تفسير سورة العصر من شرح الأصول الثلاثة (1)

عمرو كامل

New member
إنضم
21/07/2012
المشاركات
27
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
القاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .


قال الشيخ عبد الله الفوزان:
استدل المصنف رحمه الله على هذه المسائل الأربع بسورة عظيمة لا تزيد على ثلاث آيات وهي سورة العصر. فالمسألة الأولى والثانية في قوله – سبحانه-: ( wخ)tûïد%©!$#(#qمZtB#uن(#qè=دJtمurدM»ysخ=»¢ء9$#) فإن الإيمان لا يكون صحيحاً، والعمل لا يكون صالحاً إلا بالعلم بأن يعبد الله على بصيرة. والمسألة الثالثة في قوله : ( (#ِq|¹#uqs?urبd,ysّ9$$خ/.) والرابعــة في قوله : ((#ِq|¹#uqs?urخŽِ9¢ء9$$خ/ ) .
قال ابن كثير –رحمه الله- :
((العصر : الزمان الذي يقع فيه حركات بني آدم ، من خير وشر .
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: هو العشي ، والمشهور الأول .
فأقسم تعالى بذلك على أن الإنسان لفي خسر ، أي : في خسارة وهلاك ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم ( وتواصوا بالحق) وهو أداء الطاعات ، وترك المحرمات ( وتواصوا بالصبر) على المصائب والأقدار ، وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر . آخر تفسير سورة " العصر " ولله الحمد والمنة)) .اهـ

قال الشيخ السعدي –رحمه الله- في (تيسير الكريم الرحمن) :
((والخسار مراتب متعددة متفاوتة: قد يكون خسارًا مطلقًا كحال من خسر الدنيا والآخرة وفاته النعيم واستحق الجحيم , وقد يكون خسارًا من بعض الوجوه دون بعض , ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان ؛ إلا من اتصف بأربع صفات:
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به , ولا يكون الإيمان بدون العلم , فهو فرع عنه لا يتم إلا به.
والعمل الصالح , وهذا شامل لأفعال الخير كلها الظاهرة والباطنة المتعلقة بحقوق الله , وحقوق عباده , الواجبة والمستحبة .
والتواصي بالحق الذي هو الإيمان , والعمل الصالح , أي يوصي بعضهم بعضًا بذلك ويحثه عليه ويرغبه فيه .
والتواصي بالصبر على طاعة الله , وعن معصية الله , وعلى أقدار الله المؤلمة .
فبالأمرين الأولين يُكمِّل العبد نفسه , وبالأمرين الأخرين يُكمِّل العبد غيره , وبتكميل الأمور الأربعة يكون العبد قد سلم من الخسار , وفاز بالربح العظيم .)) اهـ


قوله تعالى: ﴿ وَالْعَصْـرِ :
قال الشيخ ابن باز :
(وقد أقسم الله على هذا بقوله : { وَالْعَصْرِ } وهو الصادق سبحانه وتعالى وإن لم يقسم ، ولكن أقسم لتأكيد المقام . والله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من خلقه ، فلا أحد يتحجر عليه ، فأقسم بالسماء ذات البروج ، وأقسم بالسماء والطارق ، وبالضحى وبالشمس وضحاها ، وبالليل إذا يغشى ، وبالنازعات ، وغير ذلك ؛ لأن المخلوقات تدل على عظمته ، وعلى أنه سبحانه هو المستحق للعبادة ولبيان عظم شأن هذه المخلوقات التي تدل على وحدانيته وأنه المستحق للعبادة وحده .
وأما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بربه ، فلا يقسم ولا يحلف إلا بالله ، ولا يجوز له أن يحلف بالأنبياء ، ولا بالأصنام ، ولا بالصالحين ، ولا بالأمانة ، ولا بالكعبة ، ولا بغيرها . هذا هو الواجب على المسلم ؛ لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" من حلف بشيء دون الله فقد أشرك " أخرجه أحمد وصححه الألباني.
وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ". فالواجب على كل مسلم ومسلمة الحذر من الحلف بغير الله وأن تكون أيمانهم كلها بالله وحده سبحانه وتعالى) .اهـ
قال الشيخ الحازمي:
قوله تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ الواو هذه واو القسم ، هنا أقسم الرب جل وعلا ، فالمقسِم هو الرب سبحانه ، ﴿ وَالْعَصْرِ مقسَم به , وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ هذا جواب القسم ، لأن القسم لا بد له من جواب ، وهو المقسَم عليه ، أقسم الرب جل وعلا بالعصر وهو المُقسِم ، والمقسَم به العصر ، والمقسَم عليه هو خسارة الإنسان.
ما المراد بالعصر ؟
قال الشنقيطي في (أضواء البيان) :
العصر : اسم للزمن كله أو جزء منه,ولذا اختلف في المراد منه ، حيث لم يبين هنا .
فقيل : هو الدهر كله ، أقسم الله به لما فيه من العجائب ، أمة تذهب وأمة تأتي ، وقدر ينفذ ، وآية تظهر، وهو هو لا يتغير ، ليل يعقبه نهار ، ونهار يطرده ليل ، فهو في نفسه عجب .

واستدل لهذا القول بما جاء موقوفا على عليرضي الله عنه ، ومرفوعا من قراءة شـاذة : " والعصر ونوائب الدهر " . وحمل على التفسير إن لم يصح قرآنا ، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.
وقيل العصر : الليل والنهار .
والعصران أيضا : الغداةُ والعشيُّ .
وقيل : إنه العَشيُّ وهو ما بعد زوال الشمس إلى غروبها ، وهو قول الحسن وقتادة .
وعن قتادةأيضا : هو آخر ساعة من ساعات النهار ، لتعظيم اليمين فيه ، وللقسم بالفجر والضحى .
وقيل : هو صلاة العصر لكونها الوسطى .
وقيل : عصر النبي صلى الله عليه وسلم أو زمن أمته ; لأنه يشبه عصر عمر الدنيا .
والذي يظهر والله تعالى أعلم : أن أقرب هذه الأقوال كلها قولان : إما العموم بمعنى الدهر للقراءة الشاذة ، إذ أقل درجاتها التفسير ، ولأنه يشمل بعمومه بقية الأقوال .
وإما عصر الإنسان أي عمره ومدة حياته الذي هو محل الكسب والخسران لإشعار السياق ، ولأنه يخص العبد في نفسه موعظة وانتفاعا .
ويرجح هذا المعنى ما يكتنف هذه السورة من سور التكاثر قبلها ، والهمزة بعدها ، إذ الأولى تذم هذا التلهي والتكاثر بالمال والولد ، حتى زيارة المقابر بالموت ، ومحل ذلك هو حياة الإنسان .
وسورة الهمزة في نفس المعنى تقريبا ، في " الذي جمع مالا وعدده،يحسب أن ماله أخلده"
فجمع المال وتعداده في حياة الإنسان ، وحياته محدودة ، وليس مخلدا في الدنيا ، كما أن الإيمان وعمل الصالحات مرتبط بحياة الإنسان .
وعليه ، فإما أن يكون المراد بالعصر في هذه السورة العموم لشموله الجميع وللقراءة الشاذة ، وهذا أقواها .
وإما حياة الإنسان ، لأنه ألزم له في عمله ، وتكون كل الإطلاقات الأخرى من إطلاق الكل ، وإرادة البعض ، والله تعالى أعلم .اهـ


قال الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره :
( والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن ربنا أقسم بالعصر ، والعصر اسم للدهر ، وهو العشي والليل والنهار ، ولم يَخْصُص مما شمله هذا الاسم معنىً دون معنى ، فكل ما لزمه هذا الاسم فداخل فيما أقسم به جل ثناؤه ) .
قال الشيخ مساعد الطيار في (تفسير جزء عمَّ) :
(ومن هنا فإن سبب الاختلاف هو الاشتراك اللغوي في لفظ العصر , فهو يطلق على عدة معان , وبهذا يرجع الخلاف إلى أكثر من معنى , وكل هذه الأقوال محتمل كما قال الطـبري , غير أن القول بأنه ((الدهر)) يظهر في شموله للأوقات كلها , والله أعلم) .اهـ
 
لماذا أقسم الله بالعصر ؟
قال الرازي :
((والسبب فيه وجوه:
أحدها: أنه أقسم تعالى بالعصر كما أقسم بالضحى لما فيهما جميعًا من دلائل القدرة , فإن كل بُكرة كأنها القيامة , يخرجون من القبور , وتصير الأموات أحياء , وتقام الموازين , وكل عشية تشبه تخريب الدنيا بالصعق والموت , وكل واحد من هاتين الحالتين شاهد عدل , ثم إذا لم يحكم الحاكم عقيب الشاهدين عُدَّ خاسرًا , فكذا الإنسان الغافل عنهما في خسر .
وثانيهما: قال الحسن -رحمه الله- إنما أقسم بهذا الوقت تنبيهًا على أن الأسواق قد دنا وقت انقطاعها , وانتهاء التجارة والكسب فيها , فإذا لم تكتسب , ودخلت الدار وطاف العيال عليك يسألك كل أحد ما هو حقه , فحينئذ تخجل فتكون من الخاسرين , فكذا نقول: والعصر , أي عصر الدنيا قد دنت القيامة , وأنت بعد لم تستعد , وتعلم انك تُسأل غدًا عن النعيم الذي كنت فيه في دنياك , وتُسأل في معاملتك مع الخلق , وكل أحد من المظلومين يدعي ما عليك , فإذا أنت خاسر , ونظيره: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ .
وثالثهما: أن هذا الوقت معظم , والدليل عليه قوله عليه السلام : (من حلف بعد العصر كاذبًا لا يكلمه الله ولا ينظر إليه يوم القيامة) , فكما أقسم في حق الرابح بالضحى , فكذا أقسم في حق الخاسر بالعصر ؛ وذلك لأنه أقسم بالضحى في حق الرابح وبشر الرسول أن أمره إلى الإقبال , وههنا في حق الخاسر توعده أن أمره إلى الإدبار , ثم كأنه يقول بعض النهار باقٍ , فيحثه على التدارك في البقية بالتوبة , وعن بعض السلف: تعلمت معنى السورة في بائع الثلج , كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله , ارحموا من يذوب رأس ماله , فقلت: هذا معنى ﴿ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ ﴾ يمر به العصر فيمضي عمره ولا يكتسب , فإذا هو خاسر .
أما عن وجه القسم عند من قال: إن المراد صلاة العصر , فلكونها أفضل الصلوات ؛ إذ هي الصلاة الوسطى , وقد قال فيها النبي (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وُتِرَ أهله وماله) .متفق عليه , وقال عليه الصلاة والسلام: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ) .رواه البخاري , إلى غير ذلك مما ورد فيها من فضائل , والله تعالى أعلم)).اهـ
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ .
قال الشيخ صالح آل الشيخ :
((فجواب القسم هو (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، وأكد ذلك، بـ(إنَّ) وباللام في قوله (لَفِي خُسْرٍ)، ومن المتقرر في علم المعاني من علوم البلاغة, أن (إنّ واللام من أنواع المؤكدات), اجتمع هاهنا أنواع من المؤكدات:
أولا القسم .
الثاني مجيء إنّ .
الثالث مجيء اللام التي تسمى المزحلقة , مجيء اللام في خبر إنّ، قال جل وعلا ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ .
وأهل العلم يقولون -يعني أهل العلم بالمعاني- يقولون "إن مجيء المؤكدات يصلح إذا كان المخاطَبُ منكِرا لما اشتمل عليه الكلام".
فمثلا تقول لمن لم يكن عنده الخبر، فلان قادم، لا يصلح أن تقول "إنّ فلانا لقادم" وذاك لم ينكر الكلام، ويريد أن يستقبل الخبر [هذا من يسمى بخالي الذهن]، تقول "فلان قادم"، فأخبرته بقدوم فلان، لكن إن كان منكرا له، أو مُنزَّلُ منزلةَ المنكر له، فإنه تؤكد الكلام له، لكي يزيد انتباهه، ويعظم إقراره لما اشتمل عليه.
المشركون لأجل ما هم فيه من شرك، وما عاندوا فيه الرسالة، حالهم , بل ومقالهم أنهم هم أصحاب النجاة ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾ ، فهم ينكرون أنهم سيكونون في خسارة، و ينكرون -طائفة أخرى منهم- أن يكون الإنسان سيرجع إلى خسارة ، وأنه لن ينجوا إلا أهل الإيمان ، فأكد الله جل وعلا ذلك لأجل إنكارهم بالمقال والفعل وبالحال)) .اهـ
 
قوله تعالى: ﴿ الْإِنسَانَ ﴾ .
كلمة إنسان في كلام العرب يرجع إلى معنى الظهور، عكس الجن. ثم إنهم ذكروا للإنسان معنى آخر هو: النسيان. فقد أورد ابن منظور عن ابن عباس قوله: "إنما سمي الإنسان إنسانا؛ لأنه عُهد إليه فنسي"، إذ يقول الله تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما". وبهذا قال الكوفيون: إنه مشتق من النسيان.لذا فإن معنى الإنسان في كلام العرب يعني الظهور، والنسيان.
قال الحازمي: قيل هو مشتق من النَّوس: وهو الحركة .
أما في الآية , ففي تفسيره أقوال :
قيل المراد بالإنسان : (الكافر) , وهذا القول حُكي عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه : أن المراد بالإنسان الكافر.
وقيل (جماعة من الكفار : وهم الوليد بن المغيرة ، ، والعاص بن وائل ، ، والأسود بن عبد المطلب بن أسد) .
وقيل أن المراد (جنس الإنسان) وهو قول الجمهور , أي كل الناس لفي خسر , قال العمريطي في ((نظم الورقات)) في (العام) :
الفَرْدُ وَالجَمْعُ المُعَرَّفَانِ
بِاللامِ كَالكَافِرِ والإِنْسَانِ
وهذا الأخير هو الأصح , والأولى حمل اللفظة عليه ؛ فـ(أل) هذه تفيد الاستغراق والشمول , بدليل صحة وقوع لفظة (كل) محلها , ولصحة الاستثناء منها .
وصحة الاستثناء تدل على أن اللفظ عام , كما يقول أهل الأصول: (الاستثناء معيار العموم) .
فعلى هذا (الإنسان) في الآية يشمل المؤمن والكافر ؛ بل لا يقتصر على الإنس فقط إذ يشمل الجن أيضًا ؛ لأنهم من أمم التكليف مع الإنس , قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) .
قال الشنقيطي: ((قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر) ، نص على الإنسان على ما تقدم وقد جاءت آية أخرى تدل على أن الجن كالإنس في قوله تعالى: (أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين) وتقد بيان تكليف الجن بالدعوة واستجابتهم لها , والدعوة إليها)) .اهـ


قوله تعالى: ﴿ لَفِي خُسْرٍ ﴾ .
قال الطبري: (إن ابن آدم لفي هلكة ونقصان) , قال الأخفش : في خسر في هلكة , وقال الفراء : عقوبة , وقال ابن زيد : لفي شر , وقيل : الغبن , وكلها معان متقاربة , ولا تضارب بينها .
قال الشنقيطي في (أضواء البيان) :
((وأصل الخسر والخسران كالكفر والكفران ، النقص من رأس المال ، ولم يبين هنا نوع الخسران في أي شيء ، بل أطلق ليعم ، وجاء بحرف الظرفية ، ليشعر أن الإنسان مستغرق في الخسران ، وهو محيط به من كل جهة)) . اهـ
قال ابن الجوزي: ((والإنسان إذا لم يستعمل نفسه وعمره فيما يُوجب له الربح الدائم , فهو في خسران ؛ لأنه عمل في إهلاك نفسه وعمره , وهما أكبر رأس ماله)) .اهـ
قال الشنقيطي :
((فعليه يكون الخسران في الدين من حيث الإيمان بسبب الكفر ، وفي الإسلام وهو ترك العمل ، وإن كان يشمله الإيمان في الاصطلاح والتلهي في الباطل وترك الحق ، وفي الهلع والفزع . ومن ثم ترك الأمر والنهي بما فيه مصلحة العبد وفلاحه وصلاح دينه ودنياه، وكل ذلك جاء في القرآن ما يدل عليه نجمله في الآتي :
أما الخسران بالكفر . فكما في قوله تعالى:( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) .
وقوله: ( قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله ) ، أي : لأنهم لم يعملوا لهذا اللقاء ، وقصروا أمرهم في الحياة الدنيا فضيعوا أنفسهم ، وحظهم في الآخرة .
وأما الخسران بترك العمل ، فكما في قوله تعالى: ( ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم) ، لأن الموازين هي معايير الأعمال كما تقدم: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) .
ومثله: ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا) ، لأنه سيكون من حزب الشيطان ( ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون) ، أي بطاعتهم إياه في معصية الله .
وأما الخسران بترك التواصي بالحق فليس بعد الحق إلا الضلال ، والحق هو الإسلام بكامله ، وقد قال تعالى: ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) .
وأما الخسران بترك التواصي بالصبر والوقوع في الهلع والفزع ، فكما قال تعالى: ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين) .

تحقيق المناط في حقيقة خسران الإنسان :
اتفقوا على أن رأس مال الإنسان في حياته هو عمره ; كلف بإعماله في فترة وجوده في الدنيا ، فهي له كالسوق . فإن أعمله في خير ربح ، وإن أعمله في شر خسر . ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) الآية
وقوله: ( هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله) الآية , وفي الحديث عند مسلم : " الطهور شطر الإيمان " .
وفي آخره " كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " مما يؤكد أن رأس مال الإنسان عمره .
ولأهمية هذا العمر جاء قسيم الرسالة والنذارة في قوله: ( أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير) .
وعلى هذا قالوا : إن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى .
وهدى كل إنسان النجدين ، وجعل لكل إنسان منزلة في الجنة ومنزلة في النار .
فمن آمن وعمل صالحا كان مآله إلى منزلة الجنة ، وسلم من منزلة النار ، ومن كفر كان مآله إلى منزلة النار ، وترك منزلته في الجنة .
كما جاء في حديث القبر : " أول ما يدخل في قبره إن كان مؤمنا يفتح له باب إلى النار ، ويقال له : ذاك مقعدك من النار لو لم تؤمن ثم يقفل عنه ، ويفتح له باب إلى الجنة ويقال له : هذا منزلك يوم تقوم الساعة ، فيقول : رب ، أقم الساعة " .
وإن كان كافرا كان على العكس تماما ، فإذا دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيأخذ كل منزلته فيها ، وتبقى منازل أهل النار في الجنة خالية فيتوارثها أهل الجنة ، وتبقى منازل أهل الجنة في النار خالية ، فتوزع على أهل النار ، وهنا يظهر الخسران المبين ; لأن من ترك منزلة في الجنة وذهب إلى منزلة في النار ، فهو بلا شك خاسر ، وإذا ترك منزلته في الجنة لغيره وأخذ هو بدلا عنها منزلة غيره في النار ، كان هو الخسران المبين ، عياذا بالله .
أما في غير الكافر وفي عموم المسلمين ، فإن الخسران في التفريط بحيث لو دخل الجنة ولم ينل أعلى الدرجات يحس بالخسران في الوقت الذي فرط فيه ، ولم ينافس فعل الخير ، لينال أعلى الدرجات .
فهذه السورة فعلا دافع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح ، ودرجات الجنة رفيعة ، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد ، فإن أمامه مجال للكسب والربح ، نسأل الله التوفيق والفلاح .
وقد قالوا : لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزينا ، فإن كان مسيئا فعلى إساءته ، وإن كان محسنا فلتقصيره ، وقد يشهد لهذا المعنى قوله تعالى: ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) , فالخوف من المستقبل أمامهم ، والحزن على الماضي خلفهم ، والله تعالى أعلم .))
 
عودة
أعلى