د. محي الدين غازي
New member
لقد ذهب الأكثرون من المفسرين في تأويل النجدين بأنهما طريق الخير والشر، أو طريق السعادة والشقاء أو طريق الهدى والضلالة، كما ذهب بعضهم إلى أنهما الثديان.(تفسير الماوردي) وسوف أكتفي بالحديث عن القول الأول وهو المشهور، حيث ضعف القول الثاني لايحتاج إلى بيان.
ومن تأمل في التأويل المشهور وقف أمام إشكالات منها:
أولا: النجد مكان مرتفع أو طريق يؤدي إلى مكان الأعالي، فهل يطلق على حضيض الكفر كلمة نجد؟ وقد فطن لهذا الإشكال، الشهاب الخفاجى في حاشيته على البيضاوي، حيث قال: "ووصف مكان الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف الشرّ فإنه هبوط من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا فتدبر" فأورد الإشكال وأتى بالجواب، ولكن الذي يظهر للمتأمل أن الجواب ليس في قوة الإشكال.
ثانيا: الحديث هنا في معرض الامتنان فهل إرشاد الإنسان إلى طريق الضلالة والشر والشقاء، يليق بهذا المقام؟
وقد فطن لذلك أيضا الشهاب الخفاجي، حيث يقول: لا يخفى أنه ذكر في سياق الامتنان فالمراد الامتنان عليه بان هداه وبين له الطريق فسلكها تارة ، وعدل عنها أخرى فلا امتنان عليه بالشرّ.
ثالثا: هل الله عزوجل يهدي إلى الشر؟ أو الهداية التي يرزقها الله كل إنسان تكون إلى الخير فحسب أو إلى الخير والشر كليهما؟ ونستعين في بحث هذا السؤال إلى الاستعمالات القرآنية.
يقول الله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) ، فهديناهم، والهدى، في الآية لايحتملان إلا الإرشاد إلى طريق الخير، وذكر في مقابل الهدى العمى، وهذه مقارنة بليغة.
ويقول تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) وهنا ذهب المفسرون عموما إلى نفس التأويل الذي ذهبوا إليه في آية سورة البلد، وقالوا: السبيل هو طريق الخير والشر، وقد اختار الطبري وغيره في هذه الاية وجها آخر، قال الطبري: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ : {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} إِنَّا بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْجَنَّةِ ، وَعَرَّفْنَاهُ سَبِيلَهُ ، إِنْ شَكَرَ ، أَوْ كَفَرَ.
بينما ذكر القرطبي القولين، حيث قال في تفسير الآية: قوله تعالى: (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر، كقوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ . وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة. وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم. وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: (إن) ها هنا تكون جزاء و(ما) زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون، إذ لا تدخل (إن) للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل. وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الادلة عليه، ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا إِمَّا شاكِراً والله أعلم.
وهذا الوجه الذي ذكره الطبري والقرطبي من أن السبيل هنا سبيل الرشد والهداية هي الهداية إلى الخير هو الذي يناسب المقام وهو الامتنان بالنعم. ويناسب استعمال القرآن الكريم للهداية حيث يطلق على ما يهدي إلى الخير إلا إذا صرح عكس ذلك. ويكون المعنى: نحن هديناه سبيل الخير، فإما يكون شاكرا على نعمة الهداية ويقبلها، أو يكفربها ويأباها.
وهناك آية أخرى تبدو في بادئ الأمر قريبة في المعنى مما نحن فيه، وهو قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) ولكن الأمر يختلف، فالهداية في معنى الإرشاد، والإلهام بمعنى الإعلام، ويصح أن نقول اللهم عرفنا بالخير والشر، ولكن لا يسوغ أن نقول اللهم اهدنا الخير والشر، وقد ذهب الكثيرون إلى أن الهداية في الايات التي نحن بصددها بمعنى التبيين وليس بمعنى الهداية المعروف، ولكن ذلك يبدو نقل الكلمة من معناها الحقيقي من غير داع.
والآن نعود إلى تأويل قوله تعالى: (وهديناه النجدين) فقد ذكر الله مع النجدين العقبة وعرفها، وقال: (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ماالعقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسبغة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة) هنا انتهى ذكر العقبة، ثم بيّن الله تعالى النجدين، وقال: (ثم كان من الذين آمنوا) وهذا هو النجد الأول، وقال (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وهذا هو النجد الثاني، ولا يمكن لشخص أن يفوز بذانك النجدين إلا إذا اقتحم العقبة بالإنفاق في اليتامى والمساكين.
أرجو من القراء أن يتأملوا معي في هذا الوجه، لعل الله يفتح علينا حكما كثيرة في اختيار هذا التعبير. وإذا صح شيء من هذا التأويل فالفضل يعود إلى شيخنا الكبير محمد أمانة الله الإصلاحي حفظه الله ورعاه.