جرحٌ وتعديل (2/ 2)

إنضم
01/07/2013
المشاركات
134
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
السعودية
جرح وتعديل (2/2)


أشرتُ في الجزء الأول من هذا المقال [جَرحٌ وتعديل (1/ 2)] إلى شرف هذه المهمة التي تقلّدها أئمةُ الحديث، وكيف تحولت هذه الوظيفة إلى مسالك غير محمودة، وأن على مَن تصدى لهذه المهمة أن يراعي أموراً وشروطاً عند الاحتساب في باب النصح للمخطئين،من لم يَرْعَها فتركُه له بالجملة ربما كان خيراً من سلوكه من دون مراعاةٍ لها! فربما أفسد أكثر مما يُصلِح، والنوايا الصالحة وحدها غير كافية لولوج باب الإصلاح!
وفي هذا الجزء أتمم الإشارةَ إلى بعض الجوانب المتعلقة بهذه القضية المهمة، في ضوء المعالم التالية:
1) فرق كبير بين النصيحة والتعيير، وبين النقد الهادف والنقد الجارح الذي لا يُفيد شيئاً.
2) من المتفق عليه أنه لم يَسلم من الخطأ أحدٌ من البشر إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يُخطئ إلا الذي يعمل.
3) المتأمل في كلام العلماء الكبار-في هذا الباب- يجد أثر الرسوخ في حديثهم ووصيتهم لمن يتعاطى هذه القضايا، ومن ذلك:
- الكلامُ النفيس الذي قاله الحافظ ابن رجب (794هـ) رحمه الله أثناء شرحه للحديث (الخامس والثلاثين)من "جامع العلوم والحكم"-حديث "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا..."-ـ:"ولما كثر اختلافُ الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم؛ كثر بسبب ذلك تباغُضهم وتلاعُنهم، وكلٌ منهم يُظهِر أنه يُبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذوراً، وقد لا يكون معذوراً بل يكون متبعاً لهواه، مقصراً في البحث عن معرفة ما يُبغض عليه، فإن كثيراً من البغض كذلك إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعاً، وإن أُريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب،وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى أو الإلف أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله.
فالواجب على المؤمن أن ينصح لنفسه، ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يُدخِل نفسه فيه؛ خشيةَ أن يقع فيما نُهي عنه من البغض المحرم،وهاهنا أمر خفيٌّ ينبغي التفطن له،وهو: أن كثيراً من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً، ويكون مجتهداً فيه مأجوراً على اجتهاده فيه، موضوعاً عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصِر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة؛ لأنه قد لا ينتصر لهذا القول إلا لكون متبوعه قد قاله، بحيث لو أنه قد قاله غيرُه من أئمة الدين لما قَبِله ولا انتصر له، ولا والى من يوافقه ولا عادى من خالفه، ولا هو مع هذا يظن أنه إنما انتصر للحق بمنزلة متبوعه، وليس كذلك؛ فإن متبوعه إنما كان قصده الانتصار للحق وإن أخطأ في اجتهاده، وأما هذا التابع فقد شاب انتصاره لما يظنه الحق إرادةُ علو متبوعه وظهور كلمته، وأنه لا يُنسَب إلى الخطأ، وهذه دسيسة تقدح في قصد الانتصار للحق، فافهم هذا فإنه مهم عظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"ا.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في(منهاج السنة:4/543 -544): "ومما يتعلق بهذا الباب أن يُعلم أن الرجلَ العظيم في العلم والدين -من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة -أهلَ البيت وغيرَهم؛ قد يحصل منه نوعٌ من الاجتهاد مقروناً بالظن، ونوعٌ من الهوى الخفي، فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي إتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنةً لطائفتين:
*طائفة تعظّمه، فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه.
*وطائفة تذمه، فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه، بل في بِره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان!وكلا هذين الطرفين فاسد.
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء؛ دخل عليهم الداخل من هذا،ومن سَلَكَ طريقَ الاعتدال عظّم مَن يستحق التعظيم وأحبَّه ووالاه، وأعطى الحقَّ حقه، فيعظِّم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات، فيُحمد ويُذم، ويُثاب ويُعاقب، ويحب من وجه ويبغض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم، وقد بُسط هذا في موضعه" انتهى.
- وقال الإمام الناقد أبو عبد الله الذهبي:"ولو أنَّا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له, قمنا عليه وبدَّعناه, وهجرناه! لما سَلِمَ معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما, والله الهادي إلى الحق, وهو أرحم الراحمين, فنعوذ بالله مِن الهوى والفظاظة"([1]).
وبالجملة، فما أجمل الترويّ في هذا الباب، والنظر فيما يحقق أعلى المصالح، ويدرأ أعلى المفاسد؛ فإن الأصل المحكم الذي لا تَردد فيه هو: الحرص على جماعة المسلمين، وحرمة أعراض المسلمين، فكيف بأهل العلم والفضل والدين! وما أجمل ما قاله ابنُ دقيق العيد رحمه الله (702هـ): "أَعْرَاض الْمُسلمين حُفْرَة من حفر النَّار وقف على شفيرها طَائِفَتَانِ من النَّاس المحدثون والحكام ـ أي: القضاة ـ"([2]) اهـ.والله الموفق.


([1]) سير أعلام النبلاء(14/40).
ومن نظر في الفتوى التي أصدرتها اللجنة الدائمة ـ برئاسة شيخنا ابن باز ـ برقم (16873) أدرك ما فيها من العمق في تشخيص الواقع، والنصح للأمة، فجزاهم لله عن الإسلام خيرا.

([2]) "الاقتراح" (ص: 61).



* المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4461.html
 
عودة
أعلى