بسم1
هذه إحدى القضايا التي بحثتها في رسالتي وأرجو من الأخوة من الملتقى مناقشة هذه القضية؛ هل يمكن اعتبار المقاصد ضابطاً من ضوابط التأويل؟
جدلية العلاقة بين مقاصد القرآن وتفسيره
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة انفجاراً علمياً في قضية المقاصد ومما لا شك فيه أن سبب هذا الانفجار ليس فقط الوعي بأهمية القضية أو الفراغ العلمي فيها وإنما التحديات التي تمر بها الأمة الإسلامية واشتداد الشبهات والمطاعن، وبلوغ التراجع الحضاري أوجه، وضغط النظام العالمي تشريعياً، مما حدا بالعلماء إلى بيان رفعة هذا الدين وتفاعله مع الواقع وصلاحه لكل زمان ومكان عن طريق الاهتمام بمقاصد التشريع وحكمته،واحتلت قضية مقاصد الشريعة مكانة لا يستهان بها في الآونة الأخيرة، ولم تعد قضية مرتبطة بالفقه وأصوله، بل تعدتها إلى كل ما هو إلهي كالعقائد، والقصص القرآني، والأخلاق، وتزكية النفس البشرية، وساهمت المؤلفات في التفسير الموضوعي في تطور النظر إلى مقاصد القرآن عموماً وليس مقاصد الأحكام المتعلقة بالسلوك العملي فقط، ومما لاشك فيه أن معرفة قصد المتكلم أدعى إلى فهم كلامه وتطبيقه، فإذا كان هذا الحال بصفة عامة فهو بالنسبة لكلام الشارع أوكد، ولهذا اعتبرعامة الأصوليين أن استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها لا بد له من ركنين أساسيين أولهما: العلم باللغة العربية والحذق بها لمعرفة ما دل عليه ظاهر اللفظ وثانيهما العلم بمقاصد الشارع لمعرفة المعنى المقصود من ظاهر اللفظ([1]).
مقاصد القرآن وعلاقتها بالتفسير:
يشهد الوقت الراهن دعوة من بعض المتخصصين، وغير المتخصصين( أصحاب القراءات الحداثية للنص) لجعل مقاصد القرآن ضابطاً من ضوابط التأويل، ويعتقد الفريق الأول أن إضافة الضابط المقاصدي سيساعد في حل أزمة التفسير ويحمي القرآن من أن يكون مباحاً لإسقاطات كل من هب ودب، ويعتقد الفريق الثاني أن اعتماد مقاصد القرآن كضابط مركزي منفك عن باقي ضوابط التأويل يسهم في خلق تطبيقات أوسع للأحكام القرآنية، وتطبيقات أكثر عقلانية وملاءمة للواقع لأنه على حد زعمهم: ". . القانون (التشريع) الإسلامي يعتز بأنه يعتمد متطلبات كل من العقلانية والمصلحة فإذا استطاع المرء أن يبين أن قانوناً قائماً لا يحقق أياً من هذين الأمرين فإن الباب لتغييره سيكون مفتوحاً على مصراعيه وستذوب الاعتراضات سريعاً دون إثارة أية مشكلة. . "([2]) ويعد الحداثيون أن أفضل طريقة لاسترداد حقوق المرأة المسلمة هي فلسفة التشريع فأي تشريع إسلامي يثار حوله جدل أو شبهة يمكن بيان الضرر الذي يصيب المرأة بدلاً من مقاومته([3])، ومع اختلاف أهداف الفريقيين فإن معنى مقاصد القرآن في هذه الدراسة ليس فقط مقاصد الشريعة المتعلقة بالأحكام العملية وإنما ما يمكن أن يتولد من مقاصد عامة عند تدبر القرآن ويتضمن هذا:
- مقاصد الشريعة المتعلقة بالأحكام العملية.
- المعاني المستنبطة من دلالات الألفاظ وأساليب القرآن البلاغية من خبر وإنشاء وأمر ونهي وغيرها فالقرآن نزل بلغة العرب ولا طريق لفهم معانيه إلا هذا الطريق([4]).
- الغايات والعلل والمصالح والحكم لهذه المعاني.
هذه الأمور الثلاثة مجتمعة هي مقاصد القرآن([5]). والحق أن المقاصد القرآنية لا انفكاك لها عن تفسير القرآن، إلا أن عناية الأصوليين بالمقاصد العملية جعل المقاصد تبدو وكأنها علم أصولي لا علاقة له بالتفسير، ولم يلتفت إلى دراسة خدمة المفسرين الأوائل للمقاصد وعنايتهم بها إلا مؤخراً([6]) ، ويظهر ارتباط المقاصد بالتفسير في كون القرآن هو المصدر الرئيسي لتعيين المقاصد الكلية ومنه استنبطت الكثير من الأحكام والعلل الجزئية، ومنه استخلص علماء الأصول القواعد الفقهية الكلية ويظهر هذا جلياً في استدلالهم على كل قاعدة بالقرآن([7])، ومن القرآن تجلت الخصائص العامة للتشريع مثل العقلانية والمرونة والسماحة والرفق والرحمة وغيرها من الخصائص التي جلاها العلماء عند كلامهم عن خصائص التشريع، والحق ان المتتبع لكتب التفسير يجد إشارات للمقاصد القرآنية العامة وتطبيقاتها في الأحكام التشريعية العملية فعلى سبيل المثال جعل القرطبي القرآن مشتملاً على ثلاثة أمور وهي :التوحيد، والأحكام، والمواعظ، ولهذا قال –صلى الله عليه وسلم- (قل هو الله أحد) تعدل ثلث القرآن([8]) لأنها كلها توحيد([9]) ،وقد استخدم الطبري لفظ (المعاني) وأراد بها (المقاصد الشرعية) ومن ذلك قوله في تفسيره عن مقاصد الزكاة" والصواب من ذلك عندي: أن الله تعالى جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سدخلة المسلمين والآخر معونة الإسلام وتقويته"([10]).
ولعل أول ما يتبادر للذهن هو هل كان الضابط المقاصدي ضابطاً تأويلياً عند المفسرين السابقين؟ الحق ان الاستقراء الأولي يحمل على الاعتقاد أن مقصد القرآن الهدائي كان حاضراً عند المفسرين وعمل المفسرون في قضية المقاصد بطريقتين فهم انطلقوا من استقراء وتفسير النص القرآني لتجلية المقاصد وهذا ما سماه الشاطبي تقصيد النص، ثم استثمروا المقصد في الترجيح بين الظنيات([11]) وفي استنباط الأحكام الفقهية وفي الانتصار لمذهب على آخر وفي التخصيص والبيان والاستثناء من العموم([12]) وفي تجلية النكت البيانية والبلاغية، وفي ترجيح أن يكون النص على الحقيقة أو يكون على المجاز اعتداداً بالمقصد([13]) لكن السؤال هنا هل يسمى استثمار أو توظيف المقصد بهذه الطريقة ضابطاً تأويلياً ؟والحق أن ما كتبه ابن عاشور رائد الاتجاه المقاصدي في التفسير على المستوى النظري يجلي المسألة يقول ابن عاشور: "مراد الله في كتابه بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطاباً بيناً وتعبدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه"([14]) ويتابع قائلاً: "غرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم أو يخدم المقصد تفصيلاً وتفريعاً"([15]) وإذا اعتبرنا أن مقاصد الشريعة جزء من أصول الفقه فقد اعتبر ابن عاشور ان أصول الفقه ليست مادة أساسية للتفسير ولكنها تخدمه من جهتين الجهة الأولى هي: "أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة. . . . والجهة الثانية: أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها"([16]) واعتبر ابن عاشور أن أعظم وظيفة للمفسر هي الوصول إلى كليات التشريع وعاب على المفسرين انشغالهم بتقصي معاني القرآن عن انتزاع كليات التشريع([17]) وبهذا جعل ابن عاشور تفسير القرآن الطريق لبيان المقاصد بل اعتبر وظيفة المفسر الأساسية هي تجلية المقاصد القرآنية، و هناك موضع واحد ذكر فيه ابن عاشور أن العلم بمقاصد القرآن الأصلية من شروط المفسر إذ يقول: "وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء لقرآن لتبيانها. . "([18]) وذكر ثمانية مقاصد أصلية للقرآن وجعل الطريق لمعرفتها هو استقراء النص القرآني، وهذا يقودنا إلى تساؤل مشروع كيف تكون المقاصد من شروط المفسر وهي لا تعلم إلا من تفسير النص؟هذه الجدلية ظهرت جلياً في تعاريف التفسير الموضوعي واختار الدكتور مصطفى مسلم تعريف التفسير الموضوعي بأنه: "علم يتناول القضايا حسب المقاصد القرآنية من خلال سورة أو أكثر"([19])وجعل آخرون هدف التفسير الموضوعي الكشف عن المقاصد والغايات القرآنية ([20]) وما أرتاح إليه هنا أن تقصيد القرآن غاية للمفسر،وهذا التقصيد لا يتم إلا بأدلة قطعية ، وأن المقاصد الأصلية قررها المفسرون السابقون وتضافرت عليها النصوص فارتقت إلى القطعية، فأصبح لا يسع المفسر إلا العلم بها، وهذه القطعية تجعل بالإمكان استخدام هذه المقاصد في ظنيات الدلالة لا سيما في زمن اجترأ على التفسير من لا علم له بأساسيات الدين، إلا ان هذا التوظيف للمقصد لا يمكن أن يسمى بحال ضابطاً تأويلياً.
([1]) وهذا ما قرره الشافعي في (رسالة الأصول) ونقله عنه الغزالي في تقريره حقيقة أنه لا ينبغي للمجتهد النظر في الأدلة الجزئية دون الالتفات للقواعد الكلية، إذ قد يفضي هذا إلى تضارب الجزئيات في الظاهر. ينظر كتاب:
-االشاطبي أبو إسحاق (ت790هـ)، الموافقات، ط3، م1، (عناية أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان)، دار ابن القيم للنشر، الرياض، 2009م، ينظر المقدمة ص8 وما بعدها.
([2]) ويب جيزيلا، دعونا نتكلم،ط1،دارالفكر،دمشق،2002م، ص105.
([3]) ويب جيزيلا، دعونا نتكلم، ص106.
([4]) ولهذا احتلت الدراسات الدلالية مكانة مهمة في أصول الفقه، وأصبح فهم النصوص مرتكزاً على هذه الدلالات.
([5]) وقد جعل البعض مقاصد النص مستويات: مستوى المقصد ومستوى المقصود والمستوى المقاصدي، وقد أضربنا عن تسميتها مستويات لما توحي به كلمة مستويات من تراتبية هرمية، بينما هي في الحقيقة أمور متلازمة. للمزيد عن هذا الموضوع ينظر:
- علي، مير إحسان، المقاصد العامة للشريعة بين الأصالة والمعاصرة،(2000م)، (رسالة دكتوراه)، جامعة دمشق،كلية الشريعة، ص29 . نقلاً عن كتاب طه عبد الرحمن (تجديد المنهج في تقويم التراث). ينظر أيضاً:
- قاخون، نارت، (2009م)، مقاصد الخطاب بين المفسرين والتداوليين، (رسالة ماجستير)، كلية الآداب، الجامعة الأردنية، عمان، ينظرص159 وما بعدها.
([6]) فهناك رسائل جامعية عن المقاصد في تفسير ابن العربي وابن جزي الكلبي وتفسير ابن عاشور كنت أتمنى الإطلاع عليها لكني لم أجد لها سبيلاً.
([7]) ومن هذا قاعدة (المشقة تجلب التيسير ) و(الضرورة تقدر بقدرها) و(الضرورات تبيح المحظورات).
([8])العسقلاني،ابن حجر،فتح الباري شرح صحيح البخاري،الجزء التاسع ،كتاب فضائل القرآن،باب فضل (قل هو الله أحد)فيه عمرة عن عائشة عن النبي –صلى الله عليه وسلم -،حديث رقم 5013،ص71،ص72.
([9]) القرطبي،أبو بكر،الجامع لأحكام القرآن،(تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي،ومحمد رضوان العرقسوسي)،ط1،مؤسسة الرسالة ،بيروت ،لبنان،2006م،مقدمة سورة الفاتحة ،المجلد الأول،ص171،.
([10]) الطبري، في معرض تفسيره للآية 60 من سورة التوبة في مصارف الزكاة.
([11]) ينظر آية الحرابة(المائدة33) عند ابن العربي في كتابه أحكام القرآن، فقد رجح أن يكون النفي هو السجن، ورجح الصلب حياً لانه "انكى وأفضح وبه يتحقق معنى الردع الأصلح".
([12]) ومنه استثناء ابن العربي من عموم مصرف الغارمين في الزكاة من استدان في سفاهة ومستنده نظره إلى المآل، ففي ذلك تشجيع له على الاجتراء على سفا هة مثلها،(التوبة 60).
([13]) رشواني، سامر، الاتجاه المقاصدي في تفسير ابن عاشور، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، اسلامية المعرفة، العدد 23،السنة السادسة،2000م،ص81 وما بعدها. ينظر أيضاً:
- الوزاني، التهامي، توظيف المقاصد في فهم القرآن وتفسيره،نقلاً عن الموقع الإلكتروني مجالس الطريق إلى الجنة، تاريخ الدخول 2011/2/26
http://www.way2jannah.com/vb/showthread.php?p=61397
([14]) ابن عاشور، التحرير والتنوير، المقدمة الرابعة، ص39-40.
([15]) ابن عاشور، المصدرالسابق، المقدمة الرابعة، ص39، ص41.
([16]) ابن عاشور، المصدرالسابق، المقدمة الثانية، ص25، ص26.
([17]) ابن عاشور، المصدر السابق، المقدمة الأولى، ص13.
([18]) ابن عاشور، المصدر السابق، المقدمة الرابعة، ص39.
([19]) مسلم، مباحث في التفسير الموضوعي، ص16.
([20])الفريح،يعقوب حامد،منهجية البحث في الموضوع القرآني،بحث مقدم لمؤتمر التفسير الموضوعي(واقع وآفاق) ،جامعة الشارقة،1431هـ،ص4.ينظر أيضاً تعريف الدكتور جهاد نصيرات ،والدكتور سليمان الدقور للتفسير الموضوعي في بحثيهما المقدمين لنفس المؤتمر،وكلا الباحثان جعلا هدف وغاية التفسير الموضوعي الكشف عن المقاصد القرآنية .