أبو فهر السلفي
New member
- إنضم
- 26/12/2005
- المشاركات
- 770
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد..
فإن الشافعي رحمه الله كان قد قال في رسالته : ((قال لِي قائِلٌ: فَإنَّا نَجِدُ مِن الأحاديثِ عَن رسولِ الله أحاديثَ في القُرَآن مِثْلُها نَصًّا، وأخْرَى في القُرَآن مثلُها جُمْلةً، وفي الأحاديث منها أكثرَ مِمَّا في القُرَآن، وأخرى ليس منها شيء في القُرَآن، وأخرى مُوتَفِقَةٌ، وأخرى مُخْتلفةٌ: ناسِخة ومَنْسوخَة، وأخرى مختلفة: ليس فيها دِلالةٌ على ناسخٍ ولا منسوخ، وأخرى فيها نَهْيٌ لِرسول الله، فتقولون: ما نَهَى عنْه حَرَامٌ، وأخرى لرسول الله فيها نهْيٌ، فتقولون: نَهْيُه وأمره على الاختيار لا على التَّحْريمِ)).
وأجابه الشافعي بجواب جاء فيه: ((وما نهى عنه رسول الله فهو على التحريم،حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد به غير التحريم)).
ففهم بعض إخواننا بل وعامة من أعرفه قرأ نص الشافعي فهذا فهمه = أن الشافعي أراد ما يريده الأصوليون بقولهم : الأصل في النهي التحريم حتى تصرفه قرينة إلى التنزيه،وأن مراد الشافعي بالتنزيه هو عدم التحريم،أو الكراهة التنزيهية.
قلت : وهذا خطأ على الشافعي رحمه الله .
ومراد الشافعي بالنهي يصرف إلى الاختيار فلا يكون للتحريم قريب من قولهم : إن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه ،فغير التحريم لا يريد به الشافعي كراهة التنزيه وإنما مراده به رفع الفساد مع بقاء التحريم ولزوم المعصية.
ولبيان أن هذا هو مراد الشافعي رحمه الله أنقل موضعين من كلامه مع التنبيه على وجه دلالتهما على صواب ما ذكرته من التفسير.
يقول الشافعي : ((يجمع نهيه معنيين:
أحدهما: أن يكون الشيء الذي نهى عنه مُحَرَّمًا، لا يحل إلا بوجه دل الله عليه في كتابه، أو على لسان نبيه.
فإذا نهى رسولُ الله عن الشيء من هذا فالنهيُ مُحرِّم، لا وجه له غيرُ التحريم، إلا أنْ يكون على معنى، كما وصفْتُ.
قال: فصِفْ لي هذا الوجه الذي بدأت بذكره من النهي، بمثال يدل على ما كان في مثل معناه.
قال: فقلتُ له: كلُّ النساء مُحَرَّمَاتُ الفُرُوج، إلا بواحد من المعنيين: النكاحِ والوطْئِ بمِلْكِ اليَمين، وهما المعنيان اللذان أَذِنَ اللهُ فيهما. وسنَّ رسولُ الله كيْفَ النكاح الذي يَحِلُّ به الفرج المُحَرَّمُ قبله، فسَنَّ فيه ولِيًّا وشهوداً ورِضًا مِنَ المنْكوحة الثيِّب، وسنته في رضاها دليلٌ على أنَّ ذلك يكون بِرضا المُتَزَوِّج، لا فرق بينهما.
فإذا جمَعَ النكاحُ أرْبعاً: رضا المُزَوَّجَةِ الثيِّبِ، والمُزَوَّجِ، وأن يُزَوِّج المرأةَ وليُّها بشهود: حَلَّ النكاحُ، إلا في حالات سأذكرها، إن شاء الله.
وإذا نقص النكاحَ واحدٌ مِن هذا كان النكاحُ فاسداً، لأنه لم يُؤْتَ به كما سنَّ رسول الله فيه الوجهَ الذي يحل به النكاح)).
قلت : فهذا هو مثال النهي الذي للتحريم عند الشافعي ،ونلاحظ أنه ذكر أن لا وجه له سوى التحريم وذكر اقتضاء النهي هنا للفساد.
ثم قال : ((فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نُهِيَ المرْءُ فيه عن شيء، وهو يخالف النهيَ الذي ذكرتَ قبْلَه؟
فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نُهِيَ المرْءُ فيه عن شيء، وهو يخالف النهيَ الذي ذكرتَ قبْلَه؟
فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصَّمَّاءِ ، وأن يَحْتَبِيَ في ثوب واحد مُفْضِيًا بِفَرْجِه إلى السماء، وأنه أمر غُلاماً أن يأكل مما بين يديه، ونهاه أن يأكل مِن أعلى الصَّحْفَةِ، ويُرْوَى عنه، وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا: أنه نهى عن أن يَقْرُِن الرجل إذا أكل بين التمرتين، وأن يكْشِف التمْرة عمَّا في جَوْفِها، وأنْ يُعَرِّسَ على ظهر الطريق.
فَلما كان الثوب مباحاً لِلاَّبِسِ، والطعامُ مباحًا لآكِلِه، حتى يأتيَ عليه كلِّه إنْ شاء، والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي، وكان الناس فيها شَرَعاً، فهو نُهِيَ فيها عن شيء أن يفعله، وأُمِر فيها بأن يفعل شيئاً غير الذي نُهِيَ عنه.
والنهي يدل على أنه إنما نَهَى عن اشتمال الصماء والاحتباء مُفضياً بفرجه غيرَ مُسْتَتِرٍ: أنَّ في ذلك كشفَ عورته، قيل له يسترها بثوبه، فلم يكن نهيُهُ عن كشف عورته نهيَه عن لُبس ثوبه فيحرمَ عليه لبسُه، بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته.
ولم يكن أمْرُه أن يأكل مِن بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام، إذا كان مباحاً له أن يأكل ما بين يديه وجميعَ الطعام: إلاَّ أدَبًا في الأكل من بين يديه، لأنه أجملُ به عند مُوَاكِلِه، وأبعَدُ له من قُبْح الطَّعْمَة والنَّهَم، وأَمَره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له، على النظر له في أن يُبارَك له بَرَكَةً دائِمة يدوم نزولها له، وهو يبيحُ له إذا أكل ما حوْلَ رأس الطعام أن يأكل رأسه.
وإذا أباح له المَمَرَّ على ظهر الطريق فالممرُّ عليه إذْ كان مُباحاً لأنه لا مالِكَ له يمنع الممر عليه فيحرُم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يُثْبِت نظراً له، فإنه قال:( فَإِنَّهَا مَأْوَى الهَوَامِّ، وَطُرُقُ الحَيَّاتِ ) ، على النظر له، لا على أن التعريس محرَّم، وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق مُتَضايقاً مسْلوكاً، لأنه إذا عرَّس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.
فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأوَّل؟
قيل له: مَن قامت عليه الحجة يَعْلَم أن النبي نهى عمَّا وصفْنا، ومَنْ فَعَل ما نُهِيَ عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاصٍ بفعله ما نُهِيَ عنه، ليَسْتَغْفِرِ الله ولا يَعودُْ .
فإن قال: فهذا عاص، والذي ذكرتَ في الكتاب قبْله في النكاح والبيوع عاص، فكيْف فرَّقْتَ بين حالهما؟
فقلتُ: أمَّا في المعْصِية فلم أفرِّقْ بينهما، لأنِّي قد جعلتهما عاصيين، وبعضُ المعاصِي أعظمُ مِنْ بعض.
فإن قال: فكيف لم تُحَرِّمْ على هذا لُبْسَهُ وأكلَه ومَمَرَّه على الأرض بمعصيته، وحرَّمْتَ على الآخر نِكاحَه وبيعه بمعصيته؟
قيل: هذا أُمِرَ بِأمْرٍ في مباحٍ حلال له، فأحللْتُ له ما حلَّ له، وحرَّمتُ عليه ما حُرِّم عليه، وما حرِّم عليه غيرُ ما أُحل له، ومعصيته في الشيء المباح له لا تحرمه عليه بكل حال، ولكن تُحَرِّم عليه أن يفعل فيه المعصيةَ)).
قلت : فهذا النوع الثاني عند الشافعي،وهو عنده يقتضي المعصية أيضاً،فهو بلساننا نحن يقتضي التحريم،إلا أن مراد الشافعي هنا هو الفرق بين ما يقتضي الفساد من المنهيات وما لا يقتضيه كما هو ظاهر من كلامه.
قال الشافعي: ((أصل النهي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كل ما نهى عنه فهو محرم حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم إما أراد به نهيا عن بعض الأمور دون بعض وإما أراد به النهي للتنزيه عن المنهي والأدب والاختيار.
ولا نفرق بين نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أمر لم يختلف فيه المسلمون فنعلم أن المسلمين كلهم لا يجهلون سنة وقد يمكن أن يجهلها بعضهم)).
قلت : وهذا مطابق تماماً للعبارة محل البحث،ونلاحظ هنا أن الشافعي فسر غير التحريم بأمرين :
الأول : أن يراد به النهي عن بعض الأمور دون بعض.
الثاني: أن يراد به التنزيه عن المنهي والأدب والاختيار.
وضرب مثالاً للأول : ((فمما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان على التحريم لم يختلف أكثر العامة فيه أنه نهى عن الذهب بالورق إلا هاء وهاء وعن الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد ونهى عن بيعتين في بيعة.
فقلنا والعامة معنا إذا تبايع المتبايعان ذهبا بورق أو ذهبا بذهب فلم يتقابضا قبل أن يتفرقا فالبيع مفسوخ.
وكانت حجتنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نهى عنه صار محرما... ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشغار والمتعة.
فما انعقدت على شيء محرم علي ليس في ملكي بنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأني قد ملكت المحرم بالبيع المحرم فأجرينا النهي مجرى واحدا إذا لم يكن عنه دلالة تفرق بينه ففسخنا هذه الأشياء والمتعة والشغار كما فسخنا البيعتين...ومما نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض الحالات دون بعض واستدللنا على أنه إنما أراد بالنهي عنه أن يكون منهيا عنه في حال دون حال بسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)
فلولا الدلالة عنه كان النهي في هذا مثل النهي في الأول فحرم إذا خطب الرجل امرأة أن يخطبها غيره.
فلما قالت فاطمة بنت قيس: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إذا حللت فآذنيني) فلما حلت من عدتها أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ولكن انكحي أسامة بْن زيد) قالت فكرهته فقال: (انكحي أسامة) فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به استدللنا على أنه لا ينهى عن الخطبة ويخطب على خطبة إلا ونهيه عن الخطبة حين ترضى المرأة فلا يكون بقي إلا العقد فيكون إذا خطب أفسد ذلك على الخاطب المرضي أو عليها أو عليهما معا وقد يمكن أن يفسد ذلك عليهما ثم لا يتم ما بينها وبين الخاطب.
ولو أن فاطمة أخبرته أنها رضيت واحدا منهما لم يخطبها إن شاء الله تعالى على أسامة ولكنها أخبرته بالخطبة واستشارته فكان في حديثها دلالة على أنها لم ترض ولم ترد.
فإذا كانت المرأة بهذه الحال جاز أن تخطب وإذا رضيت المرأة الرجل وبدا لها وأمرت بأن تنكحه لم يجز أن تخطب في الحال التي لو زوجها فيه الولي جاز نكاحه.
فإن قال: قائل فإن حالها إذا كانت بعد أن تركن بنعم مخالفة حالها بعد الخطبة وقبل أن تركن فكذلك حالها حين خطبت قبل الركون مخالفة حالها قبل أن تخطب وكذلك إذا أعيدت عليها الخطبة وقد كانت امتنعت فسكتت والسكات قد لا يكون رضا؟.
فليس ههنا قول يجوز عندي أن يقال: إلا ما ذكرت بالاستدلال ولولا الدلالة بالسنة كانت إذا خطبت حرمت على غير خاطبها الأول أن يخطبها حتى يتركها الخاطب الأول)).
قلت : فالنهي عن الخطبة هو نهي للتحريم بلساننا لكن الشافعي ضربه مثالاً لغير التحريم رغم كونه عنده محرماً ؛لأنه يريد التفريق بينه وبين غيره من المحرمات من جهة أنه لا ينعقد النهي ويثبت التحريم بمجرد الخطبة وإنما بحالة معينة منها وهي أن ترضى المرأة بالمخطوب.
ثم يذكر مثالاً للنهي الذي هو للتحريم وللثاني الذي هو للتنزيه والأدب والاختيار وهو مطابق للذي ذكره في الرسالة وذكرناه في النقل الأول : ((ثم يتفرق نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجهين:
فكل ما نهى عنه مما كان ممنوعا إلا بحادث يحدث فيه يحله فأحدث الرجل فيه حادثا منهيا عنه لم يحله وكان على أصل تحريمه إذا لم يأت من الوجه الذي يحله.
وذلك مثل أن أموال الناس ممنوعة من غيرهم وأن النساء ممنوعة من الرجال إلا بأن يملك الرجل مال الرجل بما يحل من بيع أو هبة وغير ذلك وأن النساء محرمات إلا بنكاح صحيح أو ملك يمين صحيح.
فإذا اشترى الرجل شراء منهيا عنه فالتحريم فيما اشترى قائم بعينه لأنه لم يأته من الوجه الذي يحل منه ولا يحل المحرم وكذلك إذا نكح نكاحا منهيا عنه لم تحل المرأة المحرمة.
وما نهيت عنه من فعل شيء في ملكي أو شيء مباح لي ليس بملك لأحد فذلك نهي اختيار ولا ينبغي أن نرتكبه فإذا عمد فعل ذلك أحد كان عاصيا بالفعل ويكون قد ترك الاختيار ولا يحرم ماله ولا ما كان مباحا له.
وذلك: مثل ما روى عنه أنه أمر الآكل أن يأكل مما يليه ولا يأكل من رأس الثريد ولا يعرس على قارعة الطريق فإن أكل مما لا يليه أو من رأس الطعام أو عرس على قارعة الطريق أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما بنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ولم يحرم ذلك الطعام عليه.
ذلك أن الطعام غير الفعل ولم يكن يحتاج إلى شيء يحل له به الطعام كان حلالا فلا يحرم الحلال عليه بأن عصى في الموضع الذي جاء منه الأكل.
ومثل ذلك النهي عن التعريس على قارعة الطريق الطريق له مباح وهو عاص بالتعريس على الطريق ومعصيته لا تحرم عليه الطريق.
وإنما قلت: يكون فيها عاصيا إذا قامت الحجة على الرجل بأنه كان علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه)).
قلت: وهذا صريح كالنقل الأول في أن مراده بالتنزيه والأدب والاختيار ليس عدم التحريم وإنما عدم اقتضاء الفساد بالاصطلاح المتأخر،وبينة ذلك فوق ما تقدم : أنه لم يضرب مثالاً لما هو للتنزيه لا للتحريم،إلا وهذا المثال محرم عنده يكون فاعله عاصياً،وإنما أراد بالتنزيه والاختيار ما قدمنا شرحه.
أرجو أن يكون مراد الإمام قد اتضح،وهذا الموضع من كلامه نفيس جداً أن يدار عليه النظر؛لأنه يدل على فرق ما بين ألسنتنا وألسنة الأصوليين الحادثة وبين ألسنة الأئمة الأربعة وطبقاتهم وما قبلها،وخطورة الغفلة عن مثل هذا عند النظر في تفسير كلامهم.
فإن الشافعي رحمه الله كان قد قال في رسالته : ((قال لِي قائِلٌ: فَإنَّا نَجِدُ مِن الأحاديثِ عَن رسولِ الله أحاديثَ في القُرَآن مِثْلُها نَصًّا، وأخْرَى في القُرَآن مثلُها جُمْلةً، وفي الأحاديث منها أكثرَ مِمَّا في القُرَآن، وأخرى ليس منها شيء في القُرَآن، وأخرى مُوتَفِقَةٌ، وأخرى مُخْتلفةٌ: ناسِخة ومَنْسوخَة، وأخرى مختلفة: ليس فيها دِلالةٌ على ناسخٍ ولا منسوخ، وأخرى فيها نَهْيٌ لِرسول الله، فتقولون: ما نَهَى عنْه حَرَامٌ، وأخرى لرسول الله فيها نهْيٌ، فتقولون: نَهْيُه وأمره على الاختيار لا على التَّحْريمِ)).
وأجابه الشافعي بجواب جاء فيه: ((وما نهى عنه رسول الله فهو على التحريم،حتى تأتي دلالة عنه على أنه أراد به غير التحريم)).
ففهم بعض إخواننا بل وعامة من أعرفه قرأ نص الشافعي فهذا فهمه = أن الشافعي أراد ما يريده الأصوليون بقولهم : الأصل في النهي التحريم حتى تصرفه قرينة إلى التنزيه،وأن مراد الشافعي بالتنزيه هو عدم التحريم،أو الكراهة التنزيهية.
قلت : وهذا خطأ على الشافعي رحمه الله .
ومراد الشافعي بالنهي يصرف إلى الاختيار فلا يكون للتحريم قريب من قولهم : إن النهي لا يقتضي فساد المنهي عنه ،فغير التحريم لا يريد به الشافعي كراهة التنزيه وإنما مراده به رفع الفساد مع بقاء التحريم ولزوم المعصية.
ولبيان أن هذا هو مراد الشافعي رحمه الله أنقل موضعين من كلامه مع التنبيه على وجه دلالتهما على صواب ما ذكرته من التفسير.
النقل الأول
يقول الشافعي : ((يجمع نهيه معنيين:
أحدهما: أن يكون الشيء الذي نهى عنه مُحَرَّمًا، لا يحل إلا بوجه دل الله عليه في كتابه، أو على لسان نبيه.
فإذا نهى رسولُ الله عن الشيء من هذا فالنهيُ مُحرِّم، لا وجه له غيرُ التحريم، إلا أنْ يكون على معنى، كما وصفْتُ.
قال: فصِفْ لي هذا الوجه الذي بدأت بذكره من النهي، بمثال يدل على ما كان في مثل معناه.
قال: فقلتُ له: كلُّ النساء مُحَرَّمَاتُ الفُرُوج، إلا بواحد من المعنيين: النكاحِ والوطْئِ بمِلْكِ اليَمين، وهما المعنيان اللذان أَذِنَ اللهُ فيهما. وسنَّ رسولُ الله كيْفَ النكاح الذي يَحِلُّ به الفرج المُحَرَّمُ قبله، فسَنَّ فيه ولِيًّا وشهوداً ورِضًا مِنَ المنْكوحة الثيِّب، وسنته في رضاها دليلٌ على أنَّ ذلك يكون بِرضا المُتَزَوِّج، لا فرق بينهما.
فإذا جمَعَ النكاحُ أرْبعاً: رضا المُزَوَّجَةِ الثيِّبِ، والمُزَوَّجِ، وأن يُزَوِّج المرأةَ وليُّها بشهود: حَلَّ النكاحُ، إلا في حالات سأذكرها، إن شاء الله.
وإذا نقص النكاحَ واحدٌ مِن هذا كان النكاحُ فاسداً، لأنه لم يُؤْتَ به كما سنَّ رسول الله فيه الوجهَ الذي يحل به النكاح)).
قلت : فهذا هو مثال النهي الذي للتحريم عند الشافعي ،ونلاحظ أنه ذكر أن لا وجه له سوى التحريم وذكر اقتضاء النهي هنا للفساد.
ثم قال : ((فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نُهِيَ المرْءُ فيه عن شيء، وهو يخالف النهيَ الذي ذكرتَ قبْلَه؟
فإن قال قائل: ما الوجه المباح الذي نُهِيَ المرْءُ فيه عن شيء، وهو يخالف النهيَ الذي ذكرتَ قبْلَه؟
فهو - إن شاء الله - مثل نهي رسول الله أن يشتمل الرجل على الصَّمَّاءِ ، وأن يَحْتَبِيَ في ثوب واحد مُفْضِيًا بِفَرْجِه إلى السماء، وأنه أمر غُلاماً أن يأكل مما بين يديه، ونهاه أن يأكل مِن أعلى الصَّحْفَةِ، ويُرْوَى عنه، وليس كثبوت ما قبله مما ذكرنا: أنه نهى عن أن يَقْرُِن الرجل إذا أكل بين التمرتين، وأن يكْشِف التمْرة عمَّا في جَوْفِها، وأنْ يُعَرِّسَ على ظهر الطريق.
فَلما كان الثوب مباحاً لِلاَّبِسِ، والطعامُ مباحًا لآكِلِه، حتى يأتيَ عليه كلِّه إنْ شاء، والأرض مباحة له إذا كانت لله لا لآدمي، وكان الناس فيها شَرَعاً، فهو نُهِيَ فيها عن شيء أن يفعله، وأُمِر فيها بأن يفعل شيئاً غير الذي نُهِيَ عنه.
والنهي يدل على أنه إنما نَهَى عن اشتمال الصماء والاحتباء مُفضياً بفرجه غيرَ مُسْتَتِرٍ: أنَّ في ذلك كشفَ عورته، قيل له يسترها بثوبه، فلم يكن نهيُهُ عن كشف عورته نهيَه عن لُبس ثوبه فيحرمَ عليه لبسُه، بل أمره أن يلبسه كما يستر عورته.
ولم يكن أمْرُه أن يأكل مِن بين يديه ولا يأكل من رأس الطعام، إذا كان مباحاً له أن يأكل ما بين يديه وجميعَ الطعام: إلاَّ أدَبًا في الأكل من بين يديه، لأنه أجملُ به عند مُوَاكِلِه، وأبعَدُ له من قُبْح الطَّعْمَة والنَّهَم، وأَمَره ألا يأكل من رأس الطعام لأن البركة تنزل منه له، على النظر له في أن يُبارَك له بَرَكَةً دائِمة يدوم نزولها له، وهو يبيحُ له إذا أكل ما حوْلَ رأس الطعام أن يأكل رأسه.
وإذا أباح له المَمَرَّ على ظهر الطريق فالممرُّ عليه إذْ كان مُباحاً لأنه لا مالِكَ له يمنع الممر عليه فيحرُم بمنعه: فإنما نهاه لمعنى يُثْبِت نظراً له، فإنه قال:( فَإِنَّهَا مَأْوَى الهَوَامِّ، وَطُرُقُ الحَيَّاتِ ) ، على النظر له، لا على أن التعريس محرَّم، وقد ينهى عنه إذا كانت الطريق مُتَضايقاً مسْلوكاً، لأنه إذا عرَّس عليه في ذلك الوقت منع غيره حقه في الممر.
فإن قال قائل: فما الفرق بين هذا والأوَّل؟
قيل له: مَن قامت عليه الحجة يَعْلَم أن النبي نهى عمَّا وصفْنا، ومَنْ فَعَل ما نُهِيَ عنه - وهو عالم بنهيه - فهو عاصٍ بفعله ما نُهِيَ عنه، ليَسْتَغْفِرِ الله ولا يَعودُْ .
فإن قال: فهذا عاص، والذي ذكرتَ في الكتاب قبْله في النكاح والبيوع عاص، فكيْف فرَّقْتَ بين حالهما؟
فقلتُ: أمَّا في المعْصِية فلم أفرِّقْ بينهما، لأنِّي قد جعلتهما عاصيين، وبعضُ المعاصِي أعظمُ مِنْ بعض.
فإن قال: فكيف لم تُحَرِّمْ على هذا لُبْسَهُ وأكلَه ومَمَرَّه على الأرض بمعصيته، وحرَّمْتَ على الآخر نِكاحَه وبيعه بمعصيته؟
قيل: هذا أُمِرَ بِأمْرٍ في مباحٍ حلال له، فأحللْتُ له ما حلَّ له، وحرَّمتُ عليه ما حُرِّم عليه، وما حرِّم عليه غيرُ ما أُحل له، ومعصيته في الشيء المباح له لا تحرمه عليه بكل حال، ولكن تُحَرِّم عليه أن يفعل فيه المعصيةَ)).
قلت : فهذا النوع الثاني عند الشافعي،وهو عنده يقتضي المعصية أيضاً،فهو بلساننا نحن يقتضي التحريم،إلا أن مراد الشافعي هنا هو الفرق بين ما يقتضي الفساد من المنهيات وما لا يقتضيه كما هو ظاهر من كلامه.
النقل الثاني
قال الشافعي: ((أصل النهي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن كل ما نهى عنه فهو محرم حتى تأتي عنه دلالة تدل على أنه إنما نهى عنه لمعنى غير التحريم إما أراد به نهيا عن بعض الأمور دون بعض وإما أراد به النهي للتنزيه عن المنهي والأدب والاختيار.
ولا نفرق بين نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا بدلالة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أمر لم يختلف فيه المسلمون فنعلم أن المسلمين كلهم لا يجهلون سنة وقد يمكن أن يجهلها بعضهم)).
قلت : وهذا مطابق تماماً للعبارة محل البحث،ونلاحظ هنا أن الشافعي فسر غير التحريم بأمرين :
الأول : أن يراد به النهي عن بعض الأمور دون بعض.
الثاني: أن يراد به التنزيه عن المنهي والأدب والاختيار.
وضرب مثالاً للأول : ((فمما نهى عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان على التحريم لم يختلف أكثر العامة فيه أنه نهى عن الذهب بالورق إلا هاء وهاء وعن الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل يدا بيد ونهى عن بيعتين في بيعة.
فقلنا والعامة معنا إذا تبايع المتبايعان ذهبا بورق أو ذهبا بذهب فلم يتقابضا قبل أن يتفرقا فالبيع مفسوخ.
وكانت حجتنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نهى عنه صار محرما... ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشغار والمتعة.
فما انعقدت على شيء محرم علي ليس في ملكي بنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأني قد ملكت المحرم بالبيع المحرم فأجرينا النهي مجرى واحدا إذا لم يكن عنه دلالة تفرق بينه ففسخنا هذه الأشياء والمتعة والشغار كما فسخنا البيعتين...ومما نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض الحالات دون بعض واستدللنا على أنه إنما أراد بالنهي عنه أن يكون منهيا عنه في حال دون حال بسنته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أن أبا هريرة روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)
فلولا الدلالة عنه كان النهي في هذا مثل النهي في الأول فحرم إذا خطب الرجل امرأة أن يخطبها غيره.
فلما قالت فاطمة بنت قيس: قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(إذا حللت فآذنيني) فلما حلت من عدتها أخبرته أن معاوية وأبا جهم خطباها فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ولكن انكحي أسامة بْن زيد) قالت فكرهته فقال: (انكحي أسامة) فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به استدللنا على أنه لا ينهى عن الخطبة ويخطب على خطبة إلا ونهيه عن الخطبة حين ترضى المرأة فلا يكون بقي إلا العقد فيكون إذا خطب أفسد ذلك على الخاطب المرضي أو عليها أو عليهما معا وقد يمكن أن يفسد ذلك عليهما ثم لا يتم ما بينها وبين الخاطب.
ولو أن فاطمة أخبرته أنها رضيت واحدا منهما لم يخطبها إن شاء الله تعالى على أسامة ولكنها أخبرته بالخطبة واستشارته فكان في حديثها دلالة على أنها لم ترض ولم ترد.
فإذا كانت المرأة بهذه الحال جاز أن تخطب وإذا رضيت المرأة الرجل وبدا لها وأمرت بأن تنكحه لم يجز أن تخطب في الحال التي لو زوجها فيه الولي جاز نكاحه.
فإن قال: قائل فإن حالها إذا كانت بعد أن تركن بنعم مخالفة حالها بعد الخطبة وقبل أن تركن فكذلك حالها حين خطبت قبل الركون مخالفة حالها قبل أن تخطب وكذلك إذا أعيدت عليها الخطبة وقد كانت امتنعت فسكتت والسكات قد لا يكون رضا؟.
فليس ههنا قول يجوز عندي أن يقال: إلا ما ذكرت بالاستدلال ولولا الدلالة بالسنة كانت إذا خطبت حرمت على غير خاطبها الأول أن يخطبها حتى يتركها الخاطب الأول)).
قلت : فالنهي عن الخطبة هو نهي للتحريم بلساننا لكن الشافعي ضربه مثالاً لغير التحريم رغم كونه عنده محرماً ؛لأنه يريد التفريق بينه وبين غيره من المحرمات من جهة أنه لا ينعقد النهي ويثبت التحريم بمجرد الخطبة وإنما بحالة معينة منها وهي أن ترضى المرأة بالمخطوب.
ثم يذكر مثالاً للنهي الذي هو للتحريم وللثاني الذي هو للتنزيه والأدب والاختيار وهو مطابق للذي ذكره في الرسالة وذكرناه في النقل الأول : ((ثم يتفرق نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وجهين:
فكل ما نهى عنه مما كان ممنوعا إلا بحادث يحدث فيه يحله فأحدث الرجل فيه حادثا منهيا عنه لم يحله وكان على أصل تحريمه إذا لم يأت من الوجه الذي يحله.
وذلك مثل أن أموال الناس ممنوعة من غيرهم وأن النساء ممنوعة من الرجال إلا بأن يملك الرجل مال الرجل بما يحل من بيع أو هبة وغير ذلك وأن النساء محرمات إلا بنكاح صحيح أو ملك يمين صحيح.
فإذا اشترى الرجل شراء منهيا عنه فالتحريم فيما اشترى قائم بعينه لأنه لم يأته من الوجه الذي يحل منه ولا يحل المحرم وكذلك إذا نكح نكاحا منهيا عنه لم تحل المرأة المحرمة.
وما نهيت عنه من فعل شيء في ملكي أو شيء مباح لي ليس بملك لأحد فذلك نهي اختيار ولا ينبغي أن نرتكبه فإذا عمد فعل ذلك أحد كان عاصيا بالفعل ويكون قد ترك الاختيار ولا يحرم ماله ولا ما كان مباحا له.
وذلك: مثل ما روى عنه أنه أمر الآكل أن يأكل مما يليه ولا يأكل من رأس الثريد ولا يعرس على قارعة الطريق فإن أكل مما لا يليه أو من رأس الطعام أو عرس على قارعة الطريق أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما بنهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ولم يحرم ذلك الطعام عليه.
ذلك أن الطعام غير الفعل ولم يكن يحتاج إلى شيء يحل له به الطعام كان حلالا فلا يحرم الحلال عليه بأن عصى في الموضع الذي جاء منه الأكل.
ومثل ذلك النهي عن التعريس على قارعة الطريق الطريق له مباح وهو عاص بالتعريس على الطريق ومعصيته لا تحرم عليه الطريق.
وإنما قلت: يكون فيها عاصيا إذا قامت الحجة على الرجل بأنه كان علم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه)).
قلت: وهذا صريح كالنقل الأول في أن مراده بالتنزيه والأدب والاختيار ليس عدم التحريم وإنما عدم اقتضاء الفساد بالاصطلاح المتأخر،وبينة ذلك فوق ما تقدم : أنه لم يضرب مثالاً لما هو للتنزيه لا للتحريم،إلا وهذا المثال محرم عنده يكون فاعله عاصياً،وإنما أراد بالتنزيه والاختيار ما قدمنا شرحه.
أرجو أن يكون مراد الإمام قد اتضح،وهذا الموضع من كلامه نفيس جداً أن يدار عليه النظر؛لأنه يدل على فرق ما بين ألسنتنا وألسنة الأصوليين الحادثة وبين ألسنة الأئمة الأربعة وطبقاتهم وما قبلها،وخطورة الغفلة عن مثل هذا عند النظر في تفسير كلامهم.