عبدالمجيد سلامة
New member
سورة النور
إسمها:
سميت بسورة النور لورود قول الله تعالى فيها: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، ولكثرة ذكر النور فيها.
عدد آياتها:
اختلف أهل العلم في عد آياتها، وهي أربع وستون آية عند الصريين والكوفيين، واثنتان وستون آية عند المدنيين، واتفقوا جميعا في عد كلماتها وحروفها.
مناسبة سورة النور لما قبلها:
ما أنزل الله كتابه إلا لرحمة خلقه، وقدبين الله لهم في كثير من الآيات أسباب رحمته، وبين صفات المرحومين، ومنها ما ذكره في سورة المؤمنون، وقد بين أنهم هم المفلحون في قوله تعالى (قد أفلح المؤمنون) وبين أن من أسباب فلاحهم حفظ فروجهم، ثم بين في السورة التي تليها وهي سورة النور، كيف يحفظون فروجهم، ووضع التدابير التي تجعل هذا المجتمع يحيا في ظلال الطهر والعفاف، فشرع لهم من الأحكام ما يردع من يزيغ منهم، ويرد الشارد منهم إلى حظيرة الإيمان، وميز حياة المؤمنين عن سواهم ممن سلكوا مسالك الشرك والفجور، وبين حال أهل الإيمان ومدحهم، وحال أهل النفاق وذمهم وتوعدهم، وحث فيه على التوبة والأوبة إليه، ونادي فيه بحسن بإنخراط المؤمنين مع بعضهم، وحسن ظنهم بأنفسهم، وحث على مغفرة بعضهم لهفوات بعض، وبين أن من سلك طريق الإحسان فهو أقرب إلى الرضا والقبول والغفران.
ولما ذكر الله في سورة المؤمنون أيضا أن للكافرين أعمال سيئة كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، فقد بين الله عز وجل هذه الأعمال في هذه السورة وهي الزنا، والبغاء، وقذف المحصنات، وغيرها من أعمال الجاهلية، فقد بينها هنا، ونهى المؤمنين عنها، ووضع لها الحدود التي تئد هذه الأعمال في مهدها ليبقي المجتمع المسلم من حيث الطهر والعفاف والرقي ومكارم الأخلاق كالشامة في جبين البشرية، لا يرقى لمثل منزلته إلا من دان بدينه واتبع أحكامه وآدابه.
سبب نزول السورة:
قيل في سبب النزول أن المهاجرون إلى المدينة المنورة كان فيهم فقراء، فأراد بعضهم أن ينكحوا بعض البغايا؛ ليعيشوا ويأكلوا معهن حتى يغنيهم الله، فاستأذنوا الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك فنزلت هذه السورة؛ لتحريم نكاح البغايا على المسلمين، وبيان منزلة الإيمان التي ينبغي على صاحبها أن ينأى بنفسه عن الدنايا.
التفسير والبيان:
قال تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
1 - هذه (سُورَةٌ) السورة في الشرع: هي القطعة من كلام الله تعالى، لها مبتدا ومنتهى، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر، والسورة مأخوذة من معاني العلو والسمو والرفعة والشرف، وكلام الله أسمى وأعلى من كلام غيره، فناسب أن تكون السورة التي هي بعض كلام الله، أسمى وأعلى من أي كلام، (أَنْزَلْنَاهَا) الإنزال يكون من العلو، (وَفَرَضْنَاهَا) الفرض: الحز والقطع، ومن معانية التقدير، كما في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي قدرتم لهن مهرا، ومن معانية الإيجاب: كما في قوله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: فمن أوجب على نفسه الحج، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85]،والمعنى هنا في فرض السورة: أي أوجبنا على العباد إحلال حلالها وتحريم حرامها، وبيَّنَّا لهم فيها الأحكام والشرائع (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ): أي دلائل مفسرات واضحات، والآية في اللغة: العلامة، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248]، والآية في الشرع: هي المنزلة من عند الله الموحاة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وسميت بالآية: لما في ألفاظها ومعانيها وأحكامها، من إعجاز وهدي وصلاحية لكل زمان ومكان، ومن إعجازها أنها متى عمل بها أي إنسان أو أي مجتمع غيرت حياته لأفضل وأسعد وأنقي وأطهر وأحسن حياة، بل ترفع العاملين بها إلى أعلى مراتب الرقي والحضارة، وليس أدل على ذلك من أنها حولت حياة رعاة الغنم في بضع عقود من الزمان إلى قادة للأمم، وسادوا بها رقاب البشر، وسطروا في تاريخ الزمان صفحات من نور، ما وجد مثلها في تاريخ البشرية ولن يوجد، ما لم يعد المسلمون إلى التمسك بدينهم بصورة يرضاها رب العالمين.
ووصفت الآيات بأنها بينات، ومعنى البينات: الواضحات المفصلات، التي لا غموض فيهن ولا إشكال، فهن واضحات بأنفسهن، وقد ذكر هذا البيان والتفصيل في مواظن كثيرة منها قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] وقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]
ومن الآيات البينات التي أنزلت في السورة إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {إن الله خبير بما تعلمون} [النور 48:53]، ومنها أيضا الآيات التي أنزلت بالحدود المفروضة على من أتي الفاحشة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) رجاء أن تتذكروا ما فيها من الأحكام فتتعظوا وتعملوا بها.
من هداية الآية:
- في قوله تعالى (أنزلناها) إشارة إلى عظم هذه السورة، لأن من أسباب عظم المنزل عظم منزله، فلما قال الله عز وجل
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] كان فيه منافع الحياة وبها قوامها، وبين ذلك في نفس الآية، بقوله تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] والله هو العظيم فحين ينوه بأنه المنزل للسورة فتكون السورة لذلك عظيمة الشأن، مع أنه المنزل لها ولغيرها من السورة، لكنه خصها بالإنزال، فزاداها ذلك شرفا على شرفها.
-في تنكير لفظة (سورة) تفخيم لقدرها وتعظيم لشأنها.
- بيان علو الله عز وجل، وذلك لأن الإنزال يكون من أعلى لأسفل، وقد جاء القرآن والسنة، بذلك، من قول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]
- قد هدت الآية إلى ضرورة الإعتناء بهذه السورة، ما دام قد بين الله عظم شأن فقد وجب على المكلف الإهتمام والإعتناء بما عظمه ربه سبحانه وتعالى.
- مما يبين عظمة شأن هذه السورة أيضا أنها حوت أحكاما وآدابا بها قوام المجتمع الإسلامي، لما في ذلك من الحفاظ على المجتمع بفرضها التدابير والأحكام المانعة عن أسباب الضعف والتفرق والبغيضة والهلاك التي تنتج بسبب رتوع أفراد من الأمة فيما يشين العفة والشرف وهتك للأعراض، وهو نفسه الشيء الذي أشارت إليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام، والتي هلكت بها كثير من الأمم السابقة، ومن ثم جاءت هذه التدابير والأحكام لتحمي المجتمع المسلم من السقوط في هاوية الهلاك والدمار، والعياذ بالله.
بيان حد الزنا والأحكام المتعلقة به:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
التفسير والبيان:
2 - (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) البكْران الحران الذان لم يحصنا (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا بالنسبة للحرة، أما الأمة البكر فعليها نصف هذا الحد لقوله تعالى في الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فإن كانا قد أحصنا فحدهما الرجم (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا) (رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي رحمة ورفق في إقامة دين الله وحدوده بحيث لا تقيمون عليهما الحد أو تخففونه عنهما، فمعنى (فِي دِينِ اللَّهِ)، أي في طاعته وحكمه، كما في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} [يوسف: 76]، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا) وليحضر إقامة الحد عليهما (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: جمع من المؤمنين إمعانًا في التشهير بهما وردعًا لهما ولغيرهما، وهذا الحد للزانيين البكرين هو عين الرحمة لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم رحمه، وقد أنزل الله كتابه بإسميه الرحمين الرحيم في قوله تعالى في أول القرآن وفي افتتاح السور، وقد جعل الله إرسال نبيه صلى الله عليه وسلم رحمه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فإقامة الحد عليهما ليرتدعا ويشفيان من آثار الشهوة والعشق الحرام رحمه بهما حيث به يحميان من شر الفاحشة ويحميان المجتمع من شرها، ومعلوم أن الفاحشة من الذنوب التي هلكت بسببها الأمم واندثرت الحضارات، ولذا شنع الله في آية لاحقة من هذه السورة على الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب الأليمفي الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]
من هداية الآية:
- بينت الآية أن المرأة هي الأساس في جريمة الزنا، وذلك بتقديمها على الزاني، ومن شاكلة هذا قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، قدم السارق لأنه الأساس في السرقة لمطالبته بالتكسب.
- هدت الآيات إلى بيان حكم الزاني والزانية البكرين الحرين، وهو جلد مائة جلدة، وبينت السنة أن مع الجلد تغريب عام، وأن الرجم على الزانية والزاني المحصنين.
- وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين
- بينت الآية أن الغالب على الناس أنهم يتساهلون في أمر الزناة ما لا يتساهلون في أمر السارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر، بحيث تأخذهم بالزناة الرأفة لجمال فيهما يحرك القلوب نحوهم بالرأفة أوالشفقة عليهم في إقامة الحد، فنهى الله عن إعتبار تلك الرأفة التى قد يجدها البعض عند إقامة الحدود علي الزناة.
- قوة الإيمان تحمل العباد على إقامة الحدود، بل تدفع العبد إلى المطالبة بإقامة الحد على نفسه وتطهيرها من ذنبها، كما جاء في السنة من قصة ماعز وقصة الغامدية رضى الله عنهما، وكيف أثني النبي صلى الله عليه وسلم عيه وسلم على توبتها لما توفر الداعي لبيان عظم قدر هذه التوبة بسب الصحابي لها لما تناثر دمها على ثوبه.
- أنه لا ينبغي على القائمين بتنفيذ الحدود أن تأخذهم بالزناة رأفة في إقامة الحد عليهما، لأن إقامة الحد عليهما في حد ذاتها رحمة، فلو أخذت من يقيمون الحد رأفة بهم، لضاعت الفائدة من إقامة الحد، وتولد على أثر ذلك ما هو أشد ضررا عليهما وعلى المجتمع من ألم الجلد.
- قسوة المؤمن على أخيه المؤمن إن كانت لمصلحة أخيه، لا تقدح في إيمانه، بل هي من الإيمان ومن لوازم النصح للمسلمين، كالقيم يسقى من تحته الدواء المر ليداوي مرضه، ولو منع هذه القسوة عليه فمنعه الدواء رحمة به لتسبب في تلفه أو هلاكه.
3 - حرم الله زواج المؤمن من الزانية والمؤمنة من الزاني لذا قال تعالى (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) وذلك لأن الزواج المحرم لا يصح، ومن ثم فالوطء فيه زنا، فمن تزوج هذا الزواج المحرم، فقد وطء إمرأة في زواج فاسد وهو يعلم ومن ثم فهو زان من هذه الوجهة، ومن كان هذا مسلكه وهو عدم التنزه عن الزنا فلا تناسبه للزواج إلا زانية أو مشركة، لتفظيع الزنى ذكر الله أن الَّذي اعتاده لا يرغب في الزواج إلا من زانية مثله أو مشركة لا تتوقى الزنى مع عدم جواز نكاحها، (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) والتي اعتادت الزنى لا ترغب في الزواج إلا من زان مثلها أو مشرك لا يتوقاه مع حرمة زواجها منه، وهذا الجزء من الآية تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني لقبح ما هو عليه من اتخاذ الزنى له عادة حرم الله زواجه من المسلمة العفيفة لأن في زواجه منها متلفة لها في النفس والدين والخلق وهذا مشاهد في أهل زماننا، وقد جاء الدين بأسباب السعادة لا بأسباب التلف والشقاوة، فمن لم يتب من هذه الفاحشة فليتزوج ممن هي على شاكلته وليترك أهل الدين والعفاف لا يضرهم، وهذا من قبيل قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} [النور: 26]، لذا جاء هذا الجزء من الآية مجيء التمهيد لما شرعه الله تعالى بقوله (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي: حُرِّم نكاح الزانية وإنكاح الزاني على المؤمنين، مالم يتوبا، وبهذا التدبير الرباني حمى الله أولياءه المؤمنين، من شر الفاحشة وأثرها السيء عليهم في دينهم ودنياهم، إما إذا تابت الزانيةُ فيجوز الزواج منها، وكذلك الزاني إذا تاب يجوز أن يتزوج من المؤمنات العفيفات، وكل هذا من آثار رحمة الله تعالى.
سبب النزول: جاء في سنن أبي داود وغيره، أن رجلا كان في الجاهلية له قرينة تسمى عناق، فلما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج منها، فنزلت الآية.
من هداية الآية:
- أن لا يتزوج الزانية القائمة على زناها غير تائبة منه، إلا زان لأن وطأ الرجل المرأة في نكاح محرم عليه مع علمه يجعل النكاح في حقه غير صحيح وتكون المعاشرة بينهما في حقه زنا، فمتزوج الزانية زان من هذه الوجهة، فإن لم يكن من المسلمين فهو مشرك لأن المشرك من باب أولى لا ينظر لحرمة الزنا، وكذلك بالنسبة للمرأة تنكح الزاني القائم على زناه غير التائب منه، والله أعلم.
- لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
بيان حد القذف:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
التفسير والبيان:
4 - ومن تدابير الله ورحمته أن شرع ما يحفظ به عرض العفيفات من التهم الباطلة قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي يقذفون بالزنا (الْمُحْصَنَاتِ) والمحصنات: جمع محصنة من الإحصان، وهو الحفظ، فالإحصان وصف للمرأة تكون معه بعيدة عن الفاحشة، ومنه قوله تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80]: يعني: الدروع يلبسها المقاتل فيحفظ، والمحصنات هن الحرائر العفيفات لوصفه تعالى لهن في سورة النساء بقوله {مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يجيئون جميعا فيشهدون على ما رموهم به من الفاحشة (فَاجْلِدُوهُمْ) أي الرامين، كل واحد منهم (ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) أي شهادة كانت مدة حياتهم لأنهم مفترون (وَأُولَئِكَ) الذين يرمون العفائف (هُمُ الْفَاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله.
من هداية الآية:
1 - تشريع حد القذف، لمن رمى مؤمنة بالغة عفيفة أو مؤمنا.
2 - أن القاذف بالباطل مردود الشهادة غير معتبر العدالة، مالم يتب، وتوبتة تكذيب نفسه، لأن ذنبه تعلق بعرض غيره، ولا ترفع التهمة إلا بتكذيب نفسه، وأن غير التائب من جملة الفاسقين، هكذا سماه الله وهكذا ينبغى أن تكون منزلته في المجتمع مهما علت درجته أو شهادته أو مؤهلاته الوظيفية يبقى عند الله وعند المؤمنين فاسقا.
3 - أن كل المؤهلات الدنيوية واعتبارات البشر في تقييم الناس لا قيمة لها أمام أحكام الله، فالله هو الذي يعز ويذل، أعز أهل طاعته بطاعتهم له، وأذل من فسق عن شرعه أيا كانت منزلته عند الناس.
5 - (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) إلى الله بالرجوع إلي إلتزام شرعه سبحانه (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: بعد الَّذي أقدموا عليه من رمي المحصنات بالفاحشة، (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه في حقهن بتكذيب أنفسهم، وأصلحوا أعمالهم عامة وانشغلوا بعد السيئات بالحسنات، فإن الله يقبل توبتهم وشهادتهم، والإصلاح هو اتباع سبيل الله كما بينه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]، ومن اتباع سبيل الله بيان الحق لقوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] فزاد البيان هنا لإقتداء الحال له، وكذلك يقتضى الحال في تبرئة المحصنات، والإصلاح مع التوبة أمر لازم كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] هذا فيمن عمل السوء بجهالة فكيف بمن رميء بريئة أو بريء بتهمة معرتها تلحق الأجيال والأقارب من كل إتجاه، والعياذ بالله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لمن تاب من عباده (رَحِيمٌ) بهم.
من هداية الآية:
1 - التوبة تمحو الخطايا وترد للتائب منزلته في المجتمع المسلم.
2 - الجزاء من جنس العمل، فلما تاب القاذف وأصلح ما أفسده، جزاه الله من جنس عمله، فأصلح له إعتباره بين الناس، وأمرهم بمعاملته، وكيف لا وهو الغفور لذنبه الرحيم بفتح باب التوبة له.
2 - قبول توبة التائب، وإنزاله منزلته، ومن خالف ذلك وظل على معاملة المذنب بعد توبته على ما كان يعامله به قبل توبته، فهو الفاسق عن شرع ربه سبحانه وتعالى الذي فتح باب التوبة أمام خلقه، والتوبة النصوح تجب ما قبلها، كما جاءت بذلك نصوص الشريعة.
حكم اللعان:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
سبب نزول الآيات:
جاء عند البخارى أن رجلا يقال له عويمر سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فنزلت الآيات.
التفسير والبيان:
6 - (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ) وليس لهم شهود (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي: غير أنفسهم يشهدون على صحة ما رموهن به؛ (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) يشهد الواحد منهم (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى.
من هداية الآية:
- رحمة الله بعباده، وواقعية الشريعة، إذا اعتبرت الأربع شهادات في مثل هذا الموقف تقوم مقام الأربعة شهود.
7 - (وَالْخَامِسَةُ) ثم في شهادته الخامسة (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) يزيد الدعاء على نفسه باستحقاق اللعنة إن كان كاذبًا فيما رماها به، واللعن هو الإبعاد بتحقير لقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 35] ومن آثار لعنة الله أن يلقي المرء ذلة في الدنيا والعياذ بالله لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] وهنا أحد الملاعنين قد إفترى على صاحبة فرية الله أعلم بالحق فيها.
من هداية الآية:
- أن بينت أن اللعن هو عقاب من رمى زوجته وهو أخف من الغضب، لأنه غالبا لا يقدم رجل على رمى زوجته، إلا إذا كان الأمر فوق طاقته.
8 - فتستحق هي بذلك أن تُحَد حد الزنى، (وَيَدْرَأُ عَنْهَا) ويدفع عنها لقوله تعالى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] فلقد تدافعوا التهمة فيما بينهم ينفيها كل عن نفسه (الْعَذَابَ) أي: الإيلام الناتج عن حد الزنا لقوله تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) فيما رماها به.
من هداية الآية:
- أن حلف الزوج على زوجته ورميه لها يوجب عليها الحد كأنه أتى بأربعة شهود، والذي يدفع عنها الحد أن تأتي بأربعة شهود يكذبون شهوده، وشهودها هنا حلفها أربع شهادات بأنه من الكاذبين، فترد شهاداتها شهاداته، كما ترد الشهود الشهود.
9 - (وَالْخَامِسَةَ) ثم في شهادتها الخامسة تزيد الدعاء على نفسها (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به، وهذه الجريمة وإن كان صاحبها لا يقام عليه الحد في الدنيا إلا أن توعده بعقابين لم يذكرا إلا في حق من أتي بأبشع الجرائم، كما بين ذلك سبحانه وتعالى في قوله عن بني إسرائيل {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]
من هداية الآية:
- أن الله يفرض الحدود وفق حكمة بالغة، فقد جعل عقاب الكاذبة الغضب وهو أشد من اللعن لأن ضرر كذبها أقبح على الزوج من ضرر كذبه عليها، وذلك لأنها في حال كذبها تكون قد مكنت منها ماليس له حق في وطأها، وبذلت حق زوجها منها لمن لا حق له فيما بذلته، فتكون كاذبة وظالمة في آن واحد، ومن ثم فاعتداءها على زوجها بكذبها أشد من إعتداءه عليها بكذبه.
10 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بتبين هذه الأحكام العظيمة النفع أيها الناس (وَرَحْمَتُهُ) بكم في تشريعاته التي تبهر العقول المتدبرة، والتي عجزت البشرية على طول عمرها أن تأتي بمثلها أو ما يدانيها، ففضل الله دوما عظيم لقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74] (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ) على من تاب من عباده، (حَكِيمٌ) في تدبيره وشرعه لعاجلكم بالعقوبة على ذنوبكم، ولفضحكم بها.
من هداية الآية:
- أن هذه التشريعات هي محض فضل من الله ورحمة، ينبغى شكره عليها، بإقامتها في المجتمع، ومطالبة المدعين بالبينة على دعواهم أثر من آثار رحمة الله في تشريعاته، وأن ترك هذه التشريعات وتعطيل إقامة هذه الحدود، هو كفر بنعمة الله تعالى.
إسمها:
سميت بسورة النور لورود قول الله تعالى فيها: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35]، ولكثرة ذكر النور فيها.
عدد آياتها:
اختلف أهل العلم في عد آياتها، وهي أربع وستون آية عند الصريين والكوفيين، واثنتان وستون آية عند المدنيين، واتفقوا جميعا في عد كلماتها وحروفها.
مناسبة سورة النور لما قبلها:
ما أنزل الله كتابه إلا لرحمة خلقه، وقدبين الله لهم في كثير من الآيات أسباب رحمته، وبين صفات المرحومين، ومنها ما ذكره في سورة المؤمنون، وقد بين أنهم هم المفلحون في قوله تعالى (قد أفلح المؤمنون) وبين أن من أسباب فلاحهم حفظ فروجهم، ثم بين في السورة التي تليها وهي سورة النور، كيف يحفظون فروجهم، ووضع التدابير التي تجعل هذا المجتمع يحيا في ظلال الطهر والعفاف، فشرع لهم من الأحكام ما يردع من يزيغ منهم، ويرد الشارد منهم إلى حظيرة الإيمان، وميز حياة المؤمنين عن سواهم ممن سلكوا مسالك الشرك والفجور، وبين حال أهل الإيمان ومدحهم، وحال أهل النفاق وذمهم وتوعدهم، وحث فيه على التوبة والأوبة إليه، ونادي فيه بحسن بإنخراط المؤمنين مع بعضهم، وحسن ظنهم بأنفسهم، وحث على مغفرة بعضهم لهفوات بعض، وبين أن من سلك طريق الإحسان فهو أقرب إلى الرضا والقبول والغفران.
ولما ذكر الله في سورة المؤمنون أيضا أن للكافرين أعمال سيئة كما في قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، فقد بين الله عز وجل هذه الأعمال في هذه السورة وهي الزنا، والبغاء، وقذف المحصنات، وغيرها من أعمال الجاهلية، فقد بينها هنا، ونهى المؤمنين عنها، ووضع لها الحدود التي تئد هذه الأعمال في مهدها ليبقي المجتمع المسلم من حيث الطهر والعفاف والرقي ومكارم الأخلاق كالشامة في جبين البشرية، لا يرقى لمثل منزلته إلا من دان بدينه واتبع أحكامه وآدابه.
سبب نزول السورة:
قيل في سبب النزول أن المهاجرون إلى المدينة المنورة كان فيهم فقراء، فأراد بعضهم أن ينكحوا بعض البغايا؛ ليعيشوا ويأكلوا معهن حتى يغنيهم الله، فاستأذنوا الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك فنزلت هذه السورة؛ لتحريم نكاح البغايا على المسلمين، وبيان منزلة الإيمان التي ينبغي على صاحبها أن ينأى بنفسه عن الدنايا.
التفسير والبيان:
قال تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
1 - هذه (سُورَةٌ) السورة في الشرع: هي القطعة من كلام الله تعالى، لها مبتدا ومنتهى، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر، والسورة مأخوذة من معاني العلو والسمو والرفعة والشرف، وكلام الله أسمى وأعلى من كلام غيره، فناسب أن تكون السورة التي هي بعض كلام الله، أسمى وأعلى من أي كلام، (أَنْزَلْنَاهَا) الإنزال يكون من العلو، (وَفَرَضْنَاهَا) الفرض: الحز والقطع، ومن معانية التقدير، كما في قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي قدرتم لهن مهرا، ومن معانية الإيجاب: كما في قوله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أي: فمن أوجب على نفسه الحج، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85]،والمعنى هنا في فرض السورة: أي أوجبنا على العباد إحلال حلالها وتحريم حرامها، وبيَّنَّا لهم فيها الأحكام والشرائع (وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ): أي دلائل مفسرات واضحات، والآية في اللغة: العلامة، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 248]، والآية في الشرع: هي المنزلة من عند الله الموحاة إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، وسميت بالآية: لما في ألفاظها ومعانيها وأحكامها، من إعجاز وهدي وصلاحية لكل زمان ومكان، ومن إعجازها أنها متى عمل بها أي إنسان أو أي مجتمع غيرت حياته لأفضل وأسعد وأنقي وأطهر وأحسن حياة، بل ترفع العاملين بها إلى أعلى مراتب الرقي والحضارة، وليس أدل على ذلك من أنها حولت حياة رعاة الغنم في بضع عقود من الزمان إلى قادة للأمم، وسادوا بها رقاب البشر، وسطروا في تاريخ الزمان صفحات من نور، ما وجد مثلها في تاريخ البشرية ولن يوجد، ما لم يعد المسلمون إلى التمسك بدينهم بصورة يرضاها رب العالمين.
ووصفت الآيات بأنها بينات، ومعنى البينات: الواضحات المفصلات، التي لا غموض فيهن ولا إشكال، فهن واضحات بأنفسهن، وقد ذكر هذا البيان والتفصيل في مواظن كثيرة منها قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] وقوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]
ومن الآيات البينات التي أنزلت في السورة إطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون} إلى قوله: {إن الله خبير بما تعلمون} [النور 48:53]، ومنها أيضا الآيات التي أنزلت بالحدود المفروضة على من أتي الفاحشة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) رجاء أن تتذكروا ما فيها من الأحكام فتتعظوا وتعملوا بها.
من هداية الآية:
- في قوله تعالى (أنزلناها) إشارة إلى عظم هذه السورة، لأن من أسباب عظم المنزل عظم منزله، فلما قال الله عز وجل
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] كان فيه منافع الحياة وبها قوامها، وبين ذلك في نفس الآية، بقوله تعالى: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] والله هو العظيم فحين ينوه بأنه المنزل للسورة فتكون السورة لذلك عظيمة الشأن، مع أنه المنزل لها ولغيرها من السورة، لكنه خصها بالإنزال، فزاداها ذلك شرفا على شرفها.
-في تنكير لفظة (سورة) تفخيم لقدرها وتعظيم لشأنها.
- بيان علو الله عز وجل، وذلك لأن الإنزال يكون من أعلى لأسفل، وقد جاء القرآن والسنة، بذلك، من قول الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]
- قد هدت الآية إلى ضرورة الإعتناء بهذه السورة، ما دام قد بين الله عظم شأن فقد وجب على المكلف الإهتمام والإعتناء بما عظمه ربه سبحانه وتعالى.
- مما يبين عظمة شأن هذه السورة أيضا أنها حوت أحكاما وآدابا بها قوام المجتمع الإسلامي، لما في ذلك من الحفاظ على المجتمع بفرضها التدابير والأحكام المانعة عن أسباب الضعف والتفرق والبغيضة والهلاك التي تنتج بسبب رتوع أفراد من الأمة فيما يشين العفة والشرف وهتك للأعراض، وهو نفسه الشيء الذي أشارت إليه سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما ظهرت الفاحشة في قوم فأعلنوا بها إلا فشت فيهم الأوجاع والأسقام، والتي هلكت بها كثير من الأمم السابقة، ومن ثم جاءت هذه التدابير والأحكام لتحمي المجتمع المسلم من السقوط في هاوية الهلاك والدمار، والعياذ بالله.
بيان حد الزنا والأحكام المتعلقة به:
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
التفسير والبيان:
2 - (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) البكْران الحران الذان لم يحصنا (فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) هذا بالنسبة للحرة، أما الأمة البكر فعليها نصف هذا الحد لقوله تعالى في الإماء: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، فإن كانا قد أحصنا فحدهما الرجم (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا) (رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) أي رحمة ورفق في إقامة دين الله وحدوده بحيث لا تقيمون عليهما الحد أو تخففونه عنهما، فمعنى (فِي دِينِ اللَّهِ)، أي في طاعته وحكمه، كما في قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك} [يوسف: 76]، (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا) وليحضر إقامة الحد عليهما (طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: جمع من المؤمنين إمعانًا في التشهير بهما وردعًا لهما ولغيرهما، وهذا الحد للزانيين البكرين هو عين الرحمة لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم رحمه، وقد أنزل الله كتابه بإسميه الرحمين الرحيم في قوله تعالى في أول القرآن وفي افتتاح السور، وقد جعل الله إرسال نبيه صلى الله عليه وسلم رحمه، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فإقامة الحد عليهما ليرتدعا ويشفيان من آثار الشهوة والعشق الحرام رحمه بهما حيث به يحميان من شر الفاحشة ويحميان المجتمع من شرها، ومعلوم أن الفاحشة من الذنوب التي هلكت بسببها الأمم واندثرت الحضارات، ولذا شنع الله في آية لاحقة من هذه السورة على الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب الأليمفي الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النور: 19]
من هداية الآية:
- بينت الآية أن المرأة هي الأساس في جريمة الزنا، وذلك بتقديمها على الزاني، ومن شاكلة هذا قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38]، قدم السارق لأنه الأساس في السرقة لمطالبته بالتكسب.
- هدت الآيات إلى بيان حكم الزاني والزانية البكرين الحرين، وهو جلد مائة جلدة، وبينت السنة أن مع الجلد تغريب عام، وأن الرجم على الزانية والزاني المحصنين.
- وجوب إقامة هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين
- بينت الآية أن الغالب على الناس أنهم يتساهلون في أمر الزناة ما لا يتساهلون في أمر السارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر، بحيث تأخذهم بالزناة الرأفة لجمال فيهما يحرك القلوب نحوهم بالرأفة أوالشفقة عليهم في إقامة الحد، فنهى الله عن إعتبار تلك الرأفة التى قد يجدها البعض عند إقامة الحدود علي الزناة.
- قوة الإيمان تحمل العباد على إقامة الحدود، بل تدفع العبد إلى المطالبة بإقامة الحد على نفسه وتطهيرها من ذنبها، كما جاء في السنة من قصة ماعز وقصة الغامدية رضى الله عنهما، وكيف أثني النبي صلى الله عليه وسلم عيه وسلم على توبتها لما توفر الداعي لبيان عظم قدر هذه التوبة بسب الصحابي لها لما تناثر دمها على ثوبه.
- أنه لا ينبغي على القائمين بتنفيذ الحدود أن تأخذهم بالزناة رأفة في إقامة الحد عليهما، لأن إقامة الحد عليهما في حد ذاتها رحمة، فلو أخذت من يقيمون الحد رأفة بهم، لضاعت الفائدة من إقامة الحد، وتولد على أثر ذلك ما هو أشد ضررا عليهما وعلى المجتمع من ألم الجلد.
- قسوة المؤمن على أخيه المؤمن إن كانت لمصلحة أخيه، لا تقدح في إيمانه، بل هي من الإيمان ومن لوازم النصح للمسلمين، كالقيم يسقى من تحته الدواء المر ليداوي مرضه، ولو منع هذه القسوة عليه فمنعه الدواء رحمة به لتسبب في تلفه أو هلاكه.
3 - حرم الله زواج المؤمن من الزانية والمؤمنة من الزاني لذا قال تعالى (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) وذلك لأن الزواج المحرم لا يصح، ومن ثم فالوطء فيه زنا، فمن تزوج هذا الزواج المحرم، فقد وطء إمرأة في زواج فاسد وهو يعلم ومن ثم فهو زان من هذه الوجهة، ومن كان هذا مسلكه وهو عدم التنزه عن الزنا فلا تناسبه للزواج إلا زانية أو مشركة، لتفظيع الزنى ذكر الله أن الَّذي اعتاده لا يرغب في الزواج إلا من زانية مثله أو مشركة لا تتوقى الزنى مع عدم جواز نكاحها، (وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) والتي اعتادت الزنى لا ترغب في الزواج إلا من زان مثلها أو مشرك لا يتوقاه مع حرمة زواجها منه، وهذا الجزء من الآية تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني لقبح ما هو عليه من اتخاذ الزنى له عادة حرم الله زواجه من المسلمة العفيفة لأن في زواجه منها متلفة لها في النفس والدين والخلق وهذا مشاهد في أهل زماننا، وقد جاء الدين بأسباب السعادة لا بأسباب التلف والشقاوة، فمن لم يتب من هذه الفاحشة فليتزوج ممن هي على شاكلته وليترك أهل الدين والعفاف لا يضرهم، وهذا من قبيل قوله تعالى: {الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات} [النور: 26]، لذا جاء هذا الجزء من الآية مجيء التمهيد لما شرعه الله تعالى بقوله (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي: حُرِّم نكاح الزانية وإنكاح الزاني على المؤمنين، مالم يتوبا، وبهذا التدبير الرباني حمى الله أولياءه المؤمنين، من شر الفاحشة وأثرها السيء عليهم في دينهم ودنياهم، إما إذا تابت الزانيةُ فيجوز الزواج منها، وكذلك الزاني إذا تاب يجوز أن يتزوج من المؤمنات العفيفات، وكل هذا من آثار رحمة الله تعالى.
سبب النزول: جاء في سنن أبي داود وغيره، أن رجلا كان في الجاهلية له قرينة تسمى عناق، فلما أسلم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج منها، فنزلت الآية.
من هداية الآية:
- أن لا يتزوج الزانية القائمة على زناها غير تائبة منه، إلا زان لأن وطأ الرجل المرأة في نكاح محرم عليه مع علمه يجعل النكاح في حقه غير صحيح وتكون المعاشرة بينهما في حقه زنا، فمتزوج الزانية زان من هذه الوجهة، فإن لم يكن من المسلمين فهو مشرك لأن المشرك من باب أولى لا ينظر لحرمة الزنا، وكذلك بالنسبة للمرأة تنكح الزاني القائم على زناه غير التائب منه، والله أعلم.
- لا يحل تزويج الزاني إلا بعد توبته، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
بيان حد القذف:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
التفسير والبيان:
4 - ومن تدابير الله ورحمته أن شرع ما يحفظ به عرض العفيفات من التهم الباطلة قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) أي يقذفون بالزنا (الْمُحْصَنَاتِ) والمحصنات: جمع محصنة من الإحصان، وهو الحفظ، فالإحصان وصف للمرأة تكون معه بعيدة عن الفاحشة، ومنه قوله تعالى: {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} [الأنبياء: 80]: يعني: الدروع يلبسها المقاتل فيحفظ، والمحصنات هن الحرائر العفيفات لوصفه تعالى لهن في سورة النساء بقوله {مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25]، (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) يجيئون جميعا فيشهدون على ما رموهم به من الفاحشة (فَاجْلِدُوهُمْ) أي الرامين، كل واحد منهم (ثَمَانِينَ جَلْدَةً) (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) أي شهادة كانت مدة حياتهم لأنهم مفترون (وَأُولَئِكَ) الذين يرمون العفائف (هُمُ الْفَاسِقُونَ) الخارجون عن طاعة الله.
من هداية الآية:
1 - تشريع حد القذف، لمن رمى مؤمنة بالغة عفيفة أو مؤمنا.
2 - أن القاذف بالباطل مردود الشهادة غير معتبر العدالة، مالم يتب، وتوبتة تكذيب نفسه، لأن ذنبه تعلق بعرض غيره، ولا ترفع التهمة إلا بتكذيب نفسه، وأن غير التائب من جملة الفاسقين، هكذا سماه الله وهكذا ينبغى أن تكون منزلته في المجتمع مهما علت درجته أو شهادته أو مؤهلاته الوظيفية يبقى عند الله وعند المؤمنين فاسقا.
3 - أن كل المؤهلات الدنيوية واعتبارات البشر في تقييم الناس لا قيمة لها أمام أحكام الله، فالله هو الذي يعز ويذل، أعز أهل طاعته بطاعتهم له، وأذل من فسق عن شرعه أيا كانت منزلته عند الناس.
5 - (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) إلى الله بالرجوع إلي إلتزام شرعه سبحانه (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: بعد الَّذي أقدموا عليه من رمي المحصنات بالفاحشة، (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه في حقهن بتكذيب أنفسهم، وأصلحوا أعمالهم عامة وانشغلوا بعد السيئات بالحسنات، فإن الله يقبل توبتهم وشهادتهم، والإصلاح هو اتباع سبيل الله كما بينه قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]، ومن اتباع سبيل الله بيان الحق لقوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 160] فزاد البيان هنا لإقتداء الحال له، وكذلك يقتضى الحال في تبرئة المحصنات، والإصلاح مع التوبة أمر لازم كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 119] هذا فيمن عمل السوء بجهالة فكيف بمن رميء بريئة أو بريء بتهمة معرتها تلحق الأجيال والأقارب من كل إتجاه، والعياذ بالله (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) لمن تاب من عباده (رَحِيمٌ) بهم.
من هداية الآية:
1 - التوبة تمحو الخطايا وترد للتائب منزلته في المجتمع المسلم.
2 - الجزاء من جنس العمل، فلما تاب القاذف وأصلح ما أفسده، جزاه الله من جنس عمله، فأصلح له إعتباره بين الناس، وأمرهم بمعاملته، وكيف لا وهو الغفور لذنبه الرحيم بفتح باب التوبة له.
2 - قبول توبة التائب، وإنزاله منزلته، ومن خالف ذلك وظل على معاملة المذنب بعد توبته على ما كان يعامله به قبل توبته، فهو الفاسق عن شرع ربه سبحانه وتعالى الذي فتح باب التوبة أمام خلقه، والتوبة النصوح تجب ما قبلها، كما جاءت بذلك نصوص الشريعة.
حكم اللعان:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
سبب نزول الآيات:
جاء عند البخارى أن رجلا يقال له عويمر سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فنزلت الآيات.
التفسير والبيان:
6 - (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ) وليس لهم شهود (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) أي: غير أنفسهم يشهدون على صحة ما رموهن به؛ (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ) يشهد الواحد منهم (أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) إنه لصادق فيما رمى به زوجته من الزنى.
من هداية الآية:
- رحمة الله بعباده، وواقعية الشريعة، إذا اعتبرت الأربع شهادات في مثل هذا الموقف تقوم مقام الأربعة شهود.
7 - (وَالْخَامِسَةُ) ثم في شهادته الخامسة (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) يزيد الدعاء على نفسه باستحقاق اللعنة إن كان كاذبًا فيما رماها به، واللعن هو الإبعاد بتحقير لقوله تعالى لإبليس: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 35] ومن آثار لعنة الله أن يلقي المرء ذلة في الدنيا والعياذ بالله لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] وهنا أحد الملاعنين قد إفترى على صاحبة فرية الله أعلم بالحق فيها.
من هداية الآية:
- أن بينت أن اللعن هو عقاب من رمى زوجته وهو أخف من الغضب، لأنه غالبا لا يقدم رجل على رمى زوجته، إلا إذا كان الأمر فوق طاقته.
8 - فتستحق هي بذلك أن تُحَد حد الزنى، (وَيَدْرَأُ عَنْهَا) ويدفع عنها لقوله تعالى {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] فلقد تدافعوا التهمة فيما بينهم ينفيها كل عن نفسه (الْعَذَابَ) أي: الإيلام الناتج عن حد الزنا لقوله تعالى {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ) فيما رماها به.
من هداية الآية:
- أن حلف الزوج على زوجته ورميه لها يوجب عليها الحد كأنه أتى بأربعة شهود، والذي يدفع عنها الحد أن تأتي بأربعة شهود يكذبون شهوده، وشهودها هنا حلفها أربع شهادات بأنه من الكاذبين، فترد شهاداتها شهاداته، كما ترد الشهود الشهود.
9 - (وَالْخَامِسَةَ) ثم في شهادتها الخامسة تزيد الدعاء على نفسها (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به، وهذه الجريمة وإن كان صاحبها لا يقام عليه الحد في الدنيا إلا أن توعده بعقابين لم يذكرا إلا في حق من أتي بأبشع الجرائم، كما بين ذلك سبحانه وتعالى في قوله عن بني إسرائيل {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 60]
من هداية الآية:
- أن الله يفرض الحدود وفق حكمة بالغة، فقد جعل عقاب الكاذبة الغضب وهو أشد من اللعن لأن ضرر كذبها أقبح على الزوج من ضرر كذبه عليها، وذلك لأنها في حال كذبها تكون قد مكنت منها ماليس له حق في وطأها، وبذلت حق زوجها منها لمن لا حق له فيما بذلته، فتكون كاذبة وظالمة في آن واحد، ومن ثم فاعتداءها على زوجها بكذبها أشد من إعتداءه عليها بكذبه.
10 - (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) بتبين هذه الأحكام العظيمة النفع أيها الناس (وَرَحْمَتُهُ) بكم في تشريعاته التي تبهر العقول المتدبرة، والتي عجزت البشرية على طول عمرها أن تأتي بمثلها أو ما يدانيها، ففضل الله دوما عظيم لقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 74] (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ) على من تاب من عباده، (حَكِيمٌ) في تدبيره وشرعه لعاجلكم بالعقوبة على ذنوبكم، ولفضحكم بها.
من هداية الآية:
- أن هذه التشريعات هي محض فضل من الله ورحمة، ينبغى شكره عليها، بإقامتها في المجتمع، ومطالبة المدعين بالبينة على دعواهم أثر من آثار رحمة الله في تشريعاته، وأن ترك هذه التشريعات وتعطيل إقامة هذه الحدود، هو كفر بنعمة الله تعالى.