تلوين كلمات القرءان بين المنهج العلمي والحكم الشرعي (2)

إنضم
12/09/2008
المشاركات
14
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
تلوين كلمات القرءان بين المنهج العلمي والحكم الشرعي (2)
تكلمنا في الحلقة الأولى عن النوع الأول من أنواع التلوينات الملحقة بكتاب الله، وفي هذا اللقاء نتكلم عن النوع الثاني. وهو الابتكار الذي تفردت به دار الفكر بدمشق، وهو يتعلق بتلوين بعض أسماء الله الحسنى، وعنونوا لكتاب الله بما يلي: "وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا القرآن العظيم ملون الأسماء الحسنى"، والكلام عليه من وجوه:
أولها: إن المصحف عليه مآخذ عدة؛ سواء من حيث نوع الخط ووضوحه، أو من حيث عدم الالتزام بأصول الرسم القرآني، أو من حيث الدقة في إعجام الحروف وضبطها بالحركات. وقد سجلت كل ذلك، والحمد لله أولا وآخرا.
ثانيا: ليس هناك ما يدعوا إلى هذا التلوين ـ كما بينا سابقا ـ، والقارئ لما كتبه قسم الدراسات بالدار "دار الفكر" عن هذا العمل ودوافعه لا يصل إلى أية نتيجة، فإنهم بعد أن بينوا أن أسماء الله غير محصورة في التسعة والتسعين كما جاء في الحديث، قالوا: "لذلك وفي عملنا في نسخة المصحف هذه التزمنا هذه الأسماء التسعة والتسعين المشهورة، فقمنا بتمييزها بلونين مختلفين فوضعنا لفظة الجلالة (الله) بلون أحمر، وبقية الأسماء بلون أخضر، وذلك خدمة لكتاب الله في تحسين رسمه وصورة إخراجه، وتوظيف اللون للفت انتباه القارئ إلى جوانب خاصة ذات معان جليلة، مما يليق بهذا الكتاب العظيم، والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين". وبعد هذا كتبوا أسماء الله الحسنى الواردة في حديث أبي هريرة، الذي أخرجه الترمذي، ونقلوا أن الحاكم صححه في المستدرك، وأن النووي حسنه في الأذكار.
فمن خلال هذا التوضيح يتبين أن الهدف من هذا العمل هو "خدمة لكتاب الله في تحسين رسمه وصورة إخراجه، وتوظيف اللون للفت انتباه القارئ إلى جوانب خاصة ذات معان جليلة، مما يليق بهذا الكتاب العظيم". بهذا عبروا عن الدافع لهذا العمل الذي لم يسبقهم إليه أحد. وحرموا على أي أحد أن يقلدهم فيه.
وأقول: أما من حيث تحريمهم (منعهم) على الغير التقليد فلهم الحق في ذلك، وأنا معهم في تحريم تقليد الغير لهم، وسأدافع عن هذا الحكم ـ أي: الحكم بالتحريم ـ حتى لا ينتشر في وسط المسلمين، وحتى لا يصير كتاب الله ألعوبة بين يدي الناشرين، فبالأمس لونوا كلمة الله و الإله و الرب و هو، واليوم لونوا بعضا من أسماء الله الحسنى، وغدا يلونون أسماء الجنة بلون وأسماء النار بلون آخر، وبعد غد يميزون صفات أهل الخير بلون وصفات أهل الشر بلون آخر، والكل يقول: فعلت هذا "خدمة لكتاب الله في تحسين رسمه وصورة إخراجه، وتوظيف اللون للفت انتباه القارئ إلى جوانب خاصة ذات معان جليلة، مما يليق بهذا الكتاب العظيم"!!!.
ثالثا: إنهم قد سبقوا إلى هذا العمل بما يزيد عن ثمانية قرون، فقد اطلعت على صورة من مصحف السلطان ابن أبي حمو سلطان تلمسان 8001 هـ وهو محفوظ بدار الوثائق بالرباط وفيه لونت أسماء الله، ولكنهم لم يفرقوا بين أسماء الله كما فعل أصحاب دار الفكر.
وبه يبطل قولهم أن لديهم الأسبقية، ومع هذا فأنا على عهدي بأنني سأقف معهم في منع التقليد لعملهم.
رابعا: إذا كان الدافع لتمييز أسماء الله الحسنى عن غيرها من كلمات القرآن هو "خدمة كتاب الله في تحسين رسمه وصورة إخراجه، وتوظيف اللون للفت انتباه القارئ إلى جوانب خاصة ذات معان جليلة، مما يليق بهذا الكتاب العظيم" فإنه يحتم عليهم تلوين كل الأسماء، سواء الوارد ذكرها في الحديث وغير الوارد منها فيه؛ لأن الموضوع كتاب الله وليس الحديث، ثم إن ما يلفت إليه اسم "السميع" في قوله: وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ: 50]، يلفت إليه اسم القريب الوارد في الآية نفسها. وكذلك في قوله: يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِير [الروم: 54]. فلماذا نميز بين الاسمين الواردين في نفس الآية، فيكتب الأول من الاسمين في الآيتين بالأخضر، والثاني منهما بالأسود!!!
فكان على المشرفين على هذا العمل أن لا يفرقوا بين أسماء الله الحسنى، الواردة في كتاب الله، وبهذا التمييز، يكونون قد تركوا أسماء عدة؛ قال ابن حجر (فتح الباري: 11/218): "وقد تتبعت ما بقي من الأسماء مما ورد في القرآن بصيغة الاسم مما لم يذكر في رواية الترمذي وهي "الرب، الإله، المحيط، القدير، الكافي، الشاكر، الشديد، القائم، الحاكم، الفاطر، الغافر، القاهر، المولى، النصير، الغالب، الخالق، الرفيع، المليك، الكفيل، الخلاق، الأكرم، الأعلى، المبين، بالموحدة، الحفي ـ بالحاء المهملة والفاء ـ، القريب، الأحد، الحافظ. فهذه سبعة وعشرون اسما إذا انضمت إلى الأسماء التي وقعت في رواية الترمذي مما وقعت في القرآن بصيغة الاسم تكمل بها التسعة والتسعون، وكلها في القرآن.
رابعا: إنهم لم يلتزموا بمنهج محدد، فقد بينوا أنهم اعتمدوا الأسماء التي جاءت في الحديث، فقالوا: "وفي عملنا في نسخة المصحف هذه التزمنا هذه الأسماء التسعة والتسعين المشهورة، فقمنا بتمييزها بلونين مختلفين فوضعنا لفظة الجلالة (الله) بلون أحمر، وبقية الأسماء بلون أخضر" هذا قولهم، وهو يخالف فعلهم، فقد ميزوا أسماء ليست في حديث الترمذي. وتركوا أسماء وردت في حديث الترمذي لم يميزوها. فمن الأسماء التي لم يميزوها وهي في الحديث:
ـ الوارث: ورد في الحديث قبل نهاية الحديث باسمين، وورد في القرآن في قوله ـ تعالى ـ: وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر: 23].
ومن الأسماء التي ميزوها، ولم ترد في حديث الترمذي، ما يلي:
1 ـ الشاكر لم يرد في قائمة الأسماء التي نقلوها من الحديث، ولكنهم ميزوها بلون أخضر في قوله ـ تعالى ـ: مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء: 147]!!!
2 ـ الخلاق لم يرد في قائمة الأسماء التي نقلوها من الحديث، ولكنهم ميزوها بلون أخضر في قوله ـ تعالى ـ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 86]!!!
3 ـ مليك لم يرد في قائمة الأسماء التي نقلوها من الحديث، ولكنهم ميزوها بلون أخضر في قوله ـ تعالى ـ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ [القمر: 55]!!!
4ـ محيط لم يرد في قائمة الأسماء التي نقلوها من الحديث، ولكنهم ميزوه بلون أخضر في أمكنة وروده في القرآن الكريم بداية بقوله ـ تعالى ـ: واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ [البقرة: 19]، وانتهاء بقوله ـ تعالى ـ: وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ [الطارق: 20]!!!
5 ـ ذو انتقام لم يرد في قائمة الأسماء التي نقلوها من الحديث، ولكنهم ميزوه بلون أخضر في مواطنه التي ورد فيها في القرآن الكريم!!!
خامسا: لونوا بعض الأسماء التي لا تدل على الإله المعبود بحق، ومن ذلك:
1 ـ إلها: في قوله: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ص: 5.
وأنا أقول ـ أيضا ـ: إن فعلهم هذا لشيء عجاب، فإن كلمة "إلها" ههنا لا تدل على الإله المعبود بحق. فإن القائلين لهذه الكلمة لا يعترفون بوحدانية الإله؛ بل قالوا عمن دعاهم إلى وحدانية الإله: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ؛ قال ابن جرير في تفسيره (23/124) ... عن قتادة (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا الشيء عجاب) قال: عجب المشركون أن دعوا إلى الله وحده، وقالوا: يسمع لحاجاتنا جميعا إله واحد! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة.
وقال ابن كثير (تفسير القرآن العظيم: 4/28): وقال الكافرون: (هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلهاً واحداً) أي: أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟
وأقول ـ أيضا ـ: حتى لو كان الغرض منه الإثبات فإن الله لم يوصف بكلمة: "إلها" على صيغة النكرة، فكلمة "إلها" لا تدل بمفردها على الإله الحق، والله الهادي إلى طريق الحق.
2 ـ خالق: في قوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فاطر: 3.
3ـ وليا ورد وليا في مواطن عدة من القرآن وهو لا يدل على الله سبحانه وتعالى، ولكن أصحاب هذا الابتكار الذين يمنعون الغير من تقليدهم فيه، حتى لا تضيع أتعابهم ميزوه ولونوه بالأخضر على أنه يدل على الواحد القهار، وحتى يلفتوا نظر القارئ للمعاني اللطيفة، وبه يخدمون كتاب الله وقراءه!!!!‍‍‍‍‍‍‍
ومن المواطن التي لونوه فيها:
1 ـ في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً النساء:123
2 ـ في قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً النساء: 173
3 ـ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِم وَلاَ يُطْعَمُ [الأنعام: 14].
والكلام على ما سبق في غاية الوضوح، ولا يحتاج إلى أي تعليق، ولكن حتى نغلق باب الجدل أمام من يريد ذلك أنقل ما قاله ابن جرير في تفسيره.
قال ـ رحمه الله ـ (جامع البيان: 5/296): القول في تأويل قوله تعالى: (ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) يعني بذلك جل ثناؤه: (ولا يجد) الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به، (من دون الله) يعني: من بعد الله وسواه، (وليا) يلي أمره، ويحمى عنه ما ينزل به من عقوبة الله، (ولا نصيرا) يعني: ولا ناصرا ينصره مما يحل به من عقوبة الله وأليم نكاله.
وأظن أن هذه الأمثلة كافية في التدليل على أن هذا العمل لايستند إلى أي دليل شرعي، وأن أصحابه لم يلتزموا بأي منهج علمي، وإنما أساسه الفوضى، والله المستعان لا رب سواه.
وكما أشرت إن المصحف عليه مآخذ أخرى تتعلق برسمه، ودقة ضبطه، ووضوح خطه.
ولقد ذهبت إلى دار الفكر الطابعة لهذا المصحف وكلمت مديرها ومَن دونه، فقال لي مديرها: لقد راجع المصحف مآت المشايخ. فقلت: العبرة ليست بالعدد، وإنما هي بالواقع. فقال لي: اعطنا الملاحظات التي لديك. فقلت: اعطوني نسخة كي أقرأها قراءة متأنية، وأعلم على كل كلمة لي عليها ملاحظة.
فقال لي: ليس لدينا الاستعداد لتوزيع النسخ!!!
ومما يؤسف له: أنني لما كنت بقاعة الانتظار أنتظر دوري للدخول إلى المدير إتصل صاحب كتاب يتعلق بالتراث الشعبي واحتج على حال كتابه فاعتذروا له وقالوا له سوف نعمل كذ وكذا بالطبعة القادمة.
وأما فقد قيل لي ما سبق، والشكوى للذي يسمع السر والنجوى.
وبهذه الإشارات أختم الكلام على هذا النوع من الأعمال الملحقة بكتاب الله، ولقاؤنا بحول الله مع عمل ءاخر من أعمال التلوينات الملحقة بكتاب الله، وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
وكتبه أخوكم: أبو عبد التواب
 
عودة
أعلى