أحمد بن موسى
New member
- إنضم
- 12/07/2003
- المشاركات
- 31
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
ليست هذه المقالة استهجاناً لعقل أحد في تحسينه لأمر قبيح، أو سخرية من كاتب من أجل تقبيحه لأمر حسن..
كلا؛ بل كل ما في الأمر هو أني أردت أن أشركك -أخي القارئ- معي في متعة من متع الأدب، وأفنونة من أفانينه.
فهذا العنوان الذي اخترته لك ما هو إلا اسم لكتاب صغير الحجم، كبير المعنى، لطيف العنوان، جاد المضمون، حسن التأليف، بديع السبك والترصيف، في مدح أشياء تعارف الناس على ذمها، وذم أشياء تعارف الناس على مدحها[1]..
ومؤلف هذا الكتاب هو جاحظ نيسابور، وزبدة الأحقاب والدهور، وخاتمة مترسلي العصر العباسي الثالث، الأديبُ الشاعر، أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري، المتوفى عام 429 هـ، نقل ابن خلكان في (وفيات الأعيان): أنه كان راعي تَلَعَات العلم، وجامعَ أشتات النثر والنظم.
ويكفيك -أخي القارئ- لتعرف قدر هذا الرجل ومنزلته في اللغة والأدب أن تعلم أنه هو صاحب كتاب (فقه اللغة)، وكتاب (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وهذان الكتابان مصدران أصيلان في بابهما، وعمدة لمن جاء بعده في دراسة الأدب والشعر في القرن الرابع الهجري، خاصة أنه نقل فيهما من مصادر لم تعد موجودة اليوم.
وهذا الكتاب -أعني: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن)- هو ثالث ثلاثة كتب أنشأها الثعالبي في اختلاف الناس في مدح الأشياء وذمها، والكتابان الآخران هما: (الظرائف واللطائف) و(اليواقيت في بعض المواقيت)، إلا أن نصوص الكتابين الأخيرين تتعلق بمدح الشيء وذمه في مكان واحد.
وهو -رحمه الله- في هذا الكتاب -بل وفي كل مؤلفاته- يسلك سبيله المعهود، من حيث الجِدَّةُ، والطرافة، وإشباع المعاني، وكثرة الشواهد، واختيار النوادر، حتى قال ابن خِلِّكان يصف مؤلفاته: "تواليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر راو لها وسامع".
وهذا الكتاب أهداه الثعالبي -كعادة كثير من الأدباء في ذلك العصر- إلى أحد فضلاء خراسان، وهو الشيخ السيد أبو الحسن محمد بن عيسى الكرجي، وهو الذي أهدى إليه -أيضاً- (تتمة اليتيمة).
ويرى الثعالبي أنه ما سُبِقَ إلى تأليف مثله في طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات، ولعله يقصد بالسبق -هنا- جمع هذه المعاني بين دَفَّتي كتاب؛ وإلا فالمعاني التي ذكرها دائرةٌ قبله على ألسنة كثير من الحكماء والعلماء.
ثم يصف الثعالبي كتابه بقوله: "أودعته لمعاً من غرر البلغاء، ونكت الشعراء، في تحسين القبيح وتقبيح الحسن، إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة".
وإياك أن يهجم على عقلك -أخي القارئ- أن المؤلف يقصد بالبلاغة -هنا- ما هو متداول عند بعض من امتلكوا أَزِمَّةَ الكلام، وأوتوا بسطة في اللسان؛ من القدرة على قلب الحق إلى باطل، ومدح الشيء ونقيضه، والاستطالة بالذكاء، واللعب بنواصي الكلام؛ للتاثير في النفوس ! كلا..! إنما هو يريد بالبلاغة البيانَ الصادق الذي أعجز به القرآنُ الكريمُ العربَ قاطبة، وأوتيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي مطابَقة الكلام لواقع الحال. وهذا هو الذي يظهر من سياقات الكتاب لمن تأمل ذلك، فهو لا يُقبِّح أو يحسِّن الأمور لذاتها، وإنما يقبح ويحسن أفعال الناس لها؛ ففي كل أمر يفعله الناس؛ يعتورهم مَزلَقان: إما إفراط، وإما تفريط، وهذان المزلقان هما ما يذمه الثعالبي، رحمه الله.
فيذكر -مثلاً- في "باب المقابح": تقبيح العلم، والشجاعة، والأدب، والغنى، والحلم، والصبر.. في قائمة تصل إلى ثلاثين خصلة مما يمدحها الناس، ثم إذا أتينا على حقيقة ما قَبَّح؛ وجدناه لا يقبح سوى العلم الذي لا يثمر عملاً، والشجاعة المتهورة التي لا تجني إلا ندماً، والأدب الذي يشغل قلب صاحبه وعقله عن تدبير شؤونه، والغِنى الذي يورث البَطَر، والحِلم الذي يجرِّئ السفهاء ويصل إلى حد الخُمول..
والحال كذلك في "باب المحاسن"؛ فهو يذكر فصولاً في تحسين الكذب، والوقاحة، والذنوب، والمرض، والموت، والجبن، وسواد اللون، والسجن.. ولو ذهبنا لكلامه؛ لوجدناه لا يحسِّن الكذب ذاتَه، وإنما يحسن المواضع الثلاثة التي أجازت الشريعة فيها الكذب، وهي الحرب، والصلح، وملاطفة الزوجة، ولا يعني بتحسين الوقاحة إلا المعنى المقابل للخجل والحياء الزائد، كما أنه لا يشيد إلا بآثار الذنوب ،من الندم والتوبة والانكسار لله -عز وجل- ولا يحسن الذنوب نفسها..
إلا أنه -رحمه الله- قد يُغْرِب في البابين جميعاً -أعني: باب ذكر المحاسن، وباب ذكر المقابح- ويأتي بالمعاني التي تدور في خواطر الناس، فيحومون حولها، ويرفرفون عليها، ولا يتوصلون إليها، فيجيء هو فيفصح عنها، ويوشِّحها بنكت الشعراء وألفاظ الحكماء، فما تظنه سيقول في تحسين الملل؟! أو تحسين الحقد؟! بل والأغرب من ذلك ما ذكره في تقبيح المطر، وتقبيح القمر!! إنك -أيها القارئ الكريم- لفي طرب مرة، وفي عجب مرات، من اختيار هذا الأديب اللغوي الشاعر! وحُقَّ لك ذلك؛ فاختيارُ المرء قطعةٌ من عقله تدل على تخلقه وفضله.
وها أنذا أقتطف لك -أيها القارئ الكريم- طائفة يسيرة من زهور بستانه، تُغريك بالكتاب، ولا تُغنيك عنه، وما تركت أظرف مما ذكرت.
يقول -رحمه الله- في باب ذكر المحاسن:
تحسين الدَّيْن:
دخل عمرو بن عتبة يوماً على خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: إن ها هنا رجالاً إذا خفت أموالهم؛ عوّلوا على الدَّين، وأخذوا في الاستدانة! فقال عتبة: إن رجالاً تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم؛ فلا يدانون، ورجالاً لا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم؛ فيدانون، على سعة ما عند الله.
ويقول في تحسين العمى:
قيل لقتادة: ما بال العميان أذكى وأكيَس من البُصَراء؟
فقال: لأن أبصارهم تحولت إلى قلوبهم.
وقال الجاحظ: العميان أحفظ وأذكى، وأذهانهم أقوى وأصفى؛ لأنهم غير مشتغلي الأفكار بتمييز الأشخاص، ومع النظر يتشعب الفكر، ومع انطباق العين اجتماع اللب، ولذلك قال بشار: عميت جنيناً، والذكاء من العمى.
وكان أبو يعقوب الخُزيمي يقول: من فضائل العمى ومحاسنه: سقوط الواجب من الحقوق، والأمان من فضول النظر الداعية إلى الذنوب، وفقد النظر إلى الثقلاء والبغضاء.
ويقول في تحسين الحقد:
لم يزل الحقد مذموماً بكل لسان، مقبَّحاً عند كل إنسان، حتى جرى بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الملك بن صالح الهاشمي كلام يؤذي، إلى أن قال له يحيى: لله درك أي رجل أنت، لولا أنك حقود!!
فقال عبد الملك: إن كنت تريد بقاء الخير والشر عندي؛ فإني كذلك!
ويروى أنه قال له: أنا خزانة تحفظ الخير والشر!
فقال يحيى: هذا جبل قريش، ووالله ما رأيت أحداً احتج للحقد، حتى حسّنه وظرّفه؛ غيره!
ويقول في تحسين أمر الغَوغاء:
في الخبر أن الله -تعالى- ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم!
وكان الأحنف يقول: أكرموا الغوغاء والسفهاء؛ فإنهم يكفونكم العار والنار!
وقال جعفر بن محمد رحمه الله: إنهم ليطفئون الحريق، ويستنقذون الغريق، ويسدون البُثُوق!
ويقول في تحسين الملل:
جرى يوماً في مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وبين جلسائه كلام في ذم الملل وتقبيحه والتعريض به، فقال: ويحكم أتدرون أنكم تذمون ممدوحاً? ألا ترون أن الرئيس إذا كان غير ملول؛ اختُص بثمرة فضله قوم، بل شرذمة قليلون من خواصه وندمائه، وحُرم الأكثرون من أفاضل المستحقين صوب سمائه؟!!
وإذا كان ملولاً، ولا يصبر على نفر بأعيانهم؛ استجد الإخوان على تكرر الزمان، واستمالهم بالإنعام والإحسان، وتشارك الناس في أثاريده، وتضاربوا بالسهام في أياديه ومننه؟!!
فقالوا له: والله، إن الأمير ليسحرنا بلسانه وبيانه، ويحسِّن ما تطابقت الألسن على تقبيحه!
ويقول في تحسين الفراق:
قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأَوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة!
وكتب أبو عبد الله الزنجي الكاتب: جزى الله الفراق عنا خيراً! فإنما هو زفرة وعبرة، ثم اعتصام وتوكل، ثم تأميل وتوقع.. وقبح الله التلاقي! فإنما هو مَسرة لحظة، ومساءة أيام، وابتهاج ساعة، واكتئاب زمان.
وكتب أحمد بن سعد: إني لأكره الاجتماع؛ محاذرة الفراق، وقصر السرور. ومع الفراق غُمةٌ يخفيها توقُّعُ إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرُّجْعى.
ويقول في تحسين أمر البنات:
دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية، وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين?
فقال: هذه تفاحة القلب!
فقال: انبذها عنك!
قال: ولم?
قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البُعَداء، ويُوَرِّثن الضغائن!
قال: لا تقل ذلك يا أبا عبد الله، فوالله ما مرَّض المرضى، ولا ندب الموتى[2]، ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالاً قد نفعه بنو أخته.
فقال: يا أمير المؤمنين قد حبَّبتَهن إليّ.
وكتب أحدهم في التهنئة بابنة: ...فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها،... والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البَرِية، وفيها كثرت الذُّرِّية، والسماء مؤنثة، وقد زُيِّنت بالكواكب، وحُليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها يتنعم المرسلون.
ويقول -رحمه الله- في باب ذكر المقابح:
تقبيح الخط والقلم:
نظر المأمون يوماً في خط أحمد بن يوسف، وهو يكتب بين يديه، فقال وهو يتنفس الصعداء: يا أحمد، أود لو أن خطك لي بنصف ملكي!
فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن في الخط فضيلة؛ لما حرمه الله أعز خلقه، وأجل رسله، محمداً، صلى الله عليه وسلم!
فقال: قد سَلَّيتني مما كنت أجد يا أحمد!
ويقول في تقبيح الأصدقاء والإخوان:
كان عمرو بن العاص يقول: من كَثُر إخوانه؛ كثر غرماؤه!
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم احرُسني من أصدقائي! فإذا قيل له في ذلك؛ قال: إني أقدر على الاحتراس من أعدائي، ولا أقدر على الاحتراس من أصدقائي![3]
وقال ابن الرومي:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فَإنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
ويقول في تقبيح الولد:
قال أكثم بن صيفي: من سره بنوه ساءته نفسه.
وقال يحيى بن خالد: ما أحد رأى في ولده ما يحب؛ إلا رأى في نفسه ما يكره.
وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يطرب لقول أبي الفتح البستي الكاتب:
يَقُولُونَ: ذِكْرُ المَرْءِ يَحْيَا بِنَسْلِهِ وَمَا أَنْ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ
فَقُلْتُ لَهُمْ: نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي فَإِنْ فَاتَنَا نَسْلٌ؛ فَإِنَّا بِهَا نَسْلُو
ويقول في تقبيح المطر:
كان يقال: المطر مفسد الميعاد. والغَيث لا يخلو من العَيث[4].
وفي كتاب المبهج: قد عاقت الأمطار عن الأوطار، وحالت دون الوصال.
وقال أبو نُوَاس:
هُوَ الْغَيْثُ! إِلاَّ أَنَّهُ بِاتِّصَالِهِ أَذًى، لَيْسَ قَوْلُ اللهِ فِيهِ بِبَاطِلِ
لَئِنْ كَانَ أَحْيَا كُلَّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَقَدْ حَبَسَ الأَحْبَابَ بَيْنَ المَنَازِلِ
ويقول في تقبيح القمر:
قال بعض ظرفاء الأدباء، ممن سكن دور الكِراء، وقد قيل له: انظر إلى القمر ما أحسنه!
فقال: والله، لا أنظر إليه لبغضي له!
قيل: لم؟!
قال: لأن فيه عيوباً؛ لو كانت في حمار لرُدَّ بالعيب!
قيل: وما هي؟
قال: ما يصدقه العِيان، وتشهد به الآثار!.. إنه يهدم العُمُر يُقرِّب الأجل، ويُحِلُّ الدَّين، ويُوجِب كِراء المنزل، ويقرض الكَتَّان، ويُشحِب الألوان، ويسخِّن الماء، ويفسِد اللحم، ويُعين السارق، ويفضح العاشق والطارق!!
المصدر : http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=188&ArticleID=1075
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] على هذا؛ فالتحسين والتقبيح -في هذا الكتاب- يقوم على ما تعارف الناس على تحسينه أو تقبيحه؛ وليس على ما حسنه الشرع أو قبَّحه، ولذا قد نرى في هذا المقال -كما في الأصل- ما يتنافى مع الشريعة الغراء، ولا يقبله الذوق السليم..
[2] هذه القصة، وإن كانت موجودة في (الآداب الشرعية) لابن مفلح، وهو كتاب متداول لا يمكن أن يقارن بكتاب (المستطرف)، ولا بكتاب (ثمار القلوب)؛ فإنها لا تصح عن معاوية -رضي الله عنه- لأنها رويت بدون إسناد، ثم إنها تتعارض مع ما ثبت في السنة من تحريم النياحة، والله أعلم.
[3] لا يخفى ما في هذا الكلام من جور على الصداقة، فالصديق مَن صدقك ! وإن كان المرء يخشى أن يؤتى من قبل أصحابه؛ فليقلل منهم، وخير له من ذلك أن يصبر على أذاهم، فقد ورد عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)). رواه أحمد.
[4] ليكن حالنا مع هذه النعمة -إن خشينا ضررها- كحال النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
(أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ!
فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ، فَاسْتَسْقَى، فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ مُطِرُوا، حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ، فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ!
ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ -أَوْ غَيْرُهُ- وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، فَقَالَ: غَرِقْنَا! فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا!
فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا] مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِينًا وَشِمَالاًُ، يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا، وَلا يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ، يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ).
كلا؛ بل كل ما في الأمر هو أني أردت أن أشركك -أخي القارئ- معي في متعة من متع الأدب، وأفنونة من أفانينه.
فهذا العنوان الذي اخترته لك ما هو إلا اسم لكتاب صغير الحجم، كبير المعنى، لطيف العنوان، جاد المضمون، حسن التأليف، بديع السبك والترصيف، في مدح أشياء تعارف الناس على ذمها، وذم أشياء تعارف الناس على مدحها[1]..
ومؤلف هذا الكتاب هو جاحظ نيسابور، وزبدة الأحقاب والدهور، وخاتمة مترسلي العصر العباسي الثالث، الأديبُ الشاعر، أبو منصور، عبد الملك بن محمد الثعالبي النيسابوري، المتوفى عام 429 هـ، نقل ابن خلكان في (وفيات الأعيان): أنه كان راعي تَلَعَات العلم، وجامعَ أشتات النثر والنظم.
ويكفيك -أخي القارئ- لتعرف قدر هذا الرجل ومنزلته في اللغة والأدب أن تعلم أنه هو صاحب كتاب (فقه اللغة)، وكتاب (يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وهذان الكتابان مصدران أصيلان في بابهما، وعمدة لمن جاء بعده في دراسة الأدب والشعر في القرن الرابع الهجري، خاصة أنه نقل فيهما من مصادر لم تعد موجودة اليوم.
وهذا الكتاب -أعني: (تحسين القبيح وتقبيح الحسن)- هو ثالث ثلاثة كتب أنشأها الثعالبي في اختلاف الناس في مدح الأشياء وذمها، والكتابان الآخران هما: (الظرائف واللطائف) و(اليواقيت في بعض المواقيت)، إلا أن نصوص الكتابين الأخيرين تتعلق بمدح الشيء وذمه في مكان واحد.
وهو -رحمه الله- في هذا الكتاب -بل وفي كل مؤلفاته- يسلك سبيله المعهود، من حيث الجِدَّةُ، والطرافة، وإشباع المعاني، وكثرة الشواهد، واختيار النوادر، حتى قال ابن خِلِّكان يصف مؤلفاته: "تواليفه أشهر مواضع، وأبهر مطالع، وأكثر راو لها وسامع".
وهذا الكتاب أهداه الثعالبي -كعادة كثير من الأدباء في ذلك العصر- إلى أحد فضلاء خراسان، وهو الشيخ السيد أبو الحسن محمد بن عيسى الكرجي، وهو الذي أهدى إليه -أيضاً- (تتمة اليتيمة).
ويرى الثعالبي أنه ما سُبِقَ إلى تأليف مثله في طرائف المؤلفات وبدائع المصنفات، ولعله يقصد بالسبق -هنا- جمع هذه المعاني بين دَفَّتي كتاب؛ وإلا فالمعاني التي ذكرها دائرةٌ قبله على ألسنة كثير من الحكماء والعلماء.
ثم يصف الثعالبي كتابه بقوله: "أودعته لمعاً من غرر البلغاء، ونكت الشعراء، في تحسين القبيح وتقبيح الحسن، إذ هما غايتا البراعة، والقدرة على جزل الكلام في سر البلاغة، وسحر الصناعة".
وإياك أن يهجم على عقلك -أخي القارئ- أن المؤلف يقصد بالبلاغة -هنا- ما هو متداول عند بعض من امتلكوا أَزِمَّةَ الكلام، وأوتوا بسطة في اللسان؛ من القدرة على قلب الحق إلى باطل، ومدح الشيء ونقيضه، والاستطالة بالذكاء، واللعب بنواصي الكلام؛ للتاثير في النفوس ! كلا..! إنما هو يريد بالبلاغة البيانَ الصادق الذي أعجز به القرآنُ الكريمُ العربَ قاطبة، وأوتيه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهي مطابَقة الكلام لواقع الحال. وهذا هو الذي يظهر من سياقات الكتاب لمن تأمل ذلك، فهو لا يُقبِّح أو يحسِّن الأمور لذاتها، وإنما يقبح ويحسن أفعال الناس لها؛ ففي كل أمر يفعله الناس؛ يعتورهم مَزلَقان: إما إفراط، وإما تفريط، وهذان المزلقان هما ما يذمه الثعالبي، رحمه الله.
فيذكر -مثلاً- في "باب المقابح": تقبيح العلم، والشجاعة، والأدب، والغنى، والحلم، والصبر.. في قائمة تصل إلى ثلاثين خصلة مما يمدحها الناس، ثم إذا أتينا على حقيقة ما قَبَّح؛ وجدناه لا يقبح سوى العلم الذي لا يثمر عملاً، والشجاعة المتهورة التي لا تجني إلا ندماً، والأدب الذي يشغل قلب صاحبه وعقله عن تدبير شؤونه، والغِنى الذي يورث البَطَر، والحِلم الذي يجرِّئ السفهاء ويصل إلى حد الخُمول..
والحال كذلك في "باب المحاسن"؛ فهو يذكر فصولاً في تحسين الكذب، والوقاحة، والذنوب، والمرض، والموت، والجبن، وسواد اللون، والسجن.. ولو ذهبنا لكلامه؛ لوجدناه لا يحسِّن الكذب ذاتَه، وإنما يحسن المواضع الثلاثة التي أجازت الشريعة فيها الكذب، وهي الحرب، والصلح، وملاطفة الزوجة، ولا يعني بتحسين الوقاحة إلا المعنى المقابل للخجل والحياء الزائد، كما أنه لا يشيد إلا بآثار الذنوب ،من الندم والتوبة والانكسار لله -عز وجل- ولا يحسن الذنوب نفسها..
إلا أنه -رحمه الله- قد يُغْرِب في البابين جميعاً -أعني: باب ذكر المحاسن، وباب ذكر المقابح- ويأتي بالمعاني التي تدور في خواطر الناس، فيحومون حولها، ويرفرفون عليها، ولا يتوصلون إليها، فيجيء هو فيفصح عنها، ويوشِّحها بنكت الشعراء وألفاظ الحكماء، فما تظنه سيقول في تحسين الملل؟! أو تحسين الحقد؟! بل والأغرب من ذلك ما ذكره في تقبيح المطر، وتقبيح القمر!! إنك -أيها القارئ الكريم- لفي طرب مرة، وفي عجب مرات، من اختيار هذا الأديب اللغوي الشاعر! وحُقَّ لك ذلك؛ فاختيارُ المرء قطعةٌ من عقله تدل على تخلقه وفضله.
وها أنذا أقتطف لك -أيها القارئ الكريم- طائفة يسيرة من زهور بستانه، تُغريك بالكتاب، ولا تُغنيك عنه، وما تركت أظرف مما ذكرت.
يقول -رحمه الله- في باب ذكر المحاسن:
تحسين الدَّيْن:
دخل عمرو بن عتبة يوماً على خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: إن ها هنا رجالاً إذا خفت أموالهم؛ عوّلوا على الدَّين، وأخذوا في الاستدانة! فقال عتبة: إن رجالاً تكون أموالهم أكثر من مروءاتهم؛ فلا يدانون، ورجالاً لا تكون مروءاتهم أكثر من أموالهم؛ فيدانون، على سعة ما عند الله.
ويقول في تحسين العمى:
قيل لقتادة: ما بال العميان أذكى وأكيَس من البُصَراء؟
فقال: لأن أبصارهم تحولت إلى قلوبهم.
وقال الجاحظ: العميان أحفظ وأذكى، وأذهانهم أقوى وأصفى؛ لأنهم غير مشتغلي الأفكار بتمييز الأشخاص، ومع النظر يتشعب الفكر، ومع انطباق العين اجتماع اللب، ولذلك قال بشار: عميت جنيناً، والذكاء من العمى.
وكان أبو يعقوب الخُزيمي يقول: من فضائل العمى ومحاسنه: سقوط الواجب من الحقوق، والأمان من فضول النظر الداعية إلى الذنوب، وفقد النظر إلى الثقلاء والبغضاء.
ويقول في تحسين الحقد:
لم يزل الحقد مذموماً بكل لسان، مقبَّحاً عند كل إنسان، حتى جرى بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الملك بن صالح الهاشمي كلام يؤذي، إلى أن قال له يحيى: لله درك أي رجل أنت، لولا أنك حقود!!
فقال عبد الملك: إن كنت تريد بقاء الخير والشر عندي؛ فإني كذلك!
ويروى أنه قال له: أنا خزانة تحفظ الخير والشر!
فقال يحيى: هذا جبل قريش، ووالله ما رأيت أحداً احتج للحقد، حتى حسّنه وظرّفه؛ غيره!
ويقول في تحسين أمر الغَوغاء:
في الخبر أن الله -تعالى- ينصر هذا الدين بقوم لا خلاق لهم!
وكان الأحنف يقول: أكرموا الغوغاء والسفهاء؛ فإنهم يكفونكم العار والنار!
وقال جعفر بن محمد رحمه الله: إنهم ليطفئون الحريق، ويستنقذون الغريق، ويسدون البُثُوق!
ويقول في تحسين الملل:
جرى يوماً في مجلس عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وبين جلسائه كلام في ذم الملل وتقبيحه والتعريض به، فقال: ويحكم أتدرون أنكم تذمون ممدوحاً? ألا ترون أن الرئيس إذا كان غير ملول؛ اختُص بثمرة فضله قوم، بل شرذمة قليلون من خواصه وندمائه، وحُرم الأكثرون من أفاضل المستحقين صوب سمائه؟!!
وإذا كان ملولاً، ولا يصبر على نفر بأعيانهم؛ استجد الإخوان على تكرر الزمان، واستمالهم بالإنعام والإحسان، وتشارك الناس في أثاريده، وتضاربوا بالسهام في أياديه ومننه؟!!
فقالوا له: والله، إن الأمير ليسحرنا بلسانه وبيانه، ويحسِّن ما تطابقت الألسن على تقبيحه!
ويقول في تحسين الفراق:
قال بعض الظرفاء: في الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأَوبة، والسلامة من الملل، وعمارة القلب بالشوق، والأنس بالمكاتبة!
وكتب أبو عبد الله الزنجي الكاتب: جزى الله الفراق عنا خيراً! فإنما هو زفرة وعبرة، ثم اعتصام وتوكل، ثم تأميل وتوقع.. وقبح الله التلاقي! فإنما هو مَسرة لحظة، ومساءة أيام، وابتهاج ساعة، واكتئاب زمان.
وكتب أحمد بن سعد: إني لأكره الاجتماع؛ محاذرة الفراق، وقصر السرور. ومع الفراق غُمةٌ يخفيها توقُّعُ إسعاف النوى، وتأميل الأوبة والرُّجْعى.
ويقول في تحسين أمر البنات:
دخل عمرو بن العاص يوماً على معاوية، وعنده ابنته عائشة، فقال: من هذه يا أمير المؤمنين?
فقال: هذه تفاحة القلب!
فقال: انبذها عنك!
قال: ولم?
قال: لأنهن يلدن الأعداء، ويقربن البُعَداء، ويُوَرِّثن الضغائن!
قال: لا تقل ذلك يا أبا عبد الله، فوالله ما مرَّض المرضى، ولا ندب الموتى[2]، ولا أعان على الأحزان مثلهن، وإنك لواجد خالاً قد نفعه بنو أخته.
فقال: يا أمير المؤمنين قد حبَّبتَهن إليّ.
وكتب أحدهم في التهنئة بابنة: ...فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها،... والأرض مؤنثة، ومنها خلقت البَرِية، وفيها كثرت الذُّرِّية، والسماء مؤنثة، وقد زُيِّنت بالكواكب، وحُليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة، وهي قوام الأبدان، وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة، وبها وعد المتقون، وفيها يتنعم المرسلون.
ويقول -رحمه الله- في باب ذكر المقابح:
تقبيح الخط والقلم:
نظر المأمون يوماً في خط أحمد بن يوسف، وهو يكتب بين يديه، فقال وهو يتنفس الصعداء: يا أحمد، أود لو أن خطك لي بنصف ملكي!
فقال: يا أمير المؤمنين، لو أن في الخط فضيلة؛ لما حرمه الله أعز خلقه، وأجل رسله، محمداً، صلى الله عليه وسلم!
فقال: قد سَلَّيتني مما كنت أجد يا أحمد!
ويقول في تقبيح الأصدقاء والإخوان:
كان عمرو بن العاص يقول: من كَثُر إخوانه؛ كثر غرماؤه!
وكان بعضهم يقول في دعائه: اللهم احرُسني من أصدقائي! فإذا قيل له في ذلك؛ قال: إني أقدر على الاحتراس من أعدائي، ولا أقدر على الاحتراس من أصدقائي![3]
وقال ابن الرومي:
عَدُوُّكَ مِنْ صَدِيقِكَ مُسْتَفَادٌ فَلا تَسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحابِ
فَإنَّ الدَّاءَ أَكْثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
ويقول في تقبيح الولد:
قال أكثم بن صيفي: من سره بنوه ساءته نفسه.
وقال يحيى بن خالد: ما أحد رأى في ولده ما يحب؛ إلا رأى في نفسه ما يكره.
وكان الشيخ أبو الطيب سهل بن أبي سهل الصعلوكي يطرب لقول أبي الفتح البستي الكاتب:
يَقُولُونَ: ذِكْرُ المَرْءِ يَحْيَا بِنَسْلِهِ وَمَا أَنْ لَهُ ذِكْرٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ نَسْلُ
فَقُلْتُ لَهُمْ: نَسْلِي بَدَائِعُ حِكْمَتِي فَإِنْ فَاتَنَا نَسْلٌ؛ فَإِنَّا بِهَا نَسْلُو
ويقول في تقبيح المطر:
كان يقال: المطر مفسد الميعاد. والغَيث لا يخلو من العَيث[4].
وفي كتاب المبهج: قد عاقت الأمطار عن الأوطار، وحالت دون الوصال.
وقال أبو نُوَاس:
هُوَ الْغَيْثُ! إِلاَّ أَنَّهُ بِاتِّصَالِهِ أَذًى، لَيْسَ قَوْلُ اللهِ فِيهِ بِبَاطِلِ
لَئِنْ كَانَ أَحْيَا كُلَّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ لَقَدْ حَبَسَ الأَحْبَابَ بَيْنَ المَنَازِلِ
ويقول في تقبيح القمر:
قال بعض ظرفاء الأدباء، ممن سكن دور الكِراء، وقد قيل له: انظر إلى القمر ما أحسنه!
فقال: والله، لا أنظر إليه لبغضي له!
قيل: لم؟!
قال: لأن فيه عيوباً؛ لو كانت في حمار لرُدَّ بالعيب!
قيل: وما هي؟
قال: ما يصدقه العِيان، وتشهد به الآثار!.. إنه يهدم العُمُر يُقرِّب الأجل، ويُحِلُّ الدَّين، ويُوجِب كِراء المنزل، ويقرض الكَتَّان، ويُشحِب الألوان، ويسخِّن الماء، ويفسِد اللحم، ويُعين السارق، ويفضح العاشق والطارق!!
المصدر : http://www.alukah.net/Articles/Article.aspx?CategoryID=188&ArticleID=1075
ــــــــــــــــــــــــــــ
[1] على هذا؛ فالتحسين والتقبيح -في هذا الكتاب- يقوم على ما تعارف الناس على تحسينه أو تقبيحه؛ وليس على ما حسنه الشرع أو قبَّحه، ولذا قد نرى في هذا المقال -كما في الأصل- ما يتنافى مع الشريعة الغراء، ولا يقبله الذوق السليم..
[2] هذه القصة، وإن كانت موجودة في (الآداب الشرعية) لابن مفلح، وهو كتاب متداول لا يمكن أن يقارن بكتاب (المستطرف)، ولا بكتاب (ثمار القلوب)؛ فإنها لا تصح عن معاوية -رضي الله عنه- لأنها رويت بدون إسناد، ثم إنها تتعارض مع ما ثبت في السنة من تحريم النياحة، والله أعلم.
[3] لا يخفى ما في هذا الكلام من جور على الصداقة، فالصديق مَن صدقك ! وإن كان المرء يخشى أن يؤتى من قبل أصحابه؛ فليقلل منهم، وخير له من ذلك أن يصبر على أذاهم، فقد ورد عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي لا يُخَالِطُهُمْ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ)). رواه أحمد.
[4] ليكن حالنا مع هذه النعمة -إن خشينا ضررها- كحال النبي -صلى الله عليه وسلم- ففي البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
(أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: قَحَطَ الْمَطَرُ؛ فَاسْتَسْقِ رَبَّكَ!
فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، وَمَا نَرَى مِنْ سَحَابٍ، فَاسْتَسْقَى، فَنَشَأَ السَّحَابُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ مُطِرُوا، حَتَّى سَالَتْ مَثَاعِبُ الْمَدِينَةِ، فَمَا زَالَتْ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ مَا تُقْلِعُ!
ثُمَّ قَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ -أَوْ غَيْرُهُ- وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ، فَقَالَ: غَرِقْنَا! فَادْعُ رَبَّكَ يَحْبِسْهَا عَنَّا!
فَضَحِكَ، ثُمَّ قَالَ: [اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلا عَلَيْنَا] مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثاً، فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَصَدَّعُ عَنْ الْمَدِينَةِ يَمِينًا وَشِمَالاًُ، يُمْطَرُ مَا حَوَالَيْنَا، وَلا يُمْطِرُ مِنْهَا شَيْءٌ، يُرِيهِمْ اللَّهُ كَرَامَةَ نَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِجَابَةَ دَعْوَتِهِ).