ابراهيم عبد القادر
New member
- إنضم
- 06/09/2008
- المشاركات
- 26
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
[align=center]والكلام في هذا المقام مبني على " أصل " : وهو أن الأنبياء صلوات الله عليهم معصومون فيما يخبرون به عن الله سبحانه وفي تبليغ رسالاته باتفاق الأمة ولهذا وجب الإيمان بكل ما أوتوه كما [ ص: 290 ] قال تعالى : { قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } وقال : { ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين } وقال : { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } .
بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله ولهذا من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء ومن سب غيرهم لم يقتل . وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ; فإن " النبي " هو المنبأ عن الله و " الرسول " هو الذي أرسله الله تعالى وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين . [ ص: 291 ] ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ؟ هذا فيه قولان . والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وقالوا : إن هذا لم يثبت ومن علم أنه ثبت : قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا . وقالوا في قوله : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } هو حديث النفس .
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } فقالوا الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته [ ص: 292 ] بغيرها . وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ .
وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده عن الهوى من ذلك النوع فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب .
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من [ ص: 293 ] بعضها أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها ؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط ؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا ؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع . والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول .
وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبا ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه .
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح . أو أنها توجب التنفير أو نحو ذلك من الحجج العقلية فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه كما قال [ ص: 294 ] بعض السلف : كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة { لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا } إلخ .
وقد قال تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وقال تعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } وقد ثبت في الصحيح حديث { الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبئ عنه كبارها وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول الله له : إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فيقول : أي رب إن لي سيئات لم أرها } إذا رأى تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقا منها أن تظهر ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ولا التبديل . وقال طائفة من السلف منهم سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة وقد قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الله عليهم . وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه . والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص " الأسماء والصفات " ونصوص " القدر " ونصوص " المعاد " وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم .
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع وهي " العصمة في التبليغ " لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني والعصمة التي كانوا ادعوها لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة قال تعالى : { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } الآية . [ ص: 296 ] والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار كقول آدم وزوجته : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقول نوح : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وقول الخليل عليه السلام { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وقول موسى : { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك } وقوله : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وقوله : { فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } وقوله تعالى عن داود : { فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } وقوله تعالى عن سليمان : { اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار بل قال { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء .
وأما قوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } [ ص: 297 ] فالهم اسم جنس تحته " نوعان " كما قال الإمام أحمد الهم همان : هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة } وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله . فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها ؟ وقال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وأما ما ينقل : من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله ; لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا . [ ص: 298 ]
وقوله : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى : { وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم } { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه ; ولكن لما ظهرت براءته في غيبته - كما قالت امرأة العزيز : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته - فحينئذ : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه ; بل الأدلة تدل على نقضه وقد [ ص: 299 ] بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع . [/align] والله اعلم بالصواب.
بخلاف غير الأنبياء فإنهم ليسوا معصومين كما عصم الأنبياء ولو كانوا أولياء لله ولهذا من سب نبيا من الأنبياء قتل باتفاق الفقهاء ومن سب غيرهم لم يقتل . وهذه العصمة الثابتة للأنبياء هي التي يحصل بها مقصود النبوة والرسالة ; فإن " النبي " هو المنبأ عن الله و " الرسول " هو الذي أرسله الله تعالى وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا والعصمة فيما يبلغونه عن الله ثابتة فلا يستقر في ذلك خطأ باتفاق المسلمين . [ ص: 291 ] ولكن هل يصدر ما يستدركه الله فينسخ ما يلقي الشيطان ويحكم الله آياته ؟ هذا فيه قولان . والمأثور عن السلف يوافق القرآن بذلك . والذين منعوا ذلك من المتأخرين طعنوا فيما ينقل من الزيادة في سورة النجم بقوله : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وقالوا : إن هذا لم يثبت ومن علم أنه ثبت : قال هذا ألقاه الشيطان في مسامعهم ولم يلفظ به الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن السؤال وارد على هذا التقدير أيضا . وقالوا في قوله : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } هو حديث النفس .
وأما الذين قرروا ما نقل عن السلف فقالوا هذا منقول نقلا ثابتا لا يمكن القدح فيه والقرآن يدل عليه بقوله { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم } { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد } { وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } فقالوا الآثار في تفسير هذه الآية معروفة ثابتة في كتب التفسير والحديث والقرآن يوافق ذلك فإن نسخ الله لما يلقي الشيطان وإحكامه آياته إنما يكون لرفع ما وقع في آياته وتمييز الحق من الباطل حتى لا تختلط آياته [ ص: 292 ] بغيرها . وجعل ما ألقى الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم إنما يكون إذا كان ذلك ظاهرا يسمعه الناس لا باطنا في النفس والفتنة التي تحصل بهذا النوع من النسخ من جنس الفتنة التي تحصل بالنوع الآخر من النسخ .
وهذا النوع أدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده عن الهوى من ذلك النوع فإنه إذا كان يأمر بأمر ثم يأمر بخلافه وكلاهما من عند الله وهو مصدق في ذلك فإذا قال عن نفسه إن الثاني هو الذي من عند الله وهو الناسخ وإن ذلك المرفوع الذي نسخه الله ليس كذلك كان أدل على اعتماده للصدق وقوله الحق وهذا كما قالت عائشة رضي الله عنها لو كان محمد كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية : { وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } ألا ترى أن الذي يعظم نفسه بالباطل يريد أن ينصر كل ما قاله ولو كان خطأ فبيان الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أحكم آياته ونسخ ما ألقاه الشيطان هو أدل على تحريه للصدق وبراءته من الكذب وهذا هو المقصود بالرسالة فإنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم تسليما ولهذا كان تكذيبه كفرا محضا بلا ريب .
وأما العصمة في غير ما يتعلق بتبليغ الرسالة فللناس فيه نزاع هل هو ثابت بالعقل أو بالسمع ؟ ومتنازعون في العصمة من الكبائر والصغائر أو من [ ص: 293 ] بعضها أم هل العصمة إنما هي في الإقرار عليها لا في فعلها ؟ أم لا يجب القول بالعصمة إلا في التبليغ فقط ؟ وهل تجب العصمة من الكفر والذنوب قبل المبعث أم لا ؟ والكلام على هذا مبسوط في غير هذا الموضع . والقول الذي عليه جمهور الناس وهو الموافق للآثار المنقولة عن السلف إثبات العصمة من الإقرار على الذنوب مطلقا والرد على من يقول إنه يجوز إقرارهم عليها وحجج القائلين بالعصمة إذا حررت إنما تدل على هذا القول .
وحجج النفاة لا تدل على وقوع ذنب أقر عليه الأنبياء فإن القائلين بالعصمة احتجوا بأن التأسي بهم مشروع وذلك لا يجوز إلا مع تجويز كون الأفعال ذنوبا ومعلوم أن التأسي بهم إنما هو مشروع فيما أقروا عليه دون ما نهوا عنه ورجعوا عنه كما أن الأمر والنهي إنما تجب طاعتهم فيما لم ينسخ منه فأما ما نسخ من الأمر والنهي فلا يجوز جعله مأمورا به ولا منهيا عنه فضلا عن وجوب اتباعه والطاعة فيه .
وكذلك ما احتجوا به من أن الذنوب تنافي الكمال أو أنها ممن عظمت عليه النعمة أقبح . أو أنها توجب التنفير أو نحو ذلك من الحجج العقلية فهذا إنما يكون مع البقاء على ذلك وعدم الرجوع وإلا فالتوبة النصوح التي يقبلها الله يرفع بها صاحبها إلى أعظم مما كان عليه كما قال [ ص: 294 ] بعض السلف : كان داود عليه السلام بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة وقال آخر : لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه وقد ثبت في الصحاح حديث التوبة { لله أفرح بتوبة عبده من رجل نزل منزلا } إلخ .
وقد قال تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وقال تعالى : { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } وقد ثبت في الصحيح حديث { الذي يعرض الله صغار ذنوبه ويخبئ عنه كبارها وهو مشفق من كبارها أن تظهر فيقول الله له : إني قد غفرتها لك وأبدلتك مكان كل سيئة حسنة فيقول : أي رب إن لي سيئات لم أرها } إذا رأى تبديل السيئات بالحسنات طلب رؤية الذنوب الكبار التي كان مشفقا منها أن تظهر ومعلوم أن حاله هذه مع هذا التبديل أعظم من حاله لو لم تقع السيئات ولا التبديل . وقال طائفة من السلف منهم سعيد بن جبير : إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة يعمل الحسنة فيعجب بها ويفتخر بها حتى تدخله النار ويعمل السيئة فلا يزال خوفه منها وتوبته منها حتى تدخله الجنة وقد قال تعالى : { وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا } { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } فغاية كل إنسان أن يكون من المؤمنين والمؤمنات الذين تاب الله عليهم . وفي الكتاب والسنة الصحيحة والكتب التي أنزلت قبل القرآن مما يوافق هذا القول ما يتعذر إحصاؤه . والرادون لذلك تأولوا ذلك بمثل تأويلات الجهمية والقدرية والدهرية لنصوص " الأسماء والصفات " ونصوص " القدر " ونصوص " المعاد " وهي من جنس تأويلات القرامطة الباطنية التي يعلم بالاضطرار أنها باطلة وأنها من باب تحريف الكلم عن مواضعه وهؤلاء يقصد أحدهم تعظيم الأنبياء فيقع في تكذيبهم ويريد الإيمان بهم فيقع في الكفر بهم .
ثم إن العصمة المعلومة بدليل الشرع والعقل والإجماع وهي " العصمة في التبليغ " لم ينتفعوا بها إذ كانوا لا يقرون بموجب ما بلغته الأنبياء وإنما يقرون بلفظ حرفوا معناه أو كانوا فيه كالأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني والعصمة التي كانوا ادعوها لو كانت ثابتة لم ينتفعوا بها ولا حاجة بهم إليها عندهم فإنها متعلقة بغيرهم لا بما أمروا بالإيمان به فيتكلم أحدهم فيها على الأنبياء بغير سلطان من الله ويدع ما يجب عليه من تصديق الأنبياء وطاعتهم وهو الذي تحصل به السعادة وبضده تحصل الشقاوة قال تعالى : { فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم } الآية . [ ص: 296 ] والله تعالى لم يذكر في القرآن شيئا من ذلك عن نبي من الأنبياء إلا مقرونا بالتوبة والاستغفار كقول آدم وزوجته : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } وقول نوح : { رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين } وقول الخليل عليه السلام { ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } وقوله : { والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } وقول موسى : { أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } { واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك } وقوله : { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } وقوله : { فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين } وقوله تعالى عن داود : { فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب } { فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } وقوله تعالى عن سليمان : { اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } وأما يوسف الصديق فلم يذكر الله عنه ذنبا فلهذا لم يذكر الله عنه ما يناسب الذنب من الاستغفار بل قال { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فأخبر أنه صرف عنه السوء والفحشاء وهذا يدل على أنه لم يصدر منه سوء ولا فحشاء .
وأما قوله : { ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه } [ ص: 297 ] فالهم اسم جنس تحته " نوعان " كما قال الإمام أحمد الهم همان : هم خطرات وهم إصرار وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه وإذا تركها لله كتبت له حسنة وإن عملها كتبت له سيئة واحدة } وإن تركها من غير أن يتركها لله لم تكتب له حسنة ولا تكتب عليه سيئة ويوسف صلى الله عليه وسلم هم هما تركه لله ولذلك صرف الله عنه السوء والفحشاء لإخلاصه وذلك إنما يكون إذا قام المقتضي للذنب وهو الهم وعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله . فيوسف عليه السلام لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها ؟ وقال تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } وأما ما ينقل : من أنه حل سراويله وجلس مجلس الرجل من المرأة وأنه رأى صورة يعقوب عاضا على يده وأمثال ذلك فكله مما لم يخبر الله به ولا رسوله وما لم يكن كذلك فإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذبا على الأنبياء وقدحا فيهم وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله ; لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى الله عليه وسلم حرفا واحدا . [ ص: 298 ]
وقوله : { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } فمن كلام امرأة العزيز كما يدل القرآن على ذلك دلالة بينة لا يرتاب فيها من تدبر القرآن حيث قال تعالى : { وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم } { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم } فهذا كله كلام امرأة العزيز ويوسف إذ ذاك في السجن لم يحضر بعد إلى الملك ولا سمع كلامه ولا رآه ; ولكن لما ظهرت براءته في غيبته - كما قالت امرأة العزيز : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي لم أخنه في حال مغيبه عني وإن كنت في حال شهوده راودته - فحينئذ : { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } وقد قال كثير من المفسرين إن هذا من كلام يوسف ومنهم من لم يذكر إلا هذا القول وهو قول في غاية الفساد ولا دليل عليه ; بل الأدلة تدل على نقضه وقد [ ص: 299 ] بسط الكلام على هذه الأمور في غير هذا الموضع . [/align] والله اعلم بالصواب.