بسم الله والحمد لله
والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المكان : أرض الحرمين الشريفين مهبط الوحي.
الزمان : السنة الثالثة من الهجرة .
الحدث : عمليةاغتيال كماسمّاها من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
الغيلة : فعلة من الاغتيال .
والغيلة في كلام العرب : ايصال الشر والقتل اليه من حيث لايعلم ولا يشعر.
وقُتل غيلة: أي في خُفية واغتيال.
الآمربالعملية : نبي الحق.. بعد أن أصدر حكما بالحق , بإقامة حد من حدود الله , وهو حد من سب الله ورسوله
الجاني : كعب ابن الأشرف .. طاغوت يهودي كما سمّاه ابن عباس رضي الله عنه
وكعبٌ هذا من بني النضير .. ادرك الإسلام ولم يسلم ..اختار العمى على الهدى ..وهو عربي من أم يهودية.
التهمة : آذى الله ورسوله .
مُنفذ عميلة الاغتيال : محمد بن مسلمة على راس خلية من خمسة ..أرهبت بني النضير ودانت بعدها يهود.
محمد بن مسلمة : رضي الله عنه أنصاري بدري شهد المشاهد كلها , وفاتته تبوك .
التقييم الاجمالي : عملية اغتيال ناجحة نوعية وعينية .
ووصفها " بعينية " لأن رسول الله أمر باغتيال كعب بن الأشرف بعينه ..وبه قال شيخ الاسلام كما سيأتي عند نقل كلامه وسرده.
وفيه أيضا توضيحا لما هوالمقصود بأذى النبي والله تعالى ذكره.
فإن كنت أخي للعلم طالبا .. وللحق عاشقا متّشوقا له ..فابقى معي نتدارسه .. و بالدليل من شرعنا نستلهمه..واصبر ان وجدت في المقال طولا .. فلا تملّ منه ولا تسكثره ..
الأمر هام في فهم المسألة وقد تُفيد أو تستتفيد بعلم قد يكون أحدنا يجهله.
وبعد ،
فإن حادثة اغتيال كعب بن الأشرف اثارت جدلا فقهيا منذ القرن الأول للإسلام , تنوع الفقهاء في تبويبها بكتبهم كما اختلفوا في أوجه الاستدلال بها , فمنهم من ادرجها تحت باب " الحرب خدعة " ومنهم من أدرجها تحت باب " الكذب في الحرب " ومنهم من أدرجها في أبواب " العهود"، وآخرون في أبواب متفرقة من أبواب الفقه.
وكذلك اختلفوا في الاستدلال بها , فذهب بعضهم الى جواز الخديعة بعد إعطاء العهد , بينما ذهب آخرون الى جواز التلفظ بالكفرـ دون إكراه ـ من أجل الخديعة , مستدلين في ذلك بما قاله محمد بن مسلمة رضي الله عنه لكعب بن الأشرف قبل اغتياله.
وظروف الحادثة هي الأخرى ما خلت من الخلاف , فكانت مثارا للجدل من عدة أوجه منها:
الكلام الذي كلموه به هل كان فيه شيئا من الكفر ؟
هل كان ابن الأشرف معاهدا ساعة اغتياله أم لا ؟
الكلام الذي أوهموه به, هل كان فيه عقدا جديدا للأمان أمنّوه به ؟
الأمر باغتياله هل كان خاصٌا بكعب ومن فعل فعله أم أنه شمل قومه ؟
ما هي العلة التي استوجبت اغتياله؟ أهي كونه كافرا حربيا ؟ أم ناقضا للعهد ؟
أم أن هناك علة أخرى فوق هذه وتلك ؟
حيي بن الأخطب هو أيضا طاغوت يهودي اشترك مع كعب ابن الأشرف في نقض العهد مع رسول الله وفي تحريض القبائل على قتاله , [mark=FFFF33]وفيهما معا نزلت آية الجبت والطاغوت[/mark] , لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتيال حُيي بن الأخطب كما أمر باغتيال كعب ابن الأشرف ؟
العلة في اغتياله : آذاه لله ورسوله , ما المقصود بأذى الله ورسوله ؟
أوليس كل من قال ان الله ثالث ثلاثة وقال عزير بن الله وقال يد الله مغلولة ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ يكون قد آذى الله ورسوله فلماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتيالهم جميعا ؟
ما علاقة قصة اغتيال ابن الأشرف بموضوع كتاب الصارم المسلول لابن تيمية ؟
على أي وجه استدل شيخ الاسلام بها ؟
ما هي الشُبه التي أُثيرت حول الحادثة وما الرد عليها ؟
كل هذه الاسئلة وغيرها ما سنحاول بإذن الله أن نجيب عليه من أقوال أهل العلم.
فأقوالهم و تعليقاتهم مهمة كي نعرف ماينبني على تلك الحادثة من أحكام في واقعنا المعاصر . خاصة إذا علمنا أن حادثة اغتيال كعب ابن الأشرف استدل بها المعاصرون أيضا في مسائل العهود والأمان , وهم أيضا اختلفوا عند انزالها على مناطها .
وقد غلط بعضهم فظن أن ابن تيميه رحمه الله أجاز الخدعة بعد اعطاء العهد أو أجاز الفتك بعد عقد الأمان , مستدلا بحادثة كعب ابن الأشرف , فنسبوا لابن تيمية رحمه الله ما لايليق بطويلب علم مبتدئ فضلا عن أن يليق بإمام مجدد ومحقق مجتهد كشيخ الاسلام.
وقديما غلط أيما غلط من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الخدعة بعد اعطاء العهد , أو أجاز الفتك بعد عقد الأمان ,
وفي مثل أولئك قال الإمام البغوي رحمه الله :
[mark=FFFF33]"قد ذهب من ضل في رأيه, وزل عن الحق , الى أن قتل كعب ابن الأشرف كان غدرا وفتكا , فأبعد الله هذا القائل , وقبح رأيه , ذهب عليه معنى الحديث , والتبس عليه طريق الصواب , بل قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الإيمان قيد الفتك لايفتك مؤمن ). والفتك أن يُقتل من له أمان فجأة . وكان كعب ابن الأشرف ممن عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه أحدا , ولا يقاتله ثم خلع الأمان , ونقض العهد , ولحق بمكة , وجاء معلنا معاداة النبي صلى الله عليه وسلم يهجوه في أشعاره , ويسبه فاستحق القتل لذلك , وفي الحديث أن كعب ابن الأشرف عاهده , فخزع منه هجاءه للنبي صلى الله عليه وسلم أي قطع منه ذمته وعهده " [/mark]شرح السنة 11/ 45,46
وما جرى في مجلس معاوية رضي الله عنه ـ وفي رواية في مجلس مروا ن ـ لما حلف محمد بن مسلمة رضي الله عنه ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا , وطلبه ليقتله بعد ذلك بمدة طويلة , ولم ينكر المسلمون ذلك عليه.
فقد جاء في حاشية الصارم ص 799 م 3 طبعة ابن حزم :
[mark=FFFF66]" كان حديث محمد بن مسلمة مع ابن يامين عند مروان بن الحكم لما كان أميرا على المدينة فقال مروان ـ وعنده ابن يامين النضري ـ " كيف كان قتل ابن الأشرف" ؟ قال ابن يامين : كان غدرا. ومحمد ابن مسلمة جالس شيخ كبير ، فقال: " يا مروان أيغدر رسول الله عندك ؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد". وحلف أن يقتل ابن يامين إذا ظفر به، فوجده بالبقيع وجعل يضربه بالجرائد، والله لو قدرت على السيف لقتلتك" ( انظر "مغازي " الواقدي (1/192،193) [/mark]
ابن يامين بن عميرالنضري جهّز اثنين من " البكائين" في جيش العسرة في غزوة تبوك ممن أنزل الله تعالى فيهم
((وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون))َ
وبهذا يتبين للقارئ والباحث مدى حساسية طرح هذه الحادثة ومدى ضرورة فهم كل ملابساتها قبل الاستدلال بها وضرورة قراءة كل ما كتبه عالم ما في هذه المسألة وعدم الاكتفاء بفقرة نُقلت هنا أو هناك لا تُظهر مُراد ذلك العالم بتلك الفقرة ولا وجه استدلاله بها.
ولقد قام شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيق أقوال من سبقه من أهل العلم في هذه الحادثة , وقد أسهب في كتابه " الصارم المسلول " ببحثها في أكثر من أربعين صفحة متتابعة ليرد على أهم الشبه فيها , عدا عن تعليقاته المتفرقة في الصارم والفتاوى وغيرها. وقد نقلها ابن القيم رحمه الله مستدلا بكثير منها في كتابه: " أحكام أهل الذمة " . ولمن فاته قراءة الصارم المسلول كاملا فلم يفهم مراد شيخ الاسلام ووجه استدلاله بحادثة اغتيال كعب , فليقرأ ـ على أقل تقديرـ ما كتب مابين ص 145 ـ 188 في المجلد الثاني ( طبعة دار ابن حزم ). ومن تلك الصفحات سيكون أغلب نقلي , وان نقلت عن خارجها فسأذكر المصدر.
ونبدأ أولا بسرد رواية قصة اغتيال كعب ثم نُتبعها بتعليقات أهل العلم ومنهم شيخ الاسلام رحمه الله .
[mark=FFFF66]وقد رواها عمرو بن دِينَارٍ عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "مَنْ لِكَعْبِ بِنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله َوَرَسُولُهُ؟" فقام محمد بن مَسْلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحبُ أنَّ أقتله؟
قال: "نعم"، قال: ائْذَن لِي أن
أقول شيئاً
قال: "قل"، قال: فأتاه وذكَر ما بينهم،
قال: إن هذا الرجل قد أراد الصَّدَقة وعنَّانا، فلما سَمِعه، قال: وأيضاً والله لَتَمَلُنَّهُ،
قال: إنا قد اتبعْنَاهُ الآن، ونكره أن نَدَعَه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تُسْلِفَنِي سَلفاً، قال: فما ترهنني؟ نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟! قال: ترْهَنُوني أولادَكم، قال: يُسَبّ ابن/ أحدنا فيقال: رُهِنت في وِسْقَيْن من تمَرٍ، ولكن نرهنك اللأْمَةَ ـ يعني السلاح ـ قال: نعم، و وَاعَدَه أن يأتَيهُ بالحارث، وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، فجاؤوا فَدَعَوْهُ ليلاً، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صَوْتاً كأنَّه صوت دَمٍ، قال: إنما هذا محمد و رضيعُه أبو نائلة، إن الكريم لو دُعِيَ إلى طَعْنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمُدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فَدُونكم، [قال]: فلما نزل نزلَ وهو مُتَوَشِحْ، قالوا: نجد منك رِيحَ الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعْطَرُ نساء العرب، قال: أفتأذن لي أن أشمَّ منه؟ قال: نعم، فشمَّ، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه، ثم قال: دونكم فقتلوه، متفق عليه.[/mark]
وقد ذكرها البخاري رحمه الله بالنص التالي تحت باب " الكذب في الحرب " فتح الباري م/6 ص/184
(حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ـصلى الله عليه وسلم ـ قال :من لكعب بن الأشرف , فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ قال محمد بن مسلمة :أتُحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال فاتاه فقال إن هذا ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ قد عنّانا وسألنا الصدقة . قال : والله لتمُلُنّه. قال : فإنا اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر الى ما يصير أمره . قال فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله ) انتهى
المسألة الأولى :
ما حكم ما تلفظ به محمد بن مسلمة رضي الله عنه ؟
قال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على الحديث :
" قال ابن المنير : الترجمة غير مطابقة , لأن الذي وقع منهم في قتل كعب بن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا ,
لأن قولهم " عنّانا " أي كلفنا بالأوامر والنهي ,
وقولهم " سألنا الصدقة " أي طلبها منا ليضعها مواضعها ,
وقولهم " فنكره أن ندعه الخ " معناه نكره فراقه ,
ولا شك أنهم كانوا يُحبون الكون معه أبدا "
انتهى
ثم نقل كلاما عن ابن بطال عن المهلب قال فيه :
"وليس فيه شئ من الكذب الحقيقي الذي هو الإخبار عن الشئ بخلاف ماهو عليه "
انتهى
وهنا يُلاحظ كيف كره بعض أهل العلم تسمية ما قاله محمد بن مسلمة كذبا , وتقدم كراهة تسميته غدرا , فكيف بمن سمّاه كفرا ؟ وعليه أجاز التلفظ بالكفر دون إكراه ؟
المسألة الثانية :
ظروف ما قبل اغتيال كعب وتسلسل الأحداث .
أُنوه الى أن ما أنقله من فقرات مختصرة من كلام شيخ الاسلام لا تُغني القارئ عن قراءة ـ الصفحات التي ذكرتها أعلاه ـ كاملة من كتاب الصارم .
وحاولت الاختصار قدر الامكان , لكني وجدت أحيانا ضرورة لتعضيد كلام شيخ الاسلام بكلامه هو لكي يتضح المُراد ويتأكد المعنى .
وقمت بتقسيمه الى نقاط بعنواين ـ اخترتها من عندي ـ وجدتها مناسبه لها.
(1)كعب وقومه كانوا معاهدين ابتداء . نوع العهد : "عهدهدنة/ صلح "
قال شيخ الاسلام في الصارم :
" وذكر أهل المغازي والتفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان مُوادِعاً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جملة من واَدعَه من يهود / المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت أُمُّه من بني النضِير "
وقال أيضا :
" أنه كان مُعَاهداً مُهادَناً, وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير, وهو عندهم من العلم العام الذي يُستغنى فيه عن نقل الخاصة.
ومما لا رَيْبَ فيه عند أهل العلم ما قَدَّمناه من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاهَد لما قدم المدينة جميعَ أصناف اليهود: بني قَيْنُقاع والنضير وقرَيظَة, ثم نقَضَتْ بنو قَيْنُقاع عَهْدَه, فحاربهم؛ ثم نقضَ عهده كعبُ بن الأشرف, ثم نقض عهده بنو النَّضير, ثم بنو قُرَيْظَة. وكان ابن الأشرف من بني النَّضير, وأمْرُهم ظاهرٌ في أنهم كانوا مصالحين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(2) كعب يترك المدينة و يذهب الى مكة ويُفضّل دين الجاهلية.
قال شيخ الاسلام :
" وذهب إلى مكة ورَثَاهم لقريش, وفضّل دين الجاهلية على دين الإسلام, حتى أنزل الله فيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)
وقال أيضا :
"اعتزل كعب بن الاشرف ولحق بمكة , وكان فيها , وقال : لا أعين عليه و لا أقاتله , فقيل له بمكة : أديننا خير أم دين محمد وأصحابه ؟ قال: دينكم خير و اقدم , دين محمد حديث .فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربة "
وذكر رواية خروج كعب الى مكة :
" وقال ثنا عبد الرازق قال قال معمر اخبرني ايوب عن عكرمة ان كعب بن الاشرف انطلق الى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي وامرهم ان يغزوه وقال لهم انا معكم فقالوا انكم اهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نامن ان يكون مكرا منكم فان اردت ان نخرج معك فاسجد للهذين الصنمين وامن بهما ففعل ثم قالوا له انحن اهدى ام محمد نحن نصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بالبيت وننحر الكوم ونسقي اللبن على الماء ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده قال بل انتم خير واهدى قال فنزلت فيه (( الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين امنوا سبيلا))
(3)حيي بن الأخطب يصحب كعبا الى مكة , وفيهما معا نزلت الآية السابقة : آية ( الجبت والطاغوت )
ذكر شيخ الاسلام روايتين عن سفيان ابن عيينة وقتادة أن الاية نزلت في كعب بن الأشرف وحُيي بن الأخطب ثم عّلق على ذلك قائلا :
" وهذان مرسلان من وجهين مختلفين , فيهما أن كلا الرجلين ذهبا الى مكة وقالا ما قالا "
(4)النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب لقتل كعب كونه ذهب الى مكة .
قال شيخ الاسلام :
" وأيضاً, فإنه لما ذهَبَ إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يَنْدُبِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين إلى قتله "
(5) كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب يعودان الى المدينة.
قال شيخ الاسلام :
" ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه وسلم الى قتل ابن الاشرف وامسك عن ابن الأخطب "
(6)لماذا كعب ابن الأشرف والامساك عن حيي بن الأخطب ؟
قال شيخ الاسلام :
" ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ أحدا من المسلمين والمعاهدين إلا بذنب ظاهر , فلما رجع الى المدينة وأعلن الهجاء والعداوة استحق أن يقتل , لظهور اذاه وثبوته عند الناس "
ما الذي ظهر من كعب ابن الأشرف ؟
قال شيخ الاسلام :
"ثم لما رجع إلى المدينة أخذ يُنْشِد الأشعار يهجو بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشَبَّب بنساء المسلمين, حتى آذاهم, حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (مَنْ لِكَعْب ابْنِ الأَشْرَفِ فَإنَّهُ <قَدْ> آذَى اللهَ وَرسُولَه ؟) وذكروا قصة قتله مبسوطة."
(7) ما المقصود بالأذى والهجاء ؟
قال شيخ الاسلام :
" أن جميع ما أتاه ابن الأشرف انما هو أذى باللسان , فإن مرثيته لقتلى المشركين وتحضيضه وسبّه وهجاءه وطعنه في الاسلام وتفضيل دين الكفار عليه , كله قول باللسان , ولم يعمل عملا فيه محاربة "
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله )
قال شيخ الاسلام :
" فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله مُوجِباً لقتل رجل معاهد, ومعلوم أن سَبَّ الله وسب رسوله أذَى لله ولرسوله, وإذا رُتِّب الوَصْفُ على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف عله لذلك الحكم, لا سيما إذا كان مُنَاسباً, وذلك يدل على أن أذَى الله ورسوله عِلة لنَدْب المسلمين إلى قتل مَنْ يفعل ذلك من المعاهَدِين, وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله, والسبُّ من أذى الله ورسوله باتفاق المسلمين, بل هو أخص أنواع الأذى."
وقال :
وأيضاً, فإنه لما ذهَبَ إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يَنْدُبِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين إلى قتله, فلما بلغه عنه الهجاء نَدَبهم إلى قتله, والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث, فعُلم أن ذلك الهجاء والأذى الذي كان بعد قُفُوله من مكة موجِبٌ لنقض عهده ولقتاله "
(8) شيخ الاسلام يؤكد انتقاض " عهد الهدنة " لكعب بن الأشرف بهجاءه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال رحمه الله :
"فقد قدَّّمنا في حديث جابر أن أوَّل ما نَقَضَ به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما هجاه بهذه القصيدة ـ نَدَبَ إلى قتله, وهذا وحدُه دليلٌ على أنه إنما نقض العهدَ بالهجاء لا بذهابه إلى مكة."
(9) العلة في الندب لقتل كعب ابن الآشرف هي: سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس كونه كافرا حربيا .
قال شيخ الاسلام في م3/769
" يوضّح ذلك أن أذى الله ورسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم , فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان التخصيص عديم التأثير , فلما علل قتله بالوصف الأخص عُلم أنه مؤثر في الأمر بقتله , لاسيما من أُوتي جوامع الكلم , وإذا كان المؤثر في قتله أذى الله ورسوله وجب قتله وإن تاب , كما ذكرناه فيمن سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسلمين فإن كلاهما أوجب قتله أنه آذى الله ورسوله "
... الى أن قال رحمه الله :
" وإنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء والصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها , وتغلظ عقوبته ابتداءً لا يوجب تخفيفها انتهاءً , بل يوجب تغلظها مطلقا اذا كان الجرم عظيما , وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداءً , ولا انتهاءاً مثل هذا , فإنه يجوز اقرارهم بجزية واسترقاقهم في الجملة , ويجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب , وهذا بخلاف ذلك." ص772
(10) السب : فيه جناية زائدة على الكفر الأصلي .
قال شيخ الاسلام :
": أنَّ قتل ساب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان قتل كافر فهو حد من الحدود، ليس قتلاً على مجرد الكفر والحراب، لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة"
(11) انتقاض عهد كعب كان خاصا .
قال شيخ الاسلام :
" وقد ذكرنا الروايَةَ الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهداً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعله ناقضاً للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة. "
وقال أيضا:
" فإن مجرد نقض العهد يجعله ككافر لا عهد له، وقد ثبت بهذه السنن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافراً غير معاهد، وإنما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزماً للكفر و العداوة والمحاربة، وهذا القدر موجب للقتل حيث كان، وسيأتي الكلام إن شاء الله على تعين قتله.
)12) قتل كعب ابن الأشرف كان على التعيين .
قال شيخ الاسلام :
" أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا "
وقد ذكر أدلة كثيرة وسأكتفي ببعض منها فقال رحمه الله :
الدليل السادس: أقاويل الصحابة، فإنها نصوص في تعيين قتله، مثل قول عمر رضي الله عنه: "من سب الله أو أحداً من الأنبياء فاقتلوه" فأمر بقتله عيناً، ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحداً من الأنبياء عليهم السلام أو جهر به فقد نقض العهد، فاقتلوه"
فأمر بقتل المعاهد إذا سب عيناً، ومثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبّت النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر" فبين أن الواجب كان قتلها عيناً لولا فوات ذلك، ولم يجعل فيه خِيرَة إلى الإمام، لا سيما والسابة امرأة، وذلك وحده دليل كما تقدم، ومثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته"، ولو كان كالأسير/ الذي يخير فيه الإمام لم يَجُزْ لابن عمر اختيار قتله، وهذا الدليل واضح "
وقال أيضا :
" فإذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وغير ذلك أن الساب للرسول يتعين قتله، فنقول: إما أن يكون/ تعين قتله لكونه كافراً حربياً أو للسبب المضموم إلى ذلك، والأول باطل؛ لأن الأحاديث نص في أنه لم يقتل لمجرد كونه كافراً حربياً، بل عامتها قد نص فيه على أن موجب قتله إنما هو السب؛
فنقول: إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك المسلم والذمي أولى؛ لأن الموجب للقتل هو السب، لا مجرد الكفر والمحاربة، كما تبين، فحيثما وُجِدَ هذا الموجب وجب القتل"
(13) الرواية الخاصة التي أشار إليها شيخ الاسلام في البند رقم 11 أعلاه , وهي أحد أدلته .
قال رحمه الله :
" وقد قال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رُومان ومَعْمَر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وإبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر ... وذكر القصة إلى قتله,
قال: ففزِعَتْ يهود ومَنْ معها من المشركين, فجاؤوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أصْبَحُوا فقالوا: قد طُرِقَ صاحبُنَا الليلة وهو سيد من ساداتنا, قُتِلَ غِيلةً بلا جُرْم ولا حَدَثٍ علمناه, فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم:
(إنه لَوْ قَرَّ كما قَرَّ غَيْرُهُ ممَّن هُوَ على مِثل رأيهِ مَا اغْتِيلَ وَلكنهُ نَالَ مِنَّا الأذى, وَهَجَانَا بالشِّعر, ولّم يَفْعَل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف)
ودعاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن يكتب بينهم كتاباً يَنْتَهُونَ إلى ما فيه, فكتبوا بينهم وبينه كتاباً تحت العذْقِ في دار رَمْلَة بنت الحارث, فحَذرت يهود, وخافت وذَلَّتْ من يوم قَتل ابن الأشرف . "
ثم قال شيخ الاسلام :
" وما ذكره الواقديُّ عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده, وإن كان الواقديُّ لا يُحتَجُّ به إذا انفرد, لكن لا رَيْبَ في علمه بالمغازي, واستعلام كثير من تفاصيلها من جهته, ولم نذكر عنه إلا ما أسْنَدْناه عن غيره.
فقوله: (لَوْ قَرَّ كما قَرَّ غَيْرُهُ ممَّن هُوَ على مِثل رأيهِ مَا اغْتِيلَ وَلكنهُ نَالَ مِنَّا الأذى, وَهَجَانَا بالشِّعر, ولّم يَفْعَل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف) نصٌّ في أنه إنما انتقض عهدُ ابن الأشرف بالهجاء ونحوه, وأن مَنْ فعل هذا من المعاهدينَ فقد استحقَّ السيف, وحديث جابرٍ المسنَدُ من الطريقين يوافقُ هذا, وعليه العمدَةُ في الاحتجاج. "
(14) على أي وجه يُحمل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) ؟
وفيه رد على شبهة نشأت عند بعض الفقهاء ..
قال شيخ الاسلام :
" فان قيل فاذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن اسحاق قال حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن ابيها محيصة ان رسول الله قال ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلبسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود اذا ذاك لم يسلم وكان اسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول اي عدو الله قتلته اما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله ان كان لاول اسلام حويصة فقال محيصة فقلت له والله لقد امرني بقتله من لو امرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة والله ان ديننا بلغ منك هذا لعجب .
وقال الواقدي بالاسانيد المتقدمة قالوا فلما اصبح رسول الله في الليلة التي قتل فيها ابن الاشرف قال رسول الله ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطلقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيت ابن الاشرف وذكر قتل ابن سنينة الى ان قال ففزعت يهود ومن معها من المشركين وساق القصة كما تقدم عنه
فان هذا يدل على انهم لم يكونوا موادعين والا لما امر بقتل من صودف منهم ويدل على ان العهد الذي كتبه النبي بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الاشرف وحينئذ فلا يكون ابن الاشرف معاهدا ."
الرد على الشبهه :
" قلنا انما امر النبي بقتل من ظفر به منهم لان كعب بن الاشرف كان من ساداتهم وقد تقدم انه قال ما عندكم يعني في النبي قالوا عداوته ما حيينا, وكانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله وكان مما يهيجهم على المحاربة واظهار نقض العهد < فامر النبي بقتل من جاء منهم لان مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره للمقتول وذبه عنه> واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لانه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي ولم يحاربهم حتى اظهروا عداوته بعد ذلك .
واما هذا الكتاب فهو شئ ذكره الواقدي وحده وقد ذكر هو ايضا ان قتل ابن الاشرف في شهر ربيع الاول سنة ثلاث وان غزوة بني قنيقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر
وذكر ان الكتاب الذي وادع فيه النبي اليهود كان كانت لما قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا < فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الاول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود > لاجل ما كانوا قد ارادوا من اظهار العداوة وقد تقدم ان ابن الاشرف كان معاهدا وتقدم ايضا ان النبي كتب الكتاب لما قدم المدينة في اوائل الامر والقصة تدل على ذلك < والا لما جاء اليهود الى النبي وشكوا اليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله > وكلهم ذكر ان قتل ابن الاشرف كان بعد بدر وان معاهدة النبي لليهود كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي
قال ابن اسحاق وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله امر بني قينقاع يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الاولى وقد ذكر ان بني قينقاع هم اول من حارب ونقض العهد " انتهى
قلت :
وبهذا أوضح شيخ الاسلام أن المقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) هم من يهود خارج المدينة من جاء منهم ناقضا للعهد منتصرا لمقتل كعب . والدليل قوله ( إنه لو قر كما قر غيره .. ما اغتيل )
ولتأكيد ذلك يلاحظ كلام شيخ الاسلام السابق
( وكانوا مقيمين خارج المدينة )
( فامر النبي بقتل من جاء منهم لان مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره للمقتول وذبه عنه )
( واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لانه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي ولم يحاربهم حتى اظهروا عداوته بعد ذلك .)
( والا لما جاء اليهود الى النبي وشكوا اليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله )
ويوضح في موضع آخر أن استمرار الهدنة جائز لمن لم يأتي بجناية السب :
" فنقول: إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك المسلم والذمي أولى؛ لأن الموجب للقتل هو السب، لا مجرد الكفر والمحاربة، كما تبين، فحيثما وُجِدَ هذا الموجب وجب القتل، وذلك لأن الكفر مبيح للدم، لا موجب لقتل الكافر بكل حالٍ؛ فإنه يجوز أمانه ومهادنته والمن عليه ومفاداته، لكن إذا صار للكافر عهد عَصَم العهد دمه الذي أباحه الكفر، فهذا هو الفرق بين الحربي والذمي، فأما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد.
وقد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل الساب لأجل السب فقط لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه، فإذا وجد هذا السب وهو موجب للقتل و العهد لم يعصم من موجبه تعين القتل، ولأن أكثر ما في ذلك أنه كافر حربي ساب، والمسلم إذا سب يصير مرتداً ساباً، وقتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي، و الذمي إذا سب فإنه يصير كافراً محارباً ساباً بعد عهد متقدم، وقتل مثل هذا أغلظ.
(16) حكم الساب مسلما كان أم معاهدا .
قال شيخ الاسلام في الصارم م3/55 تحت عنوان " يُقتل شاتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم بغير استتابة "
قال :
" قال الامام أحمد في رواية حنبل كل من شتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتنقصه مسلما كان أم كافرا فعليه القتل, وأرى أن يقتل ولايستتاب .
وقال:كل من نقض العهد وأحدث في الاسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل , ليس على هذا أُعطوا العهد والذمة.
وقال عبد الله : سألت أبي عمن شتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستتاب ؟؟!!
قال: قد وجب عليه القتل ولا يُستتاب , خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يستتبه "
انتهى
على ما تقدم اجتمع في كعب ابن الاشرف ذنبان :
الذنب الأول : انتقاض عهده فأصبح كافرا حربيا .
الذنب الثاني : استوجب عليه حد سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصبح مطلوبا بحد .
فبأي الذنبين اغتيل ؟
وهل كان يوم اغتياله داخلا في عهد جديد " عقد أمان " ؟
وقد تقدم بالأدلة السابقة أن علة الندب لقتله هي سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(أي الذنب الثاني)
وهنا يرد شيخ الاسلام على شبهتين أحدها عرضت لبعض السفهاء , وأخرى نشأت عند بعض الفقهاء
(17)شبهة عرضت لبعض السفهاء :
قال شيخ الاسلام :
" وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الاشرف فظن ان دم مثل هذا يعصم بذمه متقدمة او بظاهر امان "
قلت :
يبدو أن للسفهاء مرجئة هم الأُخَرْ .. " مرجئة السفهاء " ان صح التعبير ,
فلا يرون أن عهد الذمي ينتقض وإن سب الله ورسوله , أو نقض كل ما عاهدناه عليه , وهم على غرار غلاة المرجئة لا يُكفّرون من نطق بالشهادتين ولو أتى بكل نواقضها , وسبحان الله العظيم (( أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) فالمرجئة هي المرجئة .
ومرجئة السفهاء في عصرنا لا يرون انتقاض عهد "المعاهد" ولو جلد ظهرك وانتهك عرضك , وتجسس عليك أو سب الله ورسوله على أرضك .. فأعطوه العصمة المؤبدة .
فإذا كان " المسلم " الناطق بالشهادتين القائم بأركان الاسلام لا يُحقن دمه إذا سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف بالذمي "المعاهد" ؟
وكما أن المسلم إذا ارتد كانت عقوبته أغلظ , فإن "المعاهد " الساب هو الآخر عقوبته أغلظ .
قال شيخ الاسلام :
" والمسلم إذا سب يصير مرتداً ساباً، وقتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي، و الذمي إذا سب فإنه يصير كافراً محارباً ساباً بعد عهد متقدم، وقتل مثل هذا أغلظ. "
(18) سبب ذكر حادثة اغتيال كعب في الصارم ووجه استدلاله بها .
كما يقولون فإن الموضوع يُعرف من عنوانه , وكتاب ابن تيمية رحمه الله " الصارم المسلول على شاتم الرسول " هو الكتاب الذي خصصه رحمه الله ليثبت فيه بالأدلة أن حد سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو السيف , وما توانى في كتابه من سرد الدليل إثر الدليل ليثبت ذلك , وما كان سرده لقصة اغتيال كعب إلا واحدا من أدلته لكي يثبت فيها أن حد الساب هو السيف , يستوي في ذلك الساب " المسلم " أو "المعاهد" أو "المستأمن ". فالمسلم بسبه يكون مرتدا , وإن تاب لا يسقط عنه الحد , والمعاهد والمستأمن ينتقض عهده ولا يسقط عنه الحد حتى لو عاد لعهده أو أسلم .
قال شيخ الاسلام :
" أنّّا قد قررناأن المسلم إذا سب الرسول يُقتل وان تاب بما ذكرناه من النص والنظر , والذمي كذلك , فإن أكثر ما يفرق به إما كون المسلم يتبين بذلك أنه منافق أو انه مرتد , قد وجب عليه حد من الحدود فيُستوفى منه ونحو ذلك , وهذا المعنى موجود في الذمي , فإن إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة , فإذا لم يكن كان صادقا في عهده وأمانه لم نعلم أنه صادق في اسلامه وايمانه , وهو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود , فيستوفى منه كسائر الحدود " م3 /850"
(19) رد على شبهة نشأت عند بعض الفقهاء .
فكل ما تقدم هو وجه استدلاله بقصة اغتيال كعب ابن الأشرف ,
وهنا يريد أن يؤكد ويرد على شبهه نشأت عند بعض الفقهاء فظن أن انتقاض عهد كعب ( الذنب الأول ) هو المبرر لإجازة الفتك به , قال شيخ الاسلام :
" وقد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان, ونقض العهد قبل هذا, وزعم أن مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغِرَّة "
رد شيخ الاسلام :
"ولكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً, وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان, ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر؛ فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه, وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه للهِ ورسوله.
( 20) عقد أمان جديد لكعب ابن الآشرف ؟!!
مما تقدم يتضح أن شيخ الاسلام اعتبر كلام محمد بن مسلمه لكعب ابن الآشرف قبل اغتياله هو بمثابة عقد أمان جديد لكعب " هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا, وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان, ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر؛ فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا "
وقال في موضع آخر ليوضح ذلك ويؤكده :
" وقد كان معاهدا قبل ذلك , ثم هجا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع كونه أمنّهم على دمه وماله لاعتقاده بقاء العهد , < ولأنهم جاؤوه مجئ من قد آمنه , ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا أمّنهم كما تقدم , لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمان > وكذلك كل من يجوز أمانه " (ص768 )
(21) كيف دخل كعب في أمان جديد , وما الكلام الذي كلموه به فصار مستأمنا ؟
قال شيخ الاسلام :
"
الدليل الثالث: أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوماً بأمانٍٍ يعقد له أو ذمة أو هُدْنة، ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حَقْن الدم، والنفر الذين أرسلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى كعب بن الأشرف جاؤوا إليه على أن يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى، وهذا كله يثبت الأمان، << فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافراً حربياً لم يجز قتله بعد أمانه إليهم وبعد أن أظهروا له أنهم مؤمنون له >> واستئذانهم إياه في إمساك يديه، فعلم بذلك أن إيذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه أمان ولا عهد، وذلك لا يكون إلا فيما أجب القتل عيناً من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك، فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح ولا يصيرون مستأمنين، بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم، فعلم أن ساب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك.
يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنّهُ لَوْ قَرَّ كَمَا قَرَّ غَيْرُهُ مَا اغْتِيْلَ، وَلَكِنَّهُ نَالَ مِنَّا الأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَم يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ كَانَ السَّيْف ) فإن ذلك دليل على أن لا جزاء له إلا القتل."
نكرر سرد الطُرق التي أعطوه بها الأمان وشبهة الآمان لمن لم يلتفت لها في كلام شيخ الاسلام :
ـ "جاؤوا إليه على أن يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله "
ـ "وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه "
ـ "ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى، وهذا كله يثبت الأمان، "
(22) إذاً كيف يبرر شيخ الاسلام الفتك بكعب بعد أن أعطوه الأمان ؟!!!
يوضح ذلك رحمه فيقول :
" فعُلم أن هجاءه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأذاه لله تعالى ورسوله لاينعقد معه أمان ولا عهد , وذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق , إذ ذلك يُقتل وإن أُومن كما يُقتل الزاني والمرتد وإن أُومن , وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالاسلام وفاقا " ص769
ويقول أيضا في م2 ص540
(أن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم وان كان قتل كافر فهو حد من الحدود , ليس قتلا على مجرد الكفر والحراب , لما تقدم من الاحاديث الدالة على انه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا , وليس هذا موجب الكفر والمحاربة لما تقدم من قول الصّدّيق رضي الله عنه " إن حد الآنبياء ليس يشبه الحدود " ومعلوم أن قتل الاسير الحربي ونحوه من الكفار والمحاربين لايسمى حدا ..
الى أن قال :
(وكل حد يكون بهذه المثابة فانه يتعين اقامته بالاتفاق )
وقال أيضا في ص 760
" أن ساب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقتل حدا من الحدود , لا لمجرد الكفر , وكل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالاسلام. "
إلى أن قال رحمه الله ...
" والدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسّبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الأعمى الذي كان يأوي إليها , ولا يجوز ان يكون قتلها لمجرد نقض العهد , لأن المرأة الذمية إذا ما انتقض عهدها فإنها تُسترق و لايجوز قتلها , ولا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تُقاتل , وهذه المرأة لم تكن تُقاتل , ولم تكن معينة على قتال "
الى أن قال رحمه الله :
" فثبت أنها قتلها كان لخصوص السب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل "
(23 من كان مطلوبا بحد هل يعصم دمه كونه معاهدا أو مستأمنا أو حتى لو كان مسلما ..؟
قال شيخ الاسلام :
" ومن حَلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمانٍ ولا بعهد كما لو آمن المسلم مَنْ وجب قتله لآجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل, أو <آمن> مَنْ وجب قتله لأجل زِناه, أو آمن مَنْ وجب قتله لآجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك, ولا يجوز أن يَعقِدَ له عقد عهد, سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة؛ لأن قتله حد من الحدود, وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً كما سيأتي,
وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين, ولا اعتقدوا أنهم قد أومنوا, بخلاف قصة كعب بن الأشرف , فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يُحْقَنُ معه الدم بالأمان, فَلَأَن لا يُحْقَنَ معه بالذمة المؤَبَّدة والهدنة المؤقتة بطريق الأَولى ."
(24) هل يُجيز شيخ الاسلام الخدعة بعد العهد , أو الفتك بعد إعطاء الأمان للكافر الحربي ـ مالم يكن مطلوبا بحد من الحدود ـ ؟
قال رحمه الله :
" ومن المعلوم أن من اظهر لكافر امانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر , بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمنا ,
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق : ( من آمن رجلا < على > دمه وماله ثم قتله فأنا منه بريئ وإن كان المقتول كافرا ) رواه الامام أحمد وابن ماجة .
وعن سليمان بن صُرد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا آمنك الرجل على دمه وماله فلا تقتله ) روه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الايمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن " رواه أبو داود وغيره. )"
وقال شيخ الاسلام أيضا :
" فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر, ويعقده كل مسلم, ولا يشترط على المستأمَن شيء من الشروط, والذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه, ولا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة: من التزام الصَّغَار ونحوه, "
وقال أيضا :
" لأن الحربي إذا ما قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمان " ص768
وقال ايضا :
" وشبهة الأمان كحقيقته , فإنَ من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم "
(25) خلاصة ما تقدم
أن شيخ الاسلام رحمه يُثبت عقد الأمان وشبهة الآمان للكافر الحربي ومنهم كعب ابن الاشرف ولا يُجيز الفتك به بعد الأمان ولا الخدعة بعد العهد . أما من كان مطلوبا في حد من الحدود فلا يُحقن دمه عهد أو أمان كما لايحقن دم المسلم ان كان مطلوبا في حد .
وفي الختام اسأل الله تبارك وتعالى أن يجزي شيخ الاسلام عن نَصْرِ دينه، ونَصْر سنة نبيه خير الجزاء , و أن يرزقه الفردوس الأعلى ,
وصلي اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ,
والحمد لله أولا وأخيرا .
والصلاة والسلام على رسول الله
وعلى آله وصحبه ومن والاه.
المكان : أرض الحرمين الشريفين مهبط الوحي.
الزمان : السنة الثالثة من الهجرة .
الحدث : عمليةاغتيال كماسمّاها من أوتي جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم.
الغيلة : فعلة من الاغتيال .
والغيلة في كلام العرب : ايصال الشر والقتل اليه من حيث لايعلم ولا يشعر.
وقُتل غيلة: أي في خُفية واغتيال.
الآمربالعملية : نبي الحق.. بعد أن أصدر حكما بالحق , بإقامة حد من حدود الله , وهو حد من سب الله ورسوله
الجاني : كعب ابن الأشرف .. طاغوت يهودي كما سمّاه ابن عباس رضي الله عنه
وكعبٌ هذا من بني النضير .. ادرك الإسلام ولم يسلم ..اختار العمى على الهدى ..وهو عربي من أم يهودية.
التهمة : آذى الله ورسوله .
مُنفذ عميلة الاغتيال : محمد بن مسلمة على راس خلية من خمسة ..أرهبت بني النضير ودانت بعدها يهود.
محمد بن مسلمة : رضي الله عنه أنصاري بدري شهد المشاهد كلها , وفاتته تبوك .
التقييم الاجمالي : عملية اغتيال ناجحة نوعية وعينية .
ووصفها " بعينية " لأن رسول الله أمر باغتيال كعب بن الأشرف بعينه ..وبه قال شيخ الاسلام كما سيأتي عند نقل كلامه وسرده.
وفيه أيضا توضيحا لما هوالمقصود بأذى النبي والله تعالى ذكره.
فإن كنت أخي للعلم طالبا .. وللحق عاشقا متّشوقا له ..فابقى معي نتدارسه .. و بالدليل من شرعنا نستلهمه..واصبر ان وجدت في المقال طولا .. فلا تملّ منه ولا تسكثره ..
الأمر هام في فهم المسألة وقد تُفيد أو تستتفيد بعلم قد يكون أحدنا يجهله.
وبعد ،
فإن حادثة اغتيال كعب بن الأشرف اثارت جدلا فقهيا منذ القرن الأول للإسلام , تنوع الفقهاء في تبويبها بكتبهم كما اختلفوا في أوجه الاستدلال بها , فمنهم من ادرجها تحت باب " الحرب خدعة " ومنهم من أدرجها تحت باب " الكذب في الحرب " ومنهم من أدرجها في أبواب " العهود"، وآخرون في أبواب متفرقة من أبواب الفقه.
وكذلك اختلفوا في الاستدلال بها , فذهب بعضهم الى جواز الخديعة بعد إعطاء العهد , بينما ذهب آخرون الى جواز التلفظ بالكفرـ دون إكراه ـ من أجل الخديعة , مستدلين في ذلك بما قاله محمد بن مسلمة رضي الله عنه لكعب بن الأشرف قبل اغتياله.
وظروف الحادثة هي الأخرى ما خلت من الخلاف , فكانت مثارا للجدل من عدة أوجه منها:
الكلام الذي كلموه به هل كان فيه شيئا من الكفر ؟
هل كان ابن الأشرف معاهدا ساعة اغتياله أم لا ؟
الكلام الذي أوهموه به, هل كان فيه عقدا جديدا للأمان أمنّوه به ؟
الأمر باغتياله هل كان خاصٌا بكعب ومن فعل فعله أم أنه شمل قومه ؟
ما هي العلة التي استوجبت اغتياله؟ أهي كونه كافرا حربيا ؟ أم ناقضا للعهد ؟
أم أن هناك علة أخرى فوق هذه وتلك ؟
حيي بن الأخطب هو أيضا طاغوت يهودي اشترك مع كعب ابن الأشرف في نقض العهد مع رسول الله وفي تحريض القبائل على قتاله , [mark=FFFF33]وفيهما معا نزلت آية الجبت والطاغوت[/mark] , لماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتيال حُيي بن الأخطب كما أمر باغتيال كعب ابن الأشرف ؟
العلة في اغتياله : آذاه لله ورسوله , ما المقصود بأذى الله ورسوله ؟
أوليس كل من قال ان الله ثالث ثلاثة وقال عزير بن الله وقال يد الله مغلولة ـ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ـ يكون قد آذى الله ورسوله فلماذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم باغتيالهم جميعا ؟
ما علاقة قصة اغتيال ابن الأشرف بموضوع كتاب الصارم المسلول لابن تيمية ؟
على أي وجه استدل شيخ الاسلام بها ؟
ما هي الشُبه التي أُثيرت حول الحادثة وما الرد عليها ؟
كل هذه الاسئلة وغيرها ما سنحاول بإذن الله أن نجيب عليه من أقوال أهل العلم.
فأقوالهم و تعليقاتهم مهمة كي نعرف ماينبني على تلك الحادثة من أحكام في واقعنا المعاصر . خاصة إذا علمنا أن حادثة اغتيال كعب ابن الأشرف استدل بها المعاصرون أيضا في مسائل العهود والأمان , وهم أيضا اختلفوا عند انزالها على مناطها .
وقد غلط بعضهم فظن أن ابن تيميه رحمه الله أجاز الخدعة بعد اعطاء العهد أو أجاز الفتك بعد عقد الأمان , مستدلا بحادثة كعب ابن الأشرف , فنسبوا لابن تيمية رحمه الله ما لايليق بطويلب علم مبتدئ فضلا عن أن يليق بإمام مجدد ومحقق مجتهد كشيخ الاسلام.
وقديما غلط أيما غلط من ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الخدعة بعد اعطاء العهد , أو أجاز الفتك بعد عقد الأمان ,
وفي مثل أولئك قال الإمام البغوي رحمه الله :
[mark=FFFF33]"قد ذهب من ضل في رأيه, وزل عن الحق , الى أن قتل كعب ابن الأشرف كان غدرا وفتكا , فأبعد الله هذا القائل , وقبح رأيه , ذهب عليه معنى الحديث , والتبس عليه طريق الصواب , بل قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( الإيمان قيد الفتك لايفتك مؤمن ). والفتك أن يُقتل من له أمان فجأة . وكان كعب ابن الأشرف ممن عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعين عليه أحدا , ولا يقاتله ثم خلع الأمان , ونقض العهد , ولحق بمكة , وجاء معلنا معاداة النبي صلى الله عليه وسلم يهجوه في أشعاره , ويسبه فاستحق القتل لذلك , وفي الحديث أن كعب ابن الأشرف عاهده , فخزع منه هجاءه للنبي صلى الله عليه وسلم أي قطع منه ذمته وعهده " [/mark]شرح السنة 11/ 45,46
وما جرى في مجلس معاوية رضي الله عنه ـ وفي رواية في مجلس مروا ن ـ لما حلف محمد بن مسلمة رضي الله عنه ليقتلن ابن يامين لما ذكر أن قتل ابن الأشرف كان غدرا , وطلبه ليقتله بعد ذلك بمدة طويلة , ولم ينكر المسلمون ذلك عليه.
فقد جاء في حاشية الصارم ص 799 م 3 طبعة ابن حزم :
[mark=FFFF66]" كان حديث محمد بن مسلمة مع ابن يامين عند مروان بن الحكم لما كان أميرا على المدينة فقال مروان ـ وعنده ابن يامين النضري ـ " كيف كان قتل ابن الأشرف" ؟ قال ابن يامين : كان غدرا. ومحمد ابن مسلمة جالس شيخ كبير ، فقال: " يا مروان أيغدر رسول الله عندك ؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد". وحلف أن يقتل ابن يامين إذا ظفر به، فوجده بالبقيع وجعل يضربه بالجرائد، والله لو قدرت على السيف لقتلتك" ( انظر "مغازي " الواقدي (1/192،193) [/mark]
ابن يامين بن عميرالنضري جهّز اثنين من " البكائين" في جيش العسرة في غزوة تبوك ممن أنزل الله تعالى فيهم
((وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُون))َ
وبهذا يتبين للقارئ والباحث مدى حساسية طرح هذه الحادثة ومدى ضرورة فهم كل ملابساتها قبل الاستدلال بها وضرورة قراءة كل ما كتبه عالم ما في هذه المسألة وعدم الاكتفاء بفقرة نُقلت هنا أو هناك لا تُظهر مُراد ذلك العالم بتلك الفقرة ولا وجه استدلاله بها.
ولقد قام شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله بتحقيق أقوال من سبقه من أهل العلم في هذه الحادثة , وقد أسهب في كتابه " الصارم المسلول " ببحثها في أكثر من أربعين صفحة متتابعة ليرد على أهم الشبه فيها , عدا عن تعليقاته المتفرقة في الصارم والفتاوى وغيرها. وقد نقلها ابن القيم رحمه الله مستدلا بكثير منها في كتابه: " أحكام أهل الذمة " . ولمن فاته قراءة الصارم المسلول كاملا فلم يفهم مراد شيخ الاسلام ووجه استدلاله بحادثة اغتيال كعب , فليقرأ ـ على أقل تقديرـ ما كتب مابين ص 145 ـ 188 في المجلد الثاني ( طبعة دار ابن حزم ). ومن تلك الصفحات سيكون أغلب نقلي , وان نقلت عن خارجها فسأذكر المصدر.
ونبدأ أولا بسرد رواية قصة اغتيال كعب ثم نُتبعها بتعليقات أهل العلم ومنهم شيخ الاسلام رحمه الله .
[mark=FFFF66]وقد رواها عمرو بن دِينَارٍ عن جابر بن عبدالله، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "مَنْ لِكَعْبِ بِنِ الأَشْرَفِ، فَإِنَّهُ قَدْ آذَى الله َوَرَسُولُهُ؟" فقام محمد بن مَسْلمة فقال: أنا يا رسول الله، أتحبُ أنَّ أقتله؟
قال: "نعم"، قال: ائْذَن لِي أن
أقول شيئاً
قال: "قل"، قال: فأتاه وذكَر ما بينهم،
قال: إن هذا الرجل قد أراد الصَّدَقة وعنَّانا، فلما سَمِعه، قال: وأيضاً والله لَتَمَلُنَّهُ،
قال: إنا قد اتبعْنَاهُ الآن، ونكره أن نَدَعَه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تُسْلِفَنِي سَلفاً، قال: فما ترهنني؟ نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟! قال: ترْهَنُوني أولادَكم، قال: يُسَبّ ابن/ أحدنا فيقال: رُهِنت في وِسْقَيْن من تمَرٍ، ولكن نرهنك اللأْمَةَ ـ يعني السلاح ـ قال: نعم، و وَاعَدَه أن يأتَيهُ بالحارث، وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، فجاؤوا فَدَعَوْهُ ليلاً، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرو: قالت له امرأته: إني لأسمع صَوْتاً كأنَّه صوت دَمٍ، قال: إنما هذا محمد و رضيعُه أبو نائلة، إن الكريم لو دُعِيَ إلى طَعْنة ليلاً لأجاب، قال محمد: إني إذا جاء فسوف أمُدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فَدُونكم، [قال]: فلما نزل نزلَ وهو مُتَوَشِحْ، قالوا: نجد منك رِيحَ الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعْطَرُ نساء العرب، قال: أفتأذن لي أن أشمَّ منه؟ قال: نعم، فشمَّ، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن منه، ثم قال: دونكم فقتلوه، متفق عليه.[/mark]
وقد ذكرها البخاري رحمه الله بالنص التالي تحت باب " الكذب في الحرب " فتح الباري م/6 ص/184
(حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا سفيان بن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ـصلى الله عليه وسلم ـ قال :من لكعب بن الأشرف , فإنه قد آذى الله ورسوله ؟ قال محمد بن مسلمة :أتُحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال : نعم . قال فاتاه فقال إن هذا ـ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ قد عنّانا وسألنا الصدقة . قال : والله لتمُلُنّه. قال : فإنا اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر الى ما يصير أمره . قال فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله ) انتهى
المسألة الأولى :
ما حكم ما تلفظ به محمد بن مسلمة رضي الله عنه ؟
قال ابن حجر رحمه الله في تعليقه على الحديث :
" قال ابن المنير : الترجمة غير مطابقة , لأن الذي وقع منهم في قتل كعب بن الأشرف يمكن أن يكون تعريضا ,
لأن قولهم " عنّانا " أي كلفنا بالأوامر والنهي ,
وقولهم " سألنا الصدقة " أي طلبها منا ليضعها مواضعها ,
وقولهم " فنكره أن ندعه الخ " معناه نكره فراقه ,
ولا شك أنهم كانوا يُحبون الكون معه أبدا "
انتهى
ثم نقل كلاما عن ابن بطال عن المهلب قال فيه :
"وليس فيه شئ من الكذب الحقيقي الذي هو الإخبار عن الشئ بخلاف ماهو عليه "
انتهى
وهنا يُلاحظ كيف كره بعض أهل العلم تسمية ما قاله محمد بن مسلمة كذبا , وتقدم كراهة تسميته غدرا , فكيف بمن سمّاه كفرا ؟ وعليه أجاز التلفظ بالكفر دون إكراه ؟
المسألة الثانية :
ظروف ما قبل اغتيال كعب وتسلسل الأحداث .
أُنوه الى أن ما أنقله من فقرات مختصرة من كلام شيخ الاسلام لا تُغني القارئ عن قراءة ـ الصفحات التي ذكرتها أعلاه ـ كاملة من كتاب الصارم .
وحاولت الاختصار قدر الامكان , لكني وجدت أحيانا ضرورة لتعضيد كلام شيخ الاسلام بكلامه هو لكي يتضح المُراد ويتأكد المعنى .
وقمت بتقسيمه الى نقاط بعنواين ـ اخترتها من عندي ـ وجدتها مناسبه لها.
(1)كعب وقومه كانوا معاهدين ابتداء . نوع العهد : "عهدهدنة/ صلح "
قال شيخ الاسلام في الصارم :
" وذكر أهل المغازي والتفسير مثل محمد بن إسحاق أن كعب بن الأشرف كان مُوادِعاً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جملة من واَدعَه من يهود / المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت أُمُّه من بني النضِير "
وقال أيضا :
" أنه كان مُعَاهداً مُهادَناً, وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم بالمغازي والسير, وهو عندهم من العلم العام الذي يُستغنى فيه عن نقل الخاصة.
ومما لا رَيْبَ فيه عند أهل العلم ما قَدَّمناه من أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاهَد لما قدم المدينة جميعَ أصناف اليهود: بني قَيْنُقاع والنضير وقرَيظَة, ثم نقَضَتْ بنو قَيْنُقاع عَهْدَه, فحاربهم؛ ثم نقضَ عهده كعبُ بن الأشرف, ثم نقض عهده بنو النَّضير, ثم بنو قُرَيْظَة. وكان ابن الأشرف من بني النَّضير, وأمْرُهم ظاهرٌ في أنهم كانوا مصالحين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(2) كعب يترك المدينة و يذهب الى مكة ويُفضّل دين الجاهلية.
قال شيخ الاسلام :
" وذهب إلى مكة ورَثَاهم لقريش, وفضّل دين الجاهلية على دين الإسلام, حتى أنزل الله فيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)
وقال أيضا :
"اعتزل كعب بن الاشرف ولحق بمكة , وكان فيها , وقال : لا أعين عليه و لا أقاتله , فقيل له بمكة : أديننا خير أم دين محمد وأصحابه ؟ قال: دينكم خير و اقدم , دين محمد حديث .فهذا دليل على أنه لم يظهر محاربة "
وذكر رواية خروج كعب الى مكة :
" وقال ثنا عبد الرازق قال قال معمر اخبرني ايوب عن عكرمة ان كعب بن الاشرف انطلق الى المشركين من كفار قريش فاستجاشهم على النبي وامرهم ان يغزوه وقال لهم انا معكم فقالوا انكم اهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نامن ان يكون مكرا منكم فان اردت ان نخرج معك فاسجد للهذين الصنمين وامن بهما ففعل ثم قالوا له انحن اهدى ام محمد نحن نصل الرحم ونقري الضيف ونطوف بالبيت وننحر الكوم ونسقي اللبن على الماء ومحمد قطع رحمه وخرج من بلده قال بل انتم خير واهدى قال فنزلت فيه (( الم تر الى الذين اوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين امنوا سبيلا))
(3)حيي بن الأخطب يصحب كعبا الى مكة , وفيهما معا نزلت الآية السابقة : آية ( الجبت والطاغوت )
ذكر شيخ الاسلام روايتين عن سفيان ابن عيينة وقتادة أن الاية نزلت في كعب بن الأشرف وحُيي بن الأخطب ثم عّلق على ذلك قائلا :
" وهذان مرسلان من وجهين مختلفين , فيهما أن كلا الرجلين ذهبا الى مكة وقالا ما قالا "
(4)النبي صلى الله عليه وسلم لم يندب لقتل كعب كونه ذهب الى مكة .
قال شيخ الاسلام :
" وأيضاً, فإنه لما ذهَبَ إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يَنْدُبِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين إلى قتله "
(5) كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب يعودان الى المدينة.
قال شيخ الاسلام :
" ثم إنهما قدما فندب النبي صلى الله عليه وسلم الى قتل ابن الاشرف وامسك عن ابن الأخطب "
(6)لماذا كعب ابن الأشرف والامساك عن حيي بن الأخطب ؟
قال شيخ الاسلام :
" ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذ أحدا من المسلمين والمعاهدين إلا بذنب ظاهر , فلما رجع الى المدينة وأعلن الهجاء والعداوة استحق أن يقتل , لظهور اذاه وثبوته عند الناس "
ما الذي ظهر من كعب ابن الأشرف ؟
قال شيخ الاسلام :
"ثم لما رجع إلى المدينة أخذ يُنْشِد الأشعار يهجو بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشَبَّب بنساء المسلمين, حتى آذاهم, حتى قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (مَنْ لِكَعْب ابْنِ الأَشْرَفِ فَإنَّهُ <قَدْ> آذَى اللهَ وَرسُولَه ؟) وذكروا قصة قتله مبسوطة."
(7) ما المقصود بالأذى والهجاء ؟
قال شيخ الاسلام :
" أن جميع ما أتاه ابن الأشرف انما هو أذى باللسان , فإن مرثيته لقتلى المشركين وتحضيضه وسبّه وهجاءه وطعنه في الاسلام وتفضيل دين الكفار عليه , كله قول باللسان , ولم يعمل عملا فيه محاربة "
وقد تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله )
قال شيخ الاسلام :
" فإنه جعل مطلق أذى الله ورسوله مُوجِباً لقتل رجل معاهد, ومعلوم أن سَبَّ الله وسب رسوله أذَى لله ولرسوله, وإذا رُتِّب الوَصْفُ على الحكم بحرف الفاء دل على أن ذلك الوصف عله لذلك الحكم, لا سيما إذا كان مُنَاسباً, وذلك يدل على أن أذَى الله ورسوله عِلة لنَدْب المسلمين إلى قتل مَنْ يفعل ذلك من المعاهَدِين, وهذا دليل ظاهر على انتقاض عهده بأذى الله ورسوله, والسبُّ من أذى الله ورسوله باتفاق المسلمين, بل هو أخص أنواع الأذى."
وقال :
وأيضاً, فإنه لما ذهَبَ إلى مكة ورجع إلى المدينة لم يَنْدُبِ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين إلى قتله, فلما بلغه عنه الهجاء نَدَبهم إلى قتله, والحكم الحادث يضاف إلى السبب الحادث, فعُلم أن ذلك الهجاء والأذى الذي كان بعد قُفُوله من مكة موجِبٌ لنقض عهده ولقتاله "
(8) شيخ الاسلام يؤكد انتقاض " عهد الهدنة " لكعب بن الأشرف بهجاءه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال رحمه الله :
"فقد قدَّّمنا في حديث جابر أن أوَّل ما نَقَضَ به العهد قصيدته التي أنشأها بعد رجوعه إلى المدينة يهجو بها رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما هجاه بهذه القصيدة ـ نَدَبَ إلى قتله, وهذا وحدُه دليلٌ على أنه إنما نقض العهدَ بالهجاء لا بذهابه إلى مكة."
(9) العلة في الندب لقتل كعب ابن الآشرف هي: سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس كونه كافرا حربيا .
قال شيخ الاسلام في م3/769
" يوضّح ذلك أن أذى الله ورسوله لو كان إنما أوجب قتله لكونه كافرا غير ذي عهد لوجب تعليل الحكم بالوصف الأعم , فإن الأعم إذا كان مستقلا بالحكم كان التخصيص عديم التأثير , فلما علل قتله بالوصف الأخص عُلم أنه مؤثر في الأمر بقتله , لاسيما من أُوتي جوامع الكلم , وإذا كان المؤثر في قتله أذى الله ورسوله وجب قتله وإن تاب , كما ذكرناه فيمن سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسلمين فإن كلاهما أوجب قتله أنه آذى الله ورسوله "
... الى أن قال رحمه الله :
" وإنما الواجب أن يوفر على كل نوع حظه من الحكم بحسب ما علقه به الشارع من الأسماء والصفات المؤثرة الذي دل كلامه الحكيم على اعتبارها , وتغلظ عقوبته ابتداءً لا يوجب تخفيفها انتهاءً , بل يوجب تغلظها مطلقا اذا كان الجرم عظيما , وسائر الكفار لم تغلظ عقوبتهم ابتداءً , ولا انتهاءاً مثل هذا , فإنه يجوز اقرارهم بجزية واسترقاقهم في الجملة , ويجوز الكف عنهم مع القدرة لمصلحة ترتقب , وهذا بخلاف ذلك." ص772
(10) السب : فيه جناية زائدة على الكفر الأصلي .
قال شيخ الاسلام :
": أنَّ قتل ساب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان قتل كافر فهو حد من الحدود، ليس قتلاً على مجرد الكفر والحراب، لما تقدم من الأحاديث الدالة على أنه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة"
(11) انتقاض عهد كعب كان خاصا .
قال شيخ الاسلام :
" وقد ذكرنا الروايَةَ الخاصة أن كعب بن الأشرف كان معاهداً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ. ثم إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعله ناقضاً للعهد بهجائه وأذاه بلسانه خاصة. "
وقال أيضا:
" فإن مجرد نقض العهد يجعله ككافر لا عهد له، وقد ثبت بهذه السنن أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر بقتل الساب لمجرد كونه كافراً غير معاهد، وإنما قتله لأجل السب مع كون السب مستلزماً للكفر و العداوة والمحاربة، وهذا القدر موجب للقتل حيث كان، وسيأتي الكلام إن شاء الله على تعين قتله.
)12) قتل كعب ابن الأشرف كان على التعيين .
قال شيخ الاسلام :
" أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا "
وقد ذكر أدلة كثيرة وسأكتفي ببعض منها فقال رحمه الله :
الدليل السادس: أقاويل الصحابة، فإنها نصوص في تعيين قتله، مثل قول عمر رضي الله عنه: "من سب الله أو أحداً من الأنبياء فاقتلوه" فأمر بقتله عيناً، ومثل قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أيما معاهد عاند فسب الله أو سب أحداً من الأنبياء عليهم السلام أو جهر به فقد نقض العهد، فاقتلوه"
فأمر بقتل المعاهد إذا سب عيناً، ومثل قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه فيما كتب به إلى المهاجر في المرأة التي سبّت النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا ما سبقتني فيها لأمرتك بقتلها؛ لأن حد الأنبياء لا يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلم فهو مرتد، أو معاهد فهو محارب غادر" فبين أن الواجب كان قتلها عيناً لولا فوات ذلك، ولم يجعل فيه خِيرَة إلى الإمام، لا سيما والسابة امرأة، وذلك وحده دليل كما تقدم، ومثل قول ابن عمر في الراهب الذي بلغه أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم: "لو سمعته لقتلته"، ولو كان كالأسير/ الذي يخير فيه الإمام لم يَجُزْ لابن عمر اختيار قتله، وهذا الدليل واضح "
وقال أيضا :
" فإذا تقرر بما ذكرناه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه وغير ذلك أن الساب للرسول يتعين قتله، فنقول: إما أن يكون/ تعين قتله لكونه كافراً حربياً أو للسبب المضموم إلى ذلك، والأول باطل؛ لأن الأحاديث نص في أنه لم يقتل لمجرد كونه كافراً حربياً، بل عامتها قد نص فيه على أن موجب قتله إنما هو السب؛
فنقول: إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك المسلم والذمي أولى؛ لأن الموجب للقتل هو السب، لا مجرد الكفر والمحاربة، كما تبين، فحيثما وُجِدَ هذا الموجب وجب القتل"
(13) الرواية الخاصة التي أشار إليها شيخ الاسلام في البند رقم 11 أعلاه , وهي أحد أدلته .
قال رحمه الله :
" وقد قال الواقدي: حدثني عبد الحميد بن جعفر عن يزيد بن رُومان ومَعْمَر عن الزهري عن ابن كعب بن مالك وإبراهيم بن جعفر عن أبيه عن جابر ... وذكر القصة إلى قتله,
قال: ففزِعَتْ يهود ومَنْ معها من المشركين, فجاؤوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين أصْبَحُوا فقالوا: قد طُرِقَ صاحبُنَا الليلة وهو سيد من ساداتنا, قُتِلَ غِيلةً بلا جُرْم ولا حَدَثٍ علمناه, فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم:
(إنه لَوْ قَرَّ كما قَرَّ غَيْرُهُ ممَّن هُوَ على مِثل رأيهِ مَا اغْتِيلَ وَلكنهُ نَالَ مِنَّا الأذى, وَهَجَانَا بالشِّعر, ولّم يَفْعَل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف)
ودعاهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن يكتب بينهم كتاباً يَنْتَهُونَ إلى ما فيه, فكتبوا بينهم وبينه كتاباً تحت العذْقِ في دار رَمْلَة بنت الحارث, فحَذرت يهود, وخافت وذَلَّتْ من يوم قَتل ابن الأشرف . "
ثم قال شيخ الاسلام :
" وما ذكره الواقديُّ عن أشياخه يوضح ذلك ويؤيده, وإن كان الواقديُّ لا يُحتَجُّ به إذا انفرد, لكن لا رَيْبَ في علمه بالمغازي, واستعلام كثير من تفاصيلها من جهته, ولم نذكر عنه إلا ما أسْنَدْناه عن غيره.
فقوله: (لَوْ قَرَّ كما قَرَّ غَيْرُهُ ممَّن هُوَ على مِثل رأيهِ مَا اغْتِيلَ وَلكنهُ نَالَ مِنَّا الأذى, وَهَجَانَا بالشِّعر, ولّم يَفْعَل هذا أحدٌ منكم إلا كان السيف) نصٌّ في أنه إنما انتقض عهدُ ابن الأشرف بالهجاء ونحوه, وأن مَنْ فعل هذا من المعاهدينَ فقد استحقَّ السيف, وحديث جابرٍ المسنَدُ من الطريقين يوافقُ هذا, وعليه العمدَةُ في الاحتجاج. "
(14) على أي وجه يُحمل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) ؟
وفيه رد على شبهة نشأت عند بعض الفقهاء ..
قال شيخ الاسلام :
" فان قيل فاذا كان هو وبنو النضير قبيلته موادعين فما معنى ما ذكره ابن اسحاق قال حدثني مولى لزيد بن ثابت حدثتني ابنة محيصة عن ابيها محيصة ان رسول الله قال ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) فوثب محيصة بن مسعود على ابن سنينة رجل من تجار يهود كان يلبسهم ويبايعهم فقتله وكان حويصة بن مسعود اذا ذاك لم يسلم وكان اسن من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه ويقول اي عدو الله قتلته اما والله لرب شحم في بطنك من ماله فوالله ان كان لاول اسلام حويصة فقال محيصة فقلت له والله لقد امرني بقتله من لو امرني بقتلك لضربت عنقك فقال حويصة والله ان ديننا بلغ منك هذا لعجب .
وقال الواقدي بالاسانيد المتقدمة قالوا فلما اصبح رسول الله في الليلة التي قتل فيها ابن الاشرف قال رسول الله ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) فخافت يهود فلم يطلع عظيم من عظمائهم ولم ينطلقوا وخافوا ان يبيتوا كما بيت ابن الاشرف وذكر قتل ابن سنينة الى ان قال ففزعت يهود ومن معها من المشركين وساق القصة كما تقدم عنه
فان هذا يدل على انهم لم يكونوا موادعين والا لما امر بقتل من صودف منهم ويدل على ان العهد الذي كتبه النبي بينه وبين اليهود كان بعد قتل ابن الاشرف وحينئذ فلا يكون ابن الاشرف معاهدا ."
الرد على الشبهه :
" قلنا انما امر النبي بقتل من ظفر به منهم لان كعب بن الاشرف كان من ساداتهم وقد تقدم انه قال ما عندكم يعني في النبي قالوا عداوته ما حيينا, وكانوا مقيمين خارج المدينة فعظم عليهم قتله وكان مما يهيجهم على المحاربة واظهار نقض العهد < فامر النبي بقتل من جاء منهم لان مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره للمقتول وذبه عنه> واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لانه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي ولم يحاربهم حتى اظهروا عداوته بعد ذلك .
واما هذا الكتاب فهو شئ ذكره الواقدي وحده وقد ذكر هو ايضا ان قتل ابن الاشرف في شهر ربيع الاول سنة ثلاث وان غزوة بني قنيقاع كانت قبل ذلك في شوال سنة اثنتين بعد بدر بنحو شهر
وذكر ان الكتاب الذي وادع فيه النبي اليهود كان كانت لما قدم المدينة قبل بدر وعلى هذا < فيكون هذا كتابا ثانيا خاصا لبني النضير تجدد فيه العهد الذي بينه وبينهم غير الكتاب الاول الذي كتبه بينه وبين جميع اليهود > لاجل ما كانوا قد ارادوا من اظهار العداوة وقد تقدم ان ابن الاشرف كان معاهدا وتقدم ايضا ان النبي كتب الكتاب لما قدم المدينة في اوائل الامر والقصة تدل على ذلك < والا لما جاء اليهود الى النبي وشكوا اليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله > وكلهم ذكر ان قتل ابن الاشرف كان بعد بدر وان معاهدة النبي لليهود كانت قبل بدر كما ذكره الواقدي
قال ابن اسحاق وكان فيما بين ذلك من غزو رسول الله امر بني قينقاع يعني فيما بين بدر وغزوة الفرع من العام المقبل في جمادى الاولى وقد ذكر ان بني قينقاع هم اول من حارب ونقض العهد " انتهى
قلت :
وبهذا أوضح شيخ الاسلام أن المقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) هم من يهود خارج المدينة من جاء منهم ناقضا للعهد منتصرا لمقتل كعب . والدليل قوله ( إنه لو قر كما قر غيره .. ما اغتيل )
ولتأكيد ذلك يلاحظ كلام شيخ الاسلام السابق
( وكانوا مقيمين خارج المدينة )
( فامر النبي بقتل من جاء منهم لان مجيئه دليل على نقض العهد وانتصاره للمقتول وذبه عنه )
( واما من قر فهو مقيم على عهده المتقدم لانه لم يظهر العداوة ولهذا لم يحاصرهم النبي ولم يحاربهم حتى اظهروا عداوته بعد ذلك .)
( والا لما جاء اليهود الى النبي وشكوا اليه قتل صاحبهم ولو كانوا محاربين لم يستنكروا قتله )
ويوضح في موضع آخر أن استمرار الهدنة جائز لمن لم يأتي بجناية السب :
" فنقول: إذا تعين قتل الحربي لأجل أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك المسلم والذمي أولى؛ لأن الموجب للقتل هو السب، لا مجرد الكفر والمحاربة، كما تبين، فحيثما وُجِدَ هذا الموجب وجب القتل، وذلك لأن الكفر مبيح للدم، لا موجب لقتل الكافر بكل حالٍ؛ فإنه يجوز أمانه ومهادنته والمن عليه ومفاداته، لكن إذا صار للكافر عهد عَصَم العهد دمه الذي أباحه الكفر، فهذا هو الفرق بين الحربي والذمي، فأما ما سوى ذلك من موجبات القتل فلم يدخل في حكم العهد.
وقد ثبت بالسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بقتل الساب لأجل السب فقط لا لمجرد الكفر الذي لا عهد معه، فإذا وجد هذا السب وهو موجب للقتل و العهد لم يعصم من موجبه تعين القتل، ولأن أكثر ما في ذلك أنه كافر حربي ساب، والمسلم إذا سب يصير مرتداً ساباً، وقتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي، و الذمي إذا سب فإنه يصير كافراً محارباً ساباً بعد عهد متقدم، وقتل مثل هذا أغلظ.
(16) حكم الساب مسلما كان أم معاهدا .
قال شيخ الاسلام في الصارم م3/55 تحت عنوان " يُقتل شاتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم بغير استتابة "
قال :
" قال الامام أحمد في رواية حنبل كل من شتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتنقصه مسلما كان أم كافرا فعليه القتل, وأرى أن يقتل ولايستتاب .
وقال:كل من نقض العهد وأحدث في الاسلام حدثا مثل هذا رأيت عليه القتل , ليس على هذا أُعطوا العهد والذمة.
وقال عبد الله : سألت أبي عمن شتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستتاب ؟؟!!
قال: قد وجب عليه القتل ولا يُستتاب , خالد بن الوليد قتل رجلا شتم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يستتبه "
انتهى
على ما تقدم اجتمع في كعب ابن الاشرف ذنبان :
الذنب الأول : انتقاض عهده فأصبح كافرا حربيا .
الذنب الثاني : استوجب عليه حد سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأصبح مطلوبا بحد .
فبأي الذنبين اغتيل ؟
وهل كان يوم اغتياله داخلا في عهد جديد " عقد أمان " ؟
وقد تقدم بالأدلة السابقة أن علة الندب لقتله هي سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
(أي الذنب الثاني)
وهنا يرد شيخ الاسلام على شبهتين أحدها عرضت لبعض السفهاء , وأخرى نشأت عند بعض الفقهاء
(17)شبهة عرضت لبعض السفهاء :
قال شيخ الاسلام :
" وقد كان عرضت لبعض السفهاء شبهة في قتل ابن الاشرف فظن ان دم مثل هذا يعصم بذمه متقدمة او بظاهر امان "
قلت :
يبدو أن للسفهاء مرجئة هم الأُخَرْ .. " مرجئة السفهاء " ان صح التعبير ,
فلا يرون أن عهد الذمي ينتقض وإن سب الله ورسوله , أو نقض كل ما عاهدناه عليه , وهم على غرار غلاة المرجئة لا يُكفّرون من نطق بالشهادتين ولو أتى بكل نواقضها , وسبحان الله العظيم (( أتواصوا به بل هم قوم طاغون )) فالمرجئة هي المرجئة .
ومرجئة السفهاء في عصرنا لا يرون انتقاض عهد "المعاهد" ولو جلد ظهرك وانتهك عرضك , وتجسس عليك أو سب الله ورسوله على أرضك .. فأعطوه العصمة المؤبدة .
فإذا كان " المسلم " الناطق بالشهادتين القائم بأركان الاسلام لا يُحقن دمه إذا سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكيف بالذمي "المعاهد" ؟
وكما أن المسلم إذا ارتد كانت عقوبته أغلظ , فإن "المعاهد " الساب هو الآخر عقوبته أغلظ .
قال شيخ الاسلام :
" والمسلم إذا سب يصير مرتداً ساباً، وقتل المرتد أوجب من قتل الكافر الأصلي، و الذمي إذا سب فإنه يصير كافراً محارباً ساباً بعد عهد متقدم، وقتل مثل هذا أغلظ. "
(18) سبب ذكر حادثة اغتيال كعب في الصارم ووجه استدلاله بها .
كما يقولون فإن الموضوع يُعرف من عنوانه , وكتاب ابن تيمية رحمه الله " الصارم المسلول على شاتم الرسول " هو الكتاب الذي خصصه رحمه الله ليثبت فيه بالأدلة أن حد سب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو السيف , وما توانى في كتابه من سرد الدليل إثر الدليل ليثبت ذلك , وما كان سرده لقصة اغتيال كعب إلا واحدا من أدلته لكي يثبت فيها أن حد الساب هو السيف , يستوي في ذلك الساب " المسلم " أو "المعاهد" أو "المستأمن ". فالمسلم بسبه يكون مرتدا , وإن تاب لا يسقط عنه الحد , والمعاهد والمستأمن ينتقض عهده ولا يسقط عنه الحد حتى لو عاد لعهده أو أسلم .
قال شيخ الاسلام :
" أنّّا قد قررناأن المسلم إذا سب الرسول يُقتل وان تاب بما ذكرناه من النص والنظر , والذمي كذلك , فإن أكثر ما يفرق به إما كون المسلم يتبين بذلك أنه منافق أو انه مرتد , قد وجب عليه حد من الحدود فيُستوفى منه ونحو ذلك , وهذا المعنى موجود في الذمي , فإن إظهاره للإسلام بمنزلة إظهاره للذمة , فإذا لم يكن كان صادقا في عهده وأمانه لم نعلم أنه صادق في اسلامه وايمانه , وهو معاهد قد وجب عليه حد من الحدود , فيستوفى منه كسائر الحدود " م3 /850"
(19) رد على شبهة نشأت عند بعض الفقهاء .
فكل ما تقدم هو وجه استدلاله بقصة اغتيال كعب ابن الأشرف ,
وهنا يريد أن يؤكد ويرد على شبهه نشأت عند بعض الفقهاء فظن أن انتقاض عهد كعب ( الذنب الأول ) هو المبرر لإجازة الفتك به , قال شيخ الاسلام :
" وقد زعم الخطابي أنهم إنما فتكوا به لأنه كان قد خلع الأمان, ونقض العهد قبل هذا, وزعم أن مثل هذا جائز في الكافر الذي لا عهد له كما جاز البيات والإغارة عليهم في أوقات الغِرَّة "
رد شيخ الاسلام :
"ولكن يقال : هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمناً, وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان, ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر؛ فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا كما هو معروف في مواضعه, وإنما قتلوه لأجل هجائه وأذاه للهِ ورسوله.
( 20) عقد أمان جديد لكعب ابن الآشرف ؟!!
مما تقدم يتضح أن شيخ الاسلام اعتبر كلام محمد بن مسلمه لكعب ابن الآشرف قبل اغتياله هو بمثابة عقد أمان جديد لكعب " هذا الكلام الذي كلموه به صار مستأمنا, وأدنى أحواله أن يكون له شبهة أمان, ومثل ذلك لا يجوز قتله بمجرد الكفر؛ فإن الأمان يعصم دم الحربي ويصير مستأمناً بأقل من هذا "
وقال في موضع آخر ليوضح ذلك ويؤكده :
" وقد كان معاهدا قبل ذلك , ثم هجا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ , وقتله الصحابة غيلة بأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع كونه أمنّهم على دمه وماله لاعتقاده بقاء العهد , < ولأنهم جاؤوه مجئ من قد آمنه , ولو كان كعب بمنزلة كافر محارب فقط لم يجز قتله إذا أمّنهم كما تقدم , لأن الحربي إذا قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمان > وكذلك كل من يجوز أمانه " (ص768 )
(21) كيف دخل كعب في أمان جديد , وما الكلام الذي كلموه به فصار مستأمنا ؟
قال شيخ الاسلام :
"
الدليل الثالث: أن الساب لو صار بمنزلة الحربي فقط لكان دمه معصوماً بأمانٍٍ يعقد له أو ذمة أو هُدْنة، ومعلوم أن شبهة الأمان كحقيقته في حَقْن الدم، والنفر الذين أرسلهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى كعب بن الأشرف جاؤوا إليه على أن يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى، وهذا كله يثبت الأمان، << فلو لم يكن في السب إلا مجرد كونه كافراً حربياً لم يجز قتله بعد أمانه إليهم وبعد أن أظهروا له أنهم مؤمنون له >> واستئذانهم إياه في إمساك يديه، فعلم بذلك أن إيذاء الله ورسوله موجب للقتل لا يعصم منه أمان ولا عهد، وذلك لا يكون إلا فيما أجب القتل عيناً من الحدود كحد الزنى وحد قطع الطريق وحد المرتد ونحو ذلك، فإن عقد الأمان لهؤلاء لا يصح ولا يصيرون مستأمنين، بل يجوز اغتيالهم والفتك بهم لتعين قتلهم، فعلم أن ساب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كذلك.
يؤيد هذا ما ذكره أهل المغازي من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنّهُ لَوْ قَرَّ كَمَا قَرَّ غَيْرُهُ مَا اغْتِيْلَ، وَلَكِنَّهُ نَالَ مِنَّا الأَذَى وَهَجَانَا بِالشِّعْرِ، وَلَم يَفْعَلْ هَذَا أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاَّ كَانَ السَّيْف ) فإن ذلك دليل على أن لا جزاء له إلا القتل."
نكرر سرد الطُرق التي أعطوه بها الأمان وشبهة الآمان لمن لم يلتفت لها في كلام شيخ الاسلام :
ـ "جاؤوا إليه على أن يستسلفوا منه وحادثوه وماشوه وقد آمنهم على دمه وماله "
ـ "وكان بينه وبينهم قبل ذلك عهد وهو يعتقد بقاءه "
ـ "ثم إنهم استأذنوه في أن يشموا ريح الطيب من رأسه فأذن لهم مرة بعد أخرى، وهذا كله يثبت الأمان، "
(22) إذاً كيف يبرر شيخ الاسلام الفتك بكعب بعد أن أعطوه الأمان ؟!!!
يوضح ذلك رحمه فيقول :
" فعُلم أن هجاءه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأذاه لله تعالى ورسوله لاينعقد معه أمان ولا عهد , وذلك دليل على أن قتله حد من الحدود كقتل قاطع الطريق , إذ ذلك يُقتل وإن أُومن كما يُقتل الزاني والمرتد وإن أُومن , وكل حد وجب على الذمي فإنه لا يسقط بالاسلام وفاقا " ص769
ويقول أيضا في م2 ص540
(أن قتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم وان كان قتل كافر فهو حد من الحدود , ليس قتلا على مجرد الكفر والحراب , لما تقدم من الاحاديث الدالة على انه جناية زائدة على مجرد الكفر والمحاربة ومن أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمروا فيه بالقتل عينا , وليس هذا موجب الكفر والمحاربة لما تقدم من قول الصّدّيق رضي الله عنه " إن حد الآنبياء ليس يشبه الحدود " ومعلوم أن قتل الاسير الحربي ونحوه من الكفار والمحاربين لايسمى حدا ..
الى أن قال :
(وكل حد يكون بهذه المثابة فانه يتعين اقامته بالاتفاق )
وقال أيضا في ص 760
" أن ساب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُقتل حدا من الحدود , لا لمجرد الكفر , وكل قتل وجب حدا لا لمجرد الكفر فإنه لا يسقط بالاسلام. "
إلى أن قال رحمه الله ...
" والدليل على ذلك أنه قد تقدم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اهدر دم المرأة الذمية التي كانت تسّبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند الأعمى الذي كان يأوي إليها , ولا يجوز ان يكون قتلها لمجرد نقض العهد , لأن المرأة الذمية إذا ما انتقض عهدها فإنها تُسترق و لايجوز قتلها , ولا يجوز قتل المرأة للكفر الأصلي إلا أن تُقاتل , وهذه المرأة لم تكن تُقاتل , ولم تكن معينة على قتال "
الى أن قال رحمه الله :
" فثبت أنها قتلها كان لخصوص السب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنه جناية من الجنايات الموجبة للقتل "
(23 من كان مطلوبا بحد هل يعصم دمه كونه معاهدا أو مستأمنا أو حتى لو كان مسلما ..؟
قال شيخ الاسلام :
" ومن حَلَّ قتله بهذا الوجه لم يعصم دمه بأمانٍ ولا بعهد كما لو آمن المسلم مَنْ وجب قتله لآجل قطع الطريق ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد الموجب للقتل, أو <آمن> مَنْ وجب قتله لأجل زِناه, أو آمن مَنْ وجب قتله لآجل الردة أو لأجل ترك أركان الإسلام ونحو ذلك, ولا يجوز أن يَعقِدَ له عقد عهد, سواء كان عقد أمان أو عقد هدنة أو عقد ذمة؛ لأن قتله حد من الحدود, وليس قتله لمجرد كونه كافراً حربياً كما سيأتي,
وأما الإغارة والبيات فليس هناك قول أو فعل صاروا به آمنين, ولا اعتقدوا أنهم قد أومنوا, بخلاف قصة كعب بن الأشرف , فثبت أن أذى الله ورسوله بالهجاء ونحوه لا يُحْقَنُ معه الدم بالأمان, فَلَأَن لا يُحْقَنَ معه بالذمة المؤَبَّدة والهدنة المؤقتة بطريق الأَولى ."
(24) هل يُجيز شيخ الاسلام الخدعة بعد العهد , أو الفتك بعد إعطاء الأمان للكافر الحربي ـ مالم يكن مطلوبا بحد من الحدود ـ ؟
قال رحمه الله :
" ومن المعلوم أن من اظهر لكافر امانا لم يجز قتله بعد ذلك لأجل الكفر , بل لو اعتقد الكافر الحربي أن المسلم آمنه وكلمه على ذلك صار مستأمنا ,
قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه عمرو بن الحمق : ( من آمن رجلا < على > دمه وماله ثم قتله فأنا منه بريئ وإن كان المقتول كافرا ) رواه الامام أحمد وابن ماجة .
وعن سليمان بن صُرد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا آمنك الرجل على دمه وماله فلا تقتله ) روه ابن ماجة.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الايمان قيد الفتك لا يفتك مؤمن " رواه أبو داود وغيره. )"
وقال شيخ الاسلام أيضا :
" فإن الأمان يجوز عقده لكل كافر, ويعقده كل مسلم, ولا يشترط على المستأمَن شيء من الشروط, والذمة لا يعقدها إلا الإمام أو نائبه, ولا تعقد إلا بشروط كثيرة تشترط على أهل الذمة: من التزام الصَّغَار ونحوه, "
وقال أيضا :
" لأن الحربي إذا ما قلت له أو عملت معه ما يعتقد أنه أمان صار له أمان " ص768
وقال ايضا :
" وشبهة الأمان كحقيقته , فإنَ من تكلم بكلام يحسبه الكافر أمانا كان في حقه أمانا وإن لم يقصده المسلم "
(25) خلاصة ما تقدم
أن شيخ الاسلام رحمه يُثبت عقد الأمان وشبهة الآمان للكافر الحربي ومنهم كعب ابن الاشرف ولا يُجيز الفتك به بعد الأمان ولا الخدعة بعد العهد . أما من كان مطلوبا في حد من الحدود فلا يُحقن دمه عهد أو أمان كما لايحقن دم المسلم ان كان مطلوبا في حد .
وفي الختام اسأل الله تبارك وتعالى أن يجزي شيخ الاسلام عن نَصْرِ دينه، ونَصْر سنة نبيه خير الجزاء , و أن يرزقه الفردوس الأعلى ,
وصلي اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ,
والحمد لله أولا وأخيرا .