طارق منينة
New member
- إنضم
- 19/07/2010
- المشاركات
- 6,330
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 36
أما بعد,
فسأقوم إن شاء الله في عرض زبدة للكتاب النفيس (النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن) للشيخ المتفنن محمد عبد الله دراز رحمه النبأ العظيم, نظرات جديدة في القرآن
تخريج وتعليق: عبد الحميد أحمد الدَّخاخني
دار الطباعة والنشر الإسلامية
مكتبة القاهرة : مدينة نصر شارع ابن هانىء الأندلسي.
المعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي "قرآن" و"كتاب"
معنى القرآن في اللغة
قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} القيامة: الآية 17، أي: قراءته.
القرآن: مصدر على وزن فُعلان بالضم، كالغفران. قرأته قراءةً وقرآنًا بمعنى ، أي تلوته تلاوة, ثم صار علما على الكتاب. فهو القرآن والكتاب:
فهو قرآن متلو بالألسن وكتاب مرقوم بالأقلام. ومن تأمل التسميتين فهم أن حق كلام الله أن يحفظ في السطور وفي الصدور.
كتب وقرأ تدوران حول معنى الجمع. فالقراءة ضم الألفاظ بعضها لبعض نطقا والكتابة ضم بعضها لبعض خطا. وهاتان ركيزتان من ركائز الحفظ الرباني للقرآن, فلا عبرة لحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المنقول بالتواتر ولا بكتابة كاتب حتى يوافق المحفوظ المتواتر. أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
من معاني الجمع: الآيات, السور, الأحكام, الأخبار {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
فتأمل عبد الله هذا السر اللطيف في كون كلام الباري قرآنا وكتابا يتبين لك جزء من {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
الكتاب: المهيمن الجامع لما فيما قبله زائد عليها.
هل يمكن تحديد القرآن تحديدًا منطقيًّا؟
إنما يعرف القرآن بالإشارة إليه حاضرا في الحس أو معهودا في الذهن: فيقال مثلا هوما بين هاتين الدفتين, أو هو من الفاتحة إلى الناس.
"القرآن هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته".
قولنا كلام الله: أخرج كلام البشر وكلام الجن وكلام الملائكة.
قولنا المنزل: أخرج الكلام الذي استأثر به الله في نفسه مثلا, فليس كلام الله كله منزلا: آية الكهف.
وقولنا المنزل على محمد: أخرج ما أنزل على أسلافه وإخوانه من الأنبياء.
وقولنا المتعبد بتلاوته: أخرج قراءات الآحاد والأحاديث القدسية.
البحث الثاني في بيان مصدر القرآن
تمهيد:
القدر المشترك بين الناس بلا خلاف: القرآن جاء على لسان رجل عربي أمي (ق7م): فشهادة التاريخ حجة في هذا الأمر، وموطن النزاع: من أين جاء بالقرآن؟
أليس من الإنصاف أن نبدأ بقول الكتاب نفسه؟ القرآن يقول إن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب. قول رسول كريم. ومهمته الحفظ ثم التبليغ ثم البيان ثم التطبيق. وليس الإبتكار والصياغة: إن هو إلا وحي يوحى.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} ويقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.
فانظر كيف عبر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان: كلها متعلقة بالألفاظ لا بالمعاني البحتة. وهل قرأتم كتابا قط لا يفتتحه صاحبه بقوله, رأيت وألفت وحللت ونظمت؟
القرآن صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه".
فالشق الأول من المسألة واضح بنص القرآن.
والحق أن القاضي العادل يحكم في هذا النزاع بمجرد ثبوت إقرار صاحبها على نفسه , فأي مصلحة له أن ينسب عبقريته إلى غيره؟ بل تاريخ الفكر والأدب حافل بالسرقات الأدبية. ولا نعرف مثالا لمبدع ينسب بنات أفكاره لغيره. ولو افترضنا ذلك جدلا, فبأي تعليل؟ ولكننا نتنزل مع المعاند المجادل درجة درجة وندحض له كل شبهة. ولو نسب كاتب كتابه لغيره فلعلة. ثم إنه لا يلبث أن يفضح نفسه.
لو تنزلنا وافترضنا أنه نسبه إلى الوحي ليستصلح الناس ويستنهضهم لما لنسبته كلامه إلى الله من الهيبة والتعظيم.
وهذا قياس فاسد في ذاته, فاسد في أساسه:فصاحب القرآن صدر عنه الكلام المنسوب إلى الله والكلام المنسوب إلى ذاته البشرية. دون أن ينقص ازدواج الكتاب والسنة من طاعته, فيا ترى لم لم ينسب كلامه كله إلى القرآن؟
وأما فساد هذا القياس من أساسه فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو:
تجويز أن يكون صلى الله عليه وسلم وقد برأه الله وعافاه من ذلك ممن لا يتورعون عن الكذب والتمويه للوصول إلى غاية إصلاحية.
وتكفينا لنسف هذه الفرية شهادة التاريخ: من تتبع سيرته علم صدقه في السر والعلن وفي الغضب والرضا كما شهد ولا يزال يشهد به أعداؤه قبل أصدقائه: شهادة ابي سفيان في مجلس هرقل في الصحيحين وشهادة توماس كارليل في كتابه الأبطال.
طرف من سيرته بإزاء القرآن: فهل وجد في سيرته ما يؤيد أن القرآن ليس من عنده؟
كانت تنزل به النازلة فتدعوه دواعي البشرية إلى تلمس المخرج مما يجعل العاقل يقطع أن القرآن لا يمليه من هواه:
فترة الوحي في حادث الإفك: أبطأ الوحي في حادثة الإفك وطالت المحنة شهرا والناس يخوضون وصاحب القرآن لا يزيد على قوله: "إني لا أعلم عنها إلا خيرًا" وهو يستشير ويسأل الأصحاب ولم يزد أن قال لها بمقتضى بشريته التي لا تخترق حجب الغيب في خاتمة الأمر:
"يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله". ولم يبرح مكانه حتى نزلت براءة عائشة في صدر سورة النور كما رواه الشيخان.
فلو كان القرآن من وحي ضميره فما أعظم الداعي يومئذ أن يتقول كلمة يذب بها عن عرضه ذباب الأفاكين وخرص الجاهلين. ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ, فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).
مخالفة القرآن لطبع الرسول صلى الله عليه وسلم وعتابه الشديد له في المسائل المباحة:
يأتي الوحي على غير ما يهواه. ويرى الرأي فيخطؤه القرآن, ويأذن له في الشيء لا يميل إليه, وتنزل الآيات بالعتاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}.
لو كانت هذه التقريعات المؤلمة من وُجدانه، معبرة عن ندمه حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها بهذا والتشنيع؟ ألم يكن في السكوت عنها ستر، واستبقاء لحرمته؟ بلى
لو كان القرآن يفيض عن وجدانه لكان يستطيع أن يكتم منه شيئًا، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
وتأمل آية الأنفال: ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد افتتحت بالتخطئة والاستنكار، ثم ختمت بالإقرار وتطبيب النفوس. بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها.
فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -افتراضا- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟
كلا، إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين متتالين لكان الثاني منهما ناسخا للأول ماحيًا له، ولاستقر الفكر على آخرهما الذي جرى به العمل، فيا ترى أي داع دعا إلى التعبير عن ذلك الخاطر الأول الممحو المنسوخ وإثباته وتسجيله، قرآنا متلوا متعبدا به, مع ما فيه من تقريع. علماء النفس يستشفون من ثنايا هذا الكلام وجود شخصيتين منفصلتين: سيد يقول لعبده معاتبا: لقد أخطأت في اختيارك, لكني عفوت عنك وأذنت لك تفضلا ومنا وكرما.
هلموا بنا نتأمل في جنس الأمور التي عوتب فيها النبي صلى الله عليه وسلم: تنحصر في أنه يختار فيما لم يؤمر فيه بشيء الأقرب إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، والأبعد عن الغلظة والجفاء. و لم يكن بين يديه نص فخالفه عمدا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير.
هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأولى بعد النظر والترجيح, ألا تراه معذورًا ومأجورًا؟ أولست تراه في كل واقعة من الوقائع المذكورة آنفا, يختار خير ما يختاره ذو حكمة ورفق وروية وأرجح ما يرجحه أعقل العقلاء لو قدر لهم أن يجتمعوا ويتشاوروا ويقلبوا وجوه الرأي في ذات المسائل التي عوتب فيها مبلغ القرآن.
أوليس التنبيه الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تلكم المواقف جميعها ناطقا بترجيح ما تقتضيه الحكمة الربانية الإلهية, مما لا تبلغه ولن تبلغه قط حكمة بشرية وإن كانت حكمة أعظم وأتقى وأعلم البشر. أوليس الترجيح الذي نبه النبي صلى الله عليه وسلم حاصلا بميزان الحكمة الإلهية في حين أن الترجيح النبوي ثمرة ميزان الحكمة البشرية؟
فليتأمل العاقل المنصف اللبيب, هل يحكم العقل على فعل واحد مما رجحه مبلغ القرآن في تلكم المواقف كلها بأنه ذنب ومخالفة؟ وهل يوجب العقل تأنيب ترجيحه في أي منها وتثريبه؟
أم إن العقل يفهم أن آيات العتاب تلك تنزلت من مقام الربوبية على مقام العبودية, بغية الإرتقاء بسيد العباد في مقامات الرقي الإنساني ومعارج التعليم والتأديب؟
ومثل ذلك صلاته صلى الله عليه وسلم على رأس المنافقين وعتاب القرآن له في ذلك: ففهم الحبيب الرؤوف الرحيم: "إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين"
فتدبروا يا أولي الألباب كيف دلت آيات العتاب التي يتعلق بها مرضى القلوب للطعن في القرآن وصاحب القرآن, على أن القرآن كلام الله, فكان العتاب والتأديب ناطقا بأفصح لسان عن إعجاز هذا القرآن.
خلاصة إذا تدبرت المواقف النبوية من القرآن في أمثال هذه المواطن تجلى لك فيها معنيان متلازمان في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يجمعهما قولنا عنه: إنه عبد لله رؤوف رحيم بخلق الله: "معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة"
هذا الجانب, الذي يكشف ما عليه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم من أسمى درجات العبودية وأرقى منازل الرحمة الإنسانية والحكمة البشرية، يقابله هيبة وقوة وسلطان قاهر ينطق به هذا القرآن، قوة مستعلية عن البواعث والأغراض، بل هي دوما تنطق بالصدق, وتحكم بالعدل، وتصدع بالحق فرقانا، قوة تخاطب الخلق من عل، ولا تقيم لرضاهم عن حكمها ولا لسخطهم وزنا.
فيا ترى أيها السامع المنصف هل تبين لك ما بين المقامين من فرق عظيم وبون شاسع, إنه الفرق بين السيد والمسود والعابد والمعبود.
توقف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان
لو قيل لك ما الفرق بين ناقل الكلام وقائله: لقت دونما تردد الناقل يتصور فيه أن يلتبس عليه شيء من الكلام المنقول, وليس ذلك يضيره, ولكن هل يتصور أن يلتبس الكلام على قائله, ويخفى معنى الكتاب على كاتبه؟ كلا, لو تطرق إلينا أدنى شك في شيء من ذلك لحكمنا مع تضافر القرائن بان الناطق بهذا الكلام الذي لا يدري كنهه ناقل لا قائل, وأن الكاتب مقتبس من غيره لا مؤلف لبنات أفكاره.
"أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟"
إذا تقرر ذلك فتأملوا معاشر العقلاء كيف تكرر أمر القرآن بالأمر المجمل أو المشكل الذي لا يستبين ناقله ومبلغه صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه معناه ولا يستيقنون تأويله حتى يأتي القرآن نفسه ببيان المجمل وتفسير المشكل بعد.
موقفه في قضية المحاسبة على النيات:
نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أزعجت الآية الصحابة ، ؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون حتى حركات القلوب وخطراتها -فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها- فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، إلى آخر السورة
وموضع الشاهد: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم؛ فهو ليس بكاتم عنهم علما, فكيف وحاجتهم تشتد إليه؟ ولا يتصور منه عدم اكتراثه بهلعهم وهو الرؤوف الرحيم, ولكنه كان مثلهم لا يعلم بعد بيان ما أشكل عليهم لأنه ببساطة لم ينزل بعد.
"ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان. ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}." كأن الشيخ يشير إلى أن هذا التراخي بين الحكم المجمل وبيانه المعبر عنه في الآية ب"ثم" من دلائل إعجاز هذا القرآن.
مسلكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية
واقرأ في صحيح البخاري قصة الحديبية، ففيها آية بينة على ما نحن بصدده: قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فلما خرجوا في ذي القعدة سنة ست سمعوا بأن قريشا ازمعت منعهم من البيت.وصمموا على المضي إليه، فمن صدهم عنه قاتلوه. وبينا هم سائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة المسير إلى البيت؛ امتثالًا لهذه الإشارة الربانية التي لا يعلم حكمتها.
ثم سعى في الصلح: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ولكن قريشًا أبت عليه دخول البيت في ذلك العام لا محاربًا ولا مسالمًا، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يلجأ إليه من مسلمي من مكة ، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه مفارقا لجماعة المسلمين، فقبل تلك الشروط التي لم يكن لقريش أن تمليها وقد نهكتها الحرب، فاشتد الأمر على المسلمين حتى إنهم ترددوا في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتحلل والعودة إلى المدينة. وراجع الفاروق النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر متسائلا: علام نعطي الدنية في ديننا؟ وقال بعد: "والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ."
فتأملوا يا أولي النهى: هل يسيغ العقل أن تكون الخطة من تدبيره ثم تخفى عليه الحكمة منها, أم هل يعقل أن يتأخر في بيان وجه الحكمة من هذا الصلح المجحف ظاهره, والفتنة قد أطلت برأسها والجيش يوشك أن يتمرد على قائده؟
وتمعنوا مليا في جوابه حين راجعه عمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري" فلكأني به يقول بأبي هو وأمي: إني عبد مأمور, ولا أعلم من حكمة هذا الأمر الرباني الساعة أكثر مما تعلمون منه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكذلك كان: قفلوا راجعين والإشكال قائم في نفوسهم حتى بينت لهم سورة الفتح طرفا من الحكم الباهرة والبشارات الصادقة التي ستولد من رحم هذا الصلح الذي حسبوه إعطاء للدنية وظنوه ظنوه ضيمًا وظلما بادئ الرأي {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}
قال الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا التقوا وتفاوضوا في الحديث، فلم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه. وفسر ذلك صاحب الفتح فقال: إن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وظهر من كان يخفي إسلامه، وأسمع المسلمون المشركين القرآنَ، وناظروهم جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية. فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
منهجه صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي
كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بداية نزول القرآن عليه يحرك به لسانه وشفتيه؛ طلبًا لحفظه، وحذرا من تفلته من صدره. ولم يكن ذلك يوما من عادة العرب، إنما كانوا يرتجلون الكلام ارتجالا, فلما خالف فعله عادة قومه في ذلك, أشار فعله إلى أن هذا القرآن يفجأه كما يفجأ المتعلم تلقين معلمه. لبث كذلك حتى نزل التطمين قرآنا يتلى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الآيات من سورة القيامة وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
طرف من سيرته العامة صلى الله عليه وسلم
فإذا تبين ذلك كله, فدونكم شواهد ناطقة بأن القرآن لم يصدر عنه، بل ورد إليه، وأمثلة تفصح أنه كان لا يجاوز حكم القرآن وكثيرا ما يتوقف حتى ينزل القرآن, ويأبى أن يخوض فيما لا يعلمه في تواضع مهيب وصدق ناصع.
قالت جارية في عرس: : وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين". ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}.
كان عبد الله بن أبي السرح ممن استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمان يوم الفتح, ولما قدم به عثمان مستشفعا, لم يبايعه إلا بعد أن استشفعه ذو النورين ثلاثا. ثم خاطب أصحابه: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله" ؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين".
فهذا الصدق والتواضع الذي يملأ قلبه لإستشعاره أنه سيسأل عن أمانة هذه الرسالة التي حملها من قبل رب العالمين: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.
واعلم أنك لو درست هذه السيرة الزكية الطاهرة العطرة المباركة مرخيا للشك العنان, فإنك لن تملك في النهاية أن تدفع عن نفسك اليقين بصدق هذا الرسول الكريم وصفاء روحه, لن تملك شيئا من ذلك دون أن تشك في سلامة عقلك.
واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين وأرخيت لها عنان الشك وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد أن تتهم عقلك. ألا ترى كيف تفضي دراسة شعر شاعر دراسة متأنية متفحصة إلى رسم صورة دقيقة لنفسية هذا الشاعر وعقيدته, وميوله ونزواته.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فما ظنك بهذه الحياة النبوية التي غدت تحت بصر العالم وسمعه كالكتاب المبسوط الذي لم تفته صغيرة ولا كبيرة من تفاصيل حياة من جعله الله رحمة للعالمين وأسوة للخلق أجمعين.
وها نحن أولاء وقد خرجنا من واحة السيرة النبوية نعود فنقرر ما قصدنا البرهنة عليه في هذه العجالة فنقول: إن العقل المتجرد عن الهوى والتعصب ليشهد أن صاحب هذه المواقف التي يكل اللسان في وصف صدقها وصفائها لخليق بأن يصدق دون امتراء حين يقول: أوحي إلي هذا القرآن. فتنضاف شهادته واعترافه إلى سجل صدقه وتواضعه.
المرحلة الأولى من البحث البحث عن مصدر القرآن
بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم
هذه حقيقة جلية برهانها ظاهر للعيان: يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال عجزه المادي عن القيام بذلك العمل:
فلينظر العاقل وليتأمل المتأمل: هل كان للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم من الإمكانات العلمية والملكات ... مايجعله أهلا لأن يأتي بهاتيك العلوم والمعارف القرآنية؟
سيجيب الملحد متسرعا: نعم بفضل من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة وفراسته وتأملاته الصادقة.
وإنك لتعجب ممن يكذب بنبوة الرسول الخاتم ثم يذهب يمدحه على هذا النحو حتى يستقيم له الإنكار. ونحن قد نسلم بأكثر من هاته الشمائل ولكن:
هل معاني القرآن وحقائقه كلها مما يستنبطه العقل ، ومما يدركه الوجدان ؟ كلا، ففي القرآن جانب كبير من الأخبار البحتة التي لا يدركها العقل المجرد وإن إجتمع لذلك أذكياء العالم، بل إنهم سيقرون أن النقل هو السبيل الأوحد إلى الإحاطة بها.
فكيف يجيب الملحد يا ترى عما قصه القرآن من أنباء ما قد سبق، وعن تفصيل تلكم الأنباء كما وقعت بالفعل؟ أتراه يقول: إن حقائق التاريخ أيضا مجال للنظر العقلي وللفراسة؟ أم إنه يكابر فيقول: إن محمدًا قد عاصر آدم ونوحا وإبراهيم, ثم تنقل بين القرون لينقل لنا خبر عاد وثمود ومدين؟
أم إنه يعود فيدرك أن العمدة في الأخبار النقل, فيقول إن نبينا صلى الله عليه وسلم ورث كتب الأولين, فدرسها ثم صاغها قرآنا يتلى؟
لن يسع الملحد أن يدعي شيئا من ذلك كله لأنه سيواجه بشهادة التاريخ وهي تدحض كل هذه الإفتراضات الخرقاء.
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 2 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
نحن نعلم أن العلم المجمل ببعض جزئيات تاريخ الأمم السابقة وأنبيائها مثل طوفان نوح وإهلاك قوم عاد وثمود ولوط قد وصل إلى العرب، وليس الشأن في هذه النتف اليسيرة وإنما كلامنا عن التفاصيل العلمية الدقيقة التي تعزب عن غير الدارس المتخصص. مثلا يقرر القرآن عن نوح: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. والتوراة تخبر أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. ويخبر أن أهل الكهف لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا". والسنون التسع فرق ما بين التقويم الشمسي والقمري. فأنى لأمة أمية لا تكتب ولا تحسب بهذا الحساب الدقيق؟
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
رجل أمي بين ظهراني أمة أمية، يخالطهم في غير الباطل ويعول أهله، راعيًا ، أو تاجرًا بالأجر، رجل تعرفه الأسواق ولم تعرفه حلق العلم والعلماء يوما من الدهر.
بل قد علم بالتواتر أنه لم يكن يعاني شيئا من الكتابة أبدا, يبقى كذلك أربعين سنة, ثم يخرج على قومه يوما بكلام لم يعهد منه, ولم يتكلم قبل بحرف منه, ويقص علينا من أنباء القرون الخالية ما اجتهد أهل الكتاب في إخفائه وتحريفه دهورا متطاولة.
هل يسيغ العقل أن تكون هذه الطفرة العلمية نتيجة منطقية لحياته السابقة؟ كلا, لا بد أن نتلمس سر هذا الطور العلمي الجديد الذي يظهر للعيان أنه لا ينبني على مقدمات منطقية, ولا يستند إلى معلومات سابقة, ينبغي أن نتلمسه خارج حدود نفسه.
ولقد فطن مشركو الجاهلية الأولى عند تعليلهم لظاهرة القرآن لما خفي على ملاحدة الجاهلية المتأخرة, فأهل مكة فهموا أن هذا العلم الجديد نتيجة تعليم: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وبهذا كان أبوجهل وأبي بن خلف والوليد بن المغيرة أحسن حالا وأقوى حجة من ملاحدة آخر الزمان الذين يقولون إن القرآن وحي نفسي.
(وليقولوا درست): صدقوا فإنه درسها على أستاذه الروح الأمين.
تلكم أخبار التاريخ في القرآن يشهد العقل أن العمدة فيها على النقل وأنها لا ترد من داخل النفس بل لا بد أن تصدر إليها بواسطة التعليم والتلقين. فهل نسلم للمخالف في أن بقية العلوم القرآنية مما قد يناله الأذكياء بالنظر والفراسة؟
كلا, فالعقول لا سبيل لها للإحاطة بما لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن, أو ما لم يكن مركوزا في النفس, ما لم ينبن هذا الإدراك على مقدمات معلومة, يتوصل بها إلى ذلك العلم الجديد الذي كان قبل مجهولا. وهذا الإدراك يتم ببطء بواسطة الإستدلال والإستنباط والقياس, أو بسرعة من طريق الحدس. وكل ما لم تتهيأ له هذه المقدمات فإنه يبقى خارج مرمى العقل ومجاله.
سؤال: هل تهيأت للحقائق القرآنية غير النقلية مقدمات تجعلها مما ينال بالعقل؟ سنضرب لذلك مثالين:"أحدهما" قسم العقائد الدينية."والثاني" قسم النبوءات الغيبية.
الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها
غاية النظر العقلي في أمر العقائد الدينية ومنتهاه, شرط استقامة الفطرة, أن يدرك أن فوق هذا العالم إلها خالقا مدبرا, وأنه لم يخلقه عبثا, بل كل ذرة في الوجود تشهد للموجد بالحكمة والعدل والرحمة, فيستنبط العقل المتجرد أن الحكمة تقتضي أن ينال كل عامل جزاء ماعمل إن خيرا وإن شرا.
فهل وقف القرآن عند هذا الحد؟ أم أنه فصل شرائع الإيمان, ووصف بدء الخلق ونهايته, ووصف لنا جزاء من حقق الإيمان وجزاء من جحده. فوصف الجنة ونعيمها وعدة أبوابها... فبأية مقاييس عقلية تنال مثل هذه الأمور؟ هذا كله إما حق ينال بالتعليم أو باطل مبناه على الخيال. ولكنه لا ريب الحق الذي شهدت له الكتب واستيقنه أهلها:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق
وإن تسل عن النبوءات الغيبية فإن العاقل يجعل تجاربه مصباحا يستكشف به بضع خطوات من مجرى الحوادث المستقبلة, فيقيس الغائب على الشاهد, ثم يصدر حكمه متثبتا متحفظا متوجسا, فيقول: "ذلكم توقعي حسب طبيعة الحوادث لو لم يقع ما ليس في الحسبان."
ولا يبت في الأمور المستقبلة بغير مقدمات علمية إلا أحد اثنين: رجل مجازف جاهل لا يبالي بالعواقب, وهذا دأب المنجمين والعرافين, وإما نبي مرسل تصدقه الحوادث ولا ثالث لهما إلا رجلا ينقل عن أحدهما.
فيا أيها المخالف, أي الرجلين صاحب القرآن في حكمك؟ وأنت تراه يخبر جازما بما سيقع في أعوام, وبما سيكون آخر الزمان, وبما لا يكون أبد الدهر, وهو لم يتعاط التنجيم, وكان خلقه يأبى عليه المجازفة وإلقاء الكلام على عواهنه والدعوى المجردة عن الدليل. بل كانت أخباره صدقا كلها يعجز الدهر أن ينقض منها حرفا واحدا.
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
أمثلة من النبوءات القرآنية
هاكم أمثلة بعض النبوءات القرآنية, لترى هل كانت مقدماتها توحي بالنتائج التي تضمنتها تلك النبوءات؟ وهي تتعلق بأنواع ثلاثة:
1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله.
2- ما يتصل بمستقبل المؤمنين.
3- ما يتصل بمستقبل المعاندين.
1- فيما يتصل بمستقبل الإسلام
أولا: الإخبار ببقاء الإسلام:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟
صدرت في مكة والإسلام في استضعاف وقلة وحصار. فهل كانت هناك بارقة أمل توحي بظهور هذا الدين, ولو افترضنا أن هذه الآيات ترجمة لمشاعر قلب ممتلئ يقينا ورجاء في ظهور دعوته ما دام يتعهدها, فمن أين يجئيه اليقين ببقائها بعد موته, فكم من نبي قتل وكم من كتاب حرف.
فمن ذا الذي يملك الضمان على بقاء شيء أبد الدهر إلا رب الدهر ومصرف الحوادث. فكم مرة استأسد العدو على أهل الإسلام وتسلط على ديارهم ودنس حرماتهم. كما فعل القرامطة والعبيديون والإفرنج والتتار, مما كان يكفي عشر معشاره لطمس هذه العقيدة وتحريف هذا الكتاب, لولا الحفظ الرباني. يفعلون بأهل هذا الدين الأفاعيل ثم لا يخرج كيدهم عما سطرته أمثال هاتين الآيتين:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
ومثل ذلك التحدي بالقرآن:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
أنى لرجل عربي يعلم أن مضمار المساجلات اللغوية بين قومه مفتوح, وأن لكل كلام بشري نقصا يستدركه اللاحق, أنى له أن يتحدى الخلق, ثم ينفي أن يأتوا بمثل كلامه نفيا مؤكدا مؤبدا؟
ومثال ثالث إخبار القرآن أن الله تعهد بحفظ حياة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ رسالات ربه:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. فهل يملك هذا الضمان أحد؟ أنظر إلى الرؤساء كيف يجتهدون في حماية أمنهم الشخصي ثم يأتي بعضهم من يقتلهم غيلة رغم الكاميرات والمخابرات والإحتياطات.
وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرس بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال: "يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها. ولنترك النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يقص ما كان من أمر ذلك المشرك:
« إِنَّ رَجُلاً أتاني وَأَنَا نَائِم،ٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَالسَّيْفُ صَلْتًا في يَدِهِ، فَقَالَ لي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ في الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. قَالَ فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ». ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. شام السيف أي رده في غمده.
في غزوة حنين، وقد انكشف المسلمون ، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يركض ببغلته جهة العدو ، فأقبل إليه المشركون َفلما غشوه لم ينكص، بل نزل
عن بغلته ، وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا نيلًا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده. متفق عليه.
تثبيت المؤمنين وإخبارهم بما سيكون من أمر مستقبلهم:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
بعد الهجرة بدأت الحرب فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. رواه الحاكم.
فبشرهم القرآن بالخلافة والملك مؤكدا الوعد بالقسم. فانظر تأويل الآية فيما عاشه الصحابة بعد من التمكين وفتح الأقطار. وتأمل الخطاب لهم: "منكم"
مثال هزيمة الروم أمام الفرس. {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}.
فأخبرت الآية بأمرين خارجين عن إدراك العقل. فجعل زمان غلبة الروم أمارة على نصر المؤمنين, فتراهن المشركون على تكذيب النبوءات مجتمعة, لكنها وقعت لسبب يوقن به من تأمل الآية الأخرى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. فانتصرت الروم يوم انتصر المسلمون في بدر كما رواه الترمذي وغيره.
شبهة: لم لم يحدد السنين؟ اختلاف الحساب, تأخر بشائر النصر. فقال في بضع ولم يقل بعد بضع سنين.
ثانيا: إخبار القرآن بمستقبل المعاندين:
دعا صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بسنين كسني يوسف فأجابه القرآن: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فأصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. فأتوه يستسقون, فاستسقى لهم فأغيثوا ثم عمهوا في كفرهم.
ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} ثلاث نبوءات: كشف العذاب ثم عودتهم للكفر والمكر, ثم الإنتقام منهم يوم بدر. فقتل سبعون من صناديدهم وأسر سبعون.
قال تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر. جعل عمر يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها.
ومن إخبار القرآن بما ينال أعداء هذا الدين قوله عن الوليد بن المغيرة: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}, فأصيب أنفه يوم بدر فكان موسوما على الخرطوم يعير بها دهره.
فما أعجب هذه النبوءات القرآنية التي تخترق حجب الغيب, وتتحكم في سير الحوادث ومآلات الأمور, ثم يأتي الدهر مصدقا لتفاصيلها.
وما أعجب هذا الرجل الذي كلما أخبرنا بأمر ماض صدقته شواهد التاريخ وكلما أنبأنا باالأمور المستقبلة صدقته صروف الحوادث, بعد موته بدهور وأحقاب متباعدة.
فهل يصح في الأذهان أن يكون جاء بذلك كله من عند نفسه وهو الأمي الذي لم يؤثر عنه طلب للعلم أي علم؟
الجواب أنه لا بد من أن مصدر هذه العلوم والأخبار جميعها من معلم خارجي, ثم إن هذا المصدر له من سعة العلم ودقته وكماله ما لا يحيط به بشر.
ولا يمكن بحال قبول الإدعاء أن ذلك كله ثمرة ذكاء رجل أمي وعبقريته. فأي عبقري ينال من الدهر عهدا أن يصوب ظنونه كلها وأن يوافقه في تنبؤه بالمستقبل.
حتى الأنبياء لم يظفروا بمثل هذا العهد. انظر إلى يعقوب يتهم بنيه حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب, ثم يتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرف, فقال في كلتا المرتين: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}, فأصابت فراسته في الأولى وأخطأت في الثانية. ومثله قول موسى للعبد الصالح: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}, ثم ينسى ولا يطيق صبرا ولا يطيع أمره.
وهذا مبلغ القرآن نفسه, يوشك الناس أن يضللوه. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وصح في سبب نزولها أن لصا سرق طعام أنصاري يسمى رفاعة وسلاحه, فتفقد رفاعة متاعه فوجده في بيت بني إبيرق وفيهم منافقون، فجاء قتادة بن النعمان مع عمه رفاعة يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، و جاء بنو أبيرق يشكون رفاعة ويرمونه برميهم بالسرقة دونما تثبت, فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على قتادة؛ بل إسمع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم " قال الله" فلن أكذب على الله" وقوله "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" رواه والشيخان وأصحاب السنن.
فكيف يا ترى يعجز مبلغ القرآن عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين يعاصرانه, يسمع من كليهما ثم يخرج بحكم يخالف الواقع ثم يخبر بما مضى أخبارا تصدقها الكتب, ويخبر بما لم يقع بعد فيقع حسبما أخبر؟ ثم ألا يرى كل ذي عينين أن الآية تنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون خصيما للخائنين, وتأمره بالإستغفار, ألا يحيل العقل أن يصدر الحكم الأول والثاني عن نفس واحدة؟
إنه عالم الغيب الذي تنطمس أمامه أنوار الفراسة وآلات الفكر والعبقرية, فيغدو العقل أمامه متحيرا متخبطا, تتقاذفه الظنون وتتلاعب به الخيالات, فلكأنه حاطب ليل يحمل الحية يحسبها حطبا, لا يصيب حكمه مرة حتى يخطئ مرارا.
فما بال هذا القرآن دوما يصيب, فأخباره صدق وأحكامه عدل, لا تترك كلاما لمستدرك؟
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
فسأقوم إن شاء الله في عرض زبدة للكتاب النفيس (النبأ العظيم نظرات جديدة في القرآن) للشيخ المتفنن محمد عبد الله دراز رحمه النبأ العظيم, نظرات جديدة في القرآن
تخريج وتعليق: عبد الحميد أحمد الدَّخاخني
دار الطباعة والنشر الإسلامية
مكتبة القاهرة : مدينة نصر شارع ابن هانىء الأندلسي.
المعنى اللغوي والاشتقاقي لكلمتي "قرآن" و"كتاب"
معنى القرآن في اللغة
قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} القيامة: الآية 17، أي: قراءته.
القرآن: مصدر على وزن فُعلان بالضم، كالغفران. قرأته قراءةً وقرآنًا بمعنى ، أي تلوته تلاوة, ثم صار علما على الكتاب. فهو القرآن والكتاب:
فهو قرآن متلو بالألسن وكتاب مرقوم بالأقلام. ومن تأمل التسميتين فهم أن حق كلام الله أن يحفظ في السطور وفي الصدور.
كتب وقرأ تدوران حول معنى الجمع. فالقراءة ضم الألفاظ بعضها لبعض نطقا والكتابة ضم بعضها لبعض خطا. وهاتان ركيزتان من ركائز الحفظ الرباني للقرآن, فلا عبرة لحفظ حافظ حتى يوافق الرسم المنقول بالتواتر ولا بكتابة كاتب حتى يوافق المحفوظ المتواتر. أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.
من معاني الجمع: الآيات, السور, الأحكام, الأخبار {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}
فتأمل عبد الله هذا السر اللطيف في كون كلام الباري قرآنا وكتابا يتبين لك جزء من {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
الكتاب: المهيمن الجامع لما فيما قبله زائد عليها.
هل يمكن تحديد القرآن تحديدًا منطقيًّا؟
إنما يعرف القرآن بالإشارة إليه حاضرا في الحس أو معهودا في الذهن: فيقال مثلا هوما بين هاتين الدفتين, أو هو من الفاتحة إلى الناس.
"القرآن هو كلام الله تعالى، المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته".
قولنا كلام الله: أخرج كلام البشر وكلام الجن وكلام الملائكة.
قولنا المنزل: أخرج الكلام الذي استأثر به الله في نفسه مثلا, فليس كلام الله كله منزلا: آية الكهف.
وقولنا المنزل على محمد: أخرج ما أنزل على أسلافه وإخوانه من الأنبياء.
وقولنا المتعبد بتلاوته: أخرج قراءات الآحاد والأحاديث القدسية.
البحث الثاني في بيان مصدر القرآن
تمهيد:
القدر المشترك بين الناس بلا خلاف: القرآن جاء على لسان رجل عربي أمي (ق7م): فشهادة التاريخ حجة في هذا الأمر، وموطن النزاع: من أين جاء بالقرآن؟
أليس من الإنصاف أن نبدأ بقول الكتاب نفسه؟ القرآن يقول إن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب. قول رسول كريم. ومهمته الحفظ ثم التبليغ ثم البيان ثم التطبيق. وليس الإبتكار والصياغة: إن هو إلا وحي يوحى.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} ويقول: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} ، وأمثال هذه النصوص كثيرة في شأن إيحاء المعاني، ثم يقول في شأن الإيحاء اللفظي: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا}.
فانظر كيف عبر بالقراءة والإقراء، والتلاوة والترتيل، وتحريك اللسان: كلها متعلقة بالألفاظ لا بالمعاني البحتة. وهل قرأتم كتابا قط لا يفتتحه صاحبه بقوله, رأيت وألفت وحللت ونظمت؟
القرآن صريح في أنه "لا صنعة فيه لمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا لأحد من الخلق، وإنما هو منزل من عند الله بلفظه ومعناه".
فالشق الأول من المسألة واضح بنص القرآن.
والحق أن القاضي العادل يحكم في هذا النزاع بمجرد ثبوت إقرار صاحبها على نفسه , فأي مصلحة له أن ينسب عبقريته إلى غيره؟ بل تاريخ الفكر والأدب حافل بالسرقات الأدبية. ولا نعرف مثالا لمبدع ينسب بنات أفكاره لغيره. ولو افترضنا ذلك جدلا, فبأي تعليل؟ ولكننا نتنزل مع المعاند المجادل درجة درجة وندحض له كل شبهة. ولو نسب كاتب كتابه لغيره فلعلة. ثم إنه لا يلبث أن يفضح نفسه.
لو تنزلنا وافترضنا أنه نسبه إلى الوحي ليستصلح الناس ويستنهضهم لما لنسبته كلامه إلى الله من الهيبة والتعظيم.
وهذا قياس فاسد في ذاته, فاسد في أساسه:فصاحب القرآن صدر عنه الكلام المنسوب إلى الله والكلام المنسوب إلى ذاته البشرية. دون أن ينقص ازدواج الكتاب والسنة من طاعته, فيا ترى لم لم ينسب كلامه كله إلى القرآن؟
وأما فساد هذا القياس من أساسه فلأنه مبني على افتراض باطل، وهو:
تجويز أن يكون صلى الله عليه وسلم وقد برأه الله وعافاه من ذلك ممن لا يتورعون عن الكذب والتمويه للوصول إلى غاية إصلاحية.
وتكفينا لنسف هذه الفرية شهادة التاريخ: من تتبع سيرته علم صدقه في السر والعلن وفي الغضب والرضا كما شهد ولا يزال يشهد به أعداؤه قبل أصدقائه: شهادة ابي سفيان في مجلس هرقل في الصحيحين وشهادة توماس كارليل في كتابه الأبطال.
طرف من سيرته بإزاء القرآن: فهل وجد في سيرته ما يؤيد أن القرآن ليس من عنده؟
كانت تنزل به النازلة فتدعوه دواعي البشرية إلى تلمس المخرج مما يجعل العاقل يقطع أن القرآن لا يمليه من هواه:
فترة الوحي في حادث الإفك: أبطأ الوحي في حادثة الإفك وطالت المحنة شهرا والناس يخوضون وصاحب القرآن لا يزيد على قوله: "إني لا أعلم عنها إلا خيرًا" وهو يستشير ويسأل الأصحاب ولم يزد أن قال لها بمقتضى بشريته التي لا تخترق حجب الغيب في خاتمة الأمر:
"يا عائشة، أما إنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله". ولم يبرح مكانه حتى نزلت براءة عائشة في صدر سورة النور كما رواه الشيخان.
فلو كان القرآن من وحي ضميره فما أعظم الداعي يومئذ أن يتقول كلمة يذب بها عن عرضه ذباب الأفاكين وخرص الجاهلين. ولكنه ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ, فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).
مخالفة القرآن لطبع الرسول صلى الله عليه وسلم وعتابه الشديد له في المسائل المباحة:
يأتي الوحي على غير ما يهواه. ويرى الرأي فيخطؤه القرآن, ويأذن له في الشيء لا يميل إليه, وتنزل الآيات بالعتاب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} ، {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ، {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}، {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}، {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى، وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى، وَهُوَ يَخْشَى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}.
لو كانت هذه التقريعات المؤلمة من وُجدانه، معبرة عن ندمه حين بدا له خلاف ما فرط من رأيه. أكان يعلنها بهذا والتشنيع؟ ألم يكن في السكوت عنها ستر، واستبقاء لحرمته؟ بلى
لو كان القرآن يفيض عن وجدانه لكان يستطيع أن يكتم منه شيئًا، ولو كان كاتمًا شيئًا لكتم أمثال هذه الآيات، ولكنه الوحي لا يستطيع كتمانه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}
وتأمل آية الأنفال: ظاهرة عجيبة، فإنها لم تنزل إلا بعد إطلاق أسارى بدر وقبول الفداء منهم، وقد افتتحت بالتخطئة والاستنكار، ثم ختمت بالإقرار وتطبيب النفوس. بل صارت هذه السابقة التي وقع التأنيب عليها هي القاعدة لما جاء بعدها.
فهل الحال النفسية التي يصدر عنها أول هذا الكلام -افتراضا- يمكن أن يصدر عنها آخره ولما تمض بينهما فترة تفصل بين زمجرة الغضب والندم وبين ابتسامة الرضا والاستحسان؟
كلا، إن هذين الخاطرين لو فرض صدورهما عن النفس متعاقبين متتالين لكان الثاني منهما ناسخا للأول ماحيًا له، ولاستقر الفكر على آخرهما الذي جرى به العمل، فيا ترى أي داع دعا إلى التعبير عن ذلك الخاطر الأول الممحو المنسوخ وإثباته وتسجيله، قرآنا متلوا متعبدا به, مع ما فيه من تقريع. علماء النفس يستشفون من ثنايا هذا الكلام وجود شخصيتين منفصلتين: سيد يقول لعبده معاتبا: لقد أخطأت في اختيارك, لكني عفوت عنك وأذنت لك تفضلا ومنا وكرما.
هلموا بنا نتأمل في جنس الأمور التي عوتب فيها النبي صلى الله عليه وسلم: تنحصر في أنه يختار فيما لم يؤمر فيه بشيء الأقرب إلى رحمة أهله وهداية قومه وتأليف خصمه، والأبعد عن الغلظة والجفاء. و لم يكن بين يديه نص فخالفه عمدا، أو جاوزه خطأً ونسيانًا، بل كل ذنبه أنه مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير.
هبه مجتهدًا أخطأ باختيار خلاف الأولى بعد النظر والترجيح, ألا تراه معذورًا ومأجورًا؟ أولست تراه في كل واقعة من الوقائع المذكورة آنفا, يختار خير ما يختاره ذو حكمة ورفق وروية وأرجح ما يرجحه أعقل العقلاء لو قدر لهم أن يجتمعوا ويتشاوروا ويقلبوا وجوه الرأي في ذات المسائل التي عوتب فيها مبلغ القرآن.
أوليس التنبيه الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في تلكم المواقف جميعها ناطقا بترجيح ما تقتضيه الحكمة الربانية الإلهية, مما لا تبلغه ولن تبلغه قط حكمة بشرية وإن كانت حكمة أعظم وأتقى وأعلم البشر. أوليس الترجيح الذي نبه النبي صلى الله عليه وسلم حاصلا بميزان الحكمة الإلهية في حين أن الترجيح النبوي ثمرة ميزان الحكمة البشرية؟
فليتأمل العاقل المنصف اللبيب, هل يحكم العقل على فعل واحد مما رجحه مبلغ القرآن في تلكم المواقف كلها بأنه ذنب ومخالفة؟ وهل يوجب العقل تأنيب ترجيحه في أي منها وتثريبه؟
أم إن العقل يفهم أن آيات العتاب تلك تنزلت من مقام الربوبية على مقام العبودية, بغية الإرتقاء بسيد العباد في مقامات الرقي الإنساني ومعارج التعليم والتأديب؟
ومثل ذلك صلاته صلى الله عليه وسلم على رأس المنافقين وعتاب القرآن له في ذلك: ففهم الحبيب الرؤوف الرحيم: "إنما خيرني ربي فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} وسأزيده على السبعين"
فتدبروا يا أولي الألباب كيف دلت آيات العتاب التي يتعلق بها مرضى القلوب للطعن في القرآن وصاحب القرآن, على أن القرآن كلام الله, فكان العتاب والتأديب ناطقا بأفصح لسان عن إعجاز هذا القرآن.
خلاصة إذا تدبرت المواقف النبوية من القرآن في أمثال هذه المواطن تجلى لك فيها معنيان متلازمان في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم يجمعهما قولنا عنه: إنه عبد لله رؤوف رحيم بخلق الله: "معنى العبودية الخاضعة ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة"
هذا الجانب, الذي يكشف ما عليه شخصية النبي صلى الله عليه وسلم من أسمى درجات العبودية وأرقى منازل الرحمة الإنسانية والحكمة البشرية، يقابله هيبة وقوة وسلطان قاهر ينطق به هذا القرآن، قوة مستعلية عن البواعث والأغراض، بل هي دوما تنطق بالصدق, وتحكم بالعدل، وتصدع بالحق فرقانا، قوة تخاطب الخلق من عل، ولا تقيم لرضاهم عن حكمها ولا لسخطهم وزنا.
فيا ترى أيها السامع المنصف هل تبين لك ما بين المقامين من فرق عظيم وبون شاسع, إنه الفرق بين السيد والمسود والعابد والمعبود.
توقف الرسول -أحيانًا- في فهم مغزى النص حتى يأتيه البيان
لو قيل لك ما الفرق بين ناقل الكلام وقائله: لقت دونما تردد الناقل يتصور فيه أن يلتبس عليه شيء من الكلام المنقول, وليس ذلك يضيره, ولكن هل يتصور أن يلتبس الكلام على قائله, ويخفى معنى الكتاب على كاتبه؟ كلا, لو تطرق إلينا أدنى شك في شيء من ذلك لحكمنا مع تضافر القرائن بان الناطق بهذا الكلام الذي لا يدري كنهه ناقل لا قائل, وأن الكاتب مقتبس من غيره لا مؤلف لبنات أفكاره.
"أي عاقل توحي إليه نفسه كلامًا لا يفهم هو معناه، وتأمره أمرًا لا يعقل هو حكمته؟ أليس ذلك من الأدلة الواضحة على أنه ناقل لا قائل، وأنه مأمور لا آمر؟"
إذا تقرر ذلك فتأملوا معاشر العقلاء كيف تكرر أمر القرآن بالأمر المجمل أو المشكل الذي لا يستبين ناقله ومبلغه صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه معناه ولا يستيقنون تأويله حتى يأتي القرآن نفسه ببيان المجمل وتفسير المشكل بعد.
موقفه في قضية المحاسبة على النيات:
نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} أزعجت الآية الصحابة ، ؛ لأنهم فهموا منها أنهم سيحاسبون حتى حركات القلوب وخطراتها -فقالوا: يا رسول الله، أنزلت علينا هذه الآية ولا نطيقها- فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فجعلوا يتضرعون بهذ الدعوات حتى أنزل الله بيانها بقوله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ، إلى آخر السورة
وموضع الشاهد: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو كان يعلم تأويلها من أول الأمر لبين لهم خطأهم ولأزال اشتباههم؛ فهو ليس بكاتم عنهم علما, فكيف وحاجتهم تشتد إليه؟ ولا يتصور منه عدم اكتراثه بهلعهم وهو الرؤوف الرحيم, ولكنه كان مثلهم لا يعلم بعد بيان ما أشكل عليهم لأنه ببساطة لم ينزل بعد.
"ولأمر ما أخر الله عنهم هذا البيان. ولأمر ما وضع حرف التراخي في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}." كأن الشيخ يشير إلى أن هذا التراخي بين الحكم المجمل وبيانه المعبر عنه في الآية ب"ثم" من دلائل إعجاز هذا القرآن.
مسلكه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلح الحديبية
واقرأ في صحيح البخاري قصة الحديبية، ففيها آية بينة على ما نحن بصدده: قال تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فلما خرجوا في ذي القعدة سنة ست سمعوا بأن قريشا ازمعت منعهم من البيت.وصمموا على المضي إليه، فمن صدهم عنه قاتلوه. وبينا هم سائرون عند الحديبية إذ بركت راحلة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأخذ أصحابه يثيرونها إلى جهة الحرم فلا تثور، فقالوا: خلأت القصواء، خلأت القصواء، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل" فنزل بأصحابه في أقصى الحديبية، وعدل بهم عن متابعة المسير إلى البيت؛ امتثالًا لهذه الإشارة الربانية التي لا يعلم حكمتها.
ثم سعى في الصلح: "والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها" ولكن قريشًا أبت عليه دخول البيت في ذلك العام لا محاربًا ولا مسالمًا، وأملت عليه شروطًا قاسية بأن يرجع من عامه، وأن يرد كل رجل يلجأ إليه من مسلمي من مكة ، وألا ترد هي أحدًا يجيئها من المدينة تاركًا لدينه مفارقا لجماعة المسلمين، فقبل تلك الشروط التي لم يكن لقريش أن تمليها وقد نهكتها الحرب، فاشتد الأمر على المسلمين حتى إنهم ترددوا في امتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالتحلل والعودة إلى المدينة. وراجع الفاروق النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر متسائلا: علام نعطي الدنية في ديننا؟ وقال بعد: "والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ."
فتأملوا يا أولي النهى: هل يسيغ العقل أن تكون الخطة من تدبيره ثم تخفى عليه الحكمة منها, أم هل يعقل أن يتأخر في بيان وجه الحكمة من هذا الصلح المجحف ظاهره, والفتنة قد أطلت برأسها والجيش يوشك أن يتمرد على قائده؟
وتمعنوا مليا في جوابه حين راجعه عمر: "إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري" فلكأني به يقول بأبي هو وأمي: إني عبد مأمور, ولا أعلم من حكمة هذا الأمر الرباني الساعة أكثر مما تعلمون منه حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
وكذلك كان: قفلوا راجعين والإشكال قائم في نفوسهم حتى بينت لهم سورة الفتح طرفا من الحكم الباهرة والبشارات الصادقة التي ستولد من رحم هذا الصلح الذي حسبوه إعطاء للدنية وظنوه ظنوه ضيمًا وظلما بادئ الرأي {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}
قال الزهري: فما فُتِحَ في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا التقوا وتفاوضوا في الحديث، فلم يُكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا في تلك المدة إلا دخل فيه. وفسر ذلك صاحب الفتح فقال: إن الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وظهر من كان يخفي إسلامه، وأسمع المسلمون المشركين القرآنَ، وناظروهم جهرة آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم بذلك إلا خفية. فذل المشركون من حيث أرادوا العزة، وأقهروا من حيث أرادوا الغلبة.
منهجه صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقي النص أول عهده بالوحي
كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين بداية نزول القرآن عليه يحرك به لسانه وشفتيه؛ طلبًا لحفظه، وحذرا من تفلته من صدره. ولم يكن ذلك يوما من عادة العرب، إنما كانوا يرتجلون الكلام ارتجالا, فلما خالف فعله عادة قومه في ذلك, أشار فعله إلى أن هذا القرآن يفجأه كما يفجأ المتعلم تلقين معلمه. لبث كذلك حتى نزل التطمين قرآنا يتلى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} الآيات من سورة القيامة وقوله: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
طرف من سيرته العامة صلى الله عليه وسلم
فإذا تبين ذلك كله, فدونكم شواهد ناطقة بأن القرآن لم يصدر عنه، بل ورد إليه، وأمثلة تفصح أنه كان لا يجاوز حكم القرآن وكثيرا ما يتوقف حتى ينزل القرآن, ويأبى أن يخوض فيما لا يعلمه في تواضع مهيب وصدق ناصع.
قالت جارية في عرس: : وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين". ومصداقه في كتاب الله تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}.
كان عبد الله بن أبي السرح ممن استثناهم النبي صلى الله عليه وسلم من الأمان يوم الفتح, ولما قدم به عثمان مستشفعا, لم يبايعه إلا بعد أن استشفعه ذو النورين ثلاثا. ثم خاطب أصحابه: "أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله" ؟ فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين".
فهذا الصدق والتواضع الذي يملأ قلبه لإستشعاره أنه سيسأل عن أمانة هذه الرسالة التي حملها من قبل رب العالمين: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ}.
واعلم أنك لو درست هذه السيرة الزكية الطاهرة العطرة المباركة مرخيا للشك العنان, فإنك لن تملك في النهاية أن تدفع عن نفسك اليقين بصدق هذا الرسول الكريم وصفاء روحه, لن تملك شيئا من ذلك دون أن تشك في سلامة عقلك.
واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين وأرخيت لها عنان الشك وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك إلا بعد أن تتهم عقلك. ألا ترى كيف تفضي دراسة شعر شاعر دراسة متأنية متفحصة إلى رسم صورة دقيقة لنفسية هذا الشاعر وعقيدته, وميوله ونزواته.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فما ظنك بهذه الحياة النبوية التي غدت تحت بصر العالم وسمعه كالكتاب المبسوط الذي لم تفته صغيرة ولا كبيرة من تفاصيل حياة من جعله الله رحمة للعالمين وأسوة للخلق أجمعين.
وها نحن أولاء وقد خرجنا من واحة السيرة النبوية نعود فنقرر ما قصدنا البرهنة عليه في هذه العجالة فنقول: إن العقل المتجرد عن الهوى والتعصب ليشهد أن صاحب هذه المواقف التي يكل اللسان في وصف صدقها وصفائها لخليق بأن يصدق دون امتراء حين يقول: أوحي إلي هذا القرآن. فتنضاف شهادته واعترافه إلى سجل صدقه وتواضعه.
المرحلة الأولى من البحث البحث عن مصدر القرآن
بيان أن القرآن لا يمكن أن يكون إيحاءً ذاتيًّا من نفس محمد صلى الله عليه وسلم
هذه حقيقة جلية برهانها ظاهر للعيان: يكفي للحكم ببراءة الإنسان من عمل من الأعمال عجزه المادي عن القيام بذلك العمل:
فلينظر العاقل وليتأمل المتأمل: هل كان للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم من الإمكانات العلمية والملكات ... مايجعله أهلا لأن يأتي بهاتيك العلوم والمعارف القرآنية؟
سيجيب الملحد متسرعا: نعم بفضل من ذكائه الفطري وبصيرته النافذة وفراسته وتأملاته الصادقة.
وإنك لتعجب ممن يكذب بنبوة الرسول الخاتم ثم يذهب يمدحه على هذا النحو حتى يستقيم له الإنكار. ونحن قد نسلم بأكثر من هاته الشمائل ولكن:
هل معاني القرآن وحقائقه كلها مما يستنبطه العقل ، ومما يدركه الوجدان ؟ كلا، ففي القرآن جانب كبير من الأخبار البحتة التي لا يدركها العقل المجرد وإن إجتمع لذلك أذكياء العالم، بل إنهم سيقرون أن النقل هو السبيل الأوحد إلى الإحاطة بها.
فكيف يجيب الملحد يا ترى عما قصه القرآن من أنباء ما قد سبق، وعن تفصيل تلكم الأنباء كما وقعت بالفعل؟ أتراه يقول: إن حقائق التاريخ أيضا مجال للنظر العقلي وللفراسة؟ أم إنه يكابر فيقول: إن محمدًا قد عاصر آدم ونوحا وإبراهيم, ثم تنقل بين القرون لينقل لنا خبر عاد وثمود ومدين؟
أم إنه يعود فيدرك أن العمدة في الأخبار النقل, فيقول إن نبينا صلى الله عليه وسلم ورث كتب الأولين, فدرسها ثم صاغها قرآنا يتلى؟
لن يسع الملحد أن يدعي شيئا من ذلك كله لأنه سيواجه بشهادة التاريخ وهي تدحض كل هذه الإفتراضات الخرقاء.
{وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} 2 {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا} {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}.
نحن نعلم أن العلم المجمل ببعض جزئيات تاريخ الأمم السابقة وأنبيائها مثل طوفان نوح وإهلاك قوم عاد وثمود ولوط قد وصل إلى العرب، وليس الشأن في هذه النتف اليسيرة وإنما كلامنا عن التفاصيل العلمية الدقيقة التي تعزب عن غير الدارس المتخصص. مثلا يقرر القرآن عن نوح: فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما. والتوراة تخبر أنه عاش تسعمائة وخمسين سنة. ويخبر أن أهل الكهف لبثوا في كهفهم "ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا". والسنون التسع فرق ما بين التقويم الشمسي والقمري. فأنى لأمة أمية لا تكتب ولا تحسب بهذا الحساب الدقيق؟
كفاك بالعلم في الأمي معجزة ... في الجاهلية والتأديب في اليتم
رجل أمي بين ظهراني أمة أمية، يخالطهم في غير الباطل ويعول أهله، راعيًا ، أو تاجرًا بالأجر، رجل تعرفه الأسواق ولم تعرفه حلق العلم والعلماء يوما من الدهر.
بل قد علم بالتواتر أنه لم يكن يعاني شيئا من الكتابة أبدا, يبقى كذلك أربعين سنة, ثم يخرج على قومه يوما بكلام لم يعهد منه, ولم يتكلم قبل بحرف منه, ويقص علينا من أنباء القرون الخالية ما اجتهد أهل الكتاب في إخفائه وتحريفه دهورا متطاولة.
هل يسيغ العقل أن تكون هذه الطفرة العلمية نتيجة منطقية لحياته السابقة؟ كلا, لا بد أن نتلمس سر هذا الطور العلمي الجديد الذي يظهر للعيان أنه لا ينبني على مقدمات منطقية, ولا يستند إلى معلومات سابقة, ينبغي أن نتلمسه خارج حدود نفسه.
ولقد فطن مشركو الجاهلية الأولى عند تعليلهم لظاهرة القرآن لما خفي على ملاحدة الجاهلية المتأخرة, فأهل مكة فهموا أن هذا العلم الجديد نتيجة تعليم: {وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ} {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} وبهذا كان أبوجهل وأبي بن خلف والوليد بن المغيرة أحسن حالا وأقوى حجة من ملاحدة آخر الزمان الذين يقولون إن القرآن وحي نفسي.
(وليقولوا درست): صدقوا فإنه درسها على أستاذه الروح الأمين.
تلكم أخبار التاريخ في القرآن يشهد العقل أن العمدة فيها على النقل وأنها لا ترد من داخل النفس بل لا بد أن تصدر إليها بواسطة التعليم والتلقين. فهل نسلم للمخالف في أن بقية العلوم القرآنية مما قد يناله الأذكياء بالنظر والفراسة؟
كلا, فالعقول لا سبيل لها للإحاطة بما لم يقع تحت الحس الظاهر أو الباطن, أو ما لم يكن مركوزا في النفس, ما لم ينبن هذا الإدراك على مقدمات معلومة, يتوصل بها إلى ذلك العلم الجديد الذي كان قبل مجهولا. وهذا الإدراك يتم ببطء بواسطة الإستدلال والإستنباط والقياس, أو بسرعة من طريق الحدس. وكل ما لم تتهيأ له هذه المقدمات فإنه يبقى خارج مرمى العقل ومجاله.
سؤال: هل تهيأت للحقائق القرآنية غير النقلية مقدمات تجعلها مما ينال بالعقل؟ سنضرب لذلك مثالين:"أحدهما" قسم العقائد الدينية."والثاني" قسم النبوءات الغيبية.
الحقائق الدينية الغيبية لا سبيل للعقل إليها
غاية النظر العقلي في أمر العقائد الدينية ومنتهاه, شرط استقامة الفطرة, أن يدرك أن فوق هذا العالم إلها خالقا مدبرا, وأنه لم يخلقه عبثا, بل كل ذرة في الوجود تشهد للموجد بالحكمة والعدل والرحمة, فيستنبط العقل المتجرد أن الحكمة تقتضي أن ينال كل عامل جزاء ماعمل إن خيرا وإن شرا.
فهل وقف القرآن عند هذا الحد؟ أم أنه فصل شرائع الإيمان, ووصف بدء الخلق ونهايته, ووصف لنا جزاء من حقق الإيمان وجزاء من جحده. فوصف الجنة ونعيمها وعدة أبوابها... فبأية مقاييس عقلية تنال مثل هذه الأمور؟ هذا كله إما حق ينال بالتعليم أو باطل مبناه على الخيال. ولكنه لا ريب الحق الذي شهدت له الكتب واستيقنه أهلها:
{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
أنباء المستقبل لا سبيل فيها لليقين إلا بالوحي الصادق
وإن تسل عن النبوءات الغيبية فإن العاقل يجعل تجاربه مصباحا يستكشف به بضع خطوات من مجرى الحوادث المستقبلة, فيقيس الغائب على الشاهد, ثم يصدر حكمه متثبتا متحفظا متوجسا, فيقول: "ذلكم توقعي حسب طبيعة الحوادث لو لم يقع ما ليس في الحسبان."
ولا يبت في الأمور المستقبلة بغير مقدمات علمية إلا أحد اثنين: رجل مجازف جاهل لا يبالي بالعواقب, وهذا دأب المنجمين والعرافين, وإما نبي مرسل تصدقه الحوادث ولا ثالث لهما إلا رجلا ينقل عن أحدهما.
فيا أيها المخالف, أي الرجلين صاحب القرآن في حكمك؟ وأنت تراه يخبر جازما بما سيقع في أعوام, وبما سيكون آخر الزمان, وبما لا يكون أبد الدهر, وهو لم يتعاط التنجيم, وكان خلقه يأبى عليه المجازفة وإلقاء الكلام على عواهنه والدعوى المجردة عن الدليل. بل كانت أخباره صدقا كلها يعجز الدهر أن ينقض منها حرفا واحدا.
{وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
أمثلة من النبوءات القرآنية
هاكم أمثلة بعض النبوءات القرآنية, لترى هل كانت مقدماتها توحي بالنتائج التي تضمنتها تلك النبوءات؟ وهي تتعلق بأنواع ثلاثة:
1- ما يتعلق بمستقبل الإسلام وكتابه ورسوله.
2- ما يتصل بمستقبل المؤمنين.
3- ما يتصل بمستقبل المعاندين.
1- فيما يتصل بمستقبل الإسلام
أولا: الإخبار ببقاء الإسلام:
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
متى وأين صدرت هذه البشارات المؤكدة، بل العهود الوثيقة؟
صدرت في مكة والإسلام في استضعاف وقلة وحصار. فهل كانت هناك بارقة أمل توحي بظهور هذا الدين, ولو افترضنا أن هذه الآيات ترجمة لمشاعر قلب ممتلئ يقينا ورجاء في ظهور دعوته ما دام يتعهدها, فمن أين يجئيه اليقين ببقائها بعد موته, فكم من نبي قتل وكم من كتاب حرف.
فمن ذا الذي يملك الضمان على بقاء شيء أبد الدهر إلا رب الدهر ومصرف الحوادث. فكم مرة استأسد العدو على أهل الإسلام وتسلط على ديارهم ودنس حرماتهم. كما فعل القرامطة والعبيديون والإفرنج والتتار, مما كان يكفي عشر معشاره لطمس هذه العقيدة وتحريف هذا الكتاب, لولا الحفظ الرباني. يفعلون بأهل هذا الدين الأفاعيل ثم لا يخرج كيدهم عما سطرته أمثال هاتين الآيتين:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ}.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}
ومثل ذلك التحدي بالقرآن:
{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا}.
أنى لرجل عربي يعلم أن مضمار المساجلات اللغوية بين قومه مفتوح, وأن لكل كلام بشري نقصا يستدركه اللاحق, أنى له أن يتحدى الخلق, ثم ينفي أن يأتوا بمثل كلامه نفيا مؤكدا مؤبدا؟
ومثال ثالث إخبار القرآن أن الله تعهد بحفظ حياة نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يبلغ رسالات ربه:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. فهل يملك هذا الضمان أحد؟ أنظر إلى الرؤساء كيف يجتهدون في حماية أمنهم الشخصي ثم يأتي بعضهم من يقتلهم غيلة رغم الكاميرات والمخابرات والإحتياطات.
وروى الطبراني عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحرس بالليل، فلما نزلت هذه الآية ترك الحرس وقال: "يأيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله".
من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: كنا إذا أتينا في سفرنا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كنا بذات الرقاع نزل نبي الله تحت شجرة وعلق سيفه فيها. ولنترك النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يقص ما كان من أمر ذلك المشرك:
« إِنَّ رَجُلاً أتاني وَأَنَا نَائِم،ٌ فَأَخَذَ السَّيْفَ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاَّ وَالسَّيْفُ صَلْتًا في يَدِهِ، فَقَالَ لي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ في الثَّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُ. قَالَ فَشَامَ السَّيْفَ فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ ». ثُمَّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. شام السيف أي رده في غمده.
في غزوة حنين، وقد انكشف المسلمون ، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يركض ببغلته جهة العدو ، فأقبل إليه المشركون َفلما غشوه لم ينكص، بل نزل
عن بغلته ، وجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فو الله ما نالوا نيلًا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده. متفق عليه.
تثبيت المؤمنين وإخبارهم بما سيكون من أمر مستقبلهم:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}
بعد الهجرة بدأت الحرب فقالوا: أترون أنا نعيش نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله؟ فنزلت الآية: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}. رواه الحاكم.
فبشرهم القرآن بالخلافة والملك مؤكدا الوعد بالقسم. فانظر تأويل الآية فيما عاشه الصحابة بعد من التمكين وفتح الأقطار. وتأمل الخطاب لهم: "منكم"
مثال هزيمة الروم أمام الفرس. {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ}.
فأخبرت الآية بأمرين خارجين عن إدراك العقل. فجعل زمان غلبة الروم أمارة على نصر المؤمنين, فتراهن المشركون على تكذيب النبوءات مجتمعة, لكنها وقعت لسبب يوقن به من تأمل الآية الأخرى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}. فانتصرت الروم يوم انتصر المسلمون في بدر كما رواه الترمذي وغيره.
شبهة: لم لم يحدد السنين؟ اختلاف الحساب, تأخر بشائر النصر. فقال في بضع ولم يقل بعد بضع سنين.
ثانيا: إخبار القرآن بمستقبل المعاندين:
دعا صلى الله عليه وسلم على أهل مكة بسنين كسني يوسف فأجابه القرآن: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ، يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ}
فأصابهم القحط حتى أكلوا العظام، وحتى جعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد. فأتوه يستسقون, فاستسقى لهم فأغيثوا ثم عمهوا في كفرهم.
ثم انظر قوله بعد ذلك: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ، يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} ثلاث نبوءات: كشف العذاب ثم عودتهم للكفر والمكر, ثم الإنتقام منهم يوم بدر. فقتل سبعون من صناديدهم وأسر سبعون.
قال تعالى: سيهزم الجمع ويولون الدبر. جعل عمر يقول: أي جمع هذا؟ قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها.
ومن إخبار القرآن بما ينال أعداء هذا الدين قوله عن الوليد بن المغيرة: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ}, فأصيب أنفه يوم بدر فكان موسوما على الخرطوم يعير بها دهره.
فما أعجب هذه النبوءات القرآنية التي تخترق حجب الغيب, وتتحكم في سير الحوادث ومآلات الأمور, ثم يأتي الدهر مصدقا لتفاصيلها.
وما أعجب هذا الرجل الذي كلما أخبرنا بأمر ماض صدقته شواهد التاريخ وكلما أنبأنا باالأمور المستقبلة صدقته صروف الحوادث, بعد موته بدهور وأحقاب متباعدة.
فهل يصح في الأذهان أن يكون جاء بذلك كله من عند نفسه وهو الأمي الذي لم يؤثر عنه طلب للعلم أي علم؟
الجواب أنه لا بد من أن مصدر هذه العلوم والأخبار جميعها من معلم خارجي, ثم إن هذا المصدر له من سعة العلم ودقته وكماله ما لا يحيط به بشر.
ولا يمكن بحال قبول الإدعاء أن ذلك كله ثمرة ذكاء رجل أمي وعبقريته. فأي عبقري ينال من الدهر عهدا أن يصوب ظنونه كلها وأن يوافقه في تنبؤه بالمستقبل.
حتى الأنبياء لم يظفروا بمثل هذا العهد. انظر إلى يعقوب يتهم بنيه حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب, ثم يتهمهم حين قالوا له: إن ابنك سرف, فقال في كلتا المرتين: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}, فأصابت فراسته في الأولى وأخطأت في الثانية. ومثله قول موسى للعبد الصالح: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}, ثم ينسى ولا يطيق صبرا ولا يطيع أمره.
وهذا مبلغ القرآن نفسه, يوشك الناس أن يضللوه. قال الله تعالى: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا، وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} وصح في سبب نزولها أن لصا سرق طعام أنصاري يسمى رفاعة وسلاحه, فتفقد رفاعة متاعه فوجده في بيت بني إبيرق وفيهم منافقون، فجاء قتادة بن النعمان مع عمه رفاعة يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، و جاء بنو أبيرق يشكون رفاعة ويرمونه برميهم بالسرقة دونما تثبت, فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على قتادة؛ بل إسمع شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه فيما يرويه أحمد وابن ماجه: "إنما أنا بشر مثلكم، وإن الظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم " قال الله" فلن أكذب على الله" وقوله "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها" رواه والشيخان وأصحاب السنن.
فكيف يا ترى يعجز مبلغ القرآن عن إدراك حقيقة ما وقع بين خصمين يعاصرانه, يسمع من كليهما ثم يخرج بحكم يخالف الواقع ثم يخبر بما مضى أخبارا تصدقها الكتب, ويخبر بما لم يقع بعد فيقع حسبما أخبر؟ ثم ألا يرى كل ذي عينين أن الآية تنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون خصيما للخائنين, وتأمره بالإستغفار, ألا يحيل العقل أن يصدر الحكم الأول والثاني عن نفس واحدة؟
إنه عالم الغيب الذي تنطمس أمامه أنوار الفراسة وآلات الفكر والعبقرية, فيغدو العقل أمامه متحيرا متخبطا, تتقاذفه الظنون وتتلاعب به الخيالات, فلكأنه حاطب ليل يحمل الحية يحسبها حطبا, لا يصيب حكمه مرة حتى يخطئ مرارا.
فما بال هذا القرآن دوما يصيب, فأخباره صدق وأحكامه عدل, لا تترك كلاما لمستدرك؟
{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}.
التعديل الأخير بواسطة المشرف: