ثلاث صباحات .. من سوريا ..
الكاتب: محمد عبد الرشيد الصوفي
صباح الأحد .. 6 - 5 - 2012
الكاتب: محمد عبد الرشيد الصوفي
صباح الأحد .. 6 - 5 - 2012
سيبقى يوماً في ذكراتي ، وربما في جينات أحفادي ، حتى الأبد ..
للمرة الأولى .. سأرى تعريف الكرامة ..
للمرة الأولى .. أشعر أنّ كلما كتبته فيهم لم يكن خيالاً .. أو مبالغة ..
استيقظنا صباحاً عند الساعة الثامنة ..
وتحركنا بعد نصف ساعة ، إلى منطقة المخازن ، حيث تعبأ القوافل الخيرية من هناك
وصلنا سريعاً ، وتم التقاط بعض الصور للوفد ..
بعد ذلك استمعنا لشرح مفصل من مشرفي الجميعة هنا ( جمعية الكتاب والسنة )
عن المساعدات وماتحتويه من حاجيات الإخوة السوريين ..
ما يميز هذه الحملة أنها اهتمت بالنواقص التي يفتقدها إخواننا على الحدود
فاحتوت المساعدات على : فرش - منظفات - طرود غذائية .. وهكذا ..
استعدت القوافل وتم التحميل ..
بسم الله تحركنا ..
يضم وفد حملة شامنا تنادي :
السيد عايض القحطاني مدير مؤسسة ثاني بن عبدالله للخدمات الانسانية ( راف ) ، والأخ محمد الإبراهيم رئيس حملة " شامنا تنادي " وكذلك الأخ خالد الحمادي نائب رئيس حملة " شامنا تنادي " ، والدكتور محمد الدسوقي
ومن القسم الإعلامي بمؤسسة راف رافقنا الأخ إدريس أجمي والأخ عمر السروري مصور الرحلة
بالإضافة إلى ثلاثة صحفيين من جرائد الشرق والراية والعرب ..
في الطريق إلى الشمال .. حيث جنة الأرض ( سوريا ) ..
تزداد الأرض خضرةً .. كلما اقتربت ..
وفي القلب .. شوق يتشكل في ثوب خاطرةٍ تحكي بعضاً منه ..
يقولون إن النظر في وجوه الصالحين رحمة .. فكيف بالثائرين ..!!
الحدود ..
مجرد سياج من الأسلاك الشائكة !!
والأرض هي الأرض ..
تقف عند الرمثا .. فتشاهد مآذن درعا ..
شامخة كأهلها ..
وفي النفس أمنية ؛ لو تتم الخطوتان ..
ويهتف القلب .. أنا في سوريا ..
لكن الدنيا ( حلوة ) !
أهل سوريا ..
لا تراهم إلا مبتسمين ..
رغم الذكريات المؤلمة ، وليل النزوح الطوييييل ..
ورحلة النزوح .. ليست هروباً من الموت ..
لكنها حيلة الأرض ..
ليبقى بعض الصالحين فيها ..
..
بعد ساعتين تقريباً وصلنا إلى الرمثا ..
قلبي بدأ بالخفقان .. وكأنه أحس بالقرب ..
وصرتُ أتفحص وجوه المارة .. أين أهل الحرية والكرامة ؟؟
وقبل الذهاب للمخيمات ؛ مررنا بموقعين تم تجهيزهما لاستضافة إخواننا الأحرار ..
ثم توجهنا نحو المخيمات ..
الرمثا مدينة حدودية ؛ ملاصقة لدرعا .. وككل المدن الحدودية .. ( على قد حالها ) !
أول مخيم زرناه.. للشباب السوري الحر .. ( مخيم رجال )
دخلنا المكان .. وفي القلب رهبة عظيمة .. وبت أقرؤ الوجوه ..
وأسلم على كل أحد .. وأبتسم ابتسامة الذي رأى وجه أمه بعد طول غياب ..
وقال قلبي .. أخيراً رأيتهم !
دخلنا إلى حيث يوجد الأغلبية منهم ..
ولكم أن تتخيلوا الحالة التي لا نقبلها عليهم والله
! .. لكن ما نفعل !!
ما أسكن حزننا إلا ابتسامتهم الأبية .. وتفرقنا لأخذ الأحوال والقصص ..
لابد أن تعرفوا يا أحبة ..!!
أنكم حين تزورون أناساً بوضع كهذا .. لن تُفرش الأرض كلها بالورود لكم ..
ستجدون من يتحاشى النظر إليكم ؛ لأن نفسه تأبى عليه نظرة الشفقة من الآخرين ..
ستجدون نظرات عتابٍ مؤلمة .. نظرة يأس ربما !!
وستجدون دائماً .. الأخوة الإسلامية ؛ وهي التي من أجلها جئنا ..
الشباب هناك .. من درعا الأبية .. حمص الكرامة .. دمشق العزة .. إدلب الإباء .. من كل سوريا الحرة
قصص النزوح مؤلمة ..
ولكم أن تتخيلوا مفارقة الوطن .. لمن لم يعرف غير الوطن !!
إنهم لا يلتفتون إلى الوراء .. خوف أن يسمعوه منادياً .. لمن أبقى إن رحلتم ؟؟!
..
قالوا لنا بقلب واحد .. نحن لسنا لاجئين هنا ..!!
لكن عندما نفدت الذخيرة ؛ كان هذا هو الحل الوحيد !
أعطونا سلاحاً .. ووالله لن تجدوا سوريّــاً هنا !!
ويحكي أحد الشباب من حمص :
هذا النظام أيقظ الفتنة الطائفية .. ولم يترك لنا سبيلاً للرجوع بعد سقوطه ..
أهل السنة يبادون .. والحرائر يتعمد اغتصابهن للإهانة فقط !!
وما أكثر مجرمي إيران وحزب الله هناك !
الجندي السوري الذي لا يطلق النار على أهله ؛ يقتل فوراً من قبلهم !
أخٌ من حمص .. أصيب بخمس طلقات في يده وبطنه .. أثناء اشتباكات مع العدو ..
يقول لنا بقلبٍ موجوع .. لا أريد البقاء هنا .. أعيدوني لموطني كي أموت ..
وقفت مع بعضهم .. وقال أحدهم : والله الدووور جاي عليكم .. سيتم الهلال الصفوي والله !
رد عليه الجميع : ( فشرت والله ويخسون هؤلاء ) !!
سنفنى عن آخرنا دون ذلك .. الهمم عندهم عالية .. ولا عجب ، فهم الأحرار !
قلت له : والله ثم والله .. لن يكون ذلك ؛ لأن الله اختاركم أنتم لتكسروا هذا الهلال الخبيث
ووالله .. سيبقى هذا العالم كله مديناً لكم يا أهل سوريا حتى الأبد ..
أنتم أهل الكرامة .. حق لكم أن تفخروا .. والكل يتمنى الآن لو كان سورياً والله !
واعلموا .. أننا والله ما نسيناكم .. نتابع أخباركم لحظة بلحظة ..
وأن لكم إخواناً ، النساء قبل الرجال هناك .. يتمنون أن لو يفدونكم بأرواحهم !
لكن قاتل الله السياسة وقوانينها !!
الكلمات كانت تؤلمني وأنا أخرجها كحشرجات مع الزفير ..
قبل الخروج .. رجل في الأربعين من درعا ..
قال لي .. أتيت منذ فترة و ... لم يكمل ! اغرورقت عيناه بالدموع فخفت أن أسأله عن أهله !
سألني عن إمكانية شراء نظارة طبية له !
وقد أوصونا هناك للأسف بعدم إعطاء أيٍّ كان شيئاً إلا بطرق رسمية !
وجهته للمدير وتحدث معه ..
..
خرجنا من هناك ..
متوجهين إلى مخيم العوائل ..
وقد كان خالد - جزاه الله خيراً - نبهني على شراء الحلوى للصغار ..
فملأنا الأكياس .. ووصلنا للمخيم ..
عادةً ما يستقبلك على الباب .. أولئك الملائكة الصغار ..
الذين لا يعرفون ماهي الحرب !! ماهو النزوح !! يبتسمون في وجه الموت !!
حقاً إنهم أحباب الله ..
"مرحبا يا شيخ " هكذا كان الصغار يرحبون بنا ..
عند المدخل نهاني أحدهم من توزيع الحلوى بحجة أن الصغار سيزعجونك !
ترددت !! لكن خالد - جزاه الله خيرًا - قال لي : ( ماعليك منه ) وفعلاً !
التم حولنا الصغار وتوافدوا .. ( ويحليلهم .. ياخذ ويبي بعد .. طيب أنت أخذت ) !
يجيبك بابتسامة المحرج : إنها لأخي ؛ فيرد عليه صديقه : ( يا كداب اخوك اخد ) !!
ويأتي دور حبيباتي الصغيرات .. ساجدة وأمل وبثينة ..
في المخيم .. مشاهد كثيرة .. الأطفال .. النساء على الشرفات ..
وعبدالله .. صبيٌّ في الصف التاسع ..
نزح بمفرده من درعا ، فأهله كلهم معتقلون ..
ابتسامته مشرقة ..
نسيت أن أخبركم : التصوير هناك ممنوع منعاً باتاً !
خوفاً على حياة أهل أولئك النازحين بالداخل ؛ تخيلوا إجرام هذا النظام !!
تمنيت لو أني أخذت صورة مع عبدالله !
أول ما رأيناه رحب بنا وشكرنا .. ثم قال لنا : الكل يأتي لنا بالغذاء واللباس .. فهل أحضرتم لنا مصاحف ؟
نحن نعاني من شحة المصاحف هنا !! قطّع قلوبنا والله بهذا السؤال !
تم الاهتمام بالأمر كما يقولون ؛ ولحظتها ! تود لو كان كل شيء متوفراً حولك لتلبية كل طلباتهم !!
لكن للأسف .. النظام هو النظام !
أخذونا بعد ذلك إلى حيث يرقد أحد الأحرار ، مصابٌ منذ ثلاثة أسابيع ؛ من درعا
دخلنا للسلام والاطمئنان عليه .. وتم التوجيه بنقله في أسرع وقت إلى المستشفى !
خرجنا من المخيم .. يملؤنا شعور القهر والحزن والألم .. وما نملك ؟!
..
أخذونا بعد ذلك في زيارات لبعض العوائل التي تم تأمين مساكن لها ..
أول زيارة كانت لعائلتين .. تسكنان في قبو أحد المساكن ..
لم يعجبني الدخول على تلك العوائل بهذه الكثرة ..
فلولا ظروف أولئك الأحرار لما رأى غريب طرف ثياب حرائرهم !! يفرج الله عنهم !
خرجنا سريعاً .. وتوجهنا إلى بيت آخر ..
وهناك التقينا بهذه المجموعة الرائعة من صغار الملائكة ..
ماريا .. التي أشغلت الجميع بابتسامتها وترحيبها ،، وخصوصاً صاحبي محمد !
أهداها قطعة حلوى ؛ فآثرت بها أختها الصغيرة ..
ليان .. جنات .. آية .. دلع .. أحمد .. عمار .. والأميرة لارا ..
التي أشغلتني بها .. وانشغلت بي .. ( ويا حلو تكشيرتها ) ..
صديقي جمع الصغار كلهم .. وهتفوا بفرحة واحدة .. ( رح تسقط يابشار .. رح تسقط يا بشار .. )
وودعناهم على ألم .. ودعوة من القلب ..
بعد ذلك توجهنا لمقر الجميعة هناك ..
حيث ألقى أخي محمد كلمة جميلة جداً في الصبر والثبات ومكانة الأحرار ..
ثم خرجنا بعد ذلك إلى محل التوزيع ومن ثم إلى بيت أحد الإخوة هناك ..
حيث الغداء .. أقام لنا مأدبة منسف .. جزاه الله خيراً ..
وقبيل الغداء .. سأل أبو عبدالرحمن - رئيس الوفد - أحد الإخوة ..
كيف الاستعداد للغداء ؟؟.. فأجاب : وأي نفس تجد الرغبة في ذلك بعدما رأينا !!
جيء بالغداء .. فجلسنا ..
وحكايا المعاناة كانت ترافقنا على الغداء !!
حكى أحدهم عن رجل له من البنات ست .. وقف بعد الصلاة في المسجد وقال لهم :
لدي ست بنات وليس لي غيرهن .. استروا على بناتي !
نعم يا سادتي .. لهذا الحد وأكثر .. بلغ بهم الخوف على أهاليهم ..!!
لهذا الحد .. وأكثر ..!!
بعد الغداء ،، جلسنا مع أهل البيت وهم من الناشطين في المجال الخيري ..
فحكى لنا الشيخ بعض قصص النزوح المؤلمة ..
يقول : الحيش الحر يقوم بالمهمة حتى 100 متر من أضواء الحدود الأردنية
بين المزارع .. فيقول للأهالي .. توكلوا على الله .. لم يبق إلا اليسير ..
في المرة الأولى كانوا 60 .. ولله الحمد وصلوا جميعاً ..
وفي الثانية .. تعرضوا لإطلاق نيران من العدو .. فحدثت المأساة ..
أصيب من أصيب .. وارتقى من ارتقى !
أطفأ الجيش الأردني الأضواء فتاه الجميع في الظلام ..
منهم من وصل .. ومن اعتقل .. ومن ومن ..
من المآسي .. وصول طفلين بدون أمهاتهم !!
وصول زوج وأطفاله بدون أمهم !!
بعد التقصي عن أخبار بقية المجموعة ،،
علموا أنه تم اعتقالهم جميعاً ، رجالاً ونساءً وأطفالاً !!
ورُحِّلوا بعد ذلك إلى العاصمة .. ثم ولله الحمد .. أطلق سراحهم جميعاً ..
لأن الجيش الظالم لا يريد تصعيد الأمور هناك في درعا !
تنفسنا الصعداء لهذا الخبر ..
انتهى المجلس .. فأخبرني صاحبي محمد أننا سنذهب إلى مكان تحبه !
ومضت بنا السيارة .. حتى علمت أننا متوجهون إلى الحدود ..
حيث يمكن لنا رؤية الجنة بالعين المجردة !!
ورأيت الجنة ..
درعا هناك .. شامخة كمآذنها الصامدة ..
في القلب ألم .. وفي العين دمعةٌ .. وفي النفس أمنية ..
وقفنا هناك بعض وقت .. التقطنا الصور .. بكينا .. دعونا ..
لن أصف لكم مشاعر الوقوف هناك ..
حيث لا يحول بينكَ وبين نصرة إخوانك ؛ إلا الضعف والمسكنة .. رغم أنهم أمامك !!
بعد قليل .. جاءتنا دورية للجيش الأردني .. بشكل مربك .. خبّأنا الكاميرات ..
سلموا علينا بأدب ثم سألوا عن سبب وقوفنا هنا .. والتصوير ..
أخبرهم الإخوة بالأمر .. وبعد مناقاشات .. نجونا بما معنا ..
المهم .. تحركنا رجوعاً إلى عمان .. نحمل معنا التعب والحزن والألم على إخوان لنا هناك !!
عدد اللاجئين السوريين هنا يربوا على الـ 100 ألف سوري !!
تحدث معنا أخ من حمص - الخالدية - سُئل عن سبب نزوحه .. فأجاب .. هدم بيتي ولم أجد مأوى لي ولأطفالي !!
تحدث عن بعض المآسي أيضاً .. ولم يكمل ؛ لأن العبرة خنقته على حاله .. لله أهل حمص !
بعده تحدثت أم سورية في الستين من العمر .. تفوح ثقافة وكرامة وحرية ..
سبب نزوحها هو خوفها على بناتها لأن والدهم توفي في الأحداث .. ولا عائل لهم !
تحدثت عن تسليح الجيش الحر .. وقالت هذا مانريده !
نحن لن نبقى هنا .. ولن تتكرر معنا مأساة فلسطين والله ؛ فالموت أهون !
بجانبها 3 أخوات لم يتحدثن حياءً ..
فتحول الحديث إلى أخ من دمشق نزح خوفاً على نفسه وعياله .. لأنه أصبح مطلوباً ..
وله هنا قرابة الخمسة شهور ..
بعده أخ من دمشق أيضاً .. يقول أنه كان منتمياً لحزب البعث طيلة حياته ..
ولما بدأت الثورة أرادوا أن يجعلوا منه شبيحاً من ( العواينية ) وهم الجواسيس ..
يقول .. بقيت معهم مدة 3 أسابيع ثم أفقت من غفلتي .. ونزحت بأطفالي إلى عمان ..
يستضيفهم هنا أحد الإخوة الأردنيين ..
وهذا حال معظم اللاجئين في عمان تحديدًا ..
العوائل السورية هنا ..
تعاني من غلاء العيش في عمان ..
وعدم توافر السيولة المادية التي تمكنهم من العيش فيها ..
لذلك كان من ضمن مطالب الأخوات .. أنهم يريدون مبلغاً مالياً معيناً ..
يضمن لهم الكرامة و عدم السؤال ..
ومما يلفت النظر أن الإخوة السوريون جميعاً ..
مجمعون على وجوب شيءٍ واحد .. تسليح الجيش الحر ؛ هذا هو العلاج للمأساة ....
ثم تحدثت حرة من حماة ..
أبكتنا والله .. تقول :
نحن أربع بنات مع أبي .. أخرجنا خوفاً علينا .. لم يبق لنا شيء هناك !!
نحن أبناء أرض الكرامة حماة ..
نباد أمام مرأى ومسمع من العالم للمرة الثانية ؛ ولا أحد يتحرك !!
وقالت كلاماً كثيرًا لم أحفظه .. فألمي على أخت لي ..
تعرض جراحها هكذا أمام الجميع ؛ ولولا الحاجة لما فعلت ذلك أبداً !!!
انتهى بذلك الصباح الأول من هناك .. من سوريا ..