تفسير قوله تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه

إنضم
9 سبتمبر 2010
المشاركات
178
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الهند
لفضيلة الوالد الدكتور محمد عناية الله سبحاني حفظه الله

قال تعالى في سورة يوسف:
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

معنى الآية في أقوال المفسرين:

قال القاضي ابن عطية رحمه الله في تأويل الآية:
معنى الآية : قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك : { اذكرني } عند الملك ، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته ، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق ، أو يذكره بهما .
والضمير في { أنساه } قيل : هو عائد على يوسف عليه السلام ، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله ، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق ، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك ، وطول سجنه عقوبة على ذلك ، وقيل : أوحي إليه : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلن حبسك.
وقيل : إن الضمير في { أنساه } عائد على الساقي - قاله ابن إسحاق - أي نسي ذكر يوسف عند ربه ، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده ، و « الرب » على هذا التأويل - الملك . (المحرر الوجيزفي تفسير الكتاب العزيز-سورة يوسف)

وقال الشوكاني رحمه الله:
{ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } أي : قال يوسف ، والظان هو أيضاً يوسف . والمراد بالظنّ العلم؛ لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز ، هكذا قال جمهور المفسرين . وقيل : الظنّ على معناه؛ لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظناً ، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء . ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليه السلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } الآية.
وجملة : { اذكرنى عِندَ رَبّكَ } هي مقول القول ، أمره بأن يذكره عند سيده ، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب ، وكانت هذه المقالة منه عليه السلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان ، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائداً إلى يوسف ، هكذا قال بعض المفسرين ويكون المراد بربه في قوله : { ذِكْرَ رَبّهِ } وهو الله سبحانه ، أي : إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال . { وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مّنْهُمَا } يذكره عند سيده ليكون ذلك سبباً لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته .
وذهب كثير من المفسرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو الذي نجا من الغلامين ، وهو الشرابي ، والمعنى : إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده ، أي : ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده ، ويكون المعنى : فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ، ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك ، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء . وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلاّ فيما يخبرون به عن الله سبحانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني » ورجح أيضاً بأن النسيان ليس بذنب ، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين ، وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك ، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله سبحانه ، ويؤيد رجوع الضمير إلى يوسف ما بعده من قوله : { فَلَبِثَ فِى السجن بِضْعَ سِنِينَ } ويؤيد رجوعه إلى الذي نجا من الغلامين قوله فيما سيأتي : { وَقَالَ الذى نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } سنة .(الشوكاني-فتح القدير:سورةيوسف)

وقال ابن كثير رحمه الله:
{ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } يقول: اذكر قصتي عند ربك -وهو الملك -فنسى ذلك الموصَى أن يُذَكِّر مولاه بذلك، وكان من جملة مكايد الشيطان، لئلا يطلع نبي الله من السجن.
هذا هو الصواب أن الضمير في قوله: { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } عائد على الناجي، كما قال مجاهد، ومحمد بن إسحاق وغير واحد. (تفسيرابن كثير-سورةيوسف)

موضع الحيرة في الآية:
فتلك الآية تحير في تأويلها المفسرون، وموضع الحيرة هو الضمير المنصوب( ه) في قوله تعالى:(فأنساه الشيطان ذكر ربه)
فمنهم من يعيده على يوسف،ومنهم من يعيده على الساقي،أو الناجي ومنهم من يذكر الرأيين بدون ترجيح.
فابن عطية- مثلا- ذكر الرأيين ،ولم يرجح أحدهما على الآخر،والشوكاني أيضا ذكر الرأيين، ولم يرجح بلفظ صريح، ولكن يبدو من لحن قوله أنه يعيد الضمير المنصوب(ه) على يوسف، وبالعكس من ذلك نرى ابن كثير يعيد الضمير على الساقي،أو الناجي، ويجزم بأن هذا هو الصواب.

رأي أقرب لحسن التأويل:
ولعل الرأي الذي مال إليه ابن كثير، وجزم بصحته، هو الرأي الأمثل ،وذلك لكونه أقرب لحسن التأويل من عدة وجوه، وهي كما يلي:
1- ذُكِر في السياق أولا قول سيدنا يوسف عليه السلام للناجي، ثم ذُكر إنساء الشيطان بحرف(ف): (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، والفاء تدل على الترتيب، أي: إنساء الشيطان حدث بعد قول سيدنايوسف مقالته للناجي، فلاينصرف هذا الإنساء إلا إلى الناجي، ومن صرفه إلى سيدنا يوسف عليه السلام فقدذهل عن ترتيب الكلام.
2- من قال: إن سيدنايوسف نسي أن يشتكي إلى الله، أوجنح إلى الاعتصام بمخلوق، أو اتخذ من دون الله وكيلا، أو استعان بغير الله سبحانه، فقد قال قولا عظيما، فمثل هذه الأحكام لاتنطلق على أنبياء الله سبحانه وتعالى، وهي لاتُبنى على القيلات والقالات. والقارئ إذاقرأ سورة يوسف،لم ير فيها إلا صورة وضيئة جمييلة جذّابة للإيمان والإحسان، والتقوى والتوكل على الله،فقد كان عليه السلام إمام المحسنين، وكان قدوة للمتقين المتوكلين.
3- لم يكن الشوكاني مصيبافي كلامه، وفي استدلاله حينما قال: والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلاّ فيما يخبرون به عن الله سبحانه ، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« إنما أنا بشر مثلكم ، أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكروني »،فنسيان آية،أونسيان ركعة في الصلاة شيئ آخر،ونسيان النبي لربه أمرآخر،فبينهما من الفرق مابين المشرق والمغرب ! وإن نسي النبي شيئا، فلن ينسى ربه. والأنبياء معصومون عن نسيان ربهم حتما!
4- ثم ليس الأمر هنا أمر طروء النسيان على النبيّ، وإنما هوأمر تمكّن الشيطان من إنساء النبيّ، فهل يتمكن الشيطان من إنساء النبيّ ؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فماذا نفعل بقول الله سبحانه : إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ(سورةالحجر:42)
فهذا نص صريح في عدم تمكّن الشيطان من عبادالله الصالحين، فماظنك بأنبيائه ورسله السامقين الشامخين، الذين يكونون دائما في حماية الله وحراسته.
5- يوسف عليه السلام زُجّ به إلى السجن من غيرذنب، فلو أخذ بسبب من الأسباب ليثبت نزاهة جانبه، وطهارة ذيله، وأراد أن يُخرج نفسه من قفص الاتهام، فهل يتنافى ذلك مع التوكل على الله؟ وهل أُمِر المسلم أن يتخلى عن الأسباب دائما، ويقعد في بيته ينتظر قضاء الله فيه ؟
6- سيدنا يوسف عليه السلام لبث في السجن بضع سنين، ولم يكن ذلك اللبث عقوبة له، وإنماكان نتيجةً لنسيان الناجي حيث لم يذكر سيدنا يوسف عند ربه.
7- والإنساء نُسب في الآية إلى الشيطان، لأن الشر كله ينسب إليه، ومنه إنساء مافيه مصلحة الإسلام والمسلمين، مثل قوله تعالى في سورة الكهف: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
وهو لم يكن قادرا على الإنساء أبدا، لولم تكن مشيئة الله، فالله هو الذي أجّل خروجه من السجن لوقت أنسب وأشرف، حتى يخرج، إذا خرج من السجن، شامخا مكرّما مرفوع الرأس، ولايخرج منه بطلب منه كأحد من الناس، بل الملِك هو الذي يستدعيه، ويستقبله، ويعلن براءته ونزاهته، وينزله في قصرسلطانه ،ويقعده على سرير ملكه، ويبذل له من الحب والكرامة مالم يخطر على قلب أحد، ومالم يبذله لغيره!!
 
شكر الله للدكتورين الفاضلين وهذا كلام لشيخ الإسلام بن تيمة رحمه الله تعالى في الموضوع.

قال شيخ الإسلام بن تيمة رحمه الله:
{ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ }:
قِيلَ أُنْسِيَ يُوسُفُ ذِكْرَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } .
وَقِيلَ : بَلْ الشَّيْطَانُ أَنْسَى الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا ذِكْرَ رَبِّهِ وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ فَإِنَّهُ مُطَابِقٌ لِقَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } .
قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } وَالضَّمِيرُ يَعُودُ إلَى الْقَرِيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَنْسَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؛ بَلْ كَانَ ذَاكِرًا لِرَبِّهِ . وَقَدْ دَعَاهُمَا قَبْلَ تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ وَقَالَ لَهُمَا : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } .
وَقَالَ لَهُمَا قَبْلَ ذَلِكَ { لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } أَيْ فِي الرُّؤْيَا { إلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا } يَعْنِي التَّأْوِيلَ { ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ } فَبِذَا يَذْكُرُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا عَلَّمَهُ رَبُّهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ مِلَّةَ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ آبَائِهِ أَئِمَّةَ الْمُؤْمِنِينَ - الَّذِينَ جَعَلَهُمْ اللَّهُ أَئِمَّةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ - إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ؛ فَذَكَرَ رَبَّهُ ثُمَّ دَعَاهُمَا إلَى الْإِيمَانِ بِرَبِّهِ .
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا عَبَرَ الرُّؤْيَا فَقَالَ : { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } الْآيَةُ ثُمَّ لَمَّا قَضَى تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا : { وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } فَكَيْفَ يَكُونُ قَدْ أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ ؟
وَإِنَّمَا أَنْسَى الشَّيْطَانُ النَّاجِيَ ذِكْرَ رَبِّهِ أَيْ الذِّكْرَ الْمُضَافَ إلَى رَبِّهِ وَالْمَنْسُوبَ إلَيْهِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ عِنْدَهُ يُوسُفَ . وَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ الْقَوْلَ قَالُوا : كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَلَا يَقُولَ اُذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك . فَلَمَّا نَسِيَ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ جُوزِيَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ .
فَيُقَالُ : لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مَا يُنَاقِضُ التَّوَكُّلَ ؛ بَلْ قَدْ قَالَ يُوسُفُ : { إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ } كَمَا أَنَّ قَوْلَ أَبِيهِ : { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } لَمْ يُنَاقِضْ تَوَكُّلَهُ ؛ بَلْ قَالَ : { وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إنِ الْحُكْمُ إلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } .

و " أَيْضًا " فَيُوسُفُ قَدْ شَهِدَ اللَّهُ لَهُ أَنَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْمُخْلِصُ لَا يَكُونُ مُخْلِصًا مَعَ تَوَكُّلِهِ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ شِرْكٌ وَيُوسُفُ لَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا لَا فِي عِبَادَتِهِ وَلَا تَوَكُّلِهِ بَلْ قَدْ تَوَكَّلَ عَلَى رَبِّهِ فِي فِعْلِ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ : { وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } فَكَيْفَ لَا يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ فِي أَفْعَالِ عِبَادِهِ .

وَقَوْلُهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مِثْلُ قَوْلِهِ لِرَبِّهِ : { اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } فَلَمَّا سَأَلَ الْوِلَايَةَ لِلْمَصْلَحَةِ الدِّينِيَّةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَا هُوَ مِنْ سُؤَالِ الْإِمَارَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُهُ لِلْفَتَى : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } مُنَاقِضًا لِلتَّوَكُّلِ وَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مُجَرَّدُ إخْبَارِ الْمَلِكِ بِهِ ؛ لِيَعْلَمَ حَالَهُ لِيَتَبَيَّنَ الْحَقُّ وَيُوسُفُ كَانَ مَنْ أَثْبَتِ النَّاسِ . وَلِهَذَا بَعْدَ أَنْ طُلِبَ { وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ } قَالَ { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فَيُوسُفُ يَذْكُرُ رَبَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ . وَيَقُولُ : { ارْجِعْ إلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ } فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ لَهُ : { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } تَرْكٌ لِوَاجِبِ وَلَا فِعْلٌ لِمُحَرَّمِ حَتَّى يُعَاقِبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ بِلُبْثِهِ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ عَزَمُوا عَلَى حَبْسِهِ إلَى حِينِ قَبِلَ هَذَا ظُلْمًا لَهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِبَرَاءَتِهِ مِنْ الذَّنْبِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ } وَلُبْثُهُ فِي السَّجْنِ كَانَ كَرَامَةً مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّهِ ؛ لِيَتِمَّ بِذَلِكَ صَبْرُهُ وَتَقْوَاهُ فَإِنَّهُ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى نَالَ مَا نَالَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : { أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَلَوْ لَمْ يَصْبِرْ وَيَتَّقِ بَلْ أَطَاعَهُمْ فِيمَا طَلَبُوا مِنْهُ جَزَعًا مِنْ السَّجْنِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذَا الصَّبْرُ وَالتَّقْوَى وَفَاتَهُ الْأَفْضَلُ بِاتِّفَاقِ النَّاسِ .....

و " الْمَقْصُودُ " أَنَّ يُوسُفَ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَا يَذْكُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ذَنْبًا إلَّا ذَكَرَ اسْتِغْفَارَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ يُوسُفَ اسْتِغْفَارًا مِنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ . كَمَا لَمْ يَذْكُرْ عَنْهُ اسْتِغْفَارًا مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَاحِشَةِ ؛ فَعُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَنْبًا فِي هَذَا وَلَا هَذَا ؛ بَلْ هَمَّ هَمًّا تَرَكَهُ لِلَّهِ ؛ فَأُثِيبَ عَلَيْهِ حَسَنَةً كَمَا قَدْ بُسِطَ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ ......

فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ : { فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } أَيْ نُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ رَبِّهِ أَنْ يَذْكُرَ هَذَا لِرَبِّهِ وَنُسِّيَ ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَالْمَصْدَرُ يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ وَيُوسُفُ قَدْ ذَكَرَ رَبَّهُ وَنُسِّيَ الْفَتَى ذِكْرَ يُوسُفَ رَبَّهُ وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَذْكُرَ رَبَّهُ ؛ هَذَا الذِّكْرَ الْخَاصَّ ؛ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا فَقَدْ لَا يَخْطُرُ هَذَا الذِّكْرُ بِقَلْبِهِ وَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ تَذْكِيرَ رَبِّهِ وَإِذْكَارَ رَبِّهِ لَمَّا قَالَ : { اذْكُرْنِي } أَمَرَهُ بِإِذْكَارِ رَبِّهِ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ إذْكَارَ رَبِّهِ فَإِذْكَارُ رَبِّهِ أَنْ يَجْعَلَهُ ذَاكِرًا فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَجْعَلَ رَبَّهُ ذَاكِرًا لِيُوسُفَ وَالذِّكْرُ هُوَ مَصْدَرٌ وَهُوَ اسْمٌ فَقَدْ يُضَافُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْمًا ؛ فَيَعُمُّ هَذَا كُلَّهُ ؛ أَيْ أَنْسَاهُ الذِّكْرَ الْمُتَعَلِّقَ بِرَبِّهِ وَالْمُضَافَ إلَيْهِ . وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الَّذِي نَسِيَ رَبَّهُ هُوَ الْفَتَى لَا يُوسُفُ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ } وَقَوْلُهُ : { وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ نَسِيَ فَادَّكَرَ .
 
عودة
أعلى