ثقافة الحوار في القرآن

مولاي عمر

New member
إنضم
13/09/2004
المشاركات
26
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
المملكة المغربية
بسم الله الرحمن الرحيم
ثقافة الحوار في القرآن

الدكتور مولاي عمر بن حماد
كلية الآداب المحمدية
[email protected]

1- بين يدي الوضوع
يأتي هذه الموضوع في إطار ما يمكن تسميته إعادة استدعاء القرآن الكريم.ذلك لأن القرآن الذي صنع هذه الأمة حتى تسمت به وعرفت بين الناس بأنها أمة القرآن، قد تقلصت مساحات حضوره في حياتها بشكل كبير.و لمعترض أن يقول كيف وهو يتلى آناء الليل و أطراف النهار، فأقول إن هذا الأمر لا يغير من الحقيقة شيئا، فالقضية ليست طلبا لمزيد من التلاوة بل هي دعوة لما فوق ذلك، وأعني به التدبر والفهم والعمل. فمن الملاحظات الجلية أن الاستنباط من القرآن الكريم لم يعد بالشكل الذي كان عليه من قبل ! فإذا كانت الأمة في عصورها السالفة جعلت القرآن منطلقها وغايتها ومحور اهتمامها، منه تنطلق وإليه تعود، به تقيس، وعلى ضوئه تحاكم وتزن ما تتعرف عليه من ثقافات الشعوب والحضارات، فإن وضعنا الحالي تغير كثيرا!! وهذا الوضع يحتاج منا إلى مراجعة شاملة في إطار السؤال الكبير:"كيف نتعامل مع القرآن الكريم؟"
ولئن كان الإشكال بهذه السعة والشمول، فإن إدعاء استيعابه في ورقة مهما كان شأنها هو ضرب من الخيال،إلا أن ذلك لا يمنع من المساهمة في إثارته ، التي نرجو ألا تخلو من فائدة .وهكذا و انطلاقا من قاعدة "ما لا يدرك كله لا يترك جله" اخترت مجال الحوار في القرآن الكريم عسى أن نساهم فيه ضمن دعوة عامة إلى مزيد من التواصل لعله يخفف من حدة ما نسمع ونرى من صراع الأفراد والشعوب والحضارات وما يتبعه...
أما العنوان الذي اخترته لهذه المداخلة فهو "ثقافة الحوار في القرآن" فلقد تعمدت ذلك لأبرهن أن الحوار لم يكن هامشا ضيقا أو ثانويا في النص القرآني بل شكل معلما بارزا فيه. إن القرآن جاء بالحوار، ودعا إليه، وحدد ضوابطه، وحذر من منزلقاته ...فإذا جمعنا كل ذلك تجمع لدينا ما يمكن تسميته ثقافة الحوار في القرآن الكريم.

2- حجم الآيات في موضوع الحوار:
لم ترد كلمة حوار في القرآن الكريم إلا في آيات ثلاث، جاءت اثنتان منها في سورة الكهف في معرض الحديث عن قصة صاحب الجنتين وحواره مع صاحبه الذي لا يملك مالا كثيرا فقال تعالى عنهما في الموضع الأول:" وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا" الكهف 34 وقال تعالى عنهما في نفس السورة: "قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا" الكهف 37
أما الآية الثالثة التي وردت فيها هذه كلمة حوار فهي من سورة المجادلة في قوله تعالى:" قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير" المجادلة 1
إلا أن الحوار باعتباره وسيلة تواصلية أوسع من حصره في هذه الكلمة، فقد جاء التعبير عنه بمفردات أخرى قريبة منه من أهمها الجدل التي وردت في تسعة وعشرين موضعا منها :
1. "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما" النساء 106
2. "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا" النساء 108
3. "ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين" الأنعام 25
4. "ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون" الأنعام 121
5. "قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان فانتظروا إني معكم من المنتظرين" الأعراف 71
ثم إن الحوار في القرآن لا يمكن حصر مساحته في الآيات التي تتضمن مادة حوار أو جدل أو ما في حكمهما… بل نعتبر كل المواد الحوارية الواردة في القرآن الكريم شاهدة لهذا الموضوع من ذلك مثلا قوله تعالى لموسى عليه السلام:" اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى"طه 43 فقد أورد ابن كثير أقوالا عديدة في بيان المراد بالقول اللين ثم لخص ذلك بقوله:" والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق, ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع, كما قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".فانظر كيف جعل قوله تعالى :"فقولا له قولا لينا" شبيها بقوله تعالى :" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة"الآية
3- الدعوة إلى الحوار في القرآن الكريم:
أول مقام يمكن التنبيه عليه في مساحة الحوار في القرآن الدعوة إلى الحوار وقد جاءت في سياقات عديدة.ومن النصوص الصريحة الداعية إلى التمسك بالحوار وسيلة للتواصل قوله تعالى:"ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين" النحل 125
وفيها يأمر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة. قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة "والموعظة الحسنة", أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس, ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى, وقوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن" أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب, كقوله تعالى: "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم" الاية, فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى".
وقوله: "إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله" الآية، أي قد علم الشقي منهم والسعيد, وكتب ذلك عنده وفرغ منه, فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات, فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب "إنك لا تهدي من أحببت", "ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء".
4 - مستويات الحوار في القرآن الكريم
من الملاحظات الأساسية التي يمكن الخروج بها أن الحوار في القرآن الكريم كان على جميع المستويات مما يدل على أنه سيبقى هو أفضل وسيل للتواصل على الإطلاق.وبيان ذلك على الشكل التالي:
4-1 - الحوار بين الأنبياء والملائكة:
ويشهد لهذا القسم آيات كثيرة منها قوله تعالى عن ابراهيم عليه السلام:" "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود" هود 74 إذ لما أخبر إبراهيم عليه السلام بما ينتظر قوم لوط من العذاب كما في قوله تعالى :"ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين" العنكبوت31 قال عليه السلام عند ذلك: "إن فيها لوطاً" فرد عليه الملائكة:" قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته" الآية العنكبوت 32
ففي آية هود وصف موقف إبراهيم بأنه جدال منه وفي آية العنكبوت فصل قول إبراهيم دون وصف له بالجدال، ثم مدح موقف إبراهيم بقوله تعالى:" إن إبراهيم لحليم أواه منيب "
4 -2 -الحوار بين الأنبياء و أقوامهم
وهذا من أبرز المجالات التي برز فيها الحوار وسيلة أولى في الإقناع ويمكن اعتبار المساحة الحوارية في القرآن الكريم بين الأنبياء و أقوامهم من أوسع المساحات ونحن هنا لا يمكن أن نستوعب كل ما ورد فيها من نصوص بله ما فيها من الإشارات والدلالات! ويمكن تقسيم ذلك إلى مستويات متعددة:
1. المستوى العام : ونقصد به العرض العام للدعوة والذي يبرز فيه عادة النبي في مقابل الملأ ومن ذلك قوله تعالى عن نوح عليه السلام:"لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم * قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين * قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين * أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون" الأعراف 61
2. المستوى الخاص: ونقصد به حين يتوجه الحوار إلى شخص بعينه وقد يكون هذا الشخص :
 سلطة: وأبرز مثال في هذا المستوى هو فرعون و الحوار بينه وبين موسى عليه السلام وكذلك النمرود والحوار بينه وبين ابراهيم
 قرابة: وأبرز مثال يخلده القرآن الكريم هو الحوار الذي جرى بين ابراهيم ووالده وعنه قال تعالى:" واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا"مريم 41 -48 .
و مثاله أيضا ما كان بين نوح وولده وفي قال تعالى :" ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين" هود 42
4 -3 -الحوار بين المؤمنين وأقوامهم
وهذا مستوى آخر من مستويات الحوار في القرآن الكريم وفيه جاءت الآية الصريحة في تسمية الحوار باسمه وإن بينا بما فيه الكفاية أن الأمر أوسع من ذلك…قال تعالى :" واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا" الكهف 32 وما بعدها.. ولقد سمى الله تعالى كلام كلا الطرفين حوارا ومحاورة منه وهنا تبرز أهمية مقارعة الحجة بالحجة.
5- آداب الحوار
ونظن إن هذا الجانب من أهم العناصر التي نريد التذكير بها من خلال القرآن الكريم. ونقول في البداية بأن الأمر لا يتجاوز المعالم الكبرى ولا ندعي لهذه الورقة أنها تستطيع الإحاطة ولن تفعل ذلك ورقة بعده حين يتعلق الأمر بالاستنباط من القرآن الكريم فهذا الكتاب لا تنقضي عجائبه ولا يبلى على كثرة الرد.
ويمكن اعتبار" بالتي هي أحسن" أوجز صيغة دالة على المنهج الذي يدعو القرآن الكريم أتباعه إلى التزامه في الحوار مع القريب والبعيد .و قوله تعالى "بالتي هي أحسن " تشمل المنهج والمضمون والزمان والمكان وكل العناصر المتداخلة في عملية الحوار …ومع ذلك وجدنا في القرآن الكريم إشارات تفصيلية ومنها:
5-1- مطالبة الطرف المحاور أن يحاور بعلم :
فقد عاب القرآن الكريم على من يجادل بغير علم في أكثر من آية ومن ذلك قوله تعالى:"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد" الحج 8 وقوله تعالى:"ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير"الحج 3 وقوله تعالى:" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير" لقمان 20
5 -2 - الانطلاق من فرضية تساوي الطرفين المتحاورين في الخطأ والصواب :
وهذا ضابط هام من أجل إيجاد أرضية مشتركة للحوار، وهو مما يساهم في دعم التواصل وقد دل على ذلك قوله تعالى:" وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"سبأ 21" هذا من باب اللف والنشر أي واحد من الفريقين مبطل والآخر محق لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال, بل واحد منا مصيب"
ومثله في نفس الآية قوله تعالى: "قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون" معناه التبري منهم أي لستم منا ولا نحن منكم …كما قال تعالى: "وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون"يونس 41 لكن انظر كيف نسب الجرم لنفسه والعمل لخصمه وهذا لا يكون إلا من الذي على يقين تام أنه ليس مجرما !!!
5 -3 - تجاوز الأدلة المتشابهة اكتفاء بالقطعية:
وأبرز مثال يظهر في هذا المقام هو الحوار الذي جرى بين إبراهيم والنمرود، قال تعالى:" ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين" البقرة 258 ففي هذا المشهد الحواري يتبين لنا كيف أن إبراهيم لم يقف عند قول النمرود أنا أحيي وأميت مع أنه لا يفعل ذلك حقيقة ، بل انتقل بالحوار إلى حجة أقوى لن يستطيع معها المحاور مجاراتهولذلك قال تعالى عنه بعد إقامة الحجة عليه"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين"
5 -4 - عدم الانسياق إلى القضايا الهامشية:
وأبرز مثال وجدناه في هذا المقام هو الحوار الذي جرى بين فرعون وموسى عليه السلام، قال تعالى:" فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" طه 47 وما بعدها وواضح في هذه الآية أن موسى أدرك أن فرعون يريد بسؤاله :" قال فما بال القرون الأولى" صرفه عن الحديث عن الله ، إلا أن جواب موسى كان عن الله وليس عن القرون الأولى :" قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى"
6 - القضايا المطروحة للحوار
يمكن القول في البداية بأن كل القضايا التي دعا إليها القرآن الكريم كان الحوار هو الوسيلة الأمثل في الإقناع بها وهكذا فإن قضايا الإيمان والتوحيد والبعث والنشور والنبوة والقرآن وغير ذلك … في كل ذلك كان الحوار هو الوسيلة.
6 -1 - الحوار في موضوع القرآن:
سلك القرآن في إثبات أنه من عند الله طرقا متعددة أهمها:
• الطريقة الأولى الرد على شبهات المنكرين:
وتجلى ذلك في نفي وجود طرف بشري يعلم رسول الله كما زعم كفار قريش وقتها: قال تعالى:" ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين" النحل 103
وتجلى أيضا في التذكير بما علم من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وانه لم يكن يقرأ ولا يكتب، قال تعالى :"وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون"العنكبوت 48
وتجلى ثالثا في التذكير بأن الأمر أساسه مشيئة الله ، بدليل أنه لبثا عمرا طويلا لا يحدثهم بشيء مما ينكرونه عليه ، قال تعالى :" قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون " يونس 16
وتجلى رابعا في التصريح بأن الافتراء أمر يلزم صاحبه ولا يتعداه قال تعالى:" أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون" هود 35
• الطريقة الثانية وهي التحدي والإعجاز:
والإعجاز باب واسع أفرده بالتأليف أكثر من واحد وحسبنا التذكير هنا ببعض الآيات ذات الصلة بالموضوع التي يتحدى فيها الله المكذبين بالقرآن بمستويات مختلفة ودرجات متفاوتة بين المطالبة بكل القرآن كما في قوله تعالى: أم يقولون تقوله بل لايؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين" الطور 33 ، إلى المطالبة بعشر سور مثله كما في قوله تعالى:" أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين" هود 13 ، إلى سورة مثله كما في قوله تعالى:" أم يقولون افتراه قل فاتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين"يونس38 ونحوه في سورة البقرة قال تعالى :" وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين"اليقرة 23 ، وفي موضوع الإعجاز حسم القرآن الأمر في قوله تعالى:" قال تعالى :" قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" الاسراء 88
6 -2- الحوار في موضوع البعث والنشور:
موضوع البعث واحد من أهم القضايا التي اعترض عليها الكفار وكان وسيلة القرآن المثلى في الإقناع هي الحوار وإقامة البراهين.
قال تعالى:" وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون"يس78 إن في الآية إرشاد لكل من تلقى سؤالا عمن يحيي العظام وقد تحولت إلى رميم أن يجيب السائل بأن المحيي هو الذي أنشأها أول مرة ، لما تقرر في العقول السليمة أن الإعادة أسهل من الإنشاء من عدم وذلك مثل قوله تعالى :"كما بدأنا أول خلق نعيده" الأنبياء 104 وهو نفس السؤال الذي يتكرر هنا في قوله تعالى:" أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم" ولا يكون الجواب إلا بنحو ما تدل عليه بقية الآية:" بلى وهو الخلاق العليم"
7 - الحوار مع أهل الكتاب
يشمل مصطلح أهل الكتاب اليهود والنصارى… ونظن أن مجرد هذا الاصطلاح يدل على معنى تواصلي عميق ينص على المشترك وهو تلقي الوحي مع ما يترتب على ذلك من العلم والابتعاد عن الغواية والهوى و ما في حكمه، ومثله مصطلح بني إسرائيل ففيه تذكير للمخاطبين بأنهم من سلالة نبي من الأنبياء مع كل ما يترتب على ذلك …
وموضوع أهل الكتاب في القرآن الكريم موضوع شاسع لا تزعم هذه الورقة أنها قادرة على استيعابه ولذلك سأكتفي بالموضوع الأساسي الذي هو الحوار لأقول بان القرآن الكريم قد حاور أهل الكتاب ودعا إلى محاورتهم وفق آداب خاصة:
فقال تعالى مرشدا إلى خصوصية أهل الكتاب:" ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" العنكبوت 46، وقال تعالى:" قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون"البقرة 136
إنه تأسيس لأرضية مشتركة، وبحث عن المشترك الذي يجعل إمكانية اللقاء المطلوبة واردة وممكنة ولعل أصرح آية في الدعوة إلى الانطلاق من موطن اللقاء قوله تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون" آل عمران 64
و الحوار مع أهل الكتاب في شقهم النصراني قد كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفة خاصة حين لقي صلى الله عليه وسلم وفد نجران فكان هذا الموقف الصريح من عيسى عليه السلام قال تعالى:" إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين" آل عمران 61
وفي الآية تذكير بأن خلق عيسى له نظير :"إن مثل عيسى عند الله" أي في قدرة الله حيث خلقه من غير أب "كمثل آدم" حيث خلقه من غير أب ولا أم بل "خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون" فالذي خلق آدم من غير أب, قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى, وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب, فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى, ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل, فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً... ولهذا قال تعالى: "الحق من ربك فلا تكن من الممترين" أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه, وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " أي نحضرهم في حال المباهلة "ثم نبتهل" أي نلتعن "فنجعل لعنة الله على الكاذبين" أي منا أو منكم.
وقصة وفد نجران مليئة بالدلالات والعبر، ولا يتسع المقام لتفصيلها.
8 - خلاصات مؤسسة لثقافة الحوار انطلاقا من القرآن من الكريم
في ختام هذا العرض أعود وأذكر بأهم الخلاصات التي يمكن الخروج والتي تؤسس لثقافة الحوار انطلاقا من القرآن الكريم .وتأتي أهمية هذه الخلاصات من كونها تتزامن مع حملة مسعورة تتهم الإسلام بكل عناصر الاقصاء و الرفض و الكراهية . إننا نعتبر أن مجرد إنزال كتاب سماوي ليكون معجزة هذا النبي أكبر دعوة للحوار ومقارعة الحجة بالحجة !ولقد لا حظنا كيف أن هذا الكتب نفسه موضوع للتداول ويقيم الحجة من ذاته انه من عند الله ليرد على كل الذين يريدون نفي هذه الصفة عنه ويدعو كل المكذبين إلى الاتيان بمثله بعشر سور !منه بسورة منه! وهاهي الأيام لا تزيد حقيقة القرآن إلا نصاعة تحقيقا لوعد الله :"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" ويتزامن هذا الكلام مع تأسيس الهيئة المغربية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة بالرباط والتي ستعقد مؤتمرها العلمي الأول بتاريخ….
ثم إن هذا الحوار لا يكتفي القرآن بدعوة المؤمنين به إليه بل يدعو كل الناس إلى ذلك
ثم إن هذا الحوار لا يعني التلفيق ولا يعني السفسطة …بل له آدابه وله شروطه وله أفقه وكل ذلك تحدث عنه القرآن الكريم بما حاولت الورقة تقريبه قدر الإمكان .
وأخيرا أقول إن كل حديث عن الحوار أو التواصل لا يمكن أن يكون مثمرا خارجيا إلا بقدر إثماره داخليا، و كل تقليل من دور الحوار الداخلي سينعكس سلبا على حوارنا الخارجي…
 
شكراً جزيلاً .
حول محور (الحوار بين الأنبياء و أقوامهم) صدر عن مكتبة الإرشاد باليمن - صنعاء ـ صدرت رسالة علمية بعنوان حوار الأنبياء مع أقوامهم في القرآن الكريم للباحث عبده عبدالله محمد الحميدي . وعدد الصفحات 621 صفحة . وفيها أفكار جيدة.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
د. مولاي عمر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
موضوعكم ممتع جداً جزاكم الله خيراً وجعله في صحيفة حسناتكم ... وأجزل لكم المثوبة .
 
ماشاء الله موضوع رائع وقيم وجمع كذلك مبارك وطيب..
وقد ذكرتم :(5 -4 - عدم الانسياق إلى القضايا الهامشية:
وأبرز مثال وجدناه في هذا المقام هو الحوار الذي جرى بين فرعون وموسى عليه السلام، قال تعالى:" فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" طه 47 وما بعدها وواضح في هذه الآية أن موسى أدرك أن فرعون يريد بسؤاله :" قال فما بال القرون الأولى" صرفه عن الحديث عن الله ، إلا أن جواب موسى كان عن الله وليس عن القرون الأولى :" قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى")...هذه تتطلب الحكمة والفطنه..كما أن الصدق مع الله والاخلاص له سبحانه جل في علاه هو من يساعد للوصول لهذا المستوى العالي والراقي في التعامل مع الأخرين..
مرة أخرى أشكركم على هذا الطرح الجميل فجزاكم الله عنا خيراً ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
 
عودة
أعلى