تَحْرِيكُ الْجَنَانِ لِهِدَايَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ الْقُرْآنِ شَهْرِ الْجِنَانَ (3

إنضم
21/12/2015
المشاركات
1,712
مستوى التفاعل
13
النقاط
38
الإقامة
مصر
تَحْرِيكُ الْجَنَانِ لِهِدَايَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ شَهْرِ الْقُرْآنِ شَهْرِ الْجِنَانَ (3)
الْجُزْءُ الثَّالِثُ

الحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، ونَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِ الله، فَلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عبدُه وَرَسُولُهُ".
قالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد رَشِيد رِضَا رَحِمَهُ اللَّهُ في تَفسيرِ المَنَارِ لَه :
وَاعْلَمْ أَنَّ قُوَّةَ الدِّينِ وَكَمَالَ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَاسْتِمَاعِهِ ، مَعَ التَّدَبُّرِ بِنِيَّةِ الِاهْتِدَاءِ بِهِ وَالْعَمَلِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ . فَالْإِيمَانُ الْإِذْعَانِيُّ الصَّحِيحُ يَزْدَادُ وَيَقْوَى وَيَنْمَى وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَتَرْكِ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ بِقَدْرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ ، وَيَنْقُصُ وَيَضْعُفُ عَلَى هَذِهِ النِّسْبَةِ مَنْ تَرَكَ تَدَبُّرَهُ ، وَمَا آمَنَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ إِلَّا بِسَمَاعِهِ وَفَهْمِهِ ، وَلَا فَتَحُوا الْأَقْطَارَ ، وَمَصَّرُوا الْأَمْصَارَ ، وَاتَّسَعَ عُمْرَانُهُمْ ، وَعَظُمَ سُلْطَانُهُمْ ، إِلَّا بِتَأْثِيرِ هِدَايَتِهِ ، وَمَا كَانَ الْجَاحِدُونَ الْمُعَانِدُونَ مِنْ زُعَمَاءِ مَكَّةَ يُجَاهِدُونَ النَّبِيَّ وَيَصُدُّونَهُ عَنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ إِلَّا بِمَنْعِهِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ :{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغُوَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } وَمَا ضَعُفَ الْإِسْلَامُ مُنْذُ الْقُرُونِ الْوُسْطَى حَتَّى زَالَ أَكْثَرُ مُلْكِهِ إِلَّا بِهَجْرِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ ، وَجَعْلِهِ كَالرُّقَى وَالتَّعَاوِيذِ الَّتِي تُتَّخَذُ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِشِفَاءِ أَمْرَاضِ الْأَبْدَانِ ، وَجُلُّ فَائِدَةِ الصَّلَاةِ - وَهِيَ عِمَادُ الدِّينِ - بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّدَبُّرِ وَالتَّخَشُّعِ ، فَإِذَا زَالَ مِنْهَا هَذَا صَارَتْ عَادَةً قَلِيلَةَ الْفَائِدَةِ . وَهَكَذَا انْقَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضْعُ الدِّينِ، ثُمَّ هُمْ يَتَعَجَّبُونَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَ حُرِمُوا مِنْ وَعْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ:{ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ .}
أقولُ :إن الذي يَخدمُ غَيرَ القُرآنِ والسنةِ , كَمثل رجلٍ يُعالجُ السقفَ من الجدارِ , فيوشكُ أن يقعَ السقفُ والجِدارُ.

جَاء فِي التِّبْيَانِ فِي آدَابِ حَمَلةِ القُرآن للنَّوويِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَالَ الحَسنُ بنُ عَليٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((إنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رأوا القُرآنَ رَسائلَ مِن رَبهِم، فَكَانوا يَتدبَّرونها باللَّيلِ، وَيتفقَّدونَهَا فِي النَّهارِ)) .
في سُورة البَقرة أَرْكَانُ الْإِسْلَامِ الخَمْسَةُ وأَرْكَانُ الْإِيمَانِ السِّتَّة....... .
إن سورة البَقرة هي أكثرُ سورةٍ ذُكرت فِيها التّقوى - ابتدَأها الله بـــــــ { ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } ثمّ :{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) } إلى قولِه تعالى :{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}
فَظَهَرت عِلاقَةُ القُرأنِ بالتَّقوَى – وعِلاقةُ الصِّيامِ بالتّقوى .
 
بِدايةُ الطَّريقِ الحقّ ...............................

لا يُعقلُ أن يَقرأ الأخُ أو الأختُ ما يزيدُ عن مِائة آيةٍ في اليوم في رَمضانَ أو غيرِه وتمرُ الآياتُ دُون أن يَستوقِفَهم شَيءٌ مما قرأوا . هَذا غَيرُ مَوجودٍ في كَلامِ البَشرِ- فَكَيف بالقُرآن ؟
فلو فَرضنَا أن مُعلما للغَةِ العَربية وهو يَقرأُ قَولَه تَعَالى :{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } وقَولَه تَعَالى :{ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} وقوله تعالى :{ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا}. وقوله تعالى :{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }.
يَقرأُهَا ويَمُرُّ عَليها وعَلى غَيرها دونَ أن تَستَوقِفَه الآياتُ من جِهة الإعرابِ على الأقل – فأيُّ قراءةٍ وأي لُغةٍ ؟
وكذلك لو مرَّ القاريء على قوله تعالى :{ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } وقوله تعالى:{ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)} وقوله تعالى :{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}
هل – يَعْدِلُونَ – الأولى والثانية – كالثالثة – بِالطَّبْعِ مُحَال .
وقوله تعالى:{ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا } هَل هي مِن العَفو المُقابل للعُقوبة ؟ بالطبعِ لا ؟
وقوله تعالى:{ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ } هل- صَلُّوهُ- من الصَّلاةِ المَعروفة ؟بالطبع لا ؟
واعلم وأنت تقرأُ سُّورةَ - هُود- سَتمرُ بهذه اللَّفْظَةِ :{ لَا جَرَمَ } – وجاءت في سُّورة النحل ثلاثَ مراتٍ , وآخرها في سُّورة غافر.فهل ستقفُ عندها لتعرفَ مَعناهَا؟
وفي سُّورة ص :{ وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)}
فما مَعنى الْقِطُّ ؟ هَل سَتُلاحِظُها وتَقفُ عندَها لتعرفَ مَعناهَا ؟
قوله تعالى:{ لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)}
هَل المَقصُودُ الْبَرْدُ المَعروفُ أم مَاذا ؟ وهَل البَردُ المَعروفُ أمرٌ حَسنٌ حَتى يُحرَموا مِنه ؟
وقوله تعالى:{ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}
لماذا قدمَ العَذابَ على الضَّلَالِ ؟
وقوله تعالى:{ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ }.
لماذا قدمَ الْجَنَّةَ على الْمَغْفِرَةِ ؟
وسَتقرأُ إن شاءَ اللهُ كَلمَةَ السِّجِلُّ والسِّجِّيلُ وَالسِّجِّينُ – فَهَل سَتبحَثُ عن مَعناهُم ؟
{الْحَصِيرُ - والْحَصُورُ}- {الْحَمِيمُ.- وَالْيَحْمُومُ }{ النُّفُورُ -وَالنَّفِيرُ - وَالنَّفَرُ وَالنَّفْرُ } فَهَل لكَ فِي حَاجَةٍ فِي مَعرِفَتِهَا ؟
وأنت تقرأُ في سُورة البَقرة وَهي ثَاني ما تُقرأُ في رَمضانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ستجدُ في السورة { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى- كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ- كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ- كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ- هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ.....}
كل هذه الآيات في سورة البقرة – فَارعَها ذهنَك وتَمَعَّن فيها جَيدا .......
ولقد توسَّطَ قولُه تعالى :{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } بين سَابقٍ وآتٍ......
ثم وأنت تُكملُ ختمتكَ تتبع هذه المادةَ بعنايةٍ – مثلا ......
قوله تعالى :{ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}

وبعدها ....................
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
ثم تأمل في هَاتين الآيتينِ :
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
لاحظ جيدا :{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ .....}
قال ابن كثير رحمه الله:
{وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ. مَرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ} قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الشَّيْطَانَ، يَعْنِي: كُتِبَ عَلَيْهِ كِتَابَةً قَدَرِيَّةً {أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ} أَيِ: اتَّبَعَهُ وَقَلَّدَهُ، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أَيْ: يُضِلُّهُ فِي الدُّنْيَا وَيَقُودُهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ، وَهُوَ الْحَارُّ الْمُؤْلِمُ الْمُزْعِجُ الْمُقْلِقُ.
وانظر بالله عليك :{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)}
قال في فتح القدير :
قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى غَلَبَةِ الرُّسُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ فِي الْحَرْبِ، وَمَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ الْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ.
ثم قِف طويلا عند هذه العَجيبة ولا تحاول صرفَ قوة المعنى عن ظاهره :{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ }.
هذه نَماذج ظاهرة تُدرك سريعا – فما بالك لو تكلمنا فيما هو أعمق من ذلك , مع أن كثيرا من النَّاس لا يعرفون ذلك إلا ما رحمَ ربي .
 
قال تعالى :{ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)}
قال ابن كثير رحمه الله :
وَقَوْلُهُ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} أَيْ: أَكْثَرُ النَّاسِ لَيْسَ لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وَمَا فِيهَا، فَهُمْ حُذَّاقٌ أَذْكِيَاءُ فِي تَحْصِيلِهَا وَوُجُوهِ مَكَاسِبِهَا، وَهُمْ غَافِلُونَ عَمَّا يَنْفَعُهُمْ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، كَأَنَّ أَحَدَهُمْ مُغَفّل لَا ذِهْنَ لَهُ وَلَا فِكْرَةَ.
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ لَبَلَغَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِهِ، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} يَعْنِي: الْكُفَّارُ، يَعْرِفُونَ عُمْرَانَ الدُّنْيَا، وَهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ جُهَّالٌ.
جاء في حلية الأولياء لأبي نُعيم رحمه الله :
قال أَبُو تَوْبَةَ الرَّبِيعُ،: "قال سُفْيَان بْنُ عُيَيْنَةَ ، في قَوْلِهِ {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 10] قَالَ: أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ , فَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَشْرُفُونَ بِهَا , وَيَفْضُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهَا , مِنْ حُسْنِ الْجِوَارِ , وَوَفَاءٍ بِالْعَهْدِ , وَصِدْقِ الْحَدِيثِ , وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ , فَقَالَ: إِنَّمَا جَاءَكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَارِمِ أَخْلَاقِكُمُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تَشْرُفُونَ وَتُعَظَّمُونَ , انْظُرُوا هَلْ جَاءَ بِشَيْءٍ مِمَّا كُنْتُمْ تَعِيبُونَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْقَبِيحَةِ الَّتِي كُنْتُمْ تَعِيبُونَهَا؟
قال النَّوَوِيُّ رَحِمه اللهُ في كِتابِ الأَذْكَارِ : فَصلٌ - في أنَّه لا يُعْتَدُّ بالذِّكْرِ حَتَّى يُتَلَفَّظُ بهِ :
اعلم أنَّ الأَذْكَارَ المشروعَةَ في الصَّلَاةِ وغيرِها، وَاجبةً كَانَت أو مستحبةً، لا يُحسبُ شيءٌ منها ولا يُعتدّ به حتى يتلفَّظَ به، بحيثُ يُسمِعُ نَفسَهُ إذا كَانَ صَحيحَ السَّمعِ لَا عَارِضَ لَه؛ واللهُ أعلمُ. وَعَليهِ فَقِراءةُ القُرآنِ بِالعَينِ دُونَ عُذرٍ غَيرُ مُعتَدةٍ .
ومعلومٌ بين الناسِ أن الكلامَ الصامتَ غيرَ المسموعِ لا يَجري عليه تكليفٌ إلا في بعضِ الأحكامِ الفقهيةِ المعدودةِ المصحوبة بالأعذار غالبا . والْقُرْآنُ من مادة – قرأ – كما في المعاجم كلها – فكيف يكونُ الصمتُ قراءةً ؟
ولو أنك قرأتَ القرآنَ مرةً واحدةً في رمضان بتفسيره كان أنفعَ وأولى – فما الفائدة من قراءة بلا استيعاب - والقرآنُ كتابُ تشريعٍ وتكليفٍ .ويُمكن أن يقال أن الأصلَ هو القراءة من أجلِ التدبرِ , ولك أن تَجعلَ لك ختمةً أخرى لتنالَ بها كثيرَ الحسناتٍ .
إن أحدَنا ليفخرُ أمامَ الناسِ بأنه متخصصٌ أو خبيرٌ في مجالٍ ما ,وربما استغرقَ هذا الأمرُ عمرَه , فلم لا نعطي القرآنَ شيئا من أوقاتنا بأن نتدارسَه ونتأمله ,فالقرآنُ أيها الكرامُ أنزله حكيم خبير .
قال صاحبُ التحرير والتنوير في مُقدمته : وَقَدْ ذَكَرَ فُقَهَاؤُنَا فِي آدَابِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَنَّ التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ مِنْ كَثْرَةِ الْقِرَاءَةِ بِلَا تَفَهُّمٍ ,انتهى .
قال تعالى في سورة النمل :{ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)}
قال ابن كثير رحمه الله :
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أَيْ: {وَإِنَّكَ} يَا مُحَمَّدُ - قَالَ قَتَادَةُ: {لَتُلَقَّى} أَيْ: لَتَأْخُذُ. {الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} أَيْ: مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ عَلِيمٍ، أَيْ: حَكِيمٌ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ، عَلِيمٌ بِالْأُمُورِ جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا، فَخَبَرُهُ هُوَ الصِّدْقُ الْمَحْضُ، وَحُكْمُهُ هُوَ الْعَدْلُ التَّامُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ] } [الْأَنْعَامِ: 115] .
قال تعالى في سورة الجمعة :{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
قال الإمام ابن القيم في - إعلام الموقعين – { قَاسَ مَنْ حَمَّلَهُ سُبْحَانَهُ كِتَابَهُ لِيُؤْمِنَ بِهِ وَيَتَدَبَّرَهُ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيَدْعُوَ إلَيْهِ ثُمَّ خَالَفَ ذَلِكَ وَلَمْ يَحْمِلْهُ إلَّا عَلَى ظَهْرِ قَلْبٍ، فَقِرَاءَتُهُ بِغَيْرِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَفَهُّمٍ وَلَا اتِّبَاعٍ وَلَا تَحْكِيمٍ لَهُ وَعَمَلٍ بِمُوجِبِهِ، كَحِمَارٍ عَلَى ظَهْرِهِ زَامِلَةُ أَسْفَارٍ لَا يَدْرِي مَا فِيهَا، وَحَظُّهُ مِنْهَا حَمْلُهَا عَلَى ظَهْرِهِ لَيْسَ إلَّا؛ فَحَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَحَظِّ هَذَا الْحِمَارِ مِنْ الْكُتُبِ الَّتِي عَلَى ظَهْرِهِ؛ فَهَذَا الْمَثَلُ وَإِنْ كَانَ قَدْ ضُرِبَ لِلْيَهُودِ فَهُوَ مُتَنَاوِلٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِمَنْ حَمَلَ الْقُرْآنَ فَتَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ، وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّهُ، وَلَمْ يَرْعَهُ حَقَّ رِعَايَتِهِ. }
 
قوله تعالى :{ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) }
قَالَ ابْنُ القيِّم رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ :
شَبَّهَهُمْ فِي إعْرَاضِهِمْ وَنُفُورِهِمْ عَنْ الْقُرْآنِ بِحُمُرٍ رَأَتْ الْأَسَدَ أَوْ الرُّمَاةَ فَفَرَّتْ مِنْهُ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْقِيَاسِ وَالتَّمْثِيلِ، فَإِنَّ الْقَوْمَ فِي جَهْلِهِمْ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ كَالْحُمُرِ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ شَيْئًا، فَإِذَا سَمِعَتْ صَوْتَ الْأَسَدِ أَوْ الرَّمْيِ نَفَرَتْ مِنْهُ أَشَدَّ النُّفُورِ، وَهَذَا غَايَةُ الذَّمِّ لِهَؤُلَاءِ، فَإِنَّهُمْ نَفَرُوا عَنْ الْهُدَى الَّذِي فِيهِ سَعَادَتُهُمْ وَحَيَاتُهُمْ كَنُفُورِ الْحُمُرِ عَنْ مَا يُهْلِكُهَا وَيَعْقِرُهَا، وَتَحْتَ الْمُسْتَنْفِرَةِ مَعْنًى أَبْلَغُ مِنْ النَّافِرَةِ؛ فَإِنَّهَا لِشِدَّةِ نُفُورِهَا قَدْ اسْتَنْفَرَ بَعْضُهَا بَعْضًا وَحَضَّهُ عَلَى النُّفُورِ، فَإِنَّ فِي الِاسْتِفْعَالِ مِنْ الطَّلَبِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ فَكَأَنَّهَا تَوَاصَتْ بِالنُّفُورِ، وَتَوَاطَأَتْ عَلَيْهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْفَاءِ فَالْمَعْنَى أَنَّ الْقَسْوَرَةَ اسْتَنْفَرَهَا وَحَمَلَهَا عَلَى النُّفُورِ بِبَأْسِهِ وَشِدَّتِهِ.
قال تعالى في سورة ص :{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}
قال القرطبي رحمه الله : وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى، وُجُوبِ مَعْرِفَةِ مَعَانِي الْقُرْآنِ، وَدَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيلَ أَفْضَلُ مِنَ الْهَذّ ، إِذْ لَا يَصِحُّ التَّدَبُّرُ مَعَ الْهَذّ . والهذ: سرعة القراءة.
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله :قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا تَدَبُّره بِحِفْظِ حُرُوفِهِ وَإِضَاعَةِ حُدُودِهِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَقُولُ: قَرَأْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مَا يُرَى لَهُ القرآنُ فِي خُلُقٍ وَلَا عَمَلٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قال في فتح القدير:
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، لَا لِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ.
قال شيخُ الإسلام في الفَتاوي :
قَوله تعالى : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}: لَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا مِنْهُ نَهَى عَنْ تَدَبُّرِهِ. وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ إنَّمَا ذَمَّ مَنْ اتَّبَعَ الْمُتَشَابِهَ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ فَأَمَّا مَنْ تَدَبَّرَ الْمُحْكَمَ وَالْمُتَشَابِهَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَطَلَبَ فَهْمَهُ وَمَعْرِفَةَ مَعْنَاهُ فَلَمْ يَذُمَّهُ اللَّهُ بَلْ أَمَرَ بِذَلِكَ وَمَدَحَ عَلَيْهِ.
جاء في تفسير المنار:
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يَتْلُو أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ هِدَايَتِهِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ فَهُوَ كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ.
سَأَلَ سَائِلٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ حَاضِرِي الدَّرْسِ بِأَنَّ الْعُلَمَاءَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ يُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: نَعَمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّهُ أُنْزِلَ لِذَلِكَ وَكَيْفَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَاللهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ يَقُولُ إِنَّهُ أَنْزَلَهُ: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ} ، فَالْقُرْآنُ وَكَذَلِكَ السُّنَّةُ يُصَرِّحَانِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ بِخِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ إِذَا أُخِذَ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَجُعِلَ مَعْنَاهُ - أَوْ مِنْ مَعْنَاهُ - أَنَّ اللهَ - تَعَالَى - يُطَالِبُ عِبَادَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بِدُونِ تَدَبُّرٍ وَلَا تَذَكُّرٍ. وَقَدْ جَاءَ مِنَ الْأَحَادِيثِ مَا يَصِفُ حَالَ قَوْمٍ يَأْتُونَ بَعْدُ { يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِرُ تَرَاقِيَهُمْ } وَقَدْ سَمَّاهُمْ شِرَارَ الْخَلْقِ، فَهَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ قَدِ اتَّخَذُوا الْقُرْآنَ مِنَ الْأَغَانِي وَالْمُطْرِبَاتِ، وَإِذَا طَالَبْتَ أَحَدَهُمْ بِالْفَهْمِ وَالتَّدَبُّرِ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ وَاحْتَجَّ عَلَيْكَ بِكَلِمَةٍ قَالَهَا فَلَانٌ أَوْ حُلْمٍ رَآهُ فُلَانٌ، وَهَكَذَا انْقَلَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَضْعُ الدِّينِ، ثُمَّ هُمْ يَتَعَجَّبُونَ مَعَ ذَلِكَ كَيْفَ حُرِمُوا مِنْ وَعْدِ اللهِ فِي قَوْلِهِ:{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَضَرَبَ الْأُسْتَاذُ مَثَلًا رَجُلًا يُرْسِلُ كِتَابًا إِلَى آخَرَ فَيَقْرَؤُهُ الْمُرْسَلُ إِلَيْهِ هَذْرَمَةً أَوْ يَتَرَنَّمُ بِهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى مَعْنَاهُ، وَلَا يُكَلِّفُ نَفْسَهُ إِجَابَةَ مَا طَلَبَ فِيهِ، ثُمَّ يَسْأَلُ الرَّسُولَ أَوْ غَيْرَهُ: مَاذَا قَالَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِيهِ، وَمَاذَا يُرِيدُ مِنْهُ؟ أَيَرْضَى الْمُرْسِلُ مِنَ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِهَذَا أَمْ يَرَاهُ اسْتِهْزَاءً بِهِ؟ فَالْمَثَلُ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ لَا يُقَاسُ عَلَى الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لَا يُرْسَلُ لِأَجْلِ وَرَقِهِ، وَلَا لِأَجْلِ نُقُوشِهِ،وَلَا لِأَجْلِ أَنْ تُكَيِّفَ الْأَصْوَاتُ حُرُوفَهُ وَكَلِمَهُ، وَلَكِنْ لِيَعْلَمَ مُرَادَ الْمُرْسَلِ مِنْهُ وَيَعْمَلَ بِهِ.
قال الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : إِنَّ الِاسْتِهْدَاءَ بِالْقُرْآنِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَعَلَى كُلِّ قَارِئٍ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ بِالتَّدَبُّرِ، وَأَنْ يُطَالِبَ نَفْسَهُ بِفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ - وَلَوْ قَلِيلَةً - بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنَّهُ يَفْهَمُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا يَهْتَدِي بِهِ، وَمَنْ كَانَ أُمِّيًّا أَوْ أَعْجَمِيًّا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْقَارِئِينَ أَنْ يَقْرَءُوا لَهُ الْقُرْآنَ وَيُفْهِمُوهُ مَعْنَاهُ،. بَلْ قَالَ الْأُسْتَاذُ فِي هَذَا الْمَقَامِ: إِنَّنِي أَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ أَوْ يَسْمَعَهُ كُلَّهُ، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي عُمُرِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِ ذَلِكَ أَنْ يَأْمَنَ مِنْ إِنْكَارِ شَيْءٍ مِنْهُ إِذَا عُرِضَ عَلَيْهِ أَوْ سَمِعَهُ مَعَ التَّشْكِيكِ فِيهِ.
قال تعالى في سورة النساء : {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}
قال القرطبي رحمه الله : وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها} عَلَى وُجُوبِ التَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ لِيُعْرَفَ مَعْنَاهُ. فَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ تَفْسِيرِهِ إِلَّا مَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنَعَ أَنْ يُتَأَوَّلَ عَلَى مَا يُسَوِّغُهُ لِسَانُ الْعَرَبِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَإِبْطَالِ التَّقْلِيدِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ.
وفي سورة محمد :{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)}
جاء في تفسير الطبري رحمه الله :حدثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] فَقَالَ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ: بَلْ عَلَيْهَا أَقْفَالُهَا، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَفْتَحُهَا أَوْ يَفْرُجُهَا، فَمَا زَالَ الشَّابُّ فِي نَفْسِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى وُلِّيَ فَاسْتَعَانَ بِهِ .
قال في فَتح القدير: وَإِضَافَةُ الْأَقْفَالِ إِلَى الْقُلُوبِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا مَا هُوَ لِلْقُلُوبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَقْفَالِ لِلْأَبْوَابِ .
وفي محاسن التأويل للقاسمي : و (الأقفال) مجاز عما يمنع الوصول. وإضافتها إلى القلوب لإفادة الاختصاص المميز لها عما عداها وللإشارة إلى أنها لا تشبه الأقفال المعروفة، إذ لا يمكن فتحها أبدا. وفى إضافة الأقفال إلى القلوب - أَقْفالُها - إشارة أخرى إلى أن لهذه القلوب أقفالا خاصة بها، مقدرة بقدرها.. فلكل قلب قفله الذي يلائمه..
قال في التحرير والتنوير: وَإِضَافَةُ (أَقْفَالٍ) إِلَى ضَمِيرِ قُلُوبٍ نَظْمٌ بَدِيعٌ أَشَارَ إِلَى اخْتِصَاصِ الْأَقْفَالِ بِتِلْكَ الْقُلُوبِ، أَيْ مُلَازَمَتِهَا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا قَاسية.
قوله تعالى :{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) }
جَاء فِي أضوَاءِ البَيانِ للشَّنقِيطي رَحِمهُ اللهُ :
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِتَدَبُّرِ آيَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ أَيْ تَصَفُّحِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَإِدْرَاكِ مَعَانِيهَا وَالْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْهَا، غَيْرُ مُتَدَبِّرٍ لَهَا فَيَسْتَحِقُّ الْإِنْكَارَ وَالتَّوْبِيخَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَاتِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَعْطَاهُ فَهْمًا يَقْدِرُ بِهِ عَلَى التَّدَبُّرِ، وَقَدْ شَكَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَبِّهِ مِنْ هَجْرِ قَوْمِهِ هَذَا الْقُرْآنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .
 
قال تعالى في سورة المؤمنون :{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) }
قال ابن كثير رحمه الله :
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَمِ تَفَهُّمِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَتَدَبُّرِهِمْ لَهُ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أَكْمَلَ مِنْهُ وَلَا أَشْرَفَ، لَا سِيَّمَا وَآبَاؤُهُمُ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ كِتَابٌ وَلَا أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أَنْ يُقَابِلُوا النِّعْمَةَ الَّتِي أَسْدَاهَا اللَّهُ إِلَيْهِمْ بِقَبُولِهَا، وَالْقِيَامِ بِشُكْرِهَا وَتَفَهُّمِهَا، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، كَمَا فَعَلَهُ النُّجَبَاءُ مِنْهُمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَاتَّبَعَ الرَّسُولَ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ عَنْهُمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} إذًا وَاللَّهِ يَجِدُونَ فِي الْقُرْآنِ زَاجِرًا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ لَوْ تَدَبَّرَهُ الْقَوْمُ وَعَقَلُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ أَخَذُوا بِمَا تَشَابَهَ، فَهَلَكُوا عند ذلك.
ثُمَّ قَالَ مُنْكِرًا عَلَى الْكَافِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} أَيْ: أَفَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ مُحَمَّدًا وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَصِيَانَتَهُ الَّتِي نَشَأَ بِهَا فِيهِمْ، أَفَيَقْدِرُونَ عَلَى إِنْكَارِ ذَلِكَ وَالْمُبَاهَتَةِ فِيهِ؟
قال تعالى في سورة الفرقان :{ وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)}
قال في فتح القدير:
وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أَيْ: بِالْقُرْآنِ، أَوْ بِمَا فِيهِ مَوْعِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً أَيْ: لَمْ يَقَعُوا عَلَيْهَا حَالَ كَوْنِهِمْ صُمًّا وَعُمْيَانًا، وَلَكِنَّهُمْ أَكَبُّوا عَلَيْهَا سَامِعِينَ مُبْصِرِينَ، وَانْتَفَعُوا بِهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الْمَعْنَى لَمْ يَتَغَافَلُوا عَنْهَا، كَأَنَّهُمْ صُمٌّ لَمْ يَسْمَعُوهَا، وَعُمْيٌ لَمْ يُبْصِرُوهَا. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:لَيْسَ ثَمَّ خُرُورٌ، بَلْ كَمَا يُقَالُ قَعَدَ يَبْكِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ قَاعِدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَأَنَّ الْمُسْتَمِعَ لِلذِّكْرِ قَائِمٌ، فَإِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ كَانَ ذَلِكَ خُرُورًا، وَهُوَ السُّقُوطُ عَلَى غَيْرِ نِظَامٍ. قِيلَ الْمَعْنَى: إِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُ اللَّهِ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ، فَخَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا، وَلَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ لَمْ يَقْعُدُوا عَلَى حَالِهِمُ الْأَوَّلِ، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعُوا. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: لَيْسَ بِنَفْيٍ لِلْخُرُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتٌ لَهُ، وَنَفْيٌ لِلصَّمَمِ وَالْعَمَى، وَأَرَادَ أَنَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْقَيْدِ لَا إِلَى الْمُقَيَّدِ .
قوله تعالى :{ يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)}
وداعي اللهِ – يَقصدونَ مُحمدا صلّى الله عليه وَسَلَّمَ أَوِ الْقُرْآنَ – كما قال المُفسرون .
وكما جاء في آل عمران عن المُنادي للإيمان – قال تعالى في سورة آل عمران:
{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ .}
قال ابن كثير رحمه الله : قوله تعالى :{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ}
أَيْ: دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ، وَهُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ }.
جاء في تَفسيرِ الْمُحَرَّرِ الْوَجِيزِ:
قال مُحَمَّدُ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ: هُوَ القُرآنُ، لَيسَ كلُّهم رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشَّوْكَانِيُّ في فَتْحِ الْقَدِيرِ: قَوْلُهُ تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ الْمُنَادِي عِنْدَ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَأَوْقَعَ السَّمَاعَ عَلَى الْمُنَادِي مَعَ كَوْنِ الْمَسْمُوعِ هُوَ النِّدَاءُ:لِأَنَّهُ قَدْ وَصَفَ الْمُنَادِيَ بِمَا يُسْمَعُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا.
فالرسولُ والقرآنُ يدعوانِ إلى الله ويُناديانِ على الخلق طالبينَ منهم الإيمانَ – بلسان المقال وبلسان الحال .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ – في مَجموع الفتاوى:
لَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِهِ الَّذِي هُوَ الْهُدَى وَالشِّفَاءُ وَالنُّورُ وَجَعَلَهُ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ وَأَحْسَنُ الْقَصَصِ وَجَعَلَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ لِأَهْلِ الْعَقْلِ وَالتَّدَبُّرِ وَلِأَهْلِ التِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ وَلِأَهْلِ الِاسْتِمَاعِ وَالْحَالِ : فَالْمُعْتَصِمُونَ بِهِ عِلْمًا وَحَالًا وَتِلَاوَةً وَسَمْعًا بَاطِنًا وَظَاهِرًا هُمْ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا خَاصَّةً أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جاء في كتاب البُرهان في علوم القرآن للزركشي (المتوفى: 794هـ):
كَانَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: لَوْ أُعْطِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْفَ فَهْمٍ لَمْ يَبْلُغْ نِهَايَةَ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ نِهَايَةٌ فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِفَهْمِ كَلَامِهِ وإنَّما يفهمُ كُلٌ بِمقدارِ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَا تَبْلُغُ إِلَى نِهَايَةِ فَهْمِهِ فُهُومٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ.
وفي كِتَابِ الفَوائدِ – قالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: اذا أردتَ الانتِفَاعَ بالقُرآنِ فاجمَع قلبَكَ عند تِلَاوَتِهِ وسَماعِه وألقْ سمعَك واحضُر حُضورَ مَن يُخاطبه به مَن تَكلمَ به سُبْحَانَهُ مِنه إليه - فإنَّه خطابٌ مِنه لكَ عَلِى لِسانِ رَسُولِه.
قال في التَّحْرِيرِ وَالتَّنْوِيرِ: قَالَ فَخْرُ الدِّينِ : قَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّ الْبَاحِثَ عَنْهُ (أَيْ عَنْ هَذَا الْكِتَابِ) الْمُتَمَسِّكَ بِهِ يَحْصُلُ لَهُ عِزُّ الدُّنْيَا وَسَعَادَةُ الْآخِرَةِ. وَأَنَا قَدْ نَقَلْتُ أَنْوَاعًا مِنَ الْعُلُومِ النَّقْلِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِي بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنَ الْعُلُومِ مِنْ أَنْوَاعِ السِّعَادَاتِ فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مَا حَصَلَ لِي بِسَبَبِ خِدْمَةِ هَذَا الْعِلْمِ (يَعْنِي التَّفْسِيرَ) .
قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ طه :{ طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}
قال في الْمُحَرَّرِ الْوَجِيزِ: أيْ: إنَّ اللهَ لم يُنزل القُرآنَ لِيَجعَلَ مُحَمَّدا شَقِيَّا بَل لِيجعَلَه أسعَدَ بَني آدَمَ بَالنَّعيمِ المُقيمِ في أَعلَى المرَاتِبِ، فَالشَقَاءُ الَّذي رَأيتُم هُوَ نَعيمُ النَّفسِ وَلَا شَقاءَ مَعَ ذَلِكَ .
قال الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلَّا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، وتلا الآية. وعنه: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، ثُمَّ تَلَا الْآيَةَ. (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أَيْ دِينِي، وَتِلَاوَةِ كِتَابِي، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ. وَقِيلَ: عَمَّا أَنْزَلْتُ مِنَ الدَّلَائِلِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُحْمَلَ الذِّكْرُ عَلَى الرَّسُولِ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْهُ الذِّكْرُ.
قال ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ: قَولُهُ تَعَالَى:{فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي أَيْ خَالَفَ أَمْرِي وَمَا أَنْزَلْتُهُ عَلَى رَسُولِي أَعْرَضَ عَنْهُ وَتَنَاسَاهُ وَأَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ هُدَاهُ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ضنكا فِي الدُّنْيَا، فَلَا طُمَأْنِينَةَ لَهُ وَلَا انْشِرَاحَ لِصَدْرِهِ، بَلْ صَدْرُهُ ضَيِّقٌ حَرَجٌ لِضَلَالِهِ، وَإِنْ تَنَعَّمَ ظَاهِرُهُ وَلَبِسَ مَا شَاءَ وَأَكَلَ مَا شَاءَ وَسَكَنَ حَيْثُ شَاءَ، فَإِنَّ قَلْبَهُ مَا لَمْ يَخْلُصْ إِلَى الْيَقِينِ وَالْهُدَى فَهُوَ فِي قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ وَشَكٍّ، فَلَا يَزَالُ فِي رِيبَةٍ يَتَرَدَّدُ فَهَذَا مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ.
 
عودة
أعلى