محمد محمود إبراهيم عطية
Member
تنبيه المريد بفوائد حديث أَبِى سَعِيدٍ
التخريج
هذا الحديث قاعدة في صفة تغيير المنكر ؛ وله قصة ، فعَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ : أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ مَرْوَانُ ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ ؛ فَقَالَ : قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ ؛ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ قَضَى مَا عَلَيْهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : فذكر الحديث .
وقوله e : " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا " رؤية المنكر يحتمل أن يكون المراد منها الرؤية البصرية ، أو ما يشملها ويشمل الرؤية العلمية ؛ لأن المراد هو تحقق وقوع المنكر ، فمن تحقق كمن رأى ، والمنكر اسم لما عرف في الشريعة قبحه والنهي عنه ، فلا يكون منكرًا حتى يكون محرمًا في الشريعة ؛ " فَلْيُغَيِّرْهُ " قال النووي - رحمه الله : هُوَ أَمْر إِيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة ؛ وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة ، وَهُوَ - أَيْضًا - مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين ؛ وَأَمَّا قَوْل اللَّه U : ] عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ [ ، فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، لِأَنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقِينَ فِي مَعْنَى الْآيَة أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَلَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِير غَيْرِكُمْ ، مِثْل قَوْله تَعَالَى : ] وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِمَّا كُلِّفَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَر ، فَإِذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَمْتَثِل الْمُخَاطَب ، فَلَا عَتْبَ بَعْد ذَلِكَ عَلَى الْفَاعِل لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَمْر وَالنَّهْي لَا الْقَبُول ؛ وَاَللَّه أَعْلَم .
ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض كِفَايَة ، إِذَا قَامَ بِهِ بَعْض النَّاس سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ ؛ وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيع أَثِمَ كُلّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا خَوْف ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدْ يَتَعَيَّن كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَم بِهِ إِلَّا هُوَ ، أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَته إِلَّا هُوَ ، وَكَمَنْ يَرَى زَوْجَته أَوْ وَلَده أَوْ غُلَامه عَلَى مُنْكَر أَوْ تَقْصِير فِي الْمَعْرُوف .
قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يَسْقُط عَنْ الْمُكَلَّف الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر لِكَوْنِهِ لَا يُفِيد فِي ظَنِّهِ ، بَلْ يَجِب عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَع الْمُؤْمِنِينَ .ا.هـ ( [1] ) .
واشتملٌ الحديث على كيفية تغيير المنكر ودرجاته ؛ وبيَّن أنَّ مَن قدر على التغيير باليد تعيَّن عليه ذلك ، وهذا إنما يكون من السلطان ونوابه في الولايات العامة ، ويكون - أيضًا - من صاحب البيت في أهل بيته في الولايات الخاصة ، ويشترط للتغيير باليد أن يكون مستطيعًا ، فإذا لم يكن من أهل التغيير باليد ، انتقل إلى التغيير باللسان ، حيث يكون قادرًا عليه .
فإن خاف أن يترتب على الإنكار منكرًا أعظم أو مفسدة كبرى ؛ بقي عليه التغيير بالقلب ، وهو أضعفُ الإيمان ، وتغيير المنكر بالقلب يكون بكراهة المنكر وحصول الأثر على القلب بسبب ذلك ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِإِزَالَةٍ وَتَغْيِيرٍ مِنْهُ لِلْمُنْكَرِ وَلَكِنَّهُ هُوَ الَّذِي فِي وُسْعِهِ ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله : فَأَمَّا الْقَلْبُ فَيَجِبُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ إذْ لَا ضَرَرَ فِي فِعْلِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِنِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ e : " وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ " ، وقال : " وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ " ( [2] ) .
وقيل لحذيفة t : ما ميت الأحياء ؟ قال : من لم يعرف المعروف بقلبه ، وينكر المنكر بقلبه ( [3] ) ؛ وقال رجل لابن مسعود : هَلَكَ مَنْ لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر ! فقال ابنُ مسعود : بل هلك من لم يعرف المعروف بقلبه ، وينكر المنكر بقلبه ( [4] ) ، يشير إلى أنَّ معرفة المعروفِ والمنكرِ بالقلب فرضٌ لا يسقط عن أحد ، فمن لم يعرفه هَلَكَ .
ما يستفاد من الحديث
2 - وجوب تغيير المنكر بكل ما أمكنه مما ذكر ، فلا يكفي الوعظ لمن تمكن إزالته بيده ، ولا القلب لمن تمكن إزالته باللسان .
3 - أن من شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستطاعة ، لقوله : " فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ " .
4 - أن درجات تغيير المنكر دليل على أن الله لا يكلف العباد إلا ما في وسعهم ، أما ما كان خارجًا عن قدرتهم فلا يطالبون به شرعًا ؛ وفي ذلك بيان يسر الشريعة وسهولتها حيث قيد هذه الواجبات بالاستطاعة .
5 - أن من لم ينكر المنكر بقلبه دليل على ذهاب الإيمان منه ، إذ الإنكار بالقلب أضعف الإيمان ؛ وفي صحيح مسلم عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ ؛ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ " ( [5] ) .
6 - يربي الرسول e المسلمين على تحمل المسؤولية ومعالجة الأخطاء التي يرونها ، وأن كل شخص منهم يَعْنِيه أمر غيره ومجتمعه ، ولذلك قال " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ " .
7 - يدل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص ، وأنه يتفاوت ، فبعضه ضعيف وبعضه قوي ، فمن أنكر بقلبه ليس كمن قدر على تغييره بيده أو بلسانه .
8 - خطر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
9 - أن من قدر على خصلة من خصال الإيمان وفعلها أفضل ممن تركها عجزًا ؛ ويدل عليه أيضا قوله e في النساء : " أما نقصان دينها فإنها تمكث الأيام والليالي لا تصلي " فدل على أن من قدر على الواجب وفعله أولى ، وأفضل ممن تركه عجزًا ، أو معذورًا .
هذا ؛ والعلم عند اَللَّه تعالى .
[1] - انظر شرح مسلم : 2 / 22 ، 23 .
[2] - انظر مجموع الفتاوى : 28 / 127 .
[3] - رواه ابن أبي شيبة ( 37577 ) ، والبيهقي في الشعب ( 10670 ) .
[4] - رواه ابن أبي شيبة ( 37581 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 7588 ) .
[5] - مسلم ( 50 ) .