تفسير قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين

إنضم
09/09/2010
المشاركات
178
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الهند
مقال لفضيلة الوالد الدكتور محمد عناية الله سبحاني
(بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك)

قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. (سورةالبقرة:183-184)

ماقيل في تأويل الآيتين:
قال الماوردي:(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهٌ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) هكذا قرأ أكثر القراء، وقرأ ابن عباس، ومجاهد: (وَعَلَى الَّذِينَ لاَ يَطِيقُونَهُ فدية)، وتأويلها: وعلى الذين يكلفونه، فلا يقدرون على صيامه لعجزهم عنه، كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع، فدية طعام مسكين، ولا قضاء عليهم لعجزهم عنه. وعلى القراءة المشهورة فيها تأويلان:
أحدهما: أنها وردت في أول الإسلام، خيّر الله تعالى بها المطيقين للصيام من الناس كلهم بين أن يصوموا ولا يكفروا، وبين أن يفطروا ويكفروا كل يوم بإطعام مسكين، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)، وقيل بل نسخ بقوله: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيرٌ لَّكُم)، وهذا قول ابن عمر، وعكرمة، والشعبي، والزهري، وعلقمة، والضحاك.
والثاني: أن حكمها ثابت، وأن معنى قوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) أي كانوا يطيقونه في حال شبابهم، وإذا كبروا عجزوا عن الصوم لكبرهم أن يفطروا، وهذا سعيد بن المسيب، والسدي.(الماوردي، النكت والعيون: 1/238-239)
وقال ابن الجوزي:
قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) نقل عن ابن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري في آخرين في هذه الآية انهم قالوا كان من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى يطعم عن كل يوم مسكينا حتى نزلت فمن شهد منكم الشهر فليصمه فعلى هذا يكون معنى الكلام وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية ثم نسخت وروي عن عكرمة أنه قال نزلت في الحامل والمرضع وقرأ أبو بكر الصديق و ابن عباس وعلى الذين يطوقونه بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو قال ابن عباس هو الشيخ والشيخة.(زاد المسير،سورة البقرة: 1/186)
وقال القرطبي:
واختلف العلماء في المراد بالآية، فقيل: هي منسوخة. روى البخاري: "وقال ابن نمير حدثنا الأعمش حدثنا عمرو بن مرة حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم: نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}. وعلى هذا قراءة الجمهور "يطيقونه" أي يقدرون عليه، لأن فرض الصيام هكذا: من أراد صام ومن أراد أطعم مسكينا. وقال ابن عباس: نزلت هده الآية رخصة للشيوخ والعجزة خاصة إذا أفطروا وهم يطيقون الصوم، ثم نسخت بقوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} فزالت الرخصة إلا لمن عجز منهم. قال الفراء: الضمير في "يطيقونه" يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله: {وَأَنْ تَصُومُوا} ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية. وأما قراءة "يطوقونه" على معنى يكلفونه مع المشقة اللاحقة لهم، كالمريض والحامل فإنهما يقدران عليه لكن بمشقة تلحقهم في أنفسهم، فإن صاموا أجزأهم وإن افتدوا فلهم ذلك. ففسر ابن عباس - إن كان الإسناد عنه صحيحا - "يطيقونه" بيطوقونه ويتكلفونه فأدخله بعض النقلة في القرآن. روى أبو داود عن ابن عباس {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ طَعَامٍ} قال: أثبتت للحبلى والمرضع. وروي عنه أيضا "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" قال: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصوم أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وخرج الدارقطني عنه أيضا قال: رخص للشيخ الكبير أن يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه، هذا إسناد صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام" ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما، فيطعما مكان كل يوم مسكينا، وهذا صحيح. وروي عنه أيضا أنه قال لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت من الذين لا يطيقون الصيام، عليك الجزاء ولا عليك القضاء، وهذا إسناد صحيح. وفي رواية: كانت له أم ولد ترضع - من غير شك - فأجهدت فأمرها أن تفطر ولا تقضي، هذا صحيح. قلت: فقد ثبت بالأسانيد الصحاح عن ابن عباس أن الآية ليست بمنسوخة وأنها محكمة في حق من ذكر. والقول الأول صحيح أيضا، إلا أنه يحتمل أن يكون النسخ هناك بمعنى التخصيص ، فكثيرا ما يطلق المتقدمون النسخ بمعناه، واللّه أعلم. (الجامع لأحكام القرآن: 2/287-288)
هذا ما قيل في تأويل الآيتين. وهو معنى لا يقبله لفظ الإطاقة ولا أسلوب الآية.

معنى الإطاقة في كلام العرب
إن الإطاقة لا تستعمل إلا بمعنى القدرة على العمل، والتمكن من الأمر.
وأما معنى التكلف، أو التطويق، أو الكلف بالمشقة، أو العجز عن العمل، أو عدم الإطاقة، فهذا ليس من معنى الإطاقة. قال مهلهل بن ربيعة:
لمْ يطيقوا أنْ ينزلـوا وَ نزلنـا ** وَأَخُو الْحَرْبِ مَنْ أَطَاقَ النُّزُولاَ
(ديوان مهلهل بن ربيعة: 1/35)
وقال الأعشى:
ودّعْ هريرة َ إنْ الركبَ مرتحلُ ** وهلْ تطيقُ وداعاً أيها الرّجلُ؟
(ديوان الأعشى: 1/48)
وقال الأعشى:
قَدْ حَمّلُوهُ فتيّ السّنّ مَا حَمَلَتْ ** ساداتُهُمْ فأطاقَ الحِملَ وَاضْطلَعَا
(ديوان الأعشى: 31/3 )
وقالت الخنساء:
هريقي منْ دموعكِ أو افيقي ** وصبراً انْ اطقتِ ولنْ تطيقي
(ديوان الخنساء: 1/87)
وقال المغيرة بن حبناء :
شديدُ القوى من أهلِ بيتٍ إذا وهَى ... من الدِّين فَتْقٌ حُمِّلوا فأطـــــــــــــــاقوا
مَراجــــــــــــــــــــيحُ في اللأَواء إن نَزَلَتْ بهمْ ... ميامينُ قد قادُوا الجيوش وساقوا
(أبوالفرج الأصفهاني،الأغاني:13/112)
وقال الديلمي:
فهـا هو لو دعوناهُ لخطبٍ ** أطاقَ لأمرنا غير المطــاقِ
(ديوان مهيار الديلمي: 1/1391)

أسلوب الآية
أسلوب الآية في قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) يوحي بمعنى التأكيد والتنشيط، لا بمعنى الترخيص، والتيسير، أى: الآية ما جاءت لترخص للناس في الإفطار، وإنما جاءت لتأكيد الصيام، والسياق كله تأكيد للصيام.

تأكيدات يتلو بعضها بعضا
فقوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) تأكيد للصيام، فإنه إذا قيل عن شيء (كتب عليكم)، فإنه يقصد به الإيجاب مع التأكيد.
ثم قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تأكيد آخر للصيام.
ثم قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تأكيد ثالث للصيام.
ثم قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) تأكيد رابع للصيام.
ثم قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تأكيد خامس للصيام.
فالتأكيد الأول، والثاني، والثالث واضح، لا يحتاج إلى بيان.
وأما التأكيد الرابع، وهو:(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)، فهو يعني ألا تستثقلوا هذا الصيام، ولا تستكثروه، فهي أيام تعدّ على الأصابع، وفوائده كثيرة جمّة، لا تعدّ ولا تقدّر، والسياق واضح في أن المراد بتلك الأيام المعدودات، هي أيام رمضان، الذي جاء ذكره صريحا في الآية التالية، وليس هناك أيّ احتمال للصيامات الأخر، التي ذكروها في تأويل أيام معدودات، ثم زعموا نسخها بصيام رمضان.
ثم جاء قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ومعناه في هذا السياق، وبهذا الأسلوب أن أيّ مؤمن لا يُعفى عن هذا الصيام، حتى ولو كان مريضا، أو على سفر، فإن عجز عن الصيام عجزا، ولم يستطعه في موعده، بسبب مرضه، أو سفره، فلا بد أن يقضي هذا الصيام بعدد ما فاته، في أيام أخر.
فالآية فيها تأكيد، وتركيز على أداء الصيام، دون الترخيص في الإفطار، وهي جاءت على أسلوب أختها في نفس السورة، وهي قوله تعالى في سياق الحج:
(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ- سورةالبقرة:196)
فالآيتان متشابهتان في الأسلوب، و(فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) في هذه الآية، مثل قوله تعالى في آية الصيام: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)
فهل جاء (ففدية) في آية الحج بمعنى الترخيص؟ وإذا لم يكن ذلك بمعنى الترخيص، فكيف يكون (فعدّة) في آية الصوم بمعنى الترخيص؟
ولنعلم أن الآية لوكانت تحمل معنى الترخيص لاختلف الأسلوب، وزيدت فيها "أما"، وكانت الآية على نحو مما يلي:(فأما من كان مريضا، أو على سفر فعدة من أيام أخر)
وإذاً، فلا حاجة بنا إلى أن نتعب أنفسنا في تحديد مسافة الإفطار، فالإفطار ليست له مسافة، فقد يسافر الإنسان من قارّة إلى قارّة، و يقطع مسافات هائلة، في الطائرات، أو القطارات، أو الحافلات المكيّفات، وهو في نشاط كامل، ولا يشعر بنوع من التعب أوالنصب، فالإفطار في مثل هذه الحالات أمر غير مشروع، وغفلة شديدة عن روح الصيام وأهدافه.

الإفطار رخصة وليس فضيلة
والإفطار رخصة يلجأ إليها المسلم في وقت العجز عن الصيام، وليس فضيلة يحرص عليها بدون عذر قاهر، من مرض مضنٍ، أو سفر مرهق.
ومما يجدر بالانتباه أن النبي عليه السلام كان يخرج بأصحابه في رمضان، فمن وجد قوة على الصيام صام، ومن وجد في نفسه ضعفا أفطر، فالمسافة نفس المسافة، ولكن موقفهم كان يختلف حسب قوّتهم وضعفهم، فقد روى الإمام مسلم، قال:
حدثنا هداب بن خالد حدثنا همام بن يحيى حدثنا قتادة عن أبى نضرة عن أبى سعيد الخدرى – رضي الله عنه – قال: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لستة عشر مضت من رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. (صحيح مسلم، باب جواز الصوم والفطر: 3/142/2671)
لم يعب بعضهم على بعض، لأنه لم يكن هناك تقصير من المفطر، ولا تطاول من الصائم، وإنما فعل كل امرء ما قدر عليه. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وهكذا الحكم في المرض، فمجرد اسم المرض ليس عذرا للإفطار، وإنما يفطر المريض إذا نهكه المرض، حتى عجز عن الصيام، وأما إذا كان قويا، قادرا على الصيام، والصيام لا يضرّه، ولا يوقعه في حرج، فلا يحل له أن يفطر.
وإن روي عن بعض السلف غير ذلك، فليس لنا فيه حجة، وكتاب الله أحق بالاتباع. وهو يفهم بلفظه، وأسلوبه، ونظمه وسياقه، لا بأحوال الناس وأقاويلهم.

ما قيل في قوله تعالى: وعلى الذين يطيقونه
كذلك لا يخلو من التكلف ما قاله المفسرون في قوله تعالى في نفس الآية:
(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 184)
فـقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) معطوف على قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) ويكون تقدير الكلام: "كتب عليكم الصيام، وكتب على الذين يطيقونه فدية". ففيه معنى الإيجاب والإلزام، وليس معنى الترخيص والتيسير، وإذا جاءت "على" بهذه الصورة، فهي لاتفيد معنى الترخيص والتيسير،بل تفيددائما معنى الإيجاب والإلزام.
وعلى هذا فمن الصعب جدا أن يُقبل ما نقله أهل التفسير عن ابن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وسلمة بن الأكوع وعلقمة والزهري في آخرين في هذه الآية، أنهم قالوا: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكينا حتى نزلت فمن شهد منكم الشهر فليصمه فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية. (انظر ابن الجوزي، زاد المسير في علم التفسير:سورة البقرة:184)
وقال الشوكاني:"وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فقيل: إنها منسوخة وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا، ترك الصوم وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور.
وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة." (فتح القدير،سورةالبقرة آية: 84 )
فمن أين جاء في الآية معنى الترخيص، مع أن الأسلوب يفيد معنى الإيجاب، ويأبى معنى الترخيص؟
زد إلى ذلك تلك التأكيدات الخمس المتتابعة، التي تبعت الأمر بالصيام، والتي أسلفنا الإشارة إليها، فهل جاءت تلك التأكيدات المتتابعة، حتى يصوم من شاء، ويفطر من شاء؟

قول ليس عليه دليل
وما الدليل على أن المؤمنين شق عليهم فرض الصيام؟ فالعرب الذين نزل عليهم القرآن ما كانوا من أولي الترف والتنعّم، وإلاّ، فكيف لبثوا في شعب أبي طالب ثلاث سنين عددا ؟ وما شعب أبي طالب ؟ إذا تصوّره الإنسان، وتصور محنته، ارتجف له قلبه، وارتعدت له فرائصه !
"فقد ورد في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة، وكان فيهم سعد بن أبي وقاص. روي أنه قال: لقد جعت، حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب، فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو إلى الآن. وفي رواية يونس: أن سعدا قال خرجت ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول، فإذا قطعة من جلد بعير يابسة، فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثا." (عبدالرحمن السهيلي-الروض الأنف:2/159)
فالضيق والضنك الذي كانوا فيه، في شعب أبي طالب، ما كان أقل من الصيام، بل كان أشدّ وأدهى، كان أشد منه ألف مرة، والذي يصبر، ويتغلب على مثل ذلك الضيق والضنك، هل تظنه يشق عليه الصيام؟

الصيام كان من عادات العرب
ثم الاطلاع على أحوال العرب يُشعر أنهم كانوا مستأنسين بالصيام، قبل نزول الأمر بالصيام، حتى كانوا يعوّدون خيولهم وآبالهم احتمال الشدائد، ويدرّبونها على الصبر عن الماء والكلأ، وكانوا يطلقون عليه لفظ الصيام.
قال بشر بن أبي خازم، وهو جاهلي:
أَتُوعِدُنِي بقَوْمِكَ يا ابنَ سُعْدَى ... وما بَيْنِي وبَيْنَكَ مِن ذِمـامِ
متَى مــــــــــــــــــــا أَدْعُ في أَسَـدٍ تُجِبْني ... مُسَوَّمَــــةٌ على خَيْلٍ صِيـامِ
(الحماسة البصرية: 1/85)
وقال بشر:
وما تَسْعَى رِجالُهُـمُ ولكِنْ ... فُضُولُ الخَيْلِ مُلْجَمَـةٌ صِيَامُ
(المفضليات: 1/61)
وقال مزرّد، أخو الشماخ:
وعندي إِذا الْحَرْبُ العَوَانُ تَلقَّحَتْ ...وأَبْدَتْ هَوَادِيها الخطُوبُ الزَّلاَزلُ
طُوَالُ القَرَاقدْ كادَ يَذهَبُ كَاهِلاً ... جَوَادُ المَدَى والعَقْبِ والخَلْقُ كامِلُ
أَجَشُّ صَـرِيحيٌّ كأَنَّ صَهيـــــــــــــلَهُ ... مَزَامِيرُ شَرْب جاوَبَتْها جَلاَجـــــــلُ
متى يُرَ مَرْكُوبـــــــاً يُقَلْ بازُ قانِصٍ ...وفي مَشْيِهِ عنـدَ القِيَـــــــــــــــادِ تَسَاتُلُ
تقولُ إِذا أَبْصرتَهُ وهْوَ صــــــــائمٌ ... خِبَاءٌ على نَشْزٍ أَوِ السِّيدُ مـاثِلُ
خَرُوجُ أَضَامِيمٍ وأَحْصَنُ مَعْقِلٍ ... إِذا لم تكنْ إِلاَّ الْجِيـادَ مَعَـاقِلُ
مُبرِّزُ غاياتٍ وإِنْ يَتْلُ عانَــــــــــــة ... يَذَرْها كَذَوْدٍ عاثَ فِيهـا مُخَــــايِلُ
(المفضليات:1/95)
وقال النابغة الذبياني:
خيلٌ صيامٌ، وخيلٌ غيرُ صائمَةٍ ** تحتَ العجاج، وأُخرى تعلُكُ اللُّجُما
(ديوان النابغة الذبياني:1/115)
فالخيل الصيام هي التي أعدّت للحرب. وكانوا يحبسونها على غير مرعى، ولا علف لمدة، ثم يسقونها ويعلفونها، ثم يحبسونها، ثم يعلفونها، ويزيدون مدة الحبس يوما فيوما، حتى يذهب رَهَلُها، ويشتدّ لحمها، وحتى تصبح الخيل صلبة، ضامرة، صابرة على الجوع والظمأ، وقوية على لأواء الحرب، وإن طالت ما طالت، واشتدت مااشتدت!
قال الفراهي:استعمل (في الآية) لفظ التقوى؛ لأنه كان أقرب شيء لحقيقة الصوم، ولعلمهم به، فإنهم كانوا يعوّدون أفراسهم وآبالهم الصبر عن الماء والكلأ، لكى يقوّوها، ويدرّبوها على الصبر عند الشدائد، وكانوا يصفونها بالصيام، كما كانوا يعوّدون أفراسهم استقبال الريح، فإنه كان من أكبر حاجاتهم عند السير أو الحرب، إذ كانت الريح تسفي التراب في وجوههم. وقد ذكر جرير هذين الأمرين في بيت له:
ظَلِلْنَـا بِمُسْتَنّ الحَرُورِ ،كَأنّنَـــــــــــــــــــــا ** لدى فرسٍ مستقبلِ الريحِ صائمِ
والأشعار في بيان صوم الفرس كثير.
(مفردات القرآن للفراهي: 1/364)
فإذا كان العرب يعرفون الصيام، قبل أن يأتيهم حكم الصيام، وكانوا يدركون فوائد الصيام، وكانوا يعوّدون خيولهم، وآبالهم ذلك الصيام، فما معنى القول إذاً بأن الصيام شق على المسلمين، حينما نزل رمضان ؟

كان الصحابة منهومين بالصيام
وبالعكس من ذلك نرى أصحاب رسول الله منهومين بالصيام، فهم لا يقتصرون على صيام شهر رمضان، بل يحبون ألا تطلع عليهم شمس يوم إلا وهم صائمون!
يشهد بذلك ما رواه البخاري: حدثنا موسى حدثنا أبوعوانة عن مغيرة عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب فكان يتعاهد كنته فيسألها عن بعلها فتقول نعم الرجل من رجل لم يطأ لنا فراشا ولم يفتش لنا كنفا مذ أتيناه فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (القني به). فلقيته بعد فقال (كيف تصوم). قلت كل يوم قال (وكيف تختم). قلت كل ليلة قال (صم في كل شهر ثلاثة واقرأ القرآن في كل شهر). قال قلت أطيق أكثر من ذلك قال (صم ثلاثة أيام في الجمعة). قلت أطيق أكثر من ذلك قال (أفطر يومين وصم يوما). قال قلت أطيق أكثرمن ذلك قال (صم أفضل الصوم صوم داود صيام يوم وإفطار يوم واقرأ في كل سبع ليال مرة). فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه و سلم وذاك أني كبرت وضعفت فكان يقرأ على بعض أهله السبع من القرآن بالنهار والذي يقرؤه يعرضه من النهار ليكون أخف عليه بالليل وإذا أراد أن يتقوى أفطر أياما وأحصى وصام أياما مثلهن كراهية أن يترك شيئا فارق النبي صلى الله عليه و سلم عليه.(صحيح البخاري، باب في كم يقرأ القرآن: 4/1926/4765)
وروى مسلم أيضا نحوه ، فقال: حدثنا يحيى بن يحيى التميمى وقتيبة بن سعيد جميعا عن حماد - قال يحيى أخبرنا حماد بن زيد - عن غيلان عن عبد الله بن معبد الزمانى عن أبى قتادة رجل أتى النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال كيف تصوم فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأى عمر - رضى الله عنه - غضبه قال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله. فجعل عمر - رضى الله عنه - يردد هذا الكلام حتى سكن غضبه فقال عمر يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال « لا صام ولا أفطر - أو قال - لم يصم ولم يفطر». قال كيف من يصوم يومين ويفطر يوما قال « ويطيق ذلك أحد ». قال كيف من يصوم يوما ويفطر يوما قال « ذاك صوم داود عليه السلام ». قال كيف من يصوم يوما ويفطر يومين قال « وددت أنى طوقت ذلك ». (صحيح مسلم، باب استحباب صيام ثلاثة: 3/167/2803)
وبالجملة، فإن معنى الإطاقة، بالإضافة إلى أسلوب الآية لا يعضد ما ذهبوا إليه من تأويلات. فما تأويلها في ضوء أسلوبها إذاً ؟

قرنت آيات الصيام بآيات القتال!
ولننظر إلى الآيات من ناحية أخرى، وهي أن القرآن قرن الصيام بالقتال، حيث جاءت آيات الصيام، وما يتعلق به من أحكام، ثم جاءت آيات القتال في سبيل الله:
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ. (سورةالبقرة:190-193)
فأتبع الله آيات الصيام آيات القتال، كأن المؤمنين ماكتب عليهم الصيام إلا لتربيتهم وإعدادهم لمعارك الجهاد، والمؤمنون كانوا يدركون هذا السرّ جيدا، فإنهم كانوا يعرفون أبعاد الصيام، وكانوا يفعلون ذلك بخيولهم وآبالهم، إذا أرادوا القتال.
فإذا كانت فريضة الصيام لإعداد المسلمين لمعارك الجهاد، فهل يتمّ هذا الإعداد، إن رخّص لهم أن يصوموا، أولايصوموا، وإذالم يصوموا فليفتدوا بإطعام المساكين؟
وهل يتمّ لهم هذا الإعداد، إذا رخص لهم أن يفطروا كلما جاء هم سعال أو زكام، أو أصابهم جرح خفيف في إصبع. أو كلما خرجوا في سفر، ولو كانوا في سفرهم أحسن حالا، وأنعم بالا، وأكثر راحة مما يكونون في بيوتهم؟

تأويل (وعلى الذين يطيقونه فدية)
قال ابن جرير، وهو يذكر الوجوه الواردة في تأويل قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه:
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله: "وعلى الذين يطيقونه"، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ. (تفسيرالطبري: 3/438، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م)
وقال الفراء: الضمير في "يطيقونه" يجوز أن يعود على الصيام، أي وعلى الذين يطيقون الصيام أن يطعموا إذا أفطروا، ثم نسخ بقوله : {وَأَنْ تَصُومُوا} ويجوز أن يعود على الفداء، أي وعلى الذين يطيقون الفداء فدية.(القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: هشام سمير البخاري، دار عالم الكتب، الرياض، الطبعة: 1423 هـ/ 2003 م)
وقال ابن عطية: والضمير في (يطيقونه) عائد على الصيام، وقيل على الطعام، وهو قول ضعيف. (المحرر الوجيز: 1/513)

شبهات وإجابات
ولعل هذا الوجه الثاني، الذي ذكره المفسرون، ولم يعيروه اهتماما، وحكموا عليه بالضعف، بدون أن يحدّدوا وجه الضعف، لعله أقرب شيء في تأويل الآية، فكلما تدبرناه، وجدناه متينا، لا يستوجب هذا الحكم.
أقصى ما يقال فيه ما قاله الجصاص، حيث يقول:
"وقوله تعالى وعلى الذين يطيقونه قد اختلف في ضمير كنايته فقال قائلون هو عائد على الصوم وقال آخرون إلى الفدية والأول أصح لأن مظهره قد تقدم والفدية لم يجر لها ذكر والضمير إنما يكون لمظهر متقدم ومن جهة أخرى أن الفدية مؤنثة والضمير في الآية للمذكر في قوله يطيقونه." (الجصاص، أحكام القرآن: 1/222، دار إحياء التراث العربي - بيروت، 1405تحقيق: محمد الصادق قمحاوي)
وما احتج به الجصاص لا يغض من قيمة هذا التأويل، فإن عود الضمير إلى متأخر لم يتقدم له ذكر، ليس بدعا، ولاعيبا في الكلام، وخاصة إذا كان ذلك المتأخر مقدما في الرتبة، وله شواهد في القرآن، وفي كلام العرب، فمنه قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى.(سورةطه:67)
ومنه قولهم: في بيته يؤتى الحكم.(المستقصى في أمثال العرب: 2/183)
ومنه قول النابغة الذبياني:
جزى ربُّهُ عني عديّ بن حاتمٍ، ** جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ، وقد فعل
(ديوان النابغة الذبياني: 1/114)
وقال جَزْءُ بن ضِرار أخو الشماخ، وهو شاعر مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام:
(أتَانِي فَلَمْ أُسْرَرْ بِهِ حِينَ جَـــــــــــــاءَنِي ... حَدِيثٌ بِـــــــــــــــــــــــــــأعْلى القُنَّتَينِ عَجِيبُ)
( أبوتمام، ديوان الحماسة: 1/201/117)
وأما قوله: "إن الفدية مؤنثة، والضمير في الآية للمذكر في قوله: يطيقونه."
فنظيره قوله تعالى، قبل هذه الآية بآيتين، حيث قال تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
فإن صح أن يرجع ضمير المذكرفي قوله تعالى: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ) إلى الوصية، فأيّ إشكال في رجع ضمير المذكر في ( يُطِيقُونَهُ) إلى (فِدْيَةٌ) ؟
وأما قول ابن جرير: "وذلك لتأويل أهل العلم مخالف." فهي دعوى لا تساندها بينة، وحكم لا يعضده دليل.
وهل هناك تأويل موحّد مجمع عليه عند أهل العلم، حتى يقال لغيره: إنه لتأويل أهل العلم مخالف؟
وإذا جاز أن تكون هناك أربعة وجوه في التأويل، وهي كلها ليست مخالفة لتأويل أهل العلم، فلماذا لا يجوز أن يكون هناك وجه خامس، أوسادس؟ وإذا كان هذا الوجه يعتمد على دليل علمي متين، فكيف يعتبر مخالفا لتأويل أهل العلم؟

أحكم شيء في هذا الباب
ولقد قلّبنا هذا التأويل ظهر البطن، وضربنا عينه، ووجهه، فوجدناه أحكم شيء في هذا الباب.
وبيانه أنه يحق على الذين يطيقون الطعام، وهم الأغنياء الموسرون، يحق عليهم أن يضمّوا إلى الصيام إطعام مسكين. فهم مطالبون بالصيام، ومطالبون في نفس الوقت بإطعام مسكين.
ولعل ابن شهاب أيضا كان يرى نفس الرأي، حيث روى ابن جرير عنه، قال:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب:"فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له.(تفسيرالطبري: 3/442، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1420 هـ - 2000 م)
ومن هنا قال عليه السلام عن رمضان: "إنه شهر المواساة."(صحيح ابن خزيمة، باب فضائل شهر رمضان: 3/191/1887)
وكان، عليه الصلاة والسلام، أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون فى شهر رمضان. (صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب كان النبي أجود الناس بالخير: 7/73/6149)
وكان عليه الصلاة والسلام، يرغب الناس في هذا الشهر في الإنفاق، وكان يحثهم على الجود والمواساة، وإطعام الطعام، مستخدما فيه مختلف الأساليب، فكان يقول- مثلا -: من فطّر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا. (سنن الترمذي، فضل من فطّرصائما:3/171/807)
إلى غير ذلك من عشرات الأحاديث التي وردت في هذا الباب.
ولعل الحكمة في الحث على إطعام المسكين، مع الحث على إكمال الصيام، أن هذا الإطعام سيكون عونا للصائم على القيام بمهمة الصيام أحسن قيام، ويهيئ نفسه لاستقبال الخيرات والبركات، التي يفيض بها شهر رمضان.
فأمر المؤمنون أولا أن يصوموا أياما معدودات، وأمروا أن يكملوا عدة الصيام، ثم خص الأغنياء منهم بأمر آخر، وهو أن يضموا إلى الصيام إطعام مسكين، فهذا كما يعدّهم لتلقي النفحات الإلهية في رمضان، ويعدّهم للاستكثار منها، فكذلك يساعد إخوانهم المعدمين، ويقويهم على صيام رمضان.
وهذا أمر دون أمر، وليس كالأمر الأول كما لا يخفى.
وعلى هذا، فتلك الآية محكمة باقية بحكمها، غير منسوخة، كما ذهب إليه فريق من العلماء.

واجب دون واجب
وهنا يثور سؤال: إن كان هذا الحكم محكما باقيا، فلماذا لم يكرر مثلما كرر حكم إكمال العدة؟
نقول: إن هناك فرقا بين الواجبين، فإن الكلام هنا مركز على واجب الصيام، وهو الموضوع الرئيسي في تلك الآيات، بخلاف واجب الإطعام، فإنه ألحق به إلحاقا، ليكون عونا على أداء واجب الصيام، وليهيئ النفس للقيام به أحسن قيام.
فهو واجب إضافي، وليس واجبا كواجب الصيام.
فأراد السياق أن ينبّه بنظمه إلى هذا الفرق، كما أراد أن يركّز على ما هو أثقل على النفس وأشقّ.
هذا ولله الحمد.
 
(( فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ))
الآية الكريمة تدل على أنه لو أسلم الكافر وكان قد أخذ مالاً من المسلمين فإنه لا يضمن إن كان قد أتلفه - بغير خلاف -.
وكذلك - في الأرجح - إن كان في يده ذلك المال ، إذْ لمّا كان لا يضمن بإتلافه فهذا يشير إلى عدم مطالبته به .
إلا أن يرده - استحباباً - لصاحبه .
وإذا أسلموا وفي أيديهم أموال المسلمين فهي لهم
الغنيمة كيف تملك؟ وكيف تقسم؟ - معهد آفاق التيسير الإلكتروني
 
((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ))- سورةالبقرة:196)
في الآية الكريمة دلالة على وجوب قص الحاج والمعتمر من رأسه .
وجه الدلالة على وجوب ذلك :
قوله تعالى :((وأتموا الحج والعمرة ..)) ثم عطف عليه سبحانه : ((ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي..)) ؛ فأشار إلى أنّ حلق الرأس من إتمام الحج والعمرة . والإتمام واجبٌ . فوجب القصّ بذلك .
 
((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ))
لعل من فوائد هذه الجملة الكريمة : أنّ المسافر أو المريض المفطر ، لو مات قبل أن يزول عنه العذر . فإنه يُشرع أن يُفدى عنه .
 
((فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ))
ذِكر هذين العذرَين (المرض والسفر) في الآية الكريمة : لا يفيد عدم وجود أعذار غيرها تبيح الفطر .
قلنا هذا ؛ لأنّ الحامل والمرضع لو خافتا على ولديهما ، أو المقاتل المفطر في بلده . فإن هؤلاء يقضون مع الفدية .

والله أعلم
 
السلام عليكم
"وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ".
يبدو لى أن الرأي الذى اعتمده الشيخ وهو أن المؤمن القادر على الصيام وعلى الاطعام وجبا عليه كليهما ... أراه غير صحيح
وذلك بدون الخوض فى تفاصيل عود الضمير وغيره ، إذ أنه واضح من ختام الآية أن هناك مفاضلة بين الصيام والاطعام والمؤمن سيفعل إما هذا وإما ذاك ورغبته الآية فى الصيام ... ومن هنا لايقبل أنه مأمور بالجمع بينهما
والله أعلم
 
((وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ))
ذكر بعض أهل العلم أن من إتمام العمرة : الإتيان بها في غير أشهر الحج .
ووجه الدلالة : أن إعمار الشيء -لغةً- إنما يكون حين اختلائه .
والمسجد الحرام في أشهر الحج يكون موسماً لأعمال الحج .
يراجع : التحرير والتنوير .
 
((وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ))
لعل في الآية الكريمة دلالة على وجوب الحلق على المحصَر ، وليس له أن يقصّر .
وجه الدلالة : أن الله سبحانه قال بعد ذكر الحلق: ((فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففديةٌ من ..)) ولم يُبح له أن يقصّر ، بل الفدية
والآية تحتمل معنى : فمن كان منكم مريضاً وقت الحلق -الذي هو بعد بلوغ الهدي محله- فلم يستطع أن يحلق . ففدية من ...
فثبت ما ذُكِر من الدلالة .

ولعله مما ينبني على ذلك : حُكْم من ترك واجباً من واجبات الحج ، فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك .
والصيام والصدقة مطلقة في الآية ، فلا نحدد عدد الأيام أو المساكين إلا بقياس المفتي .. إما أن يجعلها على حديث كعب بن عجرة أو على جزاء الصيد .

أما فتوى ابن عباس فلعله حدّد ذلك ؛ ليشدد في ترك الواجب .
 
ما القول الراجح في قوله تعالى : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ....... ) ؟
هل هي منسوخة أم لا ؟
 
القول الراجح أنه ليس بمنسوخ. والقول الصحيح أنه لم يثبت فعلا نسخ أي آية في القرآن الكريم.
 
لعل الدكتور يتكرم ويعرض كلامه في النسخ في القرآن في موضوع مستقل يبين فيه حكمه ويدلل عليه .
جزاكم الله خيرا
 
السلام عليكم ، وكل عام وأنتم بخير
المادة سواء كانت فعلا أو صفة فإن معناها واحد، فإن استشكل علينا فهم معنى فعل فسنجده في مصدره ، وذلك بتحويل المصدر إلى مفعول مطلق.
فعل (أطاق) مصدره (طاقة) ، نقول : أطاق طاقة،
إذا استشكل علينا فهم معنى (يطيقونه) فلننظر المصدر (طاقة)، ما هي الطاقة؟
الطاقة هي جهد مبدول، وبها نعرف أن (أطاق) تعني بدل جهدا ، فالجهد المبدول هو نتاج المتحرك وليس الساكن ، فراكب الطائرة المتجهة إلى باريس لا يصح أن يقال عنه إنه يطيق السفر بالطائرة إلى باريس ،لأن سفره مريح لم يبدل فيه مجهودا ، أما لو سافر أحد على قدميه أو على ظهر دابة فبلغ وجهته بشق الأنفس فيصح أن نقول عنه : يطيق السفر على قدميه، ويطيق السفر على ظهور الدواب، لأنه استهلك طاقة.
ولو نفينا فعل الطاقة فهذا يعني أن مستوى الجهد هو صفر، ويستحيل على من جهده صفر أن ينجز مبتغاه، فأنا حين أحمل قلما بين أصابعي لا يصح أن أقول (أطيق حمل القلم) لأن حمل القلم لا يحتاج إلى طاقة يستهلكها، أما لو قلت (أطيق حمل قنطار من الوزن) فتعبيري صحيح، لأن حمل وزن 100 كلج سيجهد عضلاتي، ولو قلت (لا أطيق حمل ما وزنه طن ) فكلامي صحيح ،لأني ليس لي جهد لحمل ما وزنه طن.
بعد أن رخص الله للمسافر والمريض الإفطار والقضاء في أيام أخر أضاف الترخيص لحالات أخرى أصحابها قد يبدلون جهدا تنتج عنه مشقة أثناء الصيام مثل عمال المناجم وعمال الأفران.... ألخ ، هؤلاء هم المرخص لهم في الفدية أو يصوموا خير لهم من الفدية، أما الذين أضافوا لا النافية قبل (يطيقونه) فقولهم ليس صائبا، إذ كيف يحكم أنهم لا يطيقون الصيام ومع ذلك يقول لهم (وأن تصوموا خير لكم). !!
كيف أقر أن فلانا لا يطيق حمل طن من الوزن ثم بعد ذلك أقول له (وأن تحمل طنا خير لك) !!
 
عودة
أعلى