نزار حمادي
New member
[FONT="]بسم الله الرحمن الرحيم[/FONT]
[FONT="]سورة المنافقون[/FONT]
سيمت هذه السورة [FONT="]«[/FONT]سورة المنافقون[FONT="]»[/FONT]لأنه ذكر فيها من كلماتهم ما جمعوا فيه بين الصدق والكذب، كما أنهم جمعوا بين الإيمان الظاهر والكفر الباطن، وذكر فيها من كلماتهم الشنيعة ما لم يذكر في غيرها.
والنفاق: إظهار الإيمان باللسان، وكتمان الكفر بالقلب. والمنافق: هو الذي يُضمِرُ الكفرَ اعتقادًا، ويُظهِر الإيمانَ قولًا.
يا أيها الرسول ﴿[FONT=QCF_P554]ﮐ ﮑ[/FONT]﴾ وحضر مجلسك ﴿[FONT=QCF_P554] ﮒ[/FONT]﴾ العريقون في وصف النفاق بإسلامٍ ظاهرٍ وكفرٍ باطنٍ ﴿[FONT=QCF_P554]ﮓ[/FONT]﴾ مخاطبين لك زاعمين كمال عنايتهم بك ترويجًا لنفاقهم: ﴿[FONT=QCF_P554] ﮔ ﮕ ﮖ ﮗﮘ [/FONT]﴾ المبعوث إلينا، مؤكدين كلامهم بـ «إنّ» و«اللام» الداخلة في خبرها ليوهموا أن شهادتهم هذه صادرة منهم عن اعتقاد راسخ بصدقك ورغبة وافرة في اتباعك.
ولما كانت الشهادة هي الإخبار عن علم اليقين لأنها من الشهود الذي هو كمال الحضور وتمام الاطلاع، والمنافقون أفهموا بقولهم ([FONT=QCF_P554]ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ[/FONT]) شهادةً واطأت فيها قلوبُهم ألسنتَهم، صدّق الله المشهودَ به وهو قولهم ([FONT=QCF_P554]ﮕ ﮖ ﮗ[/FONT]) لأنه خبرٌ مطابق للواقع، وكذبهم في شهادتهم ودعواهم مواطأة ألسنتهم قلوبهم، فقال عز وجل: ﴿[FONT=QCF_P554]ﮙ ﮚ[/FONT]﴾ وعِلمُه هو العلمُ في الحقيقة ﴿[FONT=QCF_P554] ﮛ ﮜ [/FONT]﴾ مؤكدًا بـ«إنّ» و[FONT="]«[/FONT]اللام[FONT="]»[/FONT] ردًّا لإنكار المنافقين رسالتَه ﷺ وإعلامًا بمزيد حقيتها، شَهِدَ المنافقون بذلك أمْ لا،﴿[FONT=QCF_P554]ﮝ[/FONT]﴾ المحيط بكل شيء علما﴿[FONT=QCF_P554] ﮞ [/FONT]﴾ بما يعلمه من حال المنافقين شهادةً هي الشهادة في الحقيقة لإحاطتها بدقائق الظاهر والباطن ﴿[FONT=QCF_P554]ﮟ ﮠ[/FONT]﴾ الراسخين في وصف النفاق﴿[FONT=QCF_P554]ﮡﮢ[/FONT]﴾ في إخبارهم عن أنفسهم بأنهم يشهدون بذلك من صميم القلب وخلوص الاعتقاد.
ولما دار معنى ما سبق على أنهم لم يعتقدوا حقية ما شهدوا به، والتفتت النفسُ إلى عِلْمِ السبب الحامل لهم على ذلك الكلام المؤكد والكذب السمج، علَّلُه عز وجل بأنهم ﴿[FONT=QCF_P554]ﮣ ﮤ [/FONT]﴾ الفاجرة ﴿[FONT=QCF_P554]ﮥ[/FONT]﴾ ووقايةً وصَوْنا من مؤاخذة النبي ﷺ وصحبه لهم بالقتل لرجالهم والسبي لعيالهم والأخذ لأموالهم وغير ذلك من المكاره الدنيوية، ﴿[FONT=QCF_P554]ﮦ ﮧ ﮨ ﮩﮪ [/FONT]﴾ وطريقه الذي شرعه لعباده ليصلوا به إلى محل رضوانه، فمنعوا من أراد من الناس الدخول في الإسلام بذِكْر مثالب فيه وتنقيصاتٍ له لينفروهم عنه، وصدوا أيضا من أراد الإنفاق لمالِه في سبيل الله ووجوهِ الخير الموصلة إلى نيل رضوانه عز وجل بالنهي عنه والتحذير من الصرف، كما سيخبر عنهم فيما بعد بقوله تعالى: ([FONT=QCF_P555]ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ [/FONT]).
ولما بلغ ما أخبر به الله عز وجل من حال المنافقين غاية الشناعة ونهاية الفضاعة، أنتج عنه ﴿[FONT=QCF_P554]ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ[/FONT] [FONT=QCF_P554]ﮯ ﮰ[/FONT]﴾ من الجرأة على رسول الله ﷺ وخُلَّص العباد بارتكاب النفاق والصدِّ عن سبيل الحق والإعراض عنه والاستمرار على النفاق وفاجر الأيمان.
ولما قضت المعاصي بطمس البصائر وإظلام السرائر، فكيف بأعظمها وهو النفاق، علله بقوله: ﴿[FONT=QCF_P554]ﮱ[/FONT]﴾ الأمر العظيم من البُعد عن الخير والتناهي في الشر﴿[FONT=QCF_P554]ﯓ[/FONT]﴾ أي بسبب أنهم﴿[FONT=QCF_P554]ﯔ[/FONT]﴾ في الظاهر الإيمان اللساني لا القلبي، فنطقوا لسانًا بكلمة الشهادة لله بالوحدانية ولنبيّه ﷺبالرسالة لتحصين دمائهم وأموالهم، ﴿[FONT=QCF_P554] ﯕ[/FONT]﴾ في نفس الوقت﴿ [FONT=QCF_P554]ﯖ[/FONT]﴾ في الباطن باعتقاد خلاف الحقّ، واستمروا عليه حتى تمرنوا على الكفر وصار معتادًا لهم وطبعًا من طباعهم، ﴿[FONT=QCF_P554]ﯗ ﯘ ﯙ[/FONT]﴾ بما احتوته من أكبر الكبائر نفاقًا﴿[FONT=QCF_P554]ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ[/FONT]﴾ حقيقة الإيمان ولا يعرفون صحته ولا يهتدون إلى إخلاصه.
ولما وصف الحق سبحانه بواطنهم بما زهّد فيهم، حذّر من الاغترار بأشكالهم التي تسر الناظر إليها، فقال عز وجل : ﴿[FONT=QCF_P554]ﯞﯟ ﯠ[/FONT]﴾ الرؤية البصرية ﴿[FONT=QCF_P554]ﯡ ﯢﯣ[/FONT]﴾ لاستواء خَلْقِها وحُسْن صورتها وطولِ قامتها، ﴿[FONT=QCF_P554]ﯤ ﯥ [/FONT] [FONT=QCF_P554]ﯦ ﯧﯨ [/FONT]﴾ لفصاحتهم وحلاوة كلامهم وعذوبة منطقهم.
وقد كان عبد الله بن أبيّ بن سلول الذي نزلت السورة بسببه وسيما منظرُه، فصيحا منطقه، جسيما هيكله، صبيحًا خده، منطلق اللسان، يحضر في بعض الأحيان مجلس رسول الله ﷺ مع الناس ويتصدر ويتكلم مفصحا عن كل ما يريده على عادته في ترويج نفاقه.
﴿[FONT=QCF_P554]ﯩ[/FONT]﴾ أي المنافقين في حسن ظواهرهم وسوء بواطنهم ﴿[FONT=QCF_P554]ﯪ[/FONT]﴾ جافة مقطوعة من منابتها، تبدو في ظاهرها صالحة للبناء أو غيره، لكنها في الحقيقة خالية عن كل نفع لفساد جوفها، ﴿[FONT=QCF_P554] ﯫﯬ [/FONT]﴾ إلى الجدران لعدم صلاحها لشيء من الأشياء، فشُبِّهوا بتلك الخشب بجامع صلاح الظاهر وفساد وخبث الباطن.
ولما كان من يقول ما لا يفعل يصير متهِمًا لكل من يكلِّمُه، فيُضمِرُ عداوة كل الناس، فيكسِبُه ذلك أشدّ الجبن، وهو السبب الأعظم في تحسين قوله، قال عز وجل مزهّدا فيهم بالكلية، مُعلِما بغاية جُبنهم وخوفهم وعدم إغناء تلك الجسوم الحسنة شيئا: ﴿[FONT=QCF_P554]ﯭ[/FONT]﴾ بضعف عقولهم وفرط ارتيابهم لكثرة ما يباشرون من سوء أعمالهم ﴿[FONT=QCF_P554] ﯮ ﯯ [/FONT]﴾ من نداء مناد ـ في العسكر لمصلحة أو إنشاد ضالة ـ واقعة ﴿[FONT=QCF_P554]ﯰﯱ [/FONT]﴾ نازلة بهم، فهم أبدًا في رعب شنيع وخوف فضيع من انكشاف أسرارهم ونزول أهتاكهم وأستارهم المبيحة لدمائهم وأموالهم، فقد كان المنافقون على وَجل عظيم وخوف شديد من أن ينزل الله على رسوله ﷺ في شأنهم قرآنا كريما يهتك أستارهم ويفضحها، ويكشف أسرارهم ويشرحها، ويبيح دماءهم وأموالهم، كما وقع في سورة التوبة من بيان شؤونهم وكشفها وإطلاع الرسول عليها، ومن ثم سُمِّيت بالفاضحة، فيحسبون كل صيحة يسمعونها في المسجد أو غيره أنها عليهم، وأنه ﷺ قد أمر بقتلهم، فهم أبدًا وجلون من أن ينزل الله فيهم أمرًا لا تبقى لهم معه دماء ولا أموال.
فبان سبب تزعزع بواطنهم واضطراب أحشائهم، وإدامة إضمارهم السوء مكرًا بالمؤمنين، ومن ثم زاد في التحذير منهم بأنهم ﴿[FONT=QCF_P554]ﯲ ﯳ [/FONT]﴾ الكاملون في العداوة للرسول ﷺ والمؤمنين، الراسخون بعراقتهم فيها ودوامهم عليها بطونا، وأخذهم في حيلها وتربص الدوائر والغوائل كمونا.
﴿[FONT=QCF_P554] ﯴﯵ[/FONT]﴾ جهدك، ولا تطمئن لهم لأنهم في شدة عدواتهم للإسلام وأهله وسعيهم فيها على قلب واحد، وإن أظهروا التردد في الكلام والتقرب إلى أهل الإسلام؛ لأن ألسنتهم معك وقلوبهم عليك مع أعدائك، فهم عيون لهم عليك.
ومن ثم دعا عليهم سبحانه وتعالى بقوله: ﴿[FONT=QCF_P554]ﯶ ﯷﯸ [/FONT]﴾ وطلب بكلامه الأزلي من ذاته العلية ونفسه القدسية أن يلعنهم بالطرد من رحمته والبُعد من كرامته، فلا يُقبِلون عليه، ولا يتوجَّهون إليه، فيستمرون في درك الخسران والحضيض الأسفل من الذلة والهوان.
واعلم أن حال المنافقين في غاية العجب في انصرافهم عن الحق والنور المبين إلى ما هم عليه من الكفر والضلالات بعد قيام البراهين والآيات البينات، ومن ثم دل عليه الحق عز وجل بقوله معجّبا: ﴿[FONT=QCF_P554]ﯹ ﯺﯻ [/FONT]﴾ أي: فليتعجب المتعجبون وليتأمل المتأملون كيف يصرفون بسوء اختيارهم كسبًا عن الدين الحق والهدى البحت المختار لكل عاقل إلى ما هم موَطِّنون أنفسهم عليه من الكفر بالله ورسوله والضلال الزائغين به عن سلوك سبيل الهدى والغي الحائدين بسببه عن المراد.
ولما كان ما عليه المنافقون أمرًا عظيما قاطعا عن الله تعالى ورسوله، فيحتاجون حاجة شديدةً إلى التطهير، لا يطهِّرهم غاية الطهر إلا سؤال النبي ﷺ ، وكانوا لم يفعلوا ذلك استكبارا، دلَّ عز وجل على سوء بواطنهم بقوله: ﴿[FONT=QCF_P555]ﭑ ﭒ ﭓ[/FONT]﴾ من أي قائل كان من المؤمنين بطريق النصيحة لهم[FONT="]:[/FONT] ﴿[FONT=QCF_P555] ﭔ [/FONT]﴾ رافعين أنفسكم عن أسفل الحضيض، مجتهدين في ذلك بالمجيء إلى أشرف الخلق ﴿[FONT=QCF_P555] ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ [/FONT]﴾ ويسأل من ربه الغفران لأجلكم بعد متابكم من هذا النفاق المصرين عليه والشقاق المتوجهين إليه ﴿[FONT=QCF_P555] ﭙ ﭚ[/FONT]﴾ وصرفوها إلى جهة أخرى إعراضًا واستكبارًا لشدة ما في بواطنهم من المرض، ﴿[FONT=QCF_P555]ﭛ ﭜ[/FONT]﴾ ويعرضون إعراضًا عن القائل لهم ذلك أنفةً أن ينحطوا إليه ويقبلوا نُصحَه، أو إعراضًا عن الاستغفار لهم من الرسول شماخة وتكبرًا، فلا يقبلون ما دُعوا إليه، مجددين لذلك كلما دعوا إليه ﴿[FONT=QCF_P555] ﭝ ﭞ ﭟ[/FONT]﴾ ومستنكفون عن ذلك القول أو الاستغفار.
ثم بين الله عدم تأهّل المنافقين للاستغفار لهم لعدم إيمانهم، فقال عز وجل لنبيه ﷺ: ﴿[FONT=QCF_P555]ﭠ ﭡ[/FONT] [FONT=QCF_P555]ﭢ ﭣ[/FONT]﴾ ذنوبهم بسؤال مَحْوِ عينها ومَحْقِ أثرها في الوقت الذي جاءوك فيه معتذرين إليك بإبداءِ العذر من جنايتهم الكفرية ظاهرًا وقلوبهم كافرة أبية ﴿[FONT=QCF_P555]ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ[/FONT]﴾ في الوقت الذي لم يأتوك فيه معتذرين، بل أصروا مقيمين على قبائحهم مرتبكين في فضائحهم معرضين عن سؤال الاستغفار منك أنفةً من الاعتذار إليك من جنايتهم، فهما سيان في حقهم لعدم جريهم على مقتضى الإيمان الحقيقي وعدم سيرهم على المنهج السويّ.
ومن ثمّ عوقبوا بأنهم ﴿[FONT=QCF_P555]ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ [/FONT]﴾ تلك الذنوب، ولن يمحص جناياتهم أبدًا؛ لإصرارهم على الفسق الشنيع البالغين فيه الغاية، ورسوخِهم في الكفر الفضيع لا ينفكون عنه ولا يبرحون منه، فلم يبق لغفران ذنوبهم سبب، فـ﴿[FONT=QCF_P555]ﭭ ﭮ[/FONT]﴾ العليم الحكيم ﴿[FONT=QCF_P555] ﭯ ﭰ ﭱ ﭲﭳ [/FONT]﴾ الخارجين عن الطاعة وعن دائرة الصلاح بنفرتهم عنها بالمرة وبُعدهم منها بالكلية، فهم منهمكون في الكفر والشقاق، مستغرقون في الغيِّ والنفاق، ففسقُهم فضيع لا كسائر الفسق، فسبب عنه قطعُ عنهم الإحسان، وحرمان العفو والغفران.
ولما دار فلك رسوخهم في هذا الوصف على غوائل شنيعة وقبائح فضيعة أوجبت عدم مغفرة الله لهم، بين الحق عز وجل بعضها بأنّ أولئك المنافقين ورؤساءهم ﴿[FONT=QCF_P555] ﭴ ﭵ ﭶ[/FONT]﴾ للأنصار بالألسنة نطقًا وبالقلوب عقدًا: ﴿[FONT=QCF_P555] ﭷ ﭸ [/FONT]﴾ أيها الأنصار ﴿[FONT=QCF_P555]ﭹ ﭺ[/FONT] [FONT=QCF_P555]ﭻ ﭼ ﭽ [/FONT]﴾ ويعنون فقراء المهاجرين من المكيين وغيرهم لأنهم المحتاجون لذلك، وبهم غصت حلوق المنافقين وشرقت صدورهم، وعليهم يدور فلك الغزو والسرايا غالبا لكثرتهم ﴿[FONT=QCF_P555]ﭾ ﭿﮀ [/FONT]﴾ ويتفرقوا عن رسول الله ﷺ ويرجعوا إلى قبائلهم وعشائرهم.
ولما شرح الله حال المنافقين الفاسد، وبين مقالهم الكاسد، رجّى كرام الصحب وقوّى يقينهم بردّهم إلى ما عنده من خزائن الأرزاق المفاضة على الآفاق من الصامت والناطق والكاذب والصادّ، وتمحيصًا للتوكل عليه، وتمحيضًا لكمال التوجه إليه، وتأييسا لهم مما في أيدي الناس، وإلهابًا إلى الرغبة فيما عنده بلا إلباس، فقال عز وجل ﴿[FONT=QCF_P555]ﮁ [/FONT]﴾ المتصرف في ملكه بالاختيار، القادر على الإقلال والإكثار، والتوسيع والإقتار ﴿[FONT=QCF_P555] ﮂ ﮃ[/FONT]﴾ كلها ﴿[FONT=QCF_P555]ﮄ[/FONT]﴾ كذلك، فلا تصرف لأحد معه في شيء منها ولا تدبير، ولا دخل ولا تقدير، له سبحانه الأمر كله، يعطي من يشاء ما يشاء منها، ويمنع ما يشاء منعه فلا يعطيه شيئا، ﴿[FONT=QCF_P555]ﮅ ﮆ ﮇ ﮈﮉ[/FONT]﴾ ولا يفهمون ذلك المذكور من تفرده تعالى بخزائن السموات والأرض صنعا وملكا وإفاضة وتصرُّفا وإعطاء قبضا وبسطا، وذلك لجهلهم بالله وعدم معرفتهم بشؤونه الكاملة الجليلة، وانقطاعهم إلى الأسباب معرضين عن المسبِّب، معتقدين أن من انقطع سببُه فقد انقطع رِزقُه، بل ربما اعتقدوا أن أسبابهم هي الرازقة، وهذا هو الضلال نعوذ بالله منه.
وبسبب هذا الجهل بشؤونه تعالى يقول المنافقون فيما بينهم ما يقولون من مقالات الكفر المارة وغيرها، ويرتكبون ما يرتكبون من عظائمه، فإن من نسب الله تعالى للعجز وعطل قدرته عن التصرف وأضاف الحقائق إلى غيره خلقا واختراعا فقد ضل ضلالا مبينا، ولو عرفوه ما تجرؤوا على ذلك ولا ارتكبوا تلك المهالك ولا سلكوا من الوقاحة أفضع المسالك.
وهو جهل لم يعذروا به لظهور بطلانه لكل عاقل، ووضوح دلائل ضدّه وتظافرها، فالإقامة فيه سفهٌ وعمًى، ورضى بالدون والسفساف.
وفيه دليل على أن من تسوَّر على الله ورسوله وأهان دينه الحق واعتقد ما لا يليق به تعالى مما قام البرهان العقلي على خلافه ضالٌّ خاسِر، نعوذ بالله من المحن، ونستكفيه غوائل الفتن.
ثم شرع تعالى في بيان جناية أخرى من جنايات المنافقين الدالة على جهلهم به فقال عز وجل : ﴿[FONT=QCF_P555]ﮊ[/FONT]﴾ أي [FONT="]«[/FONT]ابن أبيّ[FONT="]»[/FONT] وأتباعه ﴿[FONT=QCF_P555] ﮋ ﮌ[/FONT]﴾ من غزونا هذا وهي غزوة بني المصطلق ﴿ [FONT=QCF_P555]ﮍ ﮎ[/FONT]﴾ وأقمنا بها مطمئنين ﴿[FONT=QCF_P555] ﮏ ﮐ[/FONT]﴾ ويعنون أنفسهم الخبيثة﴿[FONT=QCF_P555] ﮑ ﮒﮓ [/FONT]﴾ يعنون المؤمنين، فردّ الله عليهم ذلك القول وأبطله بقوله: ﴿[FONT=QCF_P555]ﮔ[/FONT]﴾ المنفرد بعز الألوهية والقوة التامة والقدرة على التصرفات العامة ﴿[FONT=QCF_P555] ﮕ[/FONT]﴾ كلها، ﴿[FONT=QCF_P555]ﮖ[/FONT]﴾ العزة المفاضة عليه من الله عز وجل بالنبوة والرسالة وإظهار دينه على كل دين، ﴿[FONT=QCF_P555]ﮗ[/FONT]﴾ بالتأييد والتمكين، لا لغيرهم من المنافقين كما زعموه مخذولين، واعتقدوه بالظواهر مغترين، وقد فعل سبحانه ذلك الإعزاز بإعلاء ذكر نبيه المختار، ونصر حزبه الأبرار، وإنزال المنافقين دركات الخسران، فلم تلح لهم بارقة، ولا سلمت لهم سابقة ولا لاحقة.
﴿[FONT=QCF_P555] ﮘ ﮙ[/FONT]﴾ المستحكم فيهم مرض القلوب ﴿[FONT=QCF_P555] ﮚ ﮛ ﮜ[/FONT]﴾[FONT="]([1])[/FONT] لفرط جهلهم المانع لهم من إدراك الحقائق وشدة غرورهم بالفانيات، فإنهم لا يعرفون العز إلا بالصورة والهيئة والأسباب الزائلة من مال وحشم وخدم، كما أنهم لا يفقهون الخزائن إلا ما قفلوا عليها أبوابهم.
ولما كان سبب ما عليه المنافقون هو الاعتزاز بالأولاد والأموال، والإعراض عن معرفة ذي الجلال، نهى الله عز وجل المؤمنين عن الأمور المؤدية للجهل به، وفي ذلك الأمر بتحصيل ما يؤدي إلى معرفته والدوام على ذكره، فقال عز وجل : ﴿[FONT=QCF_P555] ﮝ ﮞ ﮟ [/FONT]﴾ مصدِّقين ومذعِنين بظواهرهم وبواطنهم بما جاء به النبي ﷺ ﴿[FONT=QCF_P555] ﮠ ﮡ[/FONT] [FONT=QCF_P555]ﮢ [/FONT]﴾ بالتكالب في تحصيلها، والتهالك في طلب النماء فيما زاد على الحاجة منها ﴿[FONT=QCF_P555]ﮣ[/FONT][FONT="]﴾ تشغلكم ﴿[/FONT][FONT=QCF_P555] ﮤ [/FONT]﴾ بالشغف بحبهم والسرور بهم ﴿[FONT=QCF_P555] ﮥ[/FONT]﴾ الاشتغال بـ﴿[FONT=QCF_P555]ﮦ ﮧﮨ [/FONT]﴾ بإقامة فرائضه من توحيده عز وجل وأداء الصلاة المكتوبة وسائر العبادات المفروضة كالحج والزكاة والصوم وغير ذلك، فلا يعوقنكم الأول عن الثاني لأنه المقصود أولا وبالذات، والآخر ثانيا وبالعرَض؛ ([FONT=QCF_P523]ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ[/FONT])([2])
﴿[FONT=QCF_P555]ﮩ ﮪ ﮫ[/FONT]﴾ التلهي بالدنيا المالية والولدية عن إقامة الدين، دون توبةٍ ﴿[FONT=QCF_P555]ﮬ [/FONT]﴾ البُعداء عن الخير ﴿[FONT=QCF_P555]ﮭ ﮮ ﮯ[/FONT]﴾ لأنهم باعوا العظيم الباقي في روضات الجنات بالحقير الفاني من ثمرات الأموال والأولاد التي في الغالب أكدار وأنكاد.
ولما حذر عز وجل من الإقبال على الدنيا والانقطاع إليها، رغّب في بَذْلِها مخالفةً للمنافقين، فقال عز وجل : ﴿[FONT=QCF_P555] ﮰ [/FONT]﴾ أيها المؤمنون ببذل ما أمرتم به من نفقة واجبة أو مندوبة ﴿[FONT=QCF_P555]ﮱ ﯓ ﯔ[/FONT]﴾ واصرفوا في وجوه الخير بعض ما أعطيناكم من رزقنا المفاض عليكم، وابذلوه في مرضاتنا ادخارًا للآخرة عندنا، تقدّمونه بين أيديكم فتجدون ثوابه عظيما، فذلك الربح الحقيقي، لا ما استبقيتموه بغير وجه شرعي، فإنه يؤول إلى خسران فادح.
ولما تطارد الجديدان[FONT="]([3])[/FONT]، وتعاقبت الأزمان بنوائب الحدَثان، ولم يقطع عاقل لنفسه ببقائها ولو لحظة ما لإمكان موته في كل نفَسٍ من أنفاسه، نفّر الحق سبحانه عن التقاعد بالإنفاق، وحذّر من التكاسل عن اللحاق بالرفاق، فقال عز وجل : ﴿[FONT=QCF_P555] ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ [/FONT]﴾ بأن يشاهد دلائله الدالة عليه ويعاين أماراته وعلاماته المؤذنة بحلوله كالمرض الشديد وسكراته الموت الشديدة وغمراته المفرطة المقتضية للإقبال على الله تعالى، فيضطر المحتظر إلى الرغبة إليه تعالى ﴿[FONT=QCF_P555] ﯛ [/FONT]﴾ سائلا الإمهال عند تيقنه بشدة قرب نزول الموت به: ﴿[FONT=QCF_P555]ﯜ ﯝ ﯞ[/FONT]﴾ وأنظرتني بتأخير موتي ﴿[FONT=QCF_P555] ﯟ ﯠ ﯡ[/FONT]﴾ ولو أقل قليل يسعني فيه تلافي ما فرّطت في تقديمه من عمل الخير وإنفاق المال في مرضاتك، ﴿[FONT=QCF_P555]ﯢ [/FONT]﴾ بالأموال الكثيرة ﴿[FONT=QCF_P555]ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ[/FONT]﴾
ولما بين تعالى حال المحتظر المضيّع، وحذّر من التفريط في العمر المتسع، زاد في الحث على المبادرة بالطاعات، فقال عز وجل ﴿[FONT=QCF_P555]ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ [/FONT]﴾ من النفوس ﴿[FONT=QCF_P555] ﯫ ﯬ ﯭﯮ [/FONT]﴾ وتحقق أنه آخر عمرها الذي لا تتجاوزه بدقيقة، ﴿[FONT=QCF_P555]ﯯ ﯰ [/FONT][FONT="]﴾ بدقائق الأمور، عالم ﴿[/FONT][FONT=QCF_P555] ﯱ ﯲ ﯳ [/FONT]﴾ في جميع أوقاتكم من باطن أمركم وظاهره.
وإذا أحاط عز وجل علما بذلك كله، ولا يخفى عليه من عملكم شيء، فيجازيكم عليه ثوابا وعقابا كيف ما صدر منكم، إن كان عملكم خيرًا من الطاعات والصدقات فجزاؤكم خيرٌ ولا تظلمون فتيلا، وإن كان عملكم شرا من كفر ونفاق وعصيان وشقاق فجزاؤكم شرٌّ طبق ما عملتم، جزاء وفاقًا، فسارعُوا في الخيرات وما فيه نيل المرضاة، وجدّوا في امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، واستعدوا في يسير هذه اللحظات، وتهيئوا لما هو آت من الأهوال المتصادمة بعد الوفاة، واستعينوا عليها بالأعمال الصالحات والتزود في العمر القليل للسفر الطويل بتقوى الملك الجليل، فإن خير الزاد التقوى، وشره الارتباك في العصيان والشقوى.
[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][1][/FONT][/FONT][FONT="]) [/FONT]فائدة: الحكمة في فصل الآية الأولى بالفقه، والثانية بالعلم، إعلامه تعالى بالأولى بقلة كياسة المنافقين وفهمهم، وبالثانية بفرط حماقتهم وجهلهم لعدم خفاء دلائل عزته تعالى على أحد؛ لِمَا تحقق من قهره للملوك بالموت الذي لم يقدر أحد على الخلاص منه، ومن المنع من أكثر المرادات، ومن نصر الرسل وأتباعهم بإهلاك أعدائهم بأنواع الهلاك، وبأنه تعالى ما قال شيئا إلا تمّ، وما قال رسوله شيئا إلا صدقه فيه. اهـ
جمعه الفقير إلى ربه الهادي: نزار بن علي حمادي
([FONT="][2][/FONT]) الذاريات: ٥٦.
[FONT="]([/FONT][FONT="][FONT="][3][/FONT][/FONT][FONT="]) وهما الليل والنهار.[/FONT]