سعيد النمارنة
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على كل حال والصلاة والسلام على محمد والصحب والآل وبعد :
قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ في سورة البقرة حكاية عن نبي الله إبراهيم : "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمنا ً .. " ، وقال حكاية عنه أيضاً في سورة إبراهيم :" وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً .. " ، وبعد قراءة الآيتين يرد سؤال يقدح في الذهن ، ويجول في الخاطر ! لماذا اختلف الأسلوبان ؛ ففي سورة البقرة جاء ( بلداً ) منكراً ، وفي سورة إبراهيم جاء معرفاً ( البلد ) ؟!
إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في عدة وجوه وتوجيهات :
أولاً : أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ دعا هذا الدعاء في سورة البقرة قبل بناء الكعبة ، وقبل صيرورة مكة بلداً وسكنى الناس فيها ، وقد كانت مكة وادياً غير ذي زرع ، وقد ترك هاجر وإسماعيل فيها ، فدعا الله أن يجعل مكة ـ ذاك الوادي القحط ـ من البلاد الآمنة المطمئنة .
وأما في سورة إبراهيم فقد دعا إبراهيم ـ عليه السلام ـ بهذا الدعاء بعد بناء الكعبة ، واستقرار أهله فيها ؛ وبعد أن أصبحت مكة بلداً يقطنه الناس ويأوون إليه ؛ فدعا الله ـ عز وجل ـ أن يجعل هذا البلد المسكون ـ الذي أصبح بلداً معموراً بعد أن كان وادياً مهجوراً ـ دعا الله أن يجعله أمناً أماناً ، وأن يبعد عنه الخوف والقحط والخسف .
ثانياً : أن التنكير كما هو معلوم من فوائده التكثير والمبالغة ؛ فجاءت ( بلداً ) في سورة البقرة منكّرة لتدل على المبالغة ، والتقدير : " اجعل هذا البلد بلداً آمناً " أي بالغاً أعلى درجات الأمن ، وكأن إبراهيم ـ عليه السلام ـ أراد الكمال في الأمن ، أما في سورة إبراهيم فجاءت معرفة لطلب الأمن لا لطلب المبالغة .
ثالثاً : أن آية سورة إبراهيم نزلت والنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاضرٌ وموجودٌ في مكة ؛ فجاءت معرفةً ب(أل) التي للحضور ، أما آية البقرة فمدنية لذا جاءت منكّرة .
والذي يظهرأن هذا التعليل عليل ؛ لأن الآية تتكلم عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ ودعائه ؛ فلا يضير ذلك كون نزولها والنبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمكة أو في المدينة والله أعلم . وقد ذكر هذا ابن جزي ـ رحمه الله ـ في تفسيره .
رابعاً : ذكر بعض المفسرين ـ ما حاصله ـ : أنه بالرجوع إلى السياق يتبين المغزى من التنكير والتعريف ؛ ففي سورة البقرة ورد في السياق نفسه قول الله تعالى : " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل .. " فذكر ( البيت ) في هذه الآية ؛ ومن لازم ذكر البيت وجود البلد ـ مكة ـ ، فناسب التنكير هنا ؛ لأنه لم يحتج لتعريف ، أما في سورة إبراهيم فلم يرد شيءٌ من ذلك فافتقرت للتعريف فجاءت معرفة .
قلت : في هذا التوجيه نظر؛ لأنه ورد ذكر ( البيت ) أيضاً في سياق سورة إبراهيم في قوله تعالى : " بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم " فيقال فيها ما قيل في سورة البقرة والله أعلم .
فيتبين مما سبق أن الوجهين الأولين هما أقوى الوجهين ، وأبين للمقصود ، وأدل على المراد .
· فوائد ولطائف :
1) ذكر بعض العلماء أن الأمن المذكور في سورة البقرة الذي دعا به إبراهيم ـ عليه السلام ـ هو الأمن العام من الخوف والفزع والقحط والخسف وعدم الاطمئنان وغير ذلك ، أما الأمن المدعوّ به في سورة إبراهيم فهو أمن من نوع آخر ! وهو الأمن الخاص الذي يشمل كل شيء فالكل آمنٌ؛ فمثلاً : النبات لا تقطع شجرةٌ في الحرم ، والحيوان لا يصاد صيدٌ أيضأً وغير ذلك .
2) أن إسحاق ـ عليه السلام - ولد بعد إسماعيل بثلاثة عشر عاماً ؛ وقد ذكر إسحاق ـ عليه السلام ـ في سورة إبراهيم في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم : " الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء " وهذا مما يعضد ويقوي القول بأن الدعاء الوارد في سورة إبراهيم كان بعد مولد إسحاق وبناء الكعبة فجاءت ( البلد ) معرفة والله أعلم.
3) من المعلوم أن المفعول الثاني هو مجمع الفائدة ومحطها ؛ لأنه بمنزلة الخبر ؛ ففي سورة إبراهيم جاءت كلمة ( آمناً ) مفعولاً ثانياً ؛ وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن المقصود من الدعاء هنا الأمن على وجه الخصوص .
وختاماً : على المؤمن اللبيب أن يتدبر سير الأنبياء ، ويأخذ منها العظات والعبر، فينظر إليهم وهم من هم !! هم أفضل الخلق ، وأحب الناس للحق ، كيف كان تعلقهم بالله ؛ فكانوا يلجؤون إليه في جميع أمورهم ، وشتى أحوالهم ، ويدعونه ويرجونه ليلاً ونهاراً ، سراً وجهاراً ، ويعلقون قلوبهم بالله وحده لا يرومون أحداً غيره يمنة ولا شملة .
فحري ٌبالمؤمن وخليقٌ به أن يتمثل أعمالهم ، ويقتدي بهم ، ويسير مسيرتهم ، وانظر كيف أجاب الملك العلام أدعية باني البيت الحرام ، محطم الأصنام إبراهيم ـ عليه السلام ـ ! نعم أجاب دعواه ، وحقق مبتغاه ؛ فجعل مكة مأوىً للمؤمنين ، ومحطاً للقانتين ، ومعقلاً للخاشعين المستكينين ؛ فلا يوجد مؤمن حق ٌعلى ظهرهذه البسيطة إلا ويهوى فؤاده إليها ، ويحنّ لرؤيتها ، ويشتاق للقياها وحج بيتها ، والطواف حوله ، والسعي بين الصفا والمروة ، والصلاة في المسجد الحرام ، والشرب من زمزم ؛ وإن المؤمن عندما يرى الكعبة يتوارده شعور ليس له مثيل ! ، وتطمئن نفسه ، ويسكن قلبه ، ويلهج لسانه بالذكر والاستغفار والدعاء ، ويغشاه البكاء والخشوع ، والتذلل والخضوع للواحد الأحد ، الفرد الصمد سبحانه وتعالى ، فسبحان مجيب الدعوات رب الأرض والسماوات .
أسأل الله تعالى أن يصلح أحوالنا ، وأن يجعل جميع بلاد المسلمين أمناً أماناً ، وأن يجعلنا مؤمنين حقاً ، مخلصين صدقاً إنه ولي ذلك والقادر عليه .
هذا والله أعلم وأحكم وصلى الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكتبه
أبو قدامة المدني
سعيد بن إبراهيم بن " محمد سعيد " النمارنة
مرحلة الماجستير / قسم القراءات / الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة