عنه إثم الخطأ بأنه إنما كلف الاجتهاد في الحكم على الظاهر دون الباطن ، ولا يعلم الغيب إلا الله عز وجل [4] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : قول عامة السلف والفقهاء ، أن حكم الله واحد ، وأن من خالفه باجتهاد سائغ مخطئ معذور ومأجور ، لعفو الله عنه ، فإنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وهذا ما لا نعلم بين الأمة فيه خلافا ، إلا شيئا يحكى عن بعض معتزلة بغداد مثل بشر المريسي وأضرابه ، أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه [5] .

إذن فالاختلاف نتيجة طبيعية للجهد البشري الحاصل من التفقه في نصوص الكتاب والسنة ، وما دام الأمر كذلك فلا يمكن أن يصير هذا الناتج البشري ، وهو الاختلاف ، غاية يسعى العلماء لتحققها ، وينبذون وراءهم الأدلة الشرعية القطعية الآمرة بالاتفاق والائتلاف ، الناهية عن الشقاق والخلاف ، ولهذا لو قدر أن أهل العلم يستطيعون الاتفاق على حكم الواقعة لم يجز لهم أن يحدثوا خلافا ، ولم يجز لمن جاء بعدهم أن يخرق هذا الإجماع ، لما فيه من شق عصا الأمة ، وتشتيت كلمتها .

فالعالم والمجتهد لا يؤمر بالاتجاه مباشرة لنصب الخلاف ، بل يطلب منه النظر في المسائل ، فإن كانت مما أجمع عليها لم يكن له خرق الإجماع ومخالفته ، وإنما دوره حينئذ يقتصر على حكايته ، والتدليل عليه لا غير ، وإن كانت المسألة مما لم يجمع عليها فيلزمه التأمل في الأدلة الشرعية ، على ضوء القواعد المقررة ، طلبا للحق والصواب ، وبعد ذلك يجب عليه التزام ما ظهر له أنه الحق والصواب بغض النظر عمن قال به من الأئمة ، ثم هو أحد اثنين : إما مخطئ فله أجر واحد ، وإما مصيب فله أجران ، وبهذا تنتهي منظومة الاجتهاد العملية المقررة عند أهل العلم ، والتي يجب على طالب الحق سلوك جادتها .

وإنما كان لا بد للعالم وطالب العلم من معرفة الخلاف وأقوال العلماء لتحصيل فائدتين :
الفائدة الأولى : أن يسلم من الشذوذ فلا يتبنى قولا يشذ به عن إجماع الأمة ، وأيضا لا يحكي إجماعا في المسألة مع أن الخلاف فيها قائم بين الأئمة .

والفائدة الثانية : الاستفادة من طرائق النظر والاستدلال التي سلكها الأئمة في تحصيل الفقه ، والوقوف على ما يسوغ وقوعهم في مثل هذا الاختلاف .

فهاتان الفائدتان النفيستان لا تتحصلان إلا بالوقوف على اختلاف الأئمة رحمهم الله ، وعلى هذا يحمل قول قتادة رحمه الله : من لم يعرف الاختلاف لم يشم رائحة الفقه بأنفه [6] وقول سعيد بن أبي عروبة رحمه الله : من لم يسمع الاختلاف فلا تعدوه عالما [7] .


والخلاصة :
أن الخلاف ليس مطلبا شرعيا ، ولا أمرا يقتضيه العقل ، ولا شيئا محمودا ترتضيه النفوس السوية ، بل هو أمر قدري كوني حدث من غير قصد من العلماء إلى إنشائه وإحيائه ، فهو من الشر الذي لا بد منه ، ولهذا أنكروا على من يتخذه قاعدة ينطلق منها ، أو أصلا يستدل به ، حتى قال ابن عبد البر رحمه الله : الاختلاف ليس بحجة عند أحد علمته من فقهاء الأمة ، إلا من لا بصر له ، ولا معرفة عنده ، ولا حجة في قوله [8] .

ويؤكده أن العلماء أسقطوا التعليل بالخلاف ، فلا يقال في شيء بالكراهية مثلا لوجود الخلاف على المسألة ، لأن التعليل بالخلاف عليل ، وقد قال الونشريسي المالكي رحمه الله : القول بمراعاة الخلاف قد عابه جماعة من الأشياخ المحققين ، والأئمة المتفننين منهم أبو عمران و أبو عمر بن عبد البر ، و القاضي عياض [9] .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : تعليل الأحكام بالخلاف علة باطلة في نفس الأمر ، فإن الخلاف ليس من الصفات التي يعلق الشارع بها الأحكام في نفس الأمر ، فإن ذلك وصف حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يسلكه من لم يكن عالما بالأدلة الشرعية [10] .

الأصل الثاني :
أن الخلاف نوعان :
النوع الأول : خلاف معتبر .
والنوع الثاني : خلاف غير معتبر .

فأما الخلاف المعتبر: فهو الخلاف الذي تتجاذبه الأدلة وله حظ من النظر ، فهذا هو الخلاف القوي ، الذي يصل أحيانا ببعض العلماء إلى الوقف عن الترجيح فيه .

وأما الخلاف غير المعتبر: فهو الخلاف الضعيف الذي ليس له وجاهة أو وجه من الدليل ، بل قد يكون الدليل على خلافه .

وهذا النوع من الخلاف له صور كثيرة معروفة ، كالخلاف المبني على قول شاذ ، أو مذهب مهجور ، أو خالف فيه صاحبه الإجماع الثابت ، أو كان من القياس فاسد الاعتبار ، وهو ما يكون في مقابلة النص ، أو مصادما لنص صريح ، أو نحو ذلك .

وهذا النوع من الخلاف الضعيف هو الذي عليه الأئمة واطرحوه ، وردوا على صاحبه مشنعين عليه رأيه ، وقد قال الإمام أبو الحسن بن الحصار المالكي ،(ت 611 هـ) .

فليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلاف له حظ من النظر [11]
وبهذا يتبين أن إطلاق من أطلق الاعتداد بالخلاف خطأ ظاهر ، لأن من الخلاف ما لا يعتد به ولا يعول عليه ، فوجوده وعدمه سواء حينئذ .

الأصل الثالث :
إن من عقيدة أهل السنة والجماعة عدم إثبات العصمة لأحد من البشر كائنا من كان ، إلا الأنبياء والرسل فيما يبلغون عن الله تعالى ، فإنهم معصومون من الخطأ والسهو ، في تبليغ الدين ، أما من عداهم من العلماء والأئمة ، مهما كان فضلهم وعلمهم فإنهم غير معصومين من الخطأ والسهو والغفلة والنسيان ونحو ذلك من عوارض البشر .

وهذا هو معنى قول الإمام مالك - رحمه الله - في المشهور عنه : وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر ، وأشار إلى الحجرة ، يقصد النبي صلى الله عليه وسلم .

وما من إمام إلا وقد أخذت عليه أشياء من الغرائب أنكرها عليه غيره من العلماء ، ولا يكاد يسلم من ذلك أحد بدءا من الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم رأس هذه الأمة فضلا وعلما وعبادة وجهادا وطاعة ثم من دونهم ، فمن دونهم وهلم جرا .

فهذا أبو طلحة - رضي الله عنه - كان يرى أن البرد لا يفطر الصائم ، لأنه بركة وليس طعاما أو شرابا [12] .

و عمر بن الخطاب و عثمان بن عفان رضي الله عنهما - يمنعان الناس من التمتع في الحج ، ويعترض على ذلك علي بن أبي طالب و عمران بن حصين - رضي الله عنهما [13] , و أبو هريرة - رضي الله عنه - يتوضأ حتى يصل بالماء إلى إبطيه [14] وقد قال الله عز وجل : (( وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ )) ( المائدة : 6 ) .

و عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يرى التطبيق في الصلاة [15] : أي وضع اليدين بين الرجلين أثناء الركوع ، مع أنه منسوخ .

و أبو ذر رضي الله عنه ، كان يرى وجوب إخراج ما زاد على الحاجة من الذهب [16] .

وغير ذلك من الأمثلة كثير ، فإذا كان هذا الشأن في الصحابة رضي الله عنهم فكيف الحال بمن جاء بعدهم ، وما من أحد إلا وقد فاته شيء من الآثار كما قاله الشافعي رحمه الله : لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء .

وهنا أمر مهم للغاية يجب التنبه له والوقوف عنده وهو أن كثيرا من أتباع المذاهب يبتكرون أقوالا من رؤوسهم ثم ينسبونها إلى مذاهب الأئمة ؛ زعما منهم أنها مخرجة على أصولهم ، ماضية على قواعدهم ، والأئمة من ذلك براء ، ولو قدر لهم أن يطلعوا على تلك الأقوال لأنكروها ، لوضوح مخالفتها للكتاب والسنة وأضرب لذلك بمثالين .

المثال الأول :
ما ذكره الحطاب الرعيني ت 954 ه في شرحه على مختصر خليل عن الشيخ زروق من كراهة صوم يوم المولد النبوي ، والعلة في ذلك أنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه [17] .

وقد سبقه إلى تقرير ذلك شيخه ابن عباد القوري فقد قال في رسائله الكبرى : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين ، وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشموع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب ، وركوب فاره الدواب ، أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح ، والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر في سر الوجود ، وارتفع فيه علم الشهود ، وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان ، أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السلمية ، وتدفعه الآراء المستقيمة ، ثم حكى قصة له وقعت مع شيخه ابن عاشر ، وأنه هو الذي دله على هذه الفائدة النفيسة [18] .

فانظر كيف أدرجت هذه البدعة النكراء ضمن مذهب الإمام مالك رحمه الله وصار يتداولها علماء المالكية المتأخرون في مصنفاتهم ، مع أن الإمام مالك رحمه الله لم يقل بها ، لا تصريحا ولا تلميحا ، ولا إيماء ، ولا هي مخرجة على أصول مذهبه أو قواعد فقهه ولقد أجاد العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله حين قال : فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد ، وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا قول أحد من أصحابه ، ولا من تابعيه ، ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين ، الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك ، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه [19] .

المثال الثاني :
ما اشتهر من أن مذهب الإمام الشافعي وجوب التلفظ بالنية في الصلاة ، مع أن الإمام الشافعي رحمه الله ، لم يذكر ذلك في كتبه ، ولا نقله عنه تلاميذه ، حتى جاء أبو عبد الله الزبير بن أحمد الزبيري أحد فقهاء الشافعية بالبصرة (ت 317هـ) وخرج وجها من كلام الإمام الشافعي زاعما أنه يقول بوجوب التلفظ بالنية في الصلاة .

وهذا التخريج قد غلطه فيه كبار الأئمة من الشافعية وغيرهم ، وسببه سوء فهم لعبارة الإمام الشافعي فإنه قال : إذا نوى حجا وعمرة أجزأ وإن لم يتلفظ ، وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق [20] فالإمام الشافعي رحمه الله يقرر هنا أن من نوى الحج أو العمرة أجزأ ذلك ولو لم يتلفظ بالتلبية ، بينما لا تجزئه النية وحدها في الصلاة إذا لم ينطق بتكبيرة الإحرام ، فظن الزبيري رحمه الله ، أن مراد الشافعي وجوب النطق بالنية في الصلاة وهذا غلط بين ولهذا قال الإمام النووي رحمه الله : قال أصحابنا : غلط هذا القائل ، وليس مراد الشافعي بالنطق في الصلاة هذا ، بل مراده التكبير [21] .

وهذا الذي ذكرناه ما هو إلا نماذج يسيرة توقظ المتبصر الطالب للنجاة أن يستوثق من علمه الذي يأخذه ، هل هو أصيل أو دخيل ؟ فإن من المدخول على مذاهب الأئمة أمور خاطئة في أصل الاعتقاد ، فتدبيس بعض الأقوال في مذاهب الأئمة الأعلام لم يعد قاصرا على المسائل الفقهية بل تعداه أيضا إلى مسائل العقيدة ، والله المستعان .

فما أرمي إليه هنا هو بيان أن الخطأ قد يصدر من الأئمة فعلا ، وقد ينسب إليهم زورا وبهتانا وهم منه براء ، فهذا الأخير نبهت عليه للتحذير منه والبعد عنه خشية أن يغرر بقارئ كتب المذاهب ، فتستهويه تلك المدخولات على أقوال الأئمة فيظنها أقوالا لهم على الحقيقة ، فيتخذها دينا وقربة ، والأمر على خلاف ذلك تماما وأما الأول وهو الخطأ الصادر عن الأئمة فعلا فيما صح عنهم ، فهذا هو الذي لأجله عقدت الأصل الثالث .

والسؤال : ما موقعنا من الأقوال التي تبين لنا خطأ الأئمة فيها ؟
هذا جوابه سيكون في الحلقة القادمة إن شاء الله .

________________________
(1) مجموع الفتاوى(23 / 346) وقال أيضا : والفرق في ذلك بين مسائل الأصول والفروع كما أنه بدعة محدثة في الإسلام لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا إجماع ، بل ولا قالها أحد من السلف والأئمة فهي باطلة عقلا ، و منهاج السنة :(5/87) ، وذكر مثل هذا الكلام : ابن القيم في مختصر الصواعق(2/613) و عبد الرحمن ابن سعدي في طريق الوصول 7 وغيرهم من العلماء .
(2) انظر : المبسوط للسرخسي :(1/97-98) .
(3) نقله عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله :(2/ 910 - 911) .
(4) معرفة السنن والآثار(1/140) وانظر كلام الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه(1/475) .
(5) رفع الملام :(44 ، 45 ، 72) ومجموع الفتاوى ،(19/ 122-123) وقد حكي الاتفاق على ذلك أيضا جماعة من الأصوليين ك : الآمدي ، والغزالي ، وغيرهما ، انظر الأحكام(4/244) والمستصفى(2/361) وما بعدها .
(6) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم رقم 1520 ، 1522 بسند ضعيف .
(7) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم رقم(1521)(1536) بسند صحيح .
(8) جامع بيان العلم(2/922) وكذا قال الخطابي أيضا في أعلام الحديث :(3/ 2092) .
(9) المعيار المعرب(12/36) .
(10) مجموع الفتاوى(23/ 281) ومن أجود ما ألف في موضوع مراعاة الخلاف كتاب : مراعاة الخلاف ، بحث أصولي الشيخ عبد الرحمن بن معمر السنوسي .
(11) نقله عنه السيوطي في الإتقان(1/ 34) .
(12) أخرجه أحمد في المسند(3/279) من حديث أنس رضي الله عنه ، وسنده صحيح .
(13) أخرجه البخاري رقم(1559) 1569 ، ومسلم رقم(1221 ، 1223) وانظر الفتح(3/433) .
(14) أخرجه مسلم رقم(250) .
(15) أخرجه مسلم رقم(534) .
(16) أخرجه البخاري رقم :(1407) وانظر الفتح(3/ 273) .
(17) مواهب الجليل(3/318) .
(18) انظر مواهب الجليل للحطاب(3/ 318 - 319) وقد ذكر الونشريسي فتوى ابن عباد بنصها كاملة في المعيار المعرب(11/ 278) ومن الغرائب أن الحاج الرحال أبا عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق المالكي ألف كتابا بعنوان : جنا الجنتين في فضل الليلتين ، ذكر فيه واحدا وعشرين وجها لتفضيل ليلة المولد على ليلة القدر ، انظرها بتمامها في المعيار المعرب(11/ 280) .
(19) أضواء البيان(7/ 578) .
(20) المجموع شرح المهذب للنووي(3/ 243) ، والذي انفرد به أبو عبد الله الزبيري الشافعي إنما هو القول بوجوب التلفظ بالنية ، فإنه لم يقل بوجوب ذلك أحد من الأئمة قبله ولا بعده ، أما الاستحباب فقد حكاه جماعة من أتباع الأئمة المتأخرين ، ولا دليل لهم على ذلك وانظر كتاب مقاصد المكلفين للشيخ عمر الأشقر(125 - 133) .
(20) المجموع شرح المهذب للنووي(3/ 243) ، والذي انفرد به أبو عبد الله الزبيري الشافعي إنما هو القول بوجوب التلفظ بالنية ، فإنه لم يقل بوجوب ذلك أحد من الأئمة قبله ولا بعده ، أما الاستحباب فقد حكاه جماعة من أتباع الأئمة المتأخرين ، ولا دليل لهم على ذلك وانظر كتاب مقاصد المكلفين للشيخ عمر الأشقر(125 - 133) .


 


جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
( 4 / 5 )


الموقف الصحيح من أخطاء العلماء وزلاتهم :
ليس مرادنا في هذا المقام بأخطاء العلماء تلك المتعلقة بحق الله سبحانه من ذنوب ومعاص ، فإن العلماء وغيرهم من البشر في ذلك سواء ، وباب التوبة مفتوح للجميع ، وإنما مرادنا ههنا بأخطائهم العلمية .. تلك الأقوال والأفعال التي صدرت منهم على جهة الديانة لله تعالى ، وسبيل التعبد له جل وعلا ، وتلقفها الناس عنهم ، ونسبوها إلى دين الله وشريعته ؛ لحسن ظنهم بالعلماء .

" ولهذا تستعظم شرعاً زلة العالم ، وتصير صغيرته كبيرة ، من حيث كانت أقواله وأفعاله جارية في العادة على مجرى الاقتداء ، فإذا زل حملت زلته عنه قولاً كانت أو فعلاً ؛ لأنه موضوع مناراً يهتدي به ، فإن علم كون زلته زلة ؛ صغرت في أعين الناس وجسر عليها الناس تأسياً به ، وتوهموا فيها رخصة علم بها ولم يعلموها هم تحسيناً للظن به ، وإن جهل كونها زلة ؛ فأحرى أن تحمل محمل المشروع ، وذلك كله راجع عليه " [1] .

وبادئ ذي بدءٍ لا بد أن نعرف أن هذه الأخطاء العلمية على قسمين :

القسم الأول :
ما يسميه العلماء بـ ( الأقوال الضعيفة ) ؛ وذلك لضعف دليلها ، أو لقوة المعارض ، أو غير ذلك .

وليس المراد بها ( الأقوال المرجوحة ) التي تقابل ( الراجحة ) ؛ لأن الراجح والمرجوح فرسا رهان في تجاذب المسألة ، والدليل محتمل لكليهما ؛ لكنه في جانب أحد القولين أقوى ، فهذا النوع لا يدخل ضمن الأخطاء العلمية .

وإنما مرادنا بـ ( الأقوال الضعيفة ) تلك البين ضعفها ، والتي لا ساق لها تقف عليه ، ولا سوق ينهض بها ؛ بل تقوم على أدلة واهية لا تثبت أمام الحجج ، ولا تصمد في مواطن الحجاج ، ويتضافر الأئمة على إنكارها ، وتتعاقب جماعاتهم على استنكارها .

فهذا النوع من ( الأخطاء العلمية ) إذا تلبس به المستفتي بسبب فتوى أحد المفتين الموثوق بعلمهم ودينهم ، فإنه لا يلزمه - متى تبين له خطؤها - أن ينقض ما مضى من عمله الذي بناه على أساس تلك الفتوى ؛ لكنه فيما يستقبل من عمله يطرحها ولا يلتفت إليها .

ولا يسع الناس غير هذا القول ، وإلا وقعوا في حرج عظيم ؛ لأن المستفتي إذا سأل من هو أهل للفتيا ثم عمل بتلك الفتوى ، فإن ما بناه من تصرفاته على أساس تلك الفتوى صحيح ، ولا يلزمه نقضه ، فإن الله - عز وجل - أمر الجاهل أن يسأل أهل العلم كما في قوله تعالى : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) (الأنبياء : 7) وهذا المستفتي قد امتثل أمر الشارع فسأل العلماء فيكون قد أتى بما عليه ، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، ومطالبة الناس بشيء لم يطلبه الشارع منهم أمر زائد عن الحد ، وقد قال سبحانه : (( لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا )) (البقرة : 286) .

وخذ مثلاً على ذلك : مسألة إخراج زكاة الفطر نقداً ، فإن المرء إذا أخرجها نقداً بناء على فتوى من يوثق بعلمه ودينه ، وظل يخرجها كذلك سنين متطاولة ، ثم تبين له عدم جواز إخراجها نقداً بالدليل والبرهان ؛ فإنه لا يلزمه حينئذٍ أن يعتبر ما مضى من عمله فاسداً ، ولا يؤمر بقضاء السنين الفائتة ، وإنما يصحح عمله فيما يستقبل من السنين .

والقسم الثاني :
الأقوال المنكرة والآراء الباطلة التي تخالف صريح الكتاب والسنة ، وتصادم إجماع الأئمة ، وتنقض المسلّمات الشرعية ، وتتعارض مع مقاصد الشريعة .

فهذا النوع من ( الأخطاء العلمية ) مردود على صاحبه [2] ، ولا يشك أحد في بطلان العمل به ، ولا يجوز للمستفتي ولا لغيره الإقدام عليه مطلقاً ، وعليه نقض ما مضى من العمل المبني على تلك الفتوى ؛ لأن ما بني على باطل فهو باطل ، وكيف يقوم الفرع والأصل زائل !!

وبالجملة فإن العبد المسلم إذا تبين له خطأ العالم في مسألة ما فإنه يلزمه أن يتخذ إجراءين مهمين من هذه القضية :
الإجراء الأول : مع العالم نفسه .
والإجراء الثاني : مع خطئه وزلته .

الإجراء الأول :
فأما العالم نفسه فإننا نقف معه ثلاث وقفات شرعيات :
الوقفة الأولى : أن نلتمس له العذر فيما أخطأ فيه ، وهو أحق من غيره بهذا الموقف ؛ لأن العبد إذا كان مأموراً بالتماس الأعذار لإخوانه المؤمنين ، فالعلماء من باب أولى .

قال الذهبي - رحمه الله - : " فليعذر من تأول بعض الصفات ، وأما السلف فما خاضوا في التأويل ، بل آمنوا وكفوا ، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله ، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه وبدعناه ، لقل من يسلم من الأئمة معنا ، رحم الله الجميع بمنه وكرمه " [3] .

وقد صنف جماعة من الأئمة كتباً في أسباب اختلاف العلماء ، وهي في الحقيقة أعذار لهم يتبين منها أنهم أرادوا الحق وسلكوا جادته ، ورغبوا في إصابته ؛ لكنهم أخطئوا .

ولم يذكر أحد قط أن مخالفة هذا العالم أو ذاك كان بدافع الهوى ، أو تغليب مصلحته الشخصية ، أو رغبته ، الجانحة ... أبداً ، وحاشاهم من ذلك ؛ لأنهم كانوا أهل ورع وتقوى ، ولا أدل على ذلك من أن بعضهم كان يجتنب التصريح بلفظ " الحلال " أو " الحرام " ما دامت أدلته ظنية ، وهو غالب في عبارة المتقدمين ؛ كراهة أن يتناولهم قوله تعالى : (( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ )) (النحل : 116) [4] .

الوقفة الثانية : توقيره وإكرامه ، ومعرفة قدره ، وحفظ وافر الحرمة له ، وعدم التنقص منه لأجل خطئه ؛ لما له من سابق الفضل ، وجزيل البذل ، وحسن البلاء في الإسلام ، ومحبة النصح للأمة ، وظهور إخلاصه لشرع الله ودينه ، فهذا الرصيد من الحسنات يرجى له به مغفرة السيئات وأن تغمر زلاته في بحر إحسانه .

عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يجلَّ كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه " [5] .

الوقفة الثالثة : نصيحته ودلالته على الصواب ، والمكاتبة له في ذلك إن أمكن ؛ فإنه من الأمانة التي حمّلها الله - عز وجل - أهل العلم ، وأمرهم أن يتواصلوا فيه ؛ فإن العلم رحم بين أهله .

وهذا هو الذي يفسر لك الكم الهائل من الردود التي دونها أهل العلم ، قياماً بواجب النصيحة التي أمروا بها .

عن تميم الداري - رضي الله عنه - : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة ، قلنا : لمن ؟
قال : لله ، ولكتابه ، ولرسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم " [6] .

الإجراء الثاني :
وأما خطأ العالم وزلته ، فإن " الخطأ " يرد مهما كان قائله أو فاعله ، فكيف بمن خطؤه ينسب إلى الشرع ! فهذا أعظم خطراً ، وأشد ضرراً ، وحينئذ لا بد أن يقوم أهل العلم ببيان الخطأ وتزييفه ، وتحذير الناس من أخذه أو التلبس به ؛ فإنه متى " عرف بأنها زلة لم يجز لأحد أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين " [7] .

قال الشاطبي ( ت 790هـ ) - رحمه الله - : " إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة ، ولا الأخذ بها تقليداً له ؛ وذلك لأنها موضوعة على المخالفة للشرع ؛ ولذلك عدت زلة ، وإلا فلو كانت معتداً بها لم يجعل لها هذه الرتبة ، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها " [8] .

ولا شك أن زلة العالم ليست كزلة غيره ؛ لأنها مدعاة لتتابع الناس على الخطأ والدينونة به ، والديمومة عليه ؛ اغتراراً بزلته ، واجتراراً لحسن الظن به .

قال الغزالي - رحمه الله - : " فهذه ذنوب يتبع العالم عليها ، فيموت العالم ويبقى شره مستطيراً في العالم آماد متطاولة فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه " [9] .

" وشبه العلماء زلة العالم بانكسار السفينة ؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير " [10] ، وقد قيل قديماً : إذا زل العالِم ، زل العالَم [11] .

وقد وردت آثار كثيرة تحذر من زلة العالم وتبين خطورتها ، فمن ذلك ما يلي :
1 - عن كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه ، عن جده ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إني لأخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة ، قالوا : وما هي يا رسول الله ؟
قال : أخاف عليهم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع " [12] .
وفي لفظ : " اتقوا زلة العالم ، وانتظروا فيئته " [13] .

2 - عن زياد بن حدير - ثقة عابد - قال : قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : " ثلاث يهدمن الدين : زلة عالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون " [14] .

3 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " ويل للأتباع من عثرات العالم ، قيل : وكيف ذاك ؟ قال : يقول العالم برأيه ، فيبلغه الشيء عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ؛ فيرجع ويمضي الأتباع بما سمعوا " [15] .

فهذه الآثار وغيرها كثير تدل على خطورة زلة العالم ، وتحذير الأتباع منها ، فكيف بمن كان سبيل التفقه عنده التفتيش عنها ، وحشد الشبه لتبريرها ، واختلاق ما يسوغ العمل بها ؛ فهذا - والله - لا يفلح أبداً ، كما قال الإمام عبدالرحمن بن مهدي - رحمه الله - : " لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم " [16] .

وأعظم من ذلك من كان دأبه التنقيب عن زلات العلماء ونوادرهم ؛ لأجل التقرب والتعبد والعمل بها ، فهذا يقال فيه ما قاله الإمام الأوزاعي - رحمه الله - : " من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام " [17] .

الجواب عما أوردوه من الاستدلال :
وأما عن الجواب عما استدلوا به على جواز الانتقائية فهو كما يلي :
أولاً : الجواب عن الأحاديث المرفوعة :
أما الأحاديث المرفوعة فيجاب عنها من جهتين :
من جهة السند ، ومن جهة المتن .
فأما من جهة السند فقد مضى البيان بأنه لا يصح منها شيء البتة ، بل صرح بعض الأئمة أنها موضوعة ، فلا نطيل في ذلك .

وهذا الجواب وإن كان كافياً ؛ لأن الكلام لا يكون إلا فيما ثبت ، فأما ما لم يثبت فوجوده وعدمه سواء ؛ إلا أنه يمكن إظهار الخلل فيها من جهة المتن أيضاً .

فالحديث الأول : ( اختلاف أمتي رحمة ) يدخله الفساد من جهتين :
أ - من جهة لفظه .
ب - ومن جهة معناه .

فالجهة الأولى : جهة لفظه :
فأما جهة اللفظ فيرد عليه ما يلي :
1 - أنه أطلق الاختلاف ، فيشمل أي شيء مختلف فيه ولو كان في العقائد .
2 - أنه عام في المختلفين ؛ فإنه لم يستثن غير العلماء من هذا الاختلاف ؛ لأنه قال ( أمتي ) ، فيكون اختلاف أي أحد من أفراد الأمة داخلاً في حكم هذا الحديث .

فمجرد تصور ما يدل عليه لفظ الحديث يكفي في رده إذ أنه يشمل كل الأمة : أعياناً وأعمالاً ، فجميع أفراد الأمة الإسلامية باختلاف مشاربهم ، وشتى اتجاهاتهم ، وتنوع أفكارهم ، وأيضاً بكل تصرفاتهم وأقوالهم واعتقاداتهم ، كل ذلك الخليط الممزوج يكون ( رحمة ) !! وهذا لا يقوله عاقل .

ولأجل فساد هذا الفهم المتبادر من لفظ الحديث - إن ثبت - سعى بعض العلماء إلى تخريجه على وجه مناسب وملائم .

فزعم بعضهم - كما نقل عن الحليمي وغيره - أن المراد الاختلاف في الحرف والمهن والصنائع ، وهذا بعيد ؛ لأنه لو كان هذا هو المراد لكان الأولى أن يقال : ( اختلاف الناس رحمة ) إذ لا فرق في هذا بين الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم ، فإن كل الأمم مختلفون في الحرف والصنائع .

وزعم آخرون - كما نقل عن الجويني والحليمي أيضاً وغيرهما - أن المراد به الاختلاف في المناصب والدرجات والمراتب ، واستبعده السبكي تقي الدين ( ت 756 هـ ) [18] ؛ لأن الذهن لا يسبق إليه هذا المعنى من لفظ الحديث .

ودفعاً لأي وارد قد يرد ، أطبق شراح الحديث على أن عمومه غير مراد ، بل الاختلاف المحمود مقصور على اختلاف الأئمة المجتهدين دون غيرهم ، ثم هو محصور في مسائل الفروع دون الأصول - هذا على فرض صحة التقسيم إلى فروع وأصول - .

والجهة الثانية : جهة المعنى :
وأما معناه فلا يستقيم ؛ لأمرين :
1 - أنه يصادم النصوص القطعية الثابتة والكثيرة التي تقضي بذم الاختلاف ، وتنهى عنه .

وبالغ المناوي في دفع هذا الإيراد ، وقال : هذه دسيسة ظهرت من بعض من في قلبه مرض [19] .

وليس الأمر كما قال المناوي ؛ بل هو إيراد في محله ، والأمر كما قال تقي الدين السبكي : " فانظر القرآن العزيز كيف دل على أن الرحمة تقتضي عدم الاختلاف ، وأن الاختلاف نشأ عنه كفر بعضهم واقتتالهم ، وانظر كلام النبوة كيف اقتضى أن الاختلاف سبب لاختلاف القلوب ، والذي نقطع به ولا شك فيه أن الاتفاق خير من الاختلاف " [20] .

2 - ما ذكره ابن حزم وغيره أنه إن كان الاختلاف رحمة فإن الاتفاق عذاب وسخط وهذا المفهوم من لفظ الحديث لازم لهم ، مع أنه لا يقول به مسلم [21] .

وقد شنع الخطابي ( 388 هـ ) على من جعل هذا المفهوم مستفاداً من الحديث وألزم به ، بل نسبه إلى بعض أهل الزندقة والمجون !! [22] .

ثم حاول دفع ذلك بما لا ينتهض ، وتكلف الجواب عنه وقال : قال تعالى : (( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ )) (القصص : 73) فسمى الليل رحمة ، فهل أوجب أن يكون النهار عذاباً ؟ [23] .

وفي الحقيقة هذا ليس بجواب ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أمتن على الخلق بأن جعل الليل والنهار كليهما من رحمته ، ولم يفرد الليل بالرحمة دون النهار ، فكيف يُفصل الليل عن النهار ويخص الليل بالرحمة دون النهار مع أن السياق واحد ؟!

وزيادة على ما تقدم فإن متن الحديث منكر ؛ لأنه نص على أن الاختلاف رحمة ، وقد ثبت في حديث آخر أن الجماعة رحمة ، فعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الجماعة رحمة ، والفرقة عذاب " [24] .

وعند الوقوف ملياً مع هذا الحديث يظهر والله أعلم أنه تحرف من لفظ آخر وهو : ( اختلاف أصحابي لأمتي رحمة ) ، بدليل أن لفظ : ( اختلاف أمتي رحمة ) مختزل منه كما هو ظاهر ؛ ولأن كثيراً من الأئمة قد أنكروا أن يكون لهذا اللفظ أصل في كتب السنة ، كما قال تقي الدين السبكي ( 756 هـ ) : " هذا الحديث ليس معروفاً عند المحدثين ، ولم أقف له على سند صحيح ، ولا ضعيف ، ولا موضوع ، ولا أظن أن له أصلاً ؛ إلا أن يكون من كلام الناس .. إلى أن قال : وما زلت اعتقد أن هذا الحديث لا أصل له " [25] .

وقال ابن الملقن ( 804 هـ ) : " هذا الحديث لم أر من خرجه مرفوعاً بعد البحث الشديد عنه " [26] .

وهناك فرق عظيم بين اللفظين ؛ فإن اللفظ الوارد : ( اختلاف أصحابي ... ) يقصر الاختلاف على الصحابة فقط دون غيرهم ، فتكون الرحمة محصورة في اختلافهم .

وهذا له محمل وجيه وصحيح ؛ لأن كون اختلافهم رحمة أي رخصة ، والرخصة تخفيف ، والتخفيف رحمة ، والمعنى : أننا استدللنا باختلافهم على جواز الاجتهاد في هاتيك المسائل أو ما شابهها ، وهذا توسعة لمن جاء بعدهم ؛ إذ لو لم يجتهدوا لما تجرأ أحد على خوض عباب النصوص الشرعية ، ولوقف العلماء من بعدهم حيث وقفوا ، فهذه التوسعة هي الرحمة المرادة .

وعلى هذا المعنى يحمل كلام السلف - رحمهم الله - ، كقول القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة : " وكان اختلاف أصحاب محمد رحمة للناس " .

وكقول عمر بن عبدالعزيز : " ما يسرني أنهم لم يختلفوا ؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة " .

وعن موسى بن عبدالله الجهني - ثقة عابد - أبو سلمة الكوفي قال : " كان إذا ذكر عند طلحة بن مصرف الاختلاف ، قال : لا تقولوا الاختلاف ؛ ولكن قولوا السعة " [27] .

وصنف رجل كتاباً في " الاختلاف " ، فقال له الإمام أحمد : " لا تسمه كتاب ( الاختلاف ) ولكن سمه كتاب السعة " [28] .

ولا يعني كون ذلك سعة أن للمجتهد أو المفتي الانتقاء من أقوالهم أو مذاهبهم بدون نظر أو ترجيح ، فإن هذا الانتقاء اللامنضبط ليس من لازم السعة ولا من ثمراتها ، وعلى هذا يحمل كلام من نفى السعة في اختلاف الصحابة ومن بعدهم .

قال ابن القاسم : " سمعت مالكاً ، و الليث بن سعد يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس كما قال ناس فيه سعة ، ليس كذلك إنما هو خطأ وصواب " [29] .

وسئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتراه من ذلك في سعة ؟
فقال : لا والله حتى يصيب الحق ، وما الحق إلا واحد ، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً ؟! وما الحق والصواب إلا واحد [30] .

قال ابن الصلاح الشهرزوري ( 643 هـ ) تعقيباً على قول الإمام مالك : " قلت : لا توسعة فيه ؛ بمعنى أنه يتخير بين أقوالهم من غير توقف على ظهور الراجح .
وفيه توسعة ؛ بمعنى أن اختلافهم يدل على أن للاجتهاد مجالاً فيما بين أقوالهم ، وأن ذلك ليس مما يقطع فيه بقول واحد متعين لا مجال للاجتهاد في خلافه والله أعلم " [31] .

وقد سبقه إلى تقرير هذا الأصل : الإمام إسماعيل القاضي - رحمه الله - حيث قال : " إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة لأن يقول الناس بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا ؛ ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا " قال ابن عبدالبر عقبه : " كلام إسماعيل هذا حسن جداً " [32] .

والمقصود أنه يجب فهم كلام السلف على وجهه ؛ فإنهم أرادوا أمراً حسناً ، ومعنى جميلاً من الاختلاف وقالوا : هو رخصة وسعة ، ومن جاء بعدهم قال : إنه رحمة ، وأراد نفس المعنى أيضاً ، كما قال ابن بطة العكبري ( 387 هـ ) : " فاختلاف الفقهاء في فروع الأحكام ، وفضائل السنن ؛ رحمة من الله بعباده " [33] .

وقال موفق الدين ابن قدامة ( 620 هـ ) : " الاختلاف في الفروع رحمة ، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم ، مثابون في اجتهادهم ، واختلافهم رحمة واسعة ، واتفاقهم حجة قاطعة " [34] .

ثم جاء من بعدهم من المتأخرين فضخموا أمر الاختلاف ، وعظموه جداً حتى لكأنه مطلب رباني ، أو مقصد شرعي ؛ بل جعله السيوطي خصيصة من خصائص الأمة فقال : " اعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملة نعمة كبيرة ، وفضيلة عظيمة وله سر لطيف أدركه العالمون ، وعمي عنه الجاهلون .. إلى أن قال : فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الأمة خصيصة فاضلة لهذه الأمة ، وتوسيع في هذه الشريعة السمحة السهلة " [35] .

وذهب الحصكفي الحنفي ( 1088 هـ ) إلى أبعد من ذلك فقال : " واعلم بأن الاختلاف من آثار الرحمة ، فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرحمة أوفر " [36] .

والأمر ليس كما قالا بل هو دون ذلك بكثير ؛ فإن الاختلاف ليس محموداً في نفسه وإنما يعتبر بما آل إليه ؛ فإن آل إلى هوى وعصبية وبغي وعدوان وتفرق الكلمة والصف فهو مذموم ولا شك ، وإن آل إلى غير ذلك مما يحبه الله عز وجل فهو ممدوح .
فالعبرة بالمآل لا بالحال ، تماماً كما قيل في المعصية ؛ فإن بعض أهل العلم قالوا : رب معصية خير من طاعة ، فليس المراد ذات المعصية ؛ لأنها مكروهة للشارع فلا تمدح لذاتها ، وإنما المراد بما يؤول إليه حال التائب منها مما يورث الذل والانكسار بين يدي العزيز الجبار ، وتحمل صاحبها على خشوع القلب والاجتهاد في الطاعات والعبادات .

وعندي نصان لاثنين من أعيان الصحابة وفقهائهم ، هما : عبدالله بن عباس ، و عبدالله بن مسعود - رضي الله عنهم - فأما ابن عباس - رضي الله عنهما - فندم وحزن على فوات ما كان يزمع كتابته رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور لا يختلفون بعدها ، وأما ابن مسعود - رضي الله عنه - فقد وصف " الخلاف " بما هو أهله ، وإليك كلامهما بتمامه :
1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هلم أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده " ، فقال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع ، وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله .

فاختلف أهل البيت فاختصموا ، فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا " .

قال عبيدالله بن عبدالله بن عتبة الراوي عن ابن عباس : فكان ابن عباس يقول : " إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم " [37] .

2 - قال الأعمش : حدثني معاوية بن قرة ، عن أشياخه ، أن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - صلى أربعاً أي بمنى ، فقيل له : عبت على عثمان ثم صليت أربعاً ؟
فقال : " الخلاف شر " [38] .

وفي ختام الجواب عن الحديث أنقل لك كلاماً نفيساً للغاية للعلامة المحقق أبي إسحاق الشاطبي ( 790 هـ ) حيث قال : " وأيضاً ؛ فإن قول من قال : " إن اختلافهم رحمة " يوافق ما تقدم - أي : من أن ذلك بسبب فتحهم باب الاجتهاد - ؛ وذلك لأنه قد ثبت أن الشريعة لا اختلاف فيها ، وإنما جاءت حاكمة بين المختلفين ، وقد ذمت المختلفين فيها وفي غيرها من متعلقات الدين ، فكان ذلك عندهم عاماً في الأصول والفروع ، حسبما اقتضته الظواهر المتظافرة ، والأدلة القاطعة .

فلما جاءتهم مواضع الاشتباه وكلوا ما لم يتعلق به عمل إلى عالمه على مقتضى قوله : (( وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِه )) (آل عمران : 7) ، ولم يكن لهم بد من النظر في متعلقات الأعمال ؛ لأن الشريعة قد كملت ، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة ، فتحروا أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي ، والفطر والأنظار تختلف ؛ فوقع الاختلاف من هنا لا من جهة أنه من مقصود الشارع ، فلو فرض أن الصحابة لم ينظروا في هذه المشتبهات الفرعية ، ولم يتكلموا فيها - ولهم القدرة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها - ؛ لم يكن لمن بعدهم أن يفتح ذلك الباب للأدلة الدالة على ذم الاختلاف ، وأن الشريعة لا اختلاف فيها ، فكان المجال يضيق على من بعد الصحابة ، فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف ؛ سهل على من بعدهم سلوك الطريق ؛ فلذلك - والله أعلم - قال عمر بن عبدالعزيز : " ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم " ، وقال : " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا " [39] .

________________________
(1) الموافقات للشاطبي (4-88-89) .
(2) انظر : (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام) القرافي في 135 فما بعدها ، و (إعلام الموقعين) لابن القيم (3-288) .
(3) (سير أعلام النبلاء) (14-376) .
(4) انظر : (إعلام الموقعين) (1-72) ، و (البحر المحيط) للزركشي ، وهذا فيمن كان معذوراً في مخالفته للحق ، أما " من خالف الكتاب المستبين والسنة المستفيضة ، أو ما أجمع عليه سلف الأمة ، خلافاً لا يعذر فيه ، فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع " (مجموع الفتاوى) (24-172) .
(5) أخرجه : أحمد في المسند (5-323) رقم (22755) ، والحاكم في (المستدرك) (1-122) رقم (429) ، والبزار في (البحر الزخار) (7-157) رقم (2718) ، والشاشي في (مسنده) رقم (1273) ، والطحاوي في (شرح شكل الآثار) (3-365) رقم (1328) ، والطبراني (الكبير) (11) رقم (12276) وحسنه الهيثمي في (المجمع) (1-127) و (8-14) ، والألباني في (صحيح الترغيب) رقم (101) ، وانظر السلسلة الصحيحة رقم (2196) .
(6) أخرجه مسلم في(صحيحه) (1-74) رقم (55) ، كتاب الإيمان ، باب : بيان الدين النصيحة .
(7) (إعلام الموقعين) (2-183) .
(8) (الموافقات) (5-136) .
(9) (إحياء علوم الدين) للغزالي (4-33) .
(10) (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبدالبر (2-982) .
(11) عن عبيد الله بن أبي جعفر قال : " قيل لعيسى ابن مريم : يا روح الله وكلمته ، من أشد الناس فتنة ؟
قال : زلة العالم ، إذا زل العالم زل بزلته عالم كثير " أخرجه : ابن المبارك في (الزهد) (2-855) رقم (1136) ، ومن طريقه الخطيب البغدادي في (الفقيه والمتفقه) (2-26) رقم (645) .
(12) أخرجه : البزار (كشف الأستار) رقم (182) ، والطبراني (الكبير) (17-17) رقم (14) ، والبيهقي في (المدخل) رقم (830) ، وابن عبد البر في (جامع بيان العلم) رقم (1865) ، وإسناده ضعيف جداً ، فإن : كثير بن عبدالله المزني متروك ، (مجمع الزوائد) (1-187) و (5-239) ، لكن للحديث شواهد مرفوعة وموقوفة ، فمن المرفوع :
1 - ما رواه : البيهقي في (المدخل) رقم (832) ، و (شعب الإيمان) (2-3) رقم (347) ، والخطيب في (الفقيه المتفقه) (2-26) رقم (644) ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ، وسنده ضعيف ،،
2 - ومنها ما رواه أبو داود في (المراسيل) رقم (533) ، من حديث محمد بن كعب القرظي مرسلاً ، ثم في إسناده : إبراهيم بن طريف الشامي ، وهو مجهول ،،
3 - ومنها ما رواه : الطبراني (الكبير) (20-138-139) ، و (الأوسط) (7-297) رقم (6571) ، و (الصغير) (2-186) رقم (1001) ، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه ، قال الهيثمي : وفيه عبدالحكيم بن منصور الواسطي وهو متروك الحديث (المجمع) (1-186) ، ثم فيه انقطاعاً ؛ لأن عبدالرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذاً ، ولحديث معاذ طريق أخرى أخرجها : الطبراني (الأوسط) (9-326) رقم (8710) ، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) (1-131) رقم (183) ، قال الهيثمي : وعمرو بن مرة لم يسمع من معاذ (المجمع) (1-187) ، وأما الآثار الموقوفة فسوف يأتي ذكر بعضها إن شاء الله .
(13) أخرجه : ابن عدي في (الكامل) (6-2081) ، والبيهقي في (السنن الكبرى) (10-211) رقم(20917) ، وفي (المدخل) رقم (831) وضعفه المناوي في (فيض القدير) (1-187) ، وقال العجلوني : وهو كما قال إن لم يكن موضوعاً (كشف الخفاء) رقم (78) .
(14) أخرجه : ابن المبارك في (الزهد) رقم (1137) ، والدارمي (السنن) رقم (220) ، والآجري في(تحريم النرد والشطرنج) رقم (48) ، والفريابي في (صفة النفاق) رقم (31) ، وابن بطة في (الإبانة) رقم (641و643) ، والبيهقي في (المدخل) رقم (833) ، والخطيب في (الفقيه والمتفقه) (1-234) رقم (607) ، وابن عبدالبر (جامع بيان العلم) رقم (1867و1869و1870) وأبو نعيم في (الحلية) (4-196) ، وعزاه المتقي الهندي في (كنز العمال) رقم (29405 - 29412) إلى : آدم بن أبي إياس في (العلم) ، والعسكري في (المواعظ) ، والبغوي والإسماعيلي ، ونصر المقدسي في (الحجة) ، وساق ابن كثير طرقه ثم قال : فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف ، فهي صحيحة من قول عمر رضي الله عنه ، وفي رفع الحديث نظر ، والله أعلم (مسند الفاروق) (2-662) ، وصححه الألباني في (المشكاة) رقم (269) ، وقد ورد عن جماعة من الصحابة آثار قريبة من لفظ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، منها :
1 - أثر معاذ بن جبل رضي الله عنه ، بإسناد حسن ، أخرجه : وكيع في (الزهد) (1-299) رقم (71) ، واللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) (1-137) رقم (198) ، وابن عبدالبر (جامع بيان العلم) رقم (1872) ، وأبو نعيم في(الحلية)(5-97) وقال : كذا رواه شعبة موقوفاً ، وهو الصحيح ، وقال الدارقطني : وقفه شعبة وغيره عن معاذ ، والموقوف هو الصحيح(العلل)(6-81) رقم(992) ،،.
2 - أثر أبي الدرداء رضي الله عنه ، وإسناده منقطع ، أخرجه أحمد في(الزهد) رقم(143) ، وأبو نعيم في(الحلية)(1-219) ، وابن عبدالبر(جامع بيان العلم) رقم(1868) ،، .
3 - أثر سلمان الفارسي رضي الله عنه ، وإسناده ضعيف ، أخرجه : ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم)(2) رقم(1873) ،، .
4 - أثر تميم الداري رضي الله عنه ، أخرجه : البيهقي في(المدخل) رقم(837) ، والخطيب في(الجامع لأخلاق الراوي)(1-145) ، فمجموع طرق الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة ترتقي بالمرفوع إلى درجة الحسن لغيره ، والله أعلم .
(15) أخرجه : البيهقي في(المدخل) رقم(835و836) ، والخطيب في(الفقيه والمتفقه) رقم(647) ، وابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم(1877) ، وإسناده صحيح .
(16) أخرجه : ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم) رقم(1539) ، وسنده صحيح .
(17) أخرجه : البيهقي في(السنن الكبرى)(10-211) رقم(20918) ، وانظر :(سير أعلام النبلاء)(7-125) .
(18)(قضاء الأرب في أسئلة حلب)(269) ، ونقله عنه المناوي في(فيض القدير)(1-209) وغيره .
(19)(فيض القدير)(1-210) .
(20)(قضاء الأرب في أسئلة حلب)(266) .
(21)(الإحكام في أصول الأحكام)(5-64) ، وأيده الألباني(الضعيفة)(1-141) .
(22)(أعلام الحديث)(1-219) ، وأيده على ذلك من جاء بعده ممن نقل كلامه ، وانظر على سبيل المثال :(شرح صحيح مسلم) للنووي(11-92) .
(23) المرجع السابق(1-220) .
(24) أخرجه : أحمد(المسند)(4-278و275) ، وابن أبي الدنيا في كتاب(الشكر)(64) ، وابن أبي عاصم في(السنة) رقم(93) ، والقضاعي في(مسند الشهاب) رقم(15) ، والبيهقي في(شعب الإيمان)(2-1-123) ، وابن بطة في(الإبانة الكبرى) رقم(117) ،وعزاه الهيثمي إلى : البزار ، والطبراني ، وقال : رجالهم ثقات(المجمع)(5-217) وحسنه الألباني(الصحيحة) رقم(167) ، و(صحيح الجامع) رقم(3109) .
(25)(قضاء الأرب في أسئلة حلب)(263-264) ، وكلامه هذا تناقله عنه الأئمة مقرين له .
(26)(تذكرة المحتاج إلى أحاديث المنهاج) لابن الملقن(71) رقم(62) ، ونقله عنه الزبيدي في شرحه على (إحياء علوم الدين)(1-205) ، وعنه اللحجي في(منتهى السول على وسائل الوصول)(3-266) .
(27) أخرجه : ابن بطة في(الإبانة الكبرى) رقم(707) ، وأبو نعيم في(الحلية)(5-19) .
(28) انظر :(مجموع الفتاوى)(30-79) .
(29) انظر :(جامع بيان العلم) لابن عبدالبر رقم(1695و1699) .
(30) نقله ابن عبدالبر في(جامع بيان العلم)(2-907) .
(31)(أدب المفتي) لابن الصلاح(64) .
(32)(جامع بيان العلم) لابن عبدالبر(2-906-907) ، وانظر :(الموافقات)(5-75) و(الاعتصام)(2-676) .
(33)(الإبانة الكبرى)(2-566) .
(34)(لمعة الاعتقاد)(35) .
(35)(جزيل المواهب في اختلاف المذاهب)(21 ، 22) .
(36)(شرح الدر المختار)(1-12) .
(37) متفق عليه ، البخاري - كتاب الجهاد والسير(3-1111) ، ومسلم - كتاب الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه(شرح النووي)(11-95) .
(38) أخرجه : ابن أبي شيبة في(المصنف) رقم(13982) ، وأبو داود في(السنن) رقم(1960) ، وأصل الحديث في الصحيحين وغيرهما .
(39)(الموافقات)(5-75-76)


 


جسارة الانتقاء وأكذوبة التقليد
فساد منهج التساهل في الفتوى بدعوى التيسير
عبدالله بن سالم البطاطي
( 5 / 5 )


الحديث الثاني : " أصحابي كالنجوم ... " .
هذا الحديث ليس فيه إلا الثناء على الصحابة بما هم أهله ، وأنهم منارات هدى يقتدى بهم كحال النجوم التي يهتدى بها في حوالك الظُلَمْ ، وأن كل فرد من أفراد الأمة متى أراد قدوة صالحة في أمر من أمور البر ، والخير ، والإحسان ، فسيجد في الصحابة رضي الله عنهم أسوة حسنة ، وقدوة صالحة ؛ فمن أراد قدوة في العبادة ففيهم العابدون ، ومن أراد قدوة في الجهاد ففيهم المجاهدون ، ومن أراد قدوة في العلم ففيهم العالمون ، .... وهكذا .

وليس في الحديث أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد إلى الحث على الانتقاء من أقوالهم ، أو الاختيار من آرائهم لمجرد كونهم صحابة فقط ، وإلا فهل يجوز لأحد اليوم أن يقول بقول عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان رضي الله عنهما ؛ فيمنع الناس من التمتع بالعمرة إلى الحج ! ! هذا ما لا يجوز البتة .

وهذا المقدار من تشبيه الصحابة بالنجوم ثابت من حديث آخر صحيح ، وهو أعمق دلالة من حديث : " أصحابي كالنجوم " عند التأمل .

فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أنا أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون " [1] .

و ذكر البيهقي رحمه الله أن هذا الحديث ، يؤدي بعض المعنى المراد من حديث : " أصحابي كالنجوم " [2] ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعقيباً عليه : صدق البيهقي ، هو يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة ، أما في الاقتداء فلا يظهر في حديث أبي موسى الأشعري ؛ نعم ، يمكن أن تلمح ذلك من معنى الاهتداء بالنجوم ، وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة ، من طمس السنن ، وظهور البدع ، وفشو الفجور في أقطار الأرض ، والله المستعان [3] .

وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالحديث إن صح نقل ما رواه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا مطعن في أحد منهم ، فكلهم ثقات عدول ، فعن أيهم نقل الناقل فقد اهتدى الناقل .

قال الإمام المزني رحمه الله : إن صح هذا الخبر فمعناه فيما نقلوا عنه ، وشهدوا به عليه ، فكلهم ثقة مؤتمن على ما جاء به ، لا يجوز عندي غير هذا ، وأما ما قالوا فيه برأيهم فلو كانوا عند أنفسهم كذلك ما خطأ بعضهم بعضاً ، ولا أنكر بعضهم على بعض ، ولا رجع منهم أحد إلى قول صاحبه ، فتدبر [4] .

وثم جواب ثالث ذكره ابن حزم رحمه الله ، حيث عدد أوجه الفساد في الاستدلال بهذا الحديث ، ثم قال :
والثالث : أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول الباطل ، بل قوله الحق ، وتشبيه المشبه للمصيبين بالنجوم تشبيه فاسد ، وكذب ظاهر ؛ لأنه من أراد جهة مطلع " الجدي " فأم جهة مطلع " السرطان " لم يهتد ، بل ضل ضلالاً بعيداً ، وأخطأ خطأً فاحشاً ، وخسر خسراناً مبيناً ، وليس كل النجوم يهتدى بها في كل طريق [5] .

ثانياً : الجواب عما استدلوا به من أقوال السلف :
وأما ما ذكروه من آثار السلف رحمهم الله ، وأوردوه في هذا المقام ، فعنه جوابان : جواب إجمالي ، وآخر تفصيلي .

فأما الجواب الإجمالي فيقال فيه : إذا جمعت الآثار السلفية في صعيد واحد ، وضممت النظير إلى نظيره ، ثم قارنته بأفعالهم ومواقفهم المنقولة إلينا ، ودققت التأمل في ذلك ، تبين لك مرادهم على وجه التحقيق ، وأنهم إنما قصدوا الأقوال التي يتجاذبها الأثر ، ويسعفها النظر ، والتي لا تخرج عن كونها إما راجحة أو مرجوحة ، مما سبق بيانه ودخوله ضمن " الخلاف المعتبر " .

والذي يؤكد ذلك ويدل عليه هو تعقب بعضهم لبعض ، وتخطئة بعضهم بعضاً وقيام المناظرات العلمية بينهم ، وكتابة الردود ، والأجوبة عنها ، ثم يلي ذلك إعذارهم من خالفهم في الاجتهاد ؛ لعلمهم بوجاهة ما تمسك به ، واحتج له ، ونافح عنه .

ولو كان الذي صار إليه مما شذ فقهه ، أو اندثر علمه ، أو هُجر العمل به ، أو صار إليه تشهياً ، وانتقاء عشوائياً لا مبرر له ؛ لما عذروه وتحملوه ، بل زجروه وهجروه ، وحذروا الناس منه ، ولعدوه من أهل البدع ؛ لأن تلك هي طريقتهم ، وذلك هو منهجهم .

ولقد كان من المشتهر في عصرهم ، والمنتشر في أوساطهم أنه لا يصار في مسألة من المسائل إلى قول لأجل القائل به ما لم تقم عليه بينة ظاهرة من الكتاب والسنة ؛ لأن الحجة فيهما لا غير ، ومن عارض نصوص الكتاب والسنة بأقوال الرجال مهما كان صاحب القول محترماً ينكرون عليه فعلته ويردون عليه شطحته ؛ كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أما تخافون أن تعذبوا أو يخسف بكم أن تقولوا : قال رسول الله ، وقال فلان ! [6] .

وأما الجواب التفصيلي فهو كالآتي :
1- قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشريح القاضي : " فأي الأمرين شئت فخذ به " ، المراد منه الأخذ بالاجتهاد أو تركه ، وليس المراد الانتقاء من الأحكام التي ظهرت له في الواقعة الواحدة فيتخير لها ما شاء من الأقوال .

ويدل على ذلك اللفظ الآخر للأثر ، وفيه : " ... فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم ، وإن شئت أن تتأخر فتأخر ، وما أرى التأخر إلا خيراً لك " [7] .

2- قول سفيان الثوري رحمه الله : إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه ، وأنت ترى غيره فلا تنهه ، أه .
محمول على الاختلاف المعتبر ، الذي يعذر فيه المخالف ، لا أنه يسوغ أي خلاف ؛ فإن سفيان الثوري رحمه الله معروف بشدته في الحق ، وقيامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

ثم فيه أيضاً بيان للموقف الصحيح من الخلاف المعتبر ، وقد قال يحيى بن سعيد رحمه الله : ما برح المفتون يستفتون ، فيحل هذا ، ويحرم هذا ، فلا يرى المحرم أن المحلل هلك لتحليله ، ولا يرى المحلل أن المحرم هلك لتحريمه [8] .

وكذا قال غير واحد من الأئمة : ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه [9] ، وهو ما عرف فيما بعد ب " الإنكار في مسائل الخلاف " .

وهنا يجب أن نقف وقفة علمية مع هذا المصطلح ؛ فإن مسائل الخلاف منها ما هو محل للاجتهاد ، ومنها ما ليس كذلك ، وحينئذ يجب التفريق بينهما .

فمسائل الاجتهاد هي المسائل التي لا تظهر فيها الأدلة ظهوراً بيناً يوجب العمل بها ، وإنما أدلتها خفية أو متعارضة ، فهذه محل للاجتهاد وإمعان النظر فيها .

بينما مسائل الخلاف هي كل مسألة اختلف فيها العلماء ، سواء ظهر دليلها أو لا .

وعلى هذا فمسائل الخلاف أعم من مسائل الاجتهاد ؛ إذ كل مسألة اجتهادية خلافية ، لكن ليس كل مسائل الخلاف اجتهادية ، وكل ما ذكره العلماء في عدم الإنكار في مسائل الخلاف إنما يعنون به " مسائل الاجتهاد " ؛ ولهذا قالوا : ليس كل خلاف معتبر ، كما سبق بيانه .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : قولهم : " ومسائل الخلاف لا إنكار فيها " ليس بصحيح ؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل .

أما الأول : فإن كان القول يخالف سنة ، أو إجماعاً قديماً ، وجب إنكاره وفاقاً وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول : المصيب واحد ، وهم عامة السلف والفقهاء .

وأما العمل إذا كان على خلاف سنة أو إجماع ؛ وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار ... وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع ، وللاجتهاد فيها مساغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً .

وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد ، كما يعتقد ذلك طوائف من الناس ، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه ، فيسوغ له الاجتهاد ؛ لتعارض الأدلة المقاربة أو لخفاء الأدلة فيها . أهـ [10] .

3- وأما قول سفيان الثوري رحمه الله : إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ... فليس مراده بالرخصة هاهنا ما يؤثر عن العلماء من زلات وهفوات ، أو ما يوجد في المذاهب من تيسيرات مخالفة للدليل ، ... أبداً ، وإنما مراده بالرخصة ما يذكره الأئمة من تخريجات حسنة مبنية على أدلة الشرع ومراعاة أصوله كحال " الحيل " فإن منها حيلاً محرمة لما فيها من التلاعب بالشرع ، ومنها حيل شرعية جاءت على وفق النصوص ، وحينئذٍ يكون تسميته لها ب : " الرخصة " تجوز في العبارة كتسمية الحيل الشرعية ب : " الحيل " مع أنها مخارج شرعية قام الدليل على اعتبارها تيسيراً للمكلف ، وإبعاداً له عن جنف الإثم .

وتأمل قوله : " من ثقة " ، فإن وصف " الثقة " عزيز ، وهو قيد لمن تقبل منه تلك الرخص ، والمتتبع لزلات العلماء ، المتشرب بالشاذ من العلم ، المتفقه على المهجور منه ، الصائر إلى الأقوال بالتشهي ، المنتقي من الآراء بالتلهي ؛ لا يعد عالماً بَلَه ثقة .

4- وأما قول إياس بن معاوية رحمه الله : " إنه لتأتيني القضية أعرف لها وجهين ، فأيهما أخذت به عرفت أني قد قضيت بالحق " ، فمقصوده أنه قد تبين له وجهان صحيحان من الحق ، وكل وجه منهما يصلح حلاً للقضية .

ولا يجوز أن يحمل مراده على أنه يعرف للقضية حكمين ، ثم هو لا يدري أيهما الحق ، أو يدري أن الحق في أحدهما ثم لا يبالي أن يحكم بغيره ، فكلا الاحتمالين باطل ؛ لأن الأول قضاء بالجهل ، والثاني قضاء بالزور والبهتان ، وحينئذٍ يكون القاضي إياس ابن معاوية بقولته هذه متبجحاً بالباطل ، مظهراً للمنكر شاهداً على نفسه بالإثم والعدوان ، وهذا يخالف ما عرف من سيرته رحمه الله .

ومما يؤكد ذلك أن الوجه الخطأ المخالف للشرع لا عبرة به في حل القضية ، فوجوده وعدمه سواء ، وحينئذٍ يكون قوله : " أعرف لها وجهين " كذباً وافتراء ؛ لسببين :
أ- أن الوجه الباطل غير معتبر شرعاً فلا يجوز عدُّه حلاً من حلول القضية .
ب- أنه لو أراد الاعتداد بالوجه الباطل فإن الوجوه الباطلة لا تنحصر في عدد معين ، بل هي كثيرة بكثرة الأهواء والإيرادات ، فضلاً عن حصرها في اثنين فقط فلو أراد القاضي إياس أن يحكم في القضية بالباطل ، أو بالجهل ، أو بالتشهي ، أو بغير ذلك ، لكانت موارد الشر عنده كثيرة جداً وليست محصورة في وجهين .

5- وأما قول عمر بن عبدالعزيز ، و القاسم بن محمد رحمهما الله ، فقد سبق بيان المراد منه ؛ ولكن نزيد الأمر بياناً ، فنقول :
ما ورد عن بعض السلف من أن الله تعالى قد نفع باختلاف الصحابة ، إنما مرادهم بذلك والله أعلم أنه لا يمكن أن تُعرف مسالك الخلاف ، وآدابه ، وطرق الخروج منه ؛ إلا بوجود نماذج يحتذى بها من سلف هذه الأمة ، ممن قد خلصوا من شوائب المذهبية ، وتخلصوا من فساد الطوية ، يرسمون للأمة طريقة التفقه ، وطرق الاستنباط ، ويبينون خطوط " المسيرة العلمية " من بدأة النظر في الأدلة إلى الموقف الرشيد من المخالف .

فكان الصحابة رضي الله عنهم أحق الناس بهذه الرتبة المنيفة ؛ لأنهم خير الأمة ، وأبرها ، وأعمقها فقهاً ، وعصرهم أبرك العصور ، وقرنهم خير القرون ، فحصل الخلاف العلمي بينهم لتتعلم الأمة بعدهم ما يتعلق به من قضايا ، وتتبين حقيقته ، وأبوابه ، وطريقته ؛ إذ لا يتصور وقوع الخلاف بين الصحابة والرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم لم يكونوا ليخالفوه ، لعلمهم أنه لا تجوز مخالفته بحال ، فبقيت القسمة فيما بينهم ، ليحتمل بعضهم خلاف بعض ، ثم ينظر ما ثمره ونتاجه .

ومن المعلوم أن كل العبادات قد أخذت من النبي صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً وكان هو القدوة في ذلك والاجتهاد عبادة من العبادات لكن وقوع الاختلاف لم يكن ليظهر بشكله اللاحق على عهده صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كلمة الفصل عنده فلما وقع الاختلاف في عصر الصحابة رضي الله عنهم كثمرة من ثمرات تلك العبادة ( الاجتهاد ) ، عرفنا كيف نتعامل معه ، وما موقفنا منه ، بسبب ما قيضه الله عز وجل لنا من اختلاف الصحابة ولم يكن ليتأتى ذلك بغير هذا ، فنفع الله به نفعاً عظيماً لمن جاء بعدهم ، وكان رحمة للناس أنهم لم يوكلوا إلى أنفسهم بلا قدوات صالحة تكون لهم سلفاً يستضاء به .

ثالثاً : الجواب عما ذكروه من الدليل العقلي :
عند النظر والتأمل في استدلالهم العقلي على ما ذهبوا إليه ، نجد أنه يتركب من عدة قضايا ، وكل قضية منها تحتاج إلى براهين ومقدمات لإثباتها ، ثم نجده أيضاً عبارة عن مزيج من الأوهام خلطت خلطاً لا منطقياً ، فأفرز لنا هذا النتاج المعقد من الاستدلال .

لكن خلاصة هذا الاستدلال وفحواه تدور حول نقطة واحدة ، هي مرتكزهم في هذا الإشكال ، ألا وهي :
تقديس أقوال الأئمة ، وإنزالها منزلة النصوص ، وإضفاء الشرعية عليها ، واتخاذ آراء العلماء ديناً مسلماً ، ونصب المذاهب مكان الكتاب والسنة ، فإليها الورود ، وعنها الصدور .

ثم بنوا على ذلك أنه لا يلزم المكلف حينئذ إلا الانتقاء منها ، واختيار المناسب له ؛ لأن جميعها في الميزان سواء ، كحال السنن الواردة على هيئات متعددة ، وصور متنوعة ، بأيها أخذ المكلف أجزأه ذلك ، فهذا هو زبدة استدلالهم .

وفي الحق ، فإن هذه مغالطة مبطنة ؛ لأن فيها تجاوزاً للحقيقة والواقع .

فأما الحقيقة ؛ فلأن " الدين " محصور في الكتاب والسنة فقط ، وأما أقوال العلماء فليست بدين ، ولا شرطاً فيه ، ولا جزءاً من ماهيته ، وإنما هي مفاتيح لفهم النصوص الشرعية ، ووسيلة لاستبيان المراد ، وآلة لاستيضاح المقصود لا غير ، فمن المجازفة البعيدة الرقي بهذه الأقوال إلى درجة الديانة ، هي مهمة لكن أهمية وسائل لا أهمية مقاصد ، والوسيلة إلى شيء ليست هي ذاته وكنهه .

قال عبد العزيز بن المبارك رحمه الله : ليكن الأمر الذي تعتمدون عليه هذا الأثر ، وخذوا من الرأي ما يفسر لكم الحديث [11] .

وأما الواقع ؛ فلأن الأئمة أنفسهم صرحوا في مواطن كثيرة ، وخلال حقب متعاقبة ، وأذاعوا ذلك للناس ، ونشروه في مجامع العلم ؛ حتى أصبح من الأمر البين الظاهر ظهور الشمس في رائعة النهار ؛ أن أقوالهم ليست بدين يدان الله به ، وليست بحجة على أحد من الخلق ، وإنما هي آراء ظهرت لهم من خلال التفقه في النصوص الشرعية ، فكلامهم من قبيل " الرأي " وفيه ما فيه .

قال الإمام أحمد رحمه الله : رأي الأوزاعي ، ورأي مالك ، ورأي سفيان ؛ كله رأي ، وهو عندي سواء ، إنما الحجة في الآثار [12] .

وقال الشاطبي رحمه الله : وفي تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعاً ضلال ، وأن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير [13] .

ولأجل ذلك ذكروا أن الأصل عدم تدوين أقوال العلماء ؛ لأننا غير متعبدين بها ، وإنما الواجب تدوين كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن الأئمة دونوا كلام من سبقهم لما رأوا فيه من الفائدة ، فإن أقوالهم شارحة للنصوص ، مبينة لمعانيها ، فتفتح الذهن ، وتفتق العقل ، وتكون عند الطالب ملكة فقهية ، ودربة على كيفية معالجة المسائل الاجتهادية في النوازل والوقائع .

قال شرف الدين التلمساني رحمه الله : وفائدة تدوين المذاهب ، ونقل الأقوال معرفة طرق الإرشاد ، وكيفية بناء الحوادث بعضها على بعض ، ومعرفة المتفق عليه من المختلف فيه [14] .
وما وقعوا فيه من سوء الفهم هذا أصله ناشئ من الغفلة عن الفرق بين نصوص الكتاب والسنة وبين كلام العلماء ، فالنصوص أصل قائم بذاته لا يحتاج إلى غيره ، ولا يفتقر إلى سواه ، بل متى ثبت النص الشرعي ، وبان وجه الدلالة منه ؛ كان كافياً في العمل والتدين به ، بينما كلام العلماء ليس أصلاً قائماً بذاته ، بل هو مفتقر إلى نصوص الشرع لاعتباره واعتماده .

زد على ذلك أن نصوص الكتاب والسنة وحي منزل لها خاصية العصمة ، بخلاف كلام العلماء الموصوم بكل ما يليق ببشريتهم .

فلا يجوز لأحد من الخلق أن يقرر حكماً شرعياً ثم يستدل له بكلام أحد من الأئمة ، فيجعله حجة بينه وبين الله من جهة ، وبينه وبين العباد من جهة أخرى ؛ لأن كلام هذا الإمام ، أو ذاك يفتقر إلى دليل يعضده ، ويستند إليه ، وإلا لم يكن شيئاً يذكر .

فأقوال الأئمة ما لم ترتكز على الدليل ، وتنطلق منه لم يكن لها اعتبار في ميزان القبول والرد ؛ ولهذا وجب على الجميع أن يتخذوا من النصوص الشرعية ملجأً وملاذاً ؛ ليكون كلامهم مقبولاً ، وقولهم مسموعاً ، كما هو حال العلماء الربانيين .

وحين نؤكد على هذه المسألة فليس مرادنا من وجوب انطلاقهم من النصوص أن تكون أقوالهم حجة على النصوص ، أو اتخاذها ديناً يلزم الناس به ، أو أنه يمكن قبولها بمنأى عن عرضها على الكتاب والسنة كما ظن هؤلاء ... حاشا ، كيف وآثارهم طافحة بالنهي عن تقليدهم ، والكراهة لنقل أقوالهم وتدوين آرائهم !

قال ابن بطة العكبري رحمه الله ( 387هـ ) : وكذلك اختلف الفقهاء من التابعين ، ومن بعدهم من أئمة المسلمين في فروع الأحكام ، وأجمعوا على أصولها ، فكل احتج بآية من الكتاب تأول باطنها ، واحتج من خالفه بظاهرها ، أو بسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان صواب المصيب منهم رحمة ورضواناً ، وخطؤه عفواً وغفراناً ؛ لأن الذي اختاره كل واحد منهم ليس بشريعة شرعها ، ولا سنة سنها ، وإنما هو فرع اتفق هو ومن خالفه فيه على الأصل ، كإجماعهم على وجوب غسل أعضاء الوضوء في الطهارة كما سماها الله في القرآن ، واختلافهم في المضمضة والاستنشاق ، فبعضهم ألحقها بالفرائض ، وألحقها آخرون بالسنة [15] .

ولأجل ذلك قرر أهل العلم قاعدة مهمة في هذا الباب ، وهي قولهم : " أقوال أهل العلم يحتج لها بالأدلة الشرعية ، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية " .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النزاع ، وإنما الحجة : النص ، والإجماع ، ودليل مستنبط من ذلك ، تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية لا بأقوال بعض العلماء ، فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية ، ولا يحتج بها على الأدلة الشرعية " [16] .

" وأما قولكم : والأخذ بالرخص أمر محبوب ، ودين الله يسر ، وما جعل علينا في الدين من حرج ، فجوابه : أن ذلك في الرخص المعهودة العامة ، كالقصر في السفر الطويل ، والفطر فيه ، والجمع في السفر وليلة المطر ، والمسح على الخفين ، وأشباه ذلك .

وأما تتبع أخف المذاهب ، وأوفقها لطبع الصائر إليها والذاهب ، فمما لا يجوز فضلاً عن كونه محبوباً مطلوباً " [17] .


وقفات أخيرة :
وفي نهاية المطاف ، وبعد طول التطواف ، أجد نفسي متوجهاً إلى أمة الإسلام لأهديها ثلاث نصائح غاليات ، ومن الغش والغبن خالصات عسى أن ينفع الله بها .

النصيحة الأولى :
لا يجوز لنا بأي حال أن نتخذ " الاختلاف " ذريعة للتملص من أحكام الشريعة أو لضرب أقوال العلماء بعضها ببعض ، أو نجعله فرصة لتتبع الشاذ من الفتاوى ، والساقط من الآراء التي قد لا يخلو منها مذهب من المذاهب الفقهية المعتبرة ؛ فإن ذلك دليل على خلو القلب من تعظيم الرب سبحانه وعلى الغفلة عن لقائه وجزائه .

النصيحة الثانية :
حذار يا أمتي ممن يتشدقون بالفقه وليسوا بفقهاء ، ويتطاولون على العلم وليسوا بعلماء ، همُّ أحدهم أن يزين الكلمات ، ويشقشق العبارات ، ثم ليس تحت ذلك من طائل .

نخافهم ونخوّف منهم ، وحق لنا أن نخاف مما خافه النبي صلى الله عليه وسلم علينا ، ففي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان ، يجادل بالقرآن " [18] .

يا أمتي ، إياك أن ترفعي من لا قدر له ، ولا علم عنده ، ولا خشية لله فيه ، واحذري من " المتفيقهين " أصحاب الدعاوى العريضة ، ممن يشهرهم الإعلام على أنهم أعلام وليسوا إلا أهل كلام .. وأي كلام ، والذين إذا تكلموا أتوا بالعجائب ! فيذكرون الدليل بغير دلالة ، ويجتهدون من دون آلة ، بل ويجتهدون فيما لا اجتهاد فيه ! ! " فويل للمتفقهين ، لغير العبادة ، والمستحلين الحرمات بالشبهات " [19] .

ورحم الله الإمام أبا حنيفة ، فإنه جعل " المفتي الماجن " أحط منزلة من السفيه فقد قال بوجوب الحجر على " المفتي الماجن " مع أن مذهبه عدم الحجر على السفيه إن كان حراً عاقلاً بالغاً ، وإنما استثنى " المفتي الماجن " من ذلك لعموم الضرر به في الأديان ، فإنه يفسد دين المسلمين [20] .

ووالله ثم والله ، إن في زماننا هذا من هم أحق بالسجن من السراق ؛ لإفسادهم العلم ، وتخريبهم الفقه ، آذوا الصالحين ، وأتعبوا المصلحين ، ومل من صنيعهم الجادون من أهل البصيرة ، أما هديهم وسمتهم فإلى الله المشتكى ، آه ... ليتهم أراحوا واستراحوا ، والله المستعان .

قال عباد بن عباد الخواص الشامي ثقة عابد من فضلاء الشام رحمه الله : " اتقوا الله ، فإنكم في زمان رق فيه الورع ، وقل فيه الخشوع ، وحمل العلم مفسدوه ، فأحبوا أن يعرفوا بحمله ، وكرهوا أن يعرفوا بإضاعته ، فنطقوا فيه بالهوى لما أدخلوا فيه من الخطأ ، وحرفوا الكلم عما تركوا من الحق إلى ما عملوا به من باطل كيف يهتدي المستدل المسترشد إذا كان الدليل حائراً ؟ ! " [21] .

النصيحة الثالثة :
الواجب على كل مسلم إذا نزلت به نازلة أن ييمِّم شطر أهل العلم فيسألهم عن حكم نازلته ؛ عملاً بقوله تعالى : (( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )) . (الأنبياء : 7) .

ولا يجوز لأحد أن يخوض في النصوص الشرعية متقحماً باب الاستنباط ليستخرج لنفسه ، أو لغيره حكماً من الأحكام وهو ليس أهلاً لذلك ؛ لفقده آلة الاجتهاد ، ومن فعل ذلك فهو آثم وإن أصاب الحق ؛ لأنه أتى الأمر من غير بابه ، ودين الله عزيز ، وحرمه مصون .

وهذا ليس تحجيراً على الناس ، ولا كبتاً لحرياتهم ، بل هو صيانة لحرم الشريعة ، وحماية لجنابها أن يطوله ، المغرضون ، أو يخوض فيه الخائضون .

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أن ذلك من مصلحة الجاني نفسه ؛ لأننا إذا حجرنا على السفيه من العبث بماله حفاظاً على دنياه ، فكذا إذا حجرنا على المتعالم الغمر فإنما هو حفاظاً على دينه وآخرته ؛ خوفاً من وقوعه في إثم القول على الله بغير علم ، وخشية تجنيه على نفسه ، فإنه قد يهلكها بطيشه وخفة رأيه ، بل الحجر على هذا وأمثاله أولى من الحجر على غيره ؛ لأن السفيه الذي لا يحسن التصرف في ماله قصاراه أن تضيع دنياه ، وأما المتعالم الغمر فمبتداه أن يخسر دينه عياذاً بالله .

ثم إن في ترك أمثال هؤلاء يسرحون ويمرحون ، تجريء للغافل ، واستعداء للجاهل على الخوض في دين الله بلا بصيرة ، فلابد من قيام أهل الولاية بوضع سياط الحسبة فوق هامات المتلاعبين بدين الله عز وجل .


وأخيراً ، من عز عليه دينه تورع ، ومن هان عليه دينه تبرع ، وإلى الله المشتكى وإليه المفزع .
" اللهم رب جبرائيل ، و ميكائيل ، و إسرافيل ، فاطر السموات ، والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى الصراط المستقيم " .


وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .

________________________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الفضائل ، رقم :(2531) ، وانظر(شرح النووي) : 16-83 .
(2) الاعتقاد للبيهقي :(439) .
(3) تلخيص الحبير :(4-191) .
(4) نقله عنه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم 2-923 ، وبمثله قال ابن حزم في الإحكام :(5-65) .
(5) الإحكام(5-65) .
(6) أخرجه الدارمي ، رقم :(445) ، والخطيب في الفقيه والمتفقه ، رقم :(379 و380) ، و ابن عبدالبر في جامع بيان العلم ، رقم :(2095 و 2097و 2099) ، وإسناده صحيح .
(7) أخرجه النسائي ، برقم :(5399 ، 8-231) ، والدارمي ، برقم :(169) ، و الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه ، رقم :(444) ، وابن عبدالبر برقم :(1596) ، وسنده صحيح .
(8) أخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم ، رقم :(1691) ، قال محققه أبو الأشبال الزهيري : إسناده حسن ، وعلقه المصنف ، ولعله في إحدى مصنفات الحسن بن علي الحلواني(2-903 ، 902) .
(9) انظر : مجموع الفتاوى :(30-80) ، وعزاه ابن مفلح في الآداب الشرعية(1- 189 ، 188) إلى الإمام أحمد .
(10) إقامة الدليل على إبطال التحليل(181 ، 182) ، وانظر : إعلام الموقعين(3-300) .
(11) أخرجه : أبو نعيم في الحلية :(8-165) ، والبيهقي في المدخل ، رقم :(240) ، وابن عبدالبر في جامع بيان العلم ، رقم :(1457 و2023) ، والخطيب في الفقيه والمتفقه ، رقم :(1073) ، وسنده صحيح .
(12) أخرجه : ابن عبدالبر في جامع بيان العلم ، رقم :(2107) بسند صحيح .
(13) الاعتصام :(2-355) .
(14) نقله عنه الونشريسي في المعيار المعرب :(12-19) ، وانظر : حاشية الروض المربع لابن قاسم :(1-16) .
(15) الإبانة الكبرى :(2-560) .
(16) مجموع الفتاوى :(26-203 ، 202) .
(17) المعيار المعرب الونشريسي :(12-29) .
(18) أخرجه أحمد في المسند :(1/22 و44) برقم :(143و310) ، و البزار في البحر الزخار رقم :(305) ، وابن بطة في الإبانة رقم :(940و941) ، وابن عبدالبر في جامع بيان : العلم رقم :(2360) مرسلاً ، و الفريابي في صفة النفاق ، رقم :(24 و25 و26) ، و عبد بن حميد في المنتخب رقم : 11 ، و ابن عدي في الكامل :(3-970) ، والبيهقي في شعب الإيمان رقم :(1641) ، و ابن أبي الدنيا في الصمت ، رقم :(1408) ، قال الهيثمي : رواه البزار وأحمد و أبو يعلى ، ورجاله موثقون المجمع :(1-187) ، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند وأخرجه : البزار كما في كشف الأستار ، رقم :(170) ، و ابن حبان ، برقم(80) ، و الطبراني في الكبير(18-237) ، رقم(593) ، والبيهقي في شعب الإيمان ، رقم :(1639) ، كلهم من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال البزار : لا نحفظه إلا عن عمر ، وإسناد عمر صالح ، فأخرجناه عنه ، وأعدناه عن عمران لحسن إسناد عمران وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح : المجمع :(1-187) وصححه الألباني صحيح الجامع ، رقم :(239) ، وصحيح الترغيب رقم :(132) .
(19) أخرجه : الدارمي ، رقم :(193) ، والآجري في أخلاق العلماء :(141) ، والبيهقي في(الشعب) رقم(1778) ، وفي المدخل ، رقم :(506) ، والخطيب في اقتضاء العلم العمل ، رقم :(119) ، وفي الفقيه والمتفقه ، رقم(812) ، كلهم من قول الأوزاعي رحمه الله .
(20) انظر : بدائع الصنائع ، للكاساني :(6-172) ، وتبيين الحقائق للزيلعي :(5-193) ، والاختيار لتعليل المختار لابن مودود الموصلي :(2-96) .
(21) سنن الدارمي :(1-508) ، وحلية الأولياء لأبي نعيم :(8-283) ، وتهذيب الكمال للمزي :(14-135 ، 136) .

( انتهى )

 
عودة
أعلى