ماجد بن محمد العريفي
New member
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
" لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) "
**********
١- ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقًا لما يرد بعده وَأُطِيلَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ.
٢- وَلَا أُقْسِمُ مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا مَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ.
٣- وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: هَلْ حَرْفُ النَّفْيِ مَزِيدٌ أَوْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ.
٤- وَالْإِشَارَةُ بِ «هَذَا» مَعَ بَيَانِهِ بِالْبَلَدِ، إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَرِّرَةٌ لَهُمْ وَهُوَ بَلَدُ مَكَّةَ، وَمِثْلُهُ مَا فِي قَوْلِهِ: ( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ) . وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُ الْمُقْسَمِ بِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِهِ.
٥- وَالْبَلَدُ: جَانِبٌ مِنْ مُتَّسَعٍ مِنْ أَرْضٍ عَامِرَةً كَانَتْ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ أَمْ غَامِرَةً
وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ مَجْعُولَةٍ فِيهِ بُيُوتٌ مِنْ بِنَاءٍ وَهُوَ بَلْدَةُ مَكَّةَ
٦- وَالْقَسَمُ بِالْبَلْدَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَتَفْضِيلِهِ.
٧- وَجُمْلَةُ:" وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ"
أ- مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَعْنَى "وَأَنْتَ حِلٌّ "
أ-١- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "حِلٌّ" اسْمَ مَصْدَرِ أَحَلَّ، أَيْ أَبَاحَ، فَالْمَعْنَى وَقَدْ جَعَلَكَ أَهْلُ مَكَّةَ حَلَالًا بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي يَحْرُمُ أَذَى صَيْدِهِ وَعَضْدُ شَجَرِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُحِلُّونَ قَتْلَكَ وَإِخْرَاجَكَ، قَالَ هَذَا شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ .
- وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عُدْوَانِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَلَدٍ لَا يَظْلِمُونَ فِيهِ أَحَدًا.
- وَالْمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءُ الْقَسَمِ بِمَكَّةَ الَّذِي هُوَ إِشْعَارٌ بِحُرْمَتِهَا الْمُقْتَضِيَةِ حُرْمَةَ مَنْ يَحِلُّ بِهَا، أَيْ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا بِأَذًى لِلدَّوَابِّ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى رَسُولٍ جَاءَهُمْ بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ.
أ-٢- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "حِلٌّ" اسْمًا مُشْتَقًّا مِنَ الْحِلِّ وَهُوَ ضِدُّ الْمَنْعِ، أَيِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ،
- أَيْ مَا صَنَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنْ قَاتَلَكَ أَنْ تُقَاتِلَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ مَهْمَا تَمَكَّنْتَ مِنْ ذَلِكَ.
- وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «يَعْنِي وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ "
- وَقَدْ خَصَّصَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» الْحَدِيثَ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» .
ب- أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ " وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد" فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُقْسِمُ
- فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِالْبَلَدِ مُقَيَّدًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَلَدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
- أَنَّ مَعْنَى "وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ" أَنَّهُ حَالٌّ، أَيْ سَاكِنٌ بِهَذَا الْبَلَدِ ، حكاه ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلًا وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ ،
- وَهُوَ تَأْوِيلٌ جَمِيلٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ اسْتِعْمَالِ حِلٌّ بِمَعْنَى: حَالٌّ، أَيْ مُقِيمٌ فِي مَكَانٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ اللُّغَة: «الصِّحَاح» و «اللِّسَان» و«الْقَامُوس» و «مُفْرَدَات الرَّاغِبِ» . وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَلَا أَحْسِبُ إِعْرَاضَهُ عَنْهُ إِلَّا لِعَدَمِ ثِقَتِهِ بِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ،
- وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: وَالْحِلُّ: صِفَةٌ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْحَالِّ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا عِبْرَة بِمن أَنْكَرَهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ» اهـ وَكَيْفَ يُقَالُ: لَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَهَلِ الْمَرْجِعُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَةِ إلّا كتب أئمتها.
٨- وَتَكْرِيرُ لَفْظِ " بِهذَا الْبَلَدِ " إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ
- لِقَصْدِ تَجْدِيدِ التَّعْجِيبِ.
- وَلِقَصْدِ تَأْكِيدِ فَتْحِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَالشَّدِيدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَوْزَتِهِمْ.
٩- "ووالِدٍ " وَقَعَ مُنَكَّرًا فَهُوَ تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ.
- فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالِدًا عَظِيمًا،
- وَالَّذِي يُنَاسِبُ الْقَسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ "والِدٍ " إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ الَّذِي اتَّخَذَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لِإِقَامَةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَزَوْجِهِ هَاجَرَ قَالَ تَعَالَى: "وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ" ثُمَّ قَالَ "رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ " . وَإِبْرَاهِيم وَالِدُ سُكَّانِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْأَصْلِيِّينَ قَالَ تَعَالَى:" مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ " ، وَلِأَنَّهُ وَالِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
١٠- " وَمَا وَلَدَ " الْمَقْصُودُ: وَمَا وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالَّذِينَ اقْتَفَوْا هَدْيَهُ فَيَشْمَلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتنبيه للْمُشْرِكين مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنْ طَرِيقَةِ أَبِيهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا " .
- وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ "مَا " فِي قَوْلِهِ: "وَما وَلَدَ " دُونَ (مَنْ) ، مَعَ أَنَّ (مَنْ) أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي إِرَادَةِ الْعَاقِلِ وَهُوَ مُرَادٌ هُنَا،
- فَعَدَلَ عَنْ (مَنْ) لِأَنَّ " مَا " أَشَدُّ إِبْهَامًا، فَأُرِيدَ تَفْخِيمُ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ فَجِيءَ لَهُمْ بِالْمَوْصُولِ الشَّدِيدِ الْإِبْهَامِ لِإِرَادَةِ التَّفْخِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ " يَعْنِي مَوْلُودًا عَجِيبَ الشَّأْنِ.
١١- وَجُمْلَةُ:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ " جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ السُّورَةِ.
أ- وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ،
- وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ خُصُوصَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ( أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ ، لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْعُمُومُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْإِنْسَانُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُونَ مِنَ النَّاسِ.
ب- وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ،
- فَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ أَبُو الْأَشَدِّ وَيُقَالُ: أَبُو الْأَشَدَّيْنِ وَاسْمُهُ أُسَيْدُ بْنُ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ .
- وَقِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
- وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ.
- وَعَنْ مُقَاتِلٍ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، زَعَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالًا عَلَى إِفْسَادِ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
- هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الَّذِي اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَلْفَ الْخَنْدَقِ.
- وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدٌ مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ وَلَا يُلَائِمُهَا الْقَسَمُ وَلَا السِّيَاقُ.
١٢- وَالْخَلْقُ: إِيجَادُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا،
- وَيُطْلَقُ عَلَى إِيجَادِ حَالَةٍ لَهَا أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي الذَّاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ " وَقَوْلِهِ: "وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ".
١٣- وَالْكَبَدُ : التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ،
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْرِيرِ الْمُرَادِ بِالْكَبَدِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى رَبْطِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ الْكَبَدَ وَبَيْنَ السِّيَاقِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَافْتِتَاحِهِ ،
- حَتَّى كَأَنَّهُمْ بِصَدَدِ تَفْسِيرِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَتْ وَاقِعَةً فِي كَلَامٍ يَجِبُ التئامه، ويحق وءامه.
- وَقَدْ غَضُّوا النَّظَرَ عَنْ مَوْقِعِ فِعْلِ "خَلَقْنَا" عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْكَبَدَ إِذْ يَكُونُ فِعْلُ "خَلَقْنَا" كَمَعْذِرَةٍ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ فِي مُلَازَمَةِ الْكَبَدِ لَهُ إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ فِيهِ. وَذَلِكَ يَحُطُّ مِنْ شِدَّةِ التَّوْبِيخِ وَالذَّمِّ،
أ- فَالَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ وَيُنَاسِبُ الْقَسَمَ أَنَّ الْكَبَدَ التَّعَبُ الَّذِي يُلَازِمُ أَصْحَابَ الشِّرْكِ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ. وَاضْطِرَابُ رَأْيِهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ وَبِطَلَبِ النَّجَاةِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ. وَمِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ
- فَقَوْلُهُ: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ " دَلِيل مَقْصُودًا وَحْدَهُ بَلْ هُوَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: " أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ". وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَابْتَدَأَهُمُ الْقُرْآنُ بِإِثْبَاتِهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْأُولَى
- فَوِزَانُ هَذَا التَّمْهِيدِ وَزَانُ التَّمْهِيدِ بِقَوْلِهِ:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ " بَعْدَ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: ( التِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) إِلَخْ.
- فَمَعْنَى: " أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ " أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِ جَسَدِهِ فَنُعِيدَهُ خَلْقًا آخَرَ، أَيْ كَمَا خَلَقْنَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي نَصَبٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ نَخْلُقُهُ خَلْقًا ثَانِيًا فِي كَبَدٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِكُفْرِهِ.
- وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ إِدْمَاجِ قَوْلِهِ فِي كَبَدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيرُ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي أَنَّهُمَا مِنْ مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى.
ب- وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ " بمعْنَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْكَبَدَ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ.
ففيه اعْتِبَارٌ لَطِيفٌ، وَهُوَ شِدَّةُ تَلَبُّسِ الْكَبَدِ بِالْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ حَتَّى كَأَنَّهُ خُلِقَ فِي الْكَبَدِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَأْوِيلَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهَا السِّيَاق.
لخصه ماجد بن محمد العريفي
يوم السبت ١٣-٩-١٤٣٧هـ
" لَا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) "
**********
١- ابْتُدِئَتْ بِالْقَسَمِ تَشْوِيقًا لما يرد بعده وَأُطِيلَتْ جُمْلَةُ الْقَسَمِ زِيَادَةً فِي التَّشْوِيقِ.
٢- وَلَا أُقْسِمُ مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا مَا فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ.
٣- وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي: هَلْ حَرْفُ النَّفْيِ مَزِيدٌ أَوْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ أَمْرِ الْمُقْسَمِ بِهِ.
٤- وَالْإِشَارَةُ بِ «هَذَا» مَعَ بَيَانِهِ بِالْبَلَدِ، إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي أَذْهَانِ السَّامِعِينَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ مُتَكَرِّرَةٌ لَهُمْ وَهُوَ بَلَدُ مَكَّةَ، وَمِثْلُهُ مَا فِي قَوْلِهِ: ( إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ ) . وَفَائِدَةُ الْإِتْيَانِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُ الْمُقْسَمِ بِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِهِ.
٥- وَالْبَلَدُ: جَانِبٌ مِنْ مُتَّسَعٍ مِنْ أَرْضٍ عَامِرَةً كَانَتْ كَمَا هُوَ الشَّائِعُ أَمْ غَامِرَةً
وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى جَانِبٍ مِنَ الْأَرْضِ مَجْعُولَةٍ فِيهِ بُيُوتٌ مِنْ بِنَاءٍ وَهُوَ بَلْدَةُ مَكَّةَ
٦- وَالْقَسَمُ بِالْبَلْدَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَتَفْضِيلِهِ.
٧- وَجُمْلَةُ:" وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ"
أ- مُعْتَرِضَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَعْنَى "وَأَنْتَ حِلٌّ "
أ-١- يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "حِلٌّ" اسْمَ مَصْدَرِ أَحَلَّ، أَيْ أَبَاحَ، فَالْمَعْنَى وَقَدْ جَعَلَكَ أَهْلُ مَكَّةَ حَلَالًا بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي يَحْرُمُ أَذَى صَيْدِهِ وَعَضْدُ شَجَرِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُحِلُّونَ قَتْلَكَ وَإِخْرَاجَكَ، قَالَ هَذَا شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ .
- وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عُدْوَانِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَلَدٍ لَا يَظْلِمُونَ فِيهِ أَحَدًا.
- وَالْمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءُ الْقَسَمِ بِمَكَّةَ الَّذِي هُوَ إِشْعَارٌ بِحُرْمَتِهَا الْمُقْتَضِيَةِ حُرْمَةَ مَنْ يَحِلُّ بِهَا، أَيْ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا بِأَذًى لِلدَّوَابِّ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى رَسُولٍ جَاءَهُمْ بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ.
أ-٢- وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "حِلٌّ" اسْمًا مُشْتَقًّا مِنَ الْحِلِّ وَهُوَ ضِدُّ الْمَنْعِ، أَيِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ،
- أَيْ مَا صَنَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنْ قَاتَلَكَ أَنْ تُقَاتِلَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ مَهْمَا تَمَكَّنْتَ مِنْ ذَلِكَ.
- وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : «يَعْنِي وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ "
- وَقَدْ خَصَّصَهُ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمِ الْفَتْحِ فَقَالَ: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ» الْحَدِيثَ، وَفِي «الْمُوَطَّأِ» .
ب- أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ " وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد" فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ أُقْسِمُ
- فَيَكُونُ الْقَسَمُ بِالْبَلَدِ مُقَيَّدًا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ بَلَدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
- أَنَّ مَعْنَى "وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ" أَنَّهُ حَالٌّ، أَيْ سَاكِنٌ بِهَذَا الْبَلَدِ ، حكاه ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَجَعَلَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَوْلًا وَلَمْ يَعْزُهُ إِلَى قَائِلٍ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ ،
- وَهُوَ تَأْوِيلٌ جَمِيلٌ لَوْ سَاعَدَ عَلَيْهِ ثُبُوتُ اسْتِعْمَالِ حِلٌّ بِمَعْنَى: حَالٌّ، أَيْ مُقِيمٌ فِي مَكَانٍ فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَرِدْ فِي كُتُبِ اللُّغَة: «الصِّحَاح» و «اللِّسَان» و«الْقَامُوس» و «مُفْرَدَات الرَّاغِبِ» . وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» ، وَلَا أَحْسِبُ إِعْرَاضَهُ عَنْهُ إِلَّا لِعَدَمِ ثِقَتِهِ بِصِحَّةِ اسْتِعْمَالِهِ،
- وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: وَالْحِلُّ: صِفَةٌ أَوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْحَالِّ هُنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَا عِبْرَة بِمن أَنْكَرَهُ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ» اهـ وَكَيْفَ يُقَالُ: لَا عِبْرَةَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهِ فِي كُتُبِ اللُّغَةِ، وَهَلِ الْمَرْجِعُ فِي إِثْبَاتِ اللُّغَةِ إلّا كتب أئمتها.
٨- وَتَكْرِيرُ لَفْظِ " بِهذَا الْبَلَدِ " إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ
- لِقَصْدِ تَجْدِيدِ التَّعْجِيبِ.
- وَلِقَصْدِ تَأْكِيدِ فَتْحِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْعَزِيزِ عَلَيْهِ وَالشَّدِيدِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَوْزَتِهِمْ.
٩- "ووالِدٍ " وَقَعَ مُنَكَّرًا فَهُوَ تَنْكِيرُ تَعْظِيمٍ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْقَسَمِ.
- فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَالِدًا عَظِيمًا،
- وَالَّذِي يُنَاسِبُ الْقَسَمَ بِهَذَا الْبَلَدِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِـ "والِدٍ " إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّهُ الَّذِي اتَّخَذَ ذَلِكَ الْبَلَدَ لِإِقَامَةِ وَلَدِهِ إِسْمَاعِيلَ وَزَوْجِهِ هَاجَرَ قَالَ تَعَالَى: "وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ" ثُمَّ قَالَ "رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ " . وَإِبْرَاهِيم وَالِدُ سُكَّانِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْأَصْلِيِّينَ قَالَ تَعَالَى:" مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ " ، وَلِأَنَّهُ وَالِدُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
١٠- " وَمَا وَلَدَ " الْمَقْصُودُ: وَمَا وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمُ مِنَ الْأَبْنَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ. وَذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالَّذِينَ اقْتَفَوْا هَدْيَهُ فَيَشْمَلُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- وَفِي هَذَا تَعْرِيض بالتنبيه للْمُشْرِكين مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ بِأَنَّهُمْ حَادُوا عَنْ طَرِيقَةِ أَبِيهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالصَّلَاحِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَعِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ قَالَ تَعَالَى: "إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا " .
- وَجِيءَ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ "مَا " فِي قَوْلِهِ: "وَما وَلَدَ " دُونَ (مَنْ) ، مَعَ أَنَّ (مَنْ) أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي إِرَادَةِ الْعَاقِلِ وَهُوَ مُرَادٌ هُنَا،
- فَعَدَلَ عَنْ (مَنْ) لِأَنَّ " مَا " أَشَدُّ إِبْهَامًا، فَأُرِيدَ تَفْخِيمُ أَصْحَابِ هَذِهِ الصِّلَةِ فَجِيءَ لَهُمْ بِالْمَوْصُولِ الشَّدِيدِ الْإِبْهَامِ لِإِرَادَةِ التَّفْخِيمِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: " وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ " يَعْنِي مَوْلُودًا عَجِيبَ الشَّأْنِ.
١١- وَجُمْلَةُ:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ " جَوَابُ الْقَسَمِ وَهُوَ الْغَرَضُ مِنَ السُّورَةِ.
أ- وَالْإِنْسَانُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ،
- وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ خُصُوصَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ( أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ) إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ ، لَا يَلِيقُ إِلَّا بِأَحْوَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْعُمُومُ عُمُومٌ عُرْفِيٌّ، أَيِ الْإِنْسَانُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ إِلَّا نَفَرًا قَلِيلًا وَلِذَلِكَ كَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْإِنْسَانِ مُرَادًا بِهِ الْكَافِرُونَ مِنَ النَّاسِ.
ب- وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ إِنْسَانٌ مُعَيَّنٌ، فَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ،
- فَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهُ أَبُو الْأَشَدِّ وَيُقَالُ: أَبُو الْأَشَدَّيْنِ وَاسْمُهُ أُسَيْدُ بْنُ كَلْدَةَ الْجُمَحِيُّ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْقُوَّةِ وَالشِّدَّةِ .
- وَقِيلَ: هُوَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ،
- وَقِيلَ: هُوَ أَبُو جَهْلٍ.
- وَعَنْ مُقَاتِلٍ: نَزَلَتْ فِي الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ، زَعَمَ أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالًا عَلَى إِفْسَادِ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:
- هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ الَّذِي اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ لِيَدْخُلَ الْمَدِينَةَ فَقَتَلَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ خَلْفَ الْخَنْدَقِ.
- وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَقْوَالِ شَاهِدٌ مِنَ النَّقْلِ الصَّحِيحِ وَلَا يُلَائِمُهَا الْقَسَمُ وَلَا السِّيَاقُ.
١٢- وَالْخَلْقُ: إِيجَادُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا،
- وَيُطْلَقُ عَلَى إِيجَادِ حَالَةٍ لَهَا أَثَرٌ قَوِيٌّ فِي الذَّاتِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: " يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ " وَقَوْلِهِ: "وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ ".
١٣- وَالْكَبَدُ : التَّعَبُ وَالشِّدَّةُ،
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَقْرِيرِ الْمُرَادِ بِالْكَبَدِ، وَلَمْ يُعَرِّجْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَلَى رَبْطِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ مَا يُفَسِّرُ بِهِ الْكَبَدَ وَبَيْنَ السِّيَاقِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ وَافْتِتَاحِهِ ،
- حَتَّى كَأَنَّهُمْ بِصَدَدِ تَفْسِيرِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَتْ وَاقِعَةً فِي كَلَامٍ يَجِبُ التئامه، ويحق وءامه.
- وَقَدْ غَضُّوا النَّظَرَ عَنْ مَوْقِعِ فِعْلِ "خَلَقْنَا" عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْكَبَدَ إِذْ يَكُونُ فِعْلُ "خَلَقْنَا" كَمَعْذِرَةٍ لِلْإِنْسَانِ الْكَافِرِ فِي مُلَازَمَةِ الْكَبَدِ لَهُ إِذْ هُوَ مَخْلُوقٌ فِيهِ. وَذَلِكَ يَحُطُّ مِنْ شِدَّةِ التَّوْبِيخِ وَالذَّمِّ،
أ- فَالَّذِي يَلْتَئِمُ مَعَ السِّيَاقِ وَيُنَاسِبُ الْقَسَمَ أَنَّ الْكَبَدَ التَّعَبُ الَّذِي يُلَازِمُ أَصْحَابَ الشِّرْكِ مِنِ اعْتِقَادِهِمْ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ. وَاضْطِرَابُ رَأْيِهِمْ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ ادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ تَوَجُّهِهِمْ إِلَى اللَّهِ بِطَلَبِ الرِّزْقِ وَبِطَلَبِ النَّجَاةِ إِذَا أَصَابَهُمْ ضُرٌّ. وَمِنْ إِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ
- فَقَوْلُهُ: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ " دَلِيل مَقْصُودًا وَحْدَهُ بَلْ هُوَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: " أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ". وَالْمَقْصُودُ إِثْبَاتُ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَابْتَدَأَهُمُ الْقُرْآنُ بِإِثْبَاتِهِ فِي سُوَرٍ كَثِيرَةٍ مِنَ السُّوَرِ الْأُولَى
- فَوِزَانُ هَذَا التَّمْهِيدِ وَزَانُ التَّمْهِيدِ بِقَوْلِهِ:" لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ " بَعْدَ الْقَسَمِ بِقَوْلِهِ: ( التِّينِ وَالزَّيْتُونِ ) إِلَخْ.
- فَمَعْنَى: " أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ " أَيَحْسِبُ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ اضْمِحْلَالِ جَسَدِهِ فَنُعِيدَهُ خَلْقًا آخَرَ، أَيْ كَمَا خَلَقْنَاهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي نَصَبٍ مِنْ أَطْوَارِ الْحَيَاةِ كَذَلِكَ نَخْلُقُهُ خَلْقًا ثَانِيًا فِي كَبَدٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ لِكُفْرِهِ.
- وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ مَوْقِعُ إِدْمَاجِ قَوْلِهِ فِي كَبَدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّنْظِيرُ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فِي أَنَّهُمَا مِنْ مَقْدُورِ اللَّهِ تَعَالَى.
ب- وَمِنَ الْجَائِزِ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: " لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ " بمعْنَى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْكَبَدَ فِي الْإِنْسَانِ الْكَافِرِ.
ففيه اعْتِبَارٌ لَطِيفٌ، وَهُوَ شِدَّةُ تَلَبُّسِ الْكَبَدِ بِالْإِنْسَانِ الْمُشْرِكِ حَتَّى كَأَنَّهُ خُلِقَ فِي الْكَبَدِ.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ تَأْوِيلَاتٌ أُخْرَى فِي مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُسَاعِدُ عَلَيْهَا السِّيَاق.
لخصه ماجد بن محمد العريفي
يوم السبت ١٣-٩-١٤٣٧هـ