تفسير سورة البقرة - القسم الأول (1-39)

أمين صنوبر

New member
إنضم
30/07/2024
المشاركات
16
مستوى التفاعل
1
النقاط
3
تفسير سورة البقرة

تقديم:


هي أول ما نزل في المدينة، وهي أعلى ما في القرآن شرفاً وشأناً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لكل شيء سنام، وإن سنام القرآن سورة البقرة" فالسنام في اللغة هو أعلى ظهر البعير وأعلى كل شيء، وسورة البقرة أعلى ما في القرآن للوجوه التالية:

الأول: أنها أطول سور القرآن ففيها من اللطائف والدقائق والعلوم ما ليس في غيرها.

الثاني: أنها تشتمل على أعظم وأشرف آيات الكتاب المجيد: آية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة.

الثالث: أنها أكثر السور تضمناً للأحكام والشرائع التي بها قوام هذا الدين، ففيها أحكام الصلاة، والصيام، والحج، والجهاد، والإنفاق، والطلاق، والربا، والدَّيْن، وغير ذلك.

ومما يؤكد أهمية هذه السورة العظيمة: ما ثبت لها من الفضائل والخصائص، ففي حديث مسلم عن أبي أمامة الباهلي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ولا تستطيعها البَطَلَة". فأخذها بركة لأنها تشفع لصاحبها يوم القيامة، ولأن قارئ القرآن يُؤجَر على كل حرف يقرأ، وهذه السورة هي أطول السور من حيث عدد الآيات والكلمات ففي قراءتها من الأجر والثواب ما ليس في قراءة غيرها. وتركها حسرة لأن من تركها فاته هذا الخير العظيم، وحصلت له الحسرة والندامة على ما فوَّت يوم القيامة. والبَطَلَة هم أهل البطالة أي الكسالى الذين لا يستطيعون تلاوتها لطولها، وقيل: السحرة، بمعنى أنهم لا يُوَفَّقون إلى تلاوتها لانهماكهم في باطلهم، أو لا يستطيعون إيصال سحرهم إلى من تحصِّن بها.

وأما تسميتها بالبقرة فلأن المغزى من قصة البقرة التي ترد فيها: تعليم المؤمنين أن يقولوا سمعنا وأطعنا لأوامر ربهم، وأن ينهضوا بتكاليفه دون جدال ولا تردد ولا تلكؤ، وهذه السورة كما لا يخفى على أحد هي سورة التكليف والتشريع، فكان اسمها هذا تنبيهاً للمؤمنين على أن يأخذوا تكاليف ربهم بقوة؛ لا كما فعل أصحاب البقرة.

ومع كثرة الموضوعات المتنوعة الواردة في هذه السورة، إلا أن لها محوراً خاصاً يُؤلِّف بين أقسامها القريبة والبعيدة على نحو يجعلها وحدة كاملة متناسقة لا تتفرق ولا تتجزأ وإن تناولت موضوعات كثيرة متباينة، وهو ما يُسمى بالوحدة الموضوعية في سور القرآن الكريم أي: وجود مقصود عام يربط بين موضوعات السورة المتباينة وأجزائها المتباعدة، حتى أنه يمكن تلخيصها في جملة واحدة. ومثل الموضوعات في ذلك كمثل حبَّات لؤلؤ وجواهر نُظمت في سلك واحد؛ فلا يراها المتأمل والناظر إلا قطعة واحدة شديدة الجمال والتناسق.

فبدءاً بالحديث عن أصناف الناس في القسم الأول من السورة، ثم مروراً بقصة آدم عليه السلام، وتاريخ بني إسرائيل، وسيرة إبراهيم عليه السلام، وما تبع ذلك من توجيهات وتشريعات في شتى مجالات الحياة، فإن المحور واحد: استخلاف الأمة المسلمة لتقيم الدين والدولة.

وهذا ما يُفسِّر كونها أول ما نزل من القرآن في العهد المدني، حين هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته إلى المدينة بعد طول دعوة في مكة، وكان لا بد لهذه الأمة من الانتقال إلى بناء مجتمع وبناء دولة، فسورة البقرة بمنزلة المرجع الأساس لهذه المرحلة التي يصح أن تُسمى بمرحلة الاستخلاف بعد الاستضعاف.

ويشتمل مقصود السورة على إعداد الأمة للقيام بعهد الاستخلاف في الأرض من جهة، وبيان الصراط المستقيم والمنهج الذي ارتضاه الله لخليفته من جهة أخرى.
فمن جهة الإعداد: ذكرت السورة تجارب السابقين مع عهد الاستخلاف، ليحصل الاتعاظ والاعتبار بتجارب من سَبَق من الأفراد والأمم، فجاء الحديث عن قصة آدم عليه السلام، باعتباره الخليفة الأول في الأرض: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)؛ فقصة آدم تأصيلٌ وتمهيد. ثم جاء الحديث مطولاً عن بني إسرائيل؛ لأنهم الأمة السابقة التي استخلفها الله في الأرض عبر قرون كثيرة متتابعة، فمنهم بعث رسله وأنبيائه، وفيهم أنزل كتبه وآياته، فكانوا يهتدون ثم يضلون، ويستقيمون ثم يزيغون، حتى نزع الله العهد منهم، وجعله في أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

وفي مقابل قصة بني إسرائيل التي هي نموذج لأمة انحرفت عن الجادة، وأخلَّت بالعهد وضيَّعت الأمانة، جاءت قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام باعتباره نموذجاً لمن استقام ووفَّى، وكان في نفسه أمَّة وقدوة.

فقصة آدم لتعلم الأمة أصالة هذا العهد. وقصة بني إسرائيل لتعلم أخطاء من سبقوها من الأمم فتحذر وتجتنب. وقصة إبراهيم لتعلم حال من حفظ الأمانة ووفَّى بالعهد فتتأسى وتتَّبع.

ومن جهة الإعداد أيضاً: جاءت قصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وقصة الذين طلبوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون معه في سبيل الله، لكي تتعظ الأمة بأحوال هؤلاء في شأن الجهاد، فإن الجهاد هو حياة الأمة وعزها وحصنها الحصين.

ومن جهة الإعداد أيضاً: نبَّهت السورة على حقيقة أعداء الأمة سواء من داخلها أو خارجها لكي تحذر وتحتاط منهم، فأطالت الحديث عن المنافقين تنبيهاً على شدة خطورتهم بحكم مخالطتهم للمؤمنين واطلاعهم على أحوالهم وأسرارهم، وكشفت تأصل العداوة في صدور أهل الكتاب تجاه أهل الإيمان؛ وعدم رضاهم عنهم حتى يتبعوا ملتهم.

ومن جهة الإعداد أيضاً: تضمنت مجموعة من الأوامر والتوجيهات المُعِينة على حمل الأمانة وإقامة الديانة، كالأمر بالذكر والشكر، والاستعانة بالصبر والصلاة، وعدم تسمية الشهداء أموات، والعلم بوقوع أنواع البلاء، والاسترجاع عند المُصاب، والتطوع بالخيرات.

أما من جهة بيان الدين والمنهج الذي ارتضاه الله لخليفته، فقد اشتملت السورة على بيان أصول العقيدة مجملة ومفصلة، فذكرت أصول الإيمان: الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين. وتعرضت لكل أصل بالتفصيل والإثبات، فأقامت الأدلة على وجود الله تعالى ووجوب توحيده. وذكرت خمس قصص لإحياء الموتى في الدنيا إثباتاً لحقيقة البعث والمعاد، على رأسها قصة البقرة. واشتملت على ذكر جبريل وميكال وهاروت وماروت، وعموم الملائكة بصفتهم أولياء الله ورسله. ونصبت البراهين على أن هذا القرآن هو كتاب الله المعجز المصدق لما بين يديه من الكتب المنزَّلة. ونقلت الشواهد على أن دين الأنبياء واحد هو الإسلام وأنهم أمة واحدة بلا خلاف ولا تجزئة. فاجتمعت فيها جميع الأصول العقدية، في أحسن بيان وأشمله.

ومن جهة بيان الدين والمنهج أيضاً: تضمنت أركان الإسلام والأمر بدخول الإسلام كافة، واشتملت على التشريعات والأحكام التي تنظم حياة الفرد والمجتمع في مختلف مجالات الحياة، ففي مجال العبادة: بيَّنت أحكام الصلاة والصيام والحج والعمرة والقتال، وفي مجال الأسرة: بيَّنت أحكام النكاح والطلاق والعدة والرضاع والمحيض والجماع، وفي مجال العلاقات خارج الأسرة: بيَّنت أحكام مخالطة اليتامى وحدود التعامل مع الكفار، وفي مجال الجنايات: بيَّنت أحكام القصاص في القتلى، وفي مجال المعاملات المالية: بيَّنت أحكام الإنفاق والربا والمداينة والرهان.
ومن هذه الجهة أيضاً: تضمنت مناقشة اليهود والنصارى في شأن الدين الذين يدين به الأنبياء، والذي يحصل به الاهتداء، تقريراً لأحقية الإسلام وبطلان ما سواه من الأديان.

وتأسيساً على ما سبق يمكن تقسيم السورة إلى ثمانية أقسام:

القسم الأول: وهو بمثابة التأصيل والتأسيس لمقصود السورة، إذ أنه يشتمل على تقرير مرجعية الكتاب في هداية الأمة إلى جميع مصالحها الدينية والدنيوية: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) كما يشتمل على بيان الصفات الأصيلة للجماعة المؤمنة المستخلفة: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، والأمر بتوحيد العبادة الذي هو علة الخلق وأصل الديانة: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم)، والحديث عن أصل الخليقة وعهد الاستخلاف الأول في قصة آدم عليه السلام. يمتد هذا القسم من الآية الأولى إلى الآية ٣٩، وينضوي في آخره على بيان موقف الخلق من الوحي ومصيرهم المترتب على ذلك: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

القسم الثاني: يتناول قصة بني اسرائيل مع عهد الاستخلاف عبر تعاقب الأجيال، ولا يخلو من دعوتهم إلى تجديد العهد مع الله، وترغيبهم وترهيبهم، والرد على شبهاتهم وأقاويلهم، وبيان حقيقة حالهم في الماضي والحاضر. يبدأ هذا القسم من الآية ٤٠: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم وإياي فارهبون) وينتهي بقوله تعالى في الآية ١٠٣: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون).

القسم الثالث: وفيه ينتقل السياق من مواجهة بني اسرائيل إلى مواجهة أهل الكتاب عموماً والمشركين إبطالاً لشبهاتهم، وتقريراً لأحقية الإسلام في الظهور والسيادة، إذ أن استخلاف الأمة المسلمة لا ينفك عن تقرير حقِّيَّة دينها وبطلان ما سواه. ويتضمن هذا القسم: قصة إبراهيم عليه السلام باعتباره نموذجاً لمن استقام على العهد، ولأنه حُجَّة على من يزعمون الانتساب إليه من أهل الكتاب وأهل الشرك. يمتد القسم من الآية ١٠٤ إلى ١٤١، بدايته قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكفرين عذاب أليم) ونهايته قوله: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون).

القسم الرابع: مبني على تربية الأمة إيمانياً وعقدياً بما يُمهِّد لتشريع الشرائع في القسم الذي بعده، إذ أنه لا بد من تعميق الإيمان وترسيخ العقيدة في القلوب قبل فرض التشريعات المتنوعة التي تمس حياة الفرد والمجتمع في الدولة المسلمة. ومن ثم يجيء توجيه الأمة إلى استباق الخيرات، والخشية من الله تعالى وحده، والذكر والشكر، والاستعانة بالصبر والصلاة، والاستبشار بحياة الشهداء، والاستعداد لوقوع البلاء، والاسترجاع عند مصائب الحياة.

ولا بد أيضاً قبل تشريع الشرائع من تمييز الأمة بقبلتها التي تتوجه بها إلى الله في عبادتها، ولهذا يجيء الحديث عن قضية القبلة.
كما لا بد قبل تشريع الشرائع من ترسيخ عقيدة التوحيد التي هي أصل الأصول ورأس الأمر كله، ولهذا يجيء الحديث عن أعظم الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى، ثم الحديث عن مصير أهل الشرك والتنديد أتباعاً ومتبوعين.

وكذلك لا بد قبل تشريع الشرائع من تعبيد الناس في مآكلهم، وتقرير أن الله هو صاحب الحق في التشريع والتحليل والتحريم، ولهذا يجيء الحديث عن الحلال والحرام من الأطعمة.

ويمتد هذا القسم من الآية ١٤٢ إلى الآية ١٧٧. يبدأ بقوله: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) ويختم بآية البر التي هي تلخيص جامع لصفات التقوى وأصول العقيدة: (ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).

القسم الخامس: يُعنى بالتشريع أساساً، وفيه تتوالى الأحكام تلو الأحكام: أحكام القصاص، أحكام الوصية، أحكام الصيام، أحكام الحج، أحكام الجهاد، أحكام الطلاق، وغيرها. وهذا كله بيان للمنهج والدين القويم الذي ارتضاه الله لخليفته. يبدأ القسم بقوله تعالى في الآية ١٧٨: (يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى) وينتهي بقوله في الآية ٢٤٢: (كذلك يبين لكم آياته لعلكم تعقلون).

القسم السادس: وفيه ينتقل السياق من مجال الأحكام إلى مجال القصص حول الجهاد والموت والحياة، لكي تتعظ الأمة وتعتبر بأحوال من سَبَق من الأفراد والأمم. يمتد من الآية ٢٤٣ إلى الآية ٢٦٠، بدايته: (ألم تر إلى الذي خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت) ونهايته: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى).

القسم السابع: بدايته من الآية ٢٦١ إلى الآية ٢٨٣. وهو يدور حول المعاملات المالية من صدقات وربا ودَّين ورهان، فإن المال شريان الحياة للناس والدول. يبدأ بقوله تعالى: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة) وينتهي بقوله: (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة).

القسم الثامن والأخير: وهو خواتيم السورة التي تتألف من ثلاث آيات فقط. الآية الأولى تُقرِّر الصفات الإلهية التي توجب الطاعة والانقياد لجميع ما تقدم في السورة من تكاليف وتشريعات. الآية الثانية تُبيِّن أصول الإيمان التي هي الأساس لتلك التكاليف والتشريعات. والآية الأخيرة عبارة عن دعاء يتضمن قواعد التكليف والجزاء، وحال المؤمنين مع ربهم من طلب العفو والمغفرة والرحمة منه، وطلب الظفر والنصر على الكافرين به.
 
كلمة حول القسم الأول من السورة:
يبدأ هذا القسم بتقرير مرجعية القرآن المجيد في هداية الأمة إلى جميع مصالحها الدينية والدنيوية: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)، فهذا الكتاب الكريم هداية للمتقين في شؤون دينهم، كما أنه هداية للمتقين في شؤون دنياهم.
وهو الافتتاح الذي يتناسب مع مقصود السورة العام – أي استخلاف الأمة المسلمة لإقامة الدين والدولة – حيث يُفيد بأن هذا الكتاب هو الأصل والمرجع الذي تستند إليه الأمة من أجل تحقيق ذلك.
والناس عند ظهور دولة الإسلام ثلاثة أصناف: متقون، كافرون، ومنافقون. فالمتقون هم المتصفون بالإيمان بالغيب القائمون بأعمال الإسلام من صلاة وإنفاق؛ المؤمنون بالوحي والمعاد. والكافرون هم أهل الجحود والجهالة والعناد. والمنافقون هم الذين يُظهِرون الإيمان ويُبطون الكفر خوف السيف والقتل، فلا يَظهَرون إلا بظهور الدولة ذات الشريعة والشوكة.
ولمَّا كانت هذه السورة أول ما تنزل في العهد المدني حين أخذت الدولة المسلمة بالتكون والظهور، فقد اشتدت عنايتها بالصنف الجديد الذي ظهر، أي الصنف المنافق. ولهذا يجيء الحديث عن المتقين في ست آيات والكفار في آيتين فقط، بينما يستغرق الحديث عن المنافقين ثلاث عشرة آية، تعريفاً بأحوالهم وطباعهم، وتنبيهاً على عظيم خطرهم وضررهم.
ثم يتوجه الخطاب بعد ذلك إلى الناس جميعاً بالأمر الذي خُلقوا لأجله وهو عبادة الله وحده مع بيان موجبات ذلك: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)، (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون).
ولمَّا كان الأمر بعبادة الله وحده مبنياً على التصديق بما أنزل الله على عبده، فقد أعقب تعالى بإثبات ربانية هذا الكتاب وأنه الحق المعجز: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين)
ثم ردَّاً على شبهة أوردها بعض الفسقة في شأن هذا الكتاب العزيز، جاء الحديث عن الحكمة من ضرب الأمثال فيه: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها)، ثم جاء الحديث عن صفات هؤلاء الفسقة والتي هي صفات جامعة لكل كافر ومنافق: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض)، يليه الإنكار على هؤلاء عبر آيات الاعتبار المبثوثة في الأنفس والآفاق: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون؟ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم).
وقفَّى على ذلك بقصة آدم عليه السلام لبيان أصل الخليقة، وعهد الاستخلاف الأول. فتأمل كيف بيَّن أصناف الناس مع تحقق الاستخلاف للمؤمنين في الأرض وذلك في بداية القسم، ثم أمرهم بالتوحيد الذي هو مقتضى خلقهم واستخلافهم في الأرض، ثم ردَّهم في قصة آدم إلى أصلهم ومنشأهم وبداية استخلاف جِنسهم.
وتأمل كيف اشتمل القسم على التأصيل بأشمل وأوجز عبارة، حيث وَصَف الكتاب بالوصف المختصر الجامع وهو أنه (هدى للمتقين)، وهذا كالأصل لما سيأتي من الهدايات والإرشادات في سائر أقسام السورة. ثم وصف المؤمنين بأجمع الصفات وأهمها حيث قال: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) وهذا كالأصل لما سيأتي من تفصيل صفاتهم وأحوالهم. ثم أمر الناس بالأمر الجامع لكل العبادات والأعمال وهو توحيد العبادة: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذين خلقكم) وهذا كالأصل لما سيأتي من تقرير شرائع الإسلام وشعائره. ثم جاء بقصة آدم عليه السلام واستخلافه، وهذا كالأصل لما سيأتي من قصص بني إسرائيل وإبراهيم عليه السلام وما كان لهم من الاستخلاف.
 
تفسير آيات القسم الأول من سورة البقرة

من الآية ١ إلى الآية ١٥

تبدأ السورة بثلاثة حروف مقطعة: (ألم)، وسُميت مقطعة لأن كل حرف منها يُقرأ بمفرده أي: ألف، لام، ميم، يعقبها التقرير بأن هذا القرآن صدقٌ كامل وهدىً نافع: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).

هذه الحروف ونظائرها في القرآن الكريم؛ تمثل الدليل والبرهان على ربانية هذا الكتاب وإعجازه من حيث أنه مؤلف من جِنس هذه الحروف التي يتخاطب بها العرب ومنها يصوغون كتبهم ومؤلفاتهم، ومع ذلك فلا شيء مثل القرآن قط، لا من حيث جمال ألفاظه وعباراته، ولا من حيث عمق معانيه ومدلولاته، ولا من حيث حسن أساليبه وصياغاته، مما يقطع بأنه كلام الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.

ومجيء هذه الحروف على رؤوس السور حصراً يُرشِّح كونها دليلاً وبرهاناً، إذ أن حقَّ الدليل أن يُعلم قبل العلم بالمدلول، وهذه الأحرف لا تجيء إلا متقدمة بوصفها الدليل المبدئي على ربانية هذا الكتاب والإعجاز العجيب الذي تنطق به جميع آياته وتراكيبه؛ وهو تفرد كلام الخالق عن كلام المخلوق، ولو كانت اللغة واحدة والحروف هي الحروف.

ولذلك غالباً ما تتحدث السور عن القرآن المجيد بعد الاستهلال بتلك الحروف، فمنها ما يذكر إحكام آياته وتفصيلها كسورة هود: (ألر كتاب أحكمت آياته ثم فُصِّلت) [هود:١] ومنها ما يذكر الغاية من تنزيله كسورة إبراهيم: (ألر كتاب أنزلناه إليه لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) [إبراهيم:١]، ومنها ما يذكر وضوح آياته ونزوله بلغة العرب كسورة يوسف: (ألر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآناً عربياً) [يوسف:١-٢]، وغير ذلك.

وأما هنا في هذه السورة التأسيسية الجامعة؛ فقد ناسب أن يُقرِّر اتصافه بالكمال والصدق والهدى؛ تنبيهاً على أنه المرجع الكامل الصادق المرشد إلى كل خير: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)

لم يقل سبحانه: "هذا القرآن"، بل قال (ذلك الكتاب) فجاء باسم الإشارة (ذلك) ولام الجنس (الكتاب) لما فيهما من الدلالة على العلو والكمال، فإن (ذلك) اسم إشارة للبعيد، وهو ما يشير إلى علو درجة الكتاب وبعد منزلته، فهو بعيد من أن يلتبس به باطل، وبعيد من أن يُشابَه او يُضاهى. ولمَّا جاء بلام الجنسية بعد أداة البُعد كان المعنى: ذلك هو الكتاب الكامل؛ لأن الإشارة إلى الشيء باسم جنسه في سياق مدح يُفيد استغراقه لجميع محاسن جنسه، كما لو قلت: هو الرجل، أي الرجل الكامل المستوفي لجميع محاسن جنس الرجال، فالقرآن هو الكتاب المستوفي لجميع الكمالات التي تكون في جنسه من كتب السماء، وهو ما يشير إلى كونه ناسخاً لها؛ مهيمناً عليها.

ثم أكَّد كمال الكتاب بقوله: (لا ريب فيه) أي: لا يتطرق إليه شك بوجه من الوجوه، لكمال حقائقه ووضوح آياته ومتانة براهينه. والمقصود: تقرير صدق الكتاب في نفسه بمعنى أنه ليس محلاً لأن يُرتاب فيه، وليس بمعنى أنه لا يرتاب فيه أحد إذ أن المرتابين فيه كثر لانطماس بصائرهم وفساد عقولهم.

وإنما قال (لا ريب) ولم يقل "لا شك"، لأن في الريب معنى زائد على مجرد الشك وهو قلق النفس وجنوحها إلى الاتهام، يُقال: أراب الرجل يُريب إذا جاء بتهمة. ويُقال: رابني أمره أي أدخل علي شراً وخوفاً. وفي الحديث: إذا ابتغى الأمير الريبة في الناس أفسدهم؛ أي إذا اتهمهم من غير بينة. فكان استعمال الريب أنسب للمقام من الشك لأن القرآن مشتمل على أصول الديانة وحقائق الوجود، فالشك فيه يُورث قلقاً لدى الشاكِّ فيه مع النزوع إلى الاتهام.

ثم وصف الكتاب بصفة أخرى دالة على كماله فقال: (هدى للمتقين) يعني: إرشاداً لهم. وتشتمل هذه الجملة على بيان صفة الكتاب وغايته؛ فهو كتاب موصوف بالهدى، والغاية منه هداية الخلق.

ولم يقل هدى للمتقين في المصلحة الفلانية أو الشيء الفلاني، بل حذف المعمول ليُفيد العموم وهو أن هذا الكتاب مرشد إلى جميع مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فما من مصلحة إلا ويأمر بها، وما من مفسدة إلا وينهى عنها، وما من قضية إلا وفيه حكمها.

ولم يقل هدى للمسلمين أو المؤمنين، أو الأبرار والصالحين، بل قال: للمتقين؛ لما في هذا الوصف من الدلالة على وجوب الخوف والخشية من الله تعالى والعمل بموجب ذلك. فالتقوى مشتقة من الوقاية التي تعني الحذر واتخاذ وسائل الحفظ، وهي بمعنى أن يقي العبد نفسه من عذاب الله وسخطه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

فتأمل في قوله (هدى للمتقين) دقة الألفاظ ودلالتها على المعنى الأحسن والأكمل، وكيف أنها لا تُستبدل بما هو أجل وأكمل؛ تزدد يقيناً على يقين بربانية هذا الكتاب.

ولا تعارض بين قوله تعالى هنا (هدى للمتقين) وقوله في نفس السورة لاحقاً: (هدى للناس)، فإن حقيقة الهدى في كلا الموضعين: ما يشتمل عليه الكتاب من البيان والإرشاد والتعريف بطريق الحق والرشاد من طريق الباطل والفساد، ولكن لمَّا كان أهل التقوى هم وحدهم المهتدون بالكتاب حقيقة خصَّهم بالذكر دون سواهم فكان هذا التخصيص دالاً على انتفاعهم به دون سائر الناس. واختار بعض العلماء رفع التعارض المتوهم بين الآيتين بالقول أن هداية المتقين هي هداية توفيق وإلهام، وهداية الناس هي هداية بيان وإرشاد، وما ذكرناه أولى لأن هداية التوفيق تكون من الله تعالى لا من الكتاب نفسه، ولا يخفى أن الآية هنا تتحدث عن القرآن بوصفه مصدر الهداية لا عن منزِّله.

وابتداء السورة بهذا التقرير في غاية التناسب مع خاتمة سورة الفاتحة، إذ بعد أن خُتمت الفاتحة بطلب الهداية إلى الصراط المستقيم: (اهدنا الصراط المستقيم) جاءت مقدمة سورة البقرة لتدل على المحل الذي يهدي إلى هذا الصراط القويم وهو كتاب الله سبحانه: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).

ولمَّا ذكر تعالى المتقين وحقيقة انتفاعهم بالهدى؛ أعقب بتفصيل صفاتهم وأعمالهم: (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)

هذا شروعٌ في تفصيل الصفات الأساسية للمتقين والتي هي أثرٌ عن انتفاعهم بهدايات الكتاب المبين.
وقد بدأ بالجوهر والأساس وهو إيمانهم بالغيب فقال: (الذين يؤمنون بالغيب) أي: الذين يصدقون بوجود الله والبعث والجنة والنار والملائكة والشياطين وكل ما غاب عنهم ولم تدركه حواسهم مما أخبر به القرآن أو الرسول عليه الصلاة والسلام.

والإيمان بالغيب هو أساس الإيمان كله لتعلقه بجميع أصوله (الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتب والنبيين) فلا يخلو أصل من أصول الإيمان من الأمور الغيبية التي لا تدركها الحواس والتي افترض الله على العباد التصديق بها تصديقاً جازماً.

والإيمان بالغيب هو الإيمان الذي علم الله أنه يصنع النفوس الصادقة الصالحة لا إيمان المشاهدة، إذ لو كان الإيمان يجري بالمشاهدة لآمن الناس كلهم جميعاً، ولكن مثل هذا الإيمان هو إيمان منبثق عن ضغط الواقع المُشاهَد لا عن الصدق في الإيمان، وهو بالتالي إيمانٌ لا يُعتدُّ به.

ولمَّا كان عمل الجوارح شرطاً للإيمان ومصداقاً لما في القلب من الشعور والاعتقاد؛ ذكر تعالى مع الإيمان بالغيب أهم أعمال الإيمان ألا وهي الصلاة والإنفاق: (ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)

اعلم أن الصلاة هي أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، فهي شاهِدُ الإسلام، وبرهان العبودية لله بما فيها من الخضوع القلبي والبدني للمعبود، مع التعظيم والإجلال، والدعاء والابتهال. ففي الصلاة من تجليات العبودية ما ليس في غيرها من العبادات كالصوم والزكاة. ولمَّا كانت العبادة هي غاية الخلق والتكليف، فلا عجب في أن تكون الصلاة بتجسيدها لأخص مظاهر العبودية هي عماد هذا الدين ومدار صلاح الأعمال كما جاء في الحديث: "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر عمله وإن فسدت فسد سائر عمله".

ولم يقل يفعلون الصلاة أو يؤدونها، بل جاء بلفظ (يقيمون) لما فيه من الدلالة على توفية حقوقها بحيث يحصل المقصود منها من تزكية النفس واستحقاق الأجر. فالإقامة تطلق على توفية الشيء حقَّه، من أقام الشيء إذا ثبَّته أو عدَّله فوفَّاه حقَّه وجعله على الوجه المراد منه، فهذا اللفظ دال على وجوب العناية بأمر الصلاة من جهة تحقيق شروطها وأركانها وواجباتها كالطهارة من النجاسات، وحضور القلب، وتلاوة القرآن، وإتمام الركوع والسجود، وغير ذلك. ومن دلالات هذا اللفظ كذلك: المواظبة والإدامة، يُقال للشيء الدائم: قائم، ويُقال أقام الشيء بمعنى أدامه، فكأنه قيل هنا: يُديمون الصلاة مع توفيتهم لحقوقها.

وكما في الكثير من آي القرآن يَقرن بين الصلاة والإنفاق، فإن الصلاة استسلامٌ لله في المجال القلبي البدني، والإنفاق استسلامٌ لله في المجال المالي المادي، ومن هنا كانت الصلاة والزكاة ركنين من أركان الإسلام: (ومما رزقناهم ينفقون) ويشمل هذا الإنفاق الزكاة وغير الزكاة من ثلاثة وجوه: أولها: إطلاق النص كما هو ظاهر. الثاني: اقتران الإنفاق بالصلاة، ولا يقترن الأمر العظيم إلا بما هو مثله. الثالث: مجيء الإنفاق في سياق الحديث عن الإيمان بالغيب ووحي السماء مما يدل على أهميته الكبرى، ولا يكون شأنه كذلك إلا إذا أدخلنا فيه الزكاة وغير الزكاة من وجوه الإنفاق التي لا يُستغنى عنها بحال، فيدخل في ذلك: الإنفاق على أهل الفاقة والحاجة، والإنفاق في مصالح المسلمين عامة، والإنفاق في سبيل الجهاد خاصة إذ لا تقوم الدولة ولا يُنصر الدين إلا به.

وقوله: (مما رزقناهم) يشير إلى موجب الإنفاق وهو أن المال رزق من الله تعالى كالماء النازل من السماء، فهو نعمة من الله تستوجب الشكر بإنفاق بعضه في محاب الله.

وإنما اكتفى بذكر الصلاة والإنفاق لأنهما كالأساس لسائر العبادات، فمن أقام صلاته وجادَ بماله وجد في نفسه حلاوة الإيمان وباعثاً على المزيد من الطاعات والقربات، ومن فرَّط فيهما كان لغيرهما أعظم تفريطاً لتركه الأولى والأهم.

ولمَّا وصف المتقين بالإيمان على وجه الإجمال في قوله (الذين يؤمنون بالغيب) أعقب بتفصيل ذلك: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة يوقنون)

تفصيلٌ لما وصفهم به من الإيمان بالغيب في قوله (الذين يؤمنون بالغيب) لأن الإيمان بكتب السماء داخلٌ فيه إذ لا تخلو هذه الكتب من الغيبيات، وكذلك الإيقان بيوم المعاد داخلٌ فيه لأن الجنة والنار والبعث والحساب من غيوب المستقبل.

وقوله تعالى: (والذين يؤمنون بما أنزل إليك) يعني: ما أنزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي قرآناً وسنة. ثم قوله: (وما أنزل من قبلك) يعني كتب السماء السابقة كالتوراة والإنجيل وغيرهما. فالدين في جميع هذه الكتب واحد هو الإسلام لا دين سواه، وإنما تختلف التشريعات الثانوية الفرعية تناسباً مع متغيرات الزمان وأحوال العباد.

ثم جاء بصفة اليقين بالآخرة من باب عطف الخاص على العام تنويها لشأنها، إذ أن اليقين بالآخرة داخل تحت مفهوم الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء من قبله. وإنما ختم بهذه الصفة لأن الحديث عن الإيمان بالغيب والإيمان بالقرآن وسائر كتب السماء كما تقدم لا بد وأن يعقبه جهد وعمل، فختم بهذه الصفة باعتبارها أعظم باعث على فعل المأمور واجتناب المحظور: (وبالآخرة هم يوقنون)؛ فاليقين بالآخرة هو العلم الذي لا يساوره شك بأن البعث والمجازاة حق لا محيد عنه، وهو بالتالي أعظم باعث على العمل والامتثال لأن من أيقن بوقوع ذلك خاف عذاب جهنم فاجتنب المحرمات، وطمع في نعيم الجنات فنهض بالواجبات، ومنه قوله تعالى: (والذين يؤتون ما أتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون) [المؤمنون:٦٠].

وبهذا اليقين ينكشف الغطاء عن حقيقة الدنيا وما فيها من زخرف ومتاع، ويعيش العبد في طمأنينة الإيمان رغم كل مصاب يصيبه في النفس أو الأهل أو المال، فإنه يدرك بأن الحياة الدنيا دار امتحان وممر، لا دار راحة ومستقر، وأن الدنيا مهما تجمَّلت لأصحابها فإنها حياة مؤقتة فانية، لا تخلو من فتنة وشائبة، وأن الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة. فإذا مُنِع العبد من شيء من نعيم الدنيا؛ اطمئن قلبه بأن ما عند الله خير وأبقى. وإذا قُوبل بظلم من أحد، اطمئن قلبه بكفالة حقِّه عند الحاكم العدل. فاليقين بالآخرة يقين بسعة فضل الله ورحمته، ويقين بكمال عدل الله وحكمته.

ولمَّا فرغ تعالى من بيان أوصاف المتقين؛ أعقب بذكر ثمرتها: (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون)

هذه هي ثمرة الإيمان بالغيب وإقام الصلاة وإنفاق المال والإيقان بالجزاء: الثبات على طريق الهداية والرشاد، والفلاح في المعاش والمعاد. فمن آمن وعمل وأيقن، أمده الله بالنور والبصيرة والبرهان، وحفظه ورعاه وثبَّته على الهدى حتى يلقاه.

ولم يقل "لهم هدى من ربهم" بل أتى بحرف الاستعلاء (على هدى) ليدل على استقرار قلوبهم ورسوخ إيمانهم من جهة أن العلو على الشيء يستلزم الاستقرار عليه والتمكن منه، فهم متمكنون من هذا الهدى، ثابتون عليه غاية الثبات.

وفي قوله تعالى كذلك (هدى من ربهم) دليل على افتقار العبد لهدى الله أشد افتقار، وليس كما قالت بعض الفرق الضالة من أن العبد هو خالق الهدى أو أنه يهدي نفسه بنفسه، بل الهداية بيد الله وحده لأن الأسباب كلها من خلقه وتصريفه، ومن ضمنها أسباب التوفيق والهداية.

وفلاح المؤمنين في الدنيا هو ثباتهم على الحق حتى الممات، ومهما تكن الظروف والأحوال، ففي ذلك حياة القلب، وسعادة الروح، وكرامة النفس، فضلاً عن نصيب الدنيا. وفلاحهم في الآخرة: جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفوق ذلك رضا الرحمن ولذة النظر إلى وجهه الكريم، فلا فلاح أكمل وأعظم من هذا الفلاح.

ولمَّا بيَّن تعالى موقف المتقين من الكتاب وحُسن صفاتهم ومآبهم، أعقب ببيان موقف الكافرين وسوء صفاتهم ومآلهم. وهذه هي طريقة القرآن في مقابلة الأشياء بضدها لتتميز أتم تميز وتُعرف أكمل معرفة، فلا يكاد يذكر أهل الإيمان إلا ويذكر أهل الكفران، ولا يكاد يذكر ثواب الجنة إلا ويذكر عذاب النار، ولا يكاد يذكر كمالات الإله المعبود بحق إلا ويذكر نقائص المعبودات الباطلة من دونه، وهو أسلوب بليغ من البيان والدعوة والإفهام، لأن ظهور الخصائص والفروقات بين النقيضين يكون أبلغ ما يكون عند استحضارهما معاً حيث يكون العقل أقدر على عقد المقارنة والترجيح والانتقاء دون إغفالٍ لتفصيلٍ ما، ومن هنا قيل: "وبضدها تتميز الأشياء".

يقول الله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون)

هذه الآية الكريمة تُبيِّن موقف الكافرين من كتاب الهداية وحالهم المناقضة لحال المتقين بأوجز وأبلغ عبارة، وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته فإن خير الكلام ما قل ودل، وما أغنى قليله عن كثيره، فقوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) يتضمن موقفهم من كتاب الله؛ لأن النذارة التي تعني الإعلام والتحذير تكون به، كما قال تعالى: (إنما أنذركم بالوحي) [الأنبياء:٤٥]. ثم عوضاً عن تعداد صفاتهم المناقضة لما تقدم من صفات المتقين، اكتفى بالصفة الجامعة لكل ذلك وهي أنهم (لا يؤمنون)، فدخل في ذلك: عدم إيمانهم بالغيب، وعدم قيامهم بأعمال الإيمان من صلاة وإنفاق، وعدم إيمانهم بما أنزل على الرسول وما أنزل من قبله، وعدم يقينهم بالآخرة، ولا ريب أن من كان كذلك فهو متصف بالجحود والنكران، والكبر والعناد، وتبلد الحس والوجدان.

ويُستفاد من هذا الإخبار القاطع بعدم انتفاعهم بالنذارة: ألَّا يتحسر الداعي عليهم فإن هذا هو قضاء الله فيهم، وألَّا يكلف نفسه فوق طاقته من أجل هدايتهم فإن أمر الهداية ليس عائداً إليه، وألَّا يدع إصرارهم العجيب على الكفر ينال من عزيمته وثقته بالحق الذي معه فإن العلة فيهم.

وقوله تعالى: (لا يؤمنون) بيانٌ للسبب الظاهر في عدم إيمانهم وانتفاعهم بنذارة الكتاب وهو رفضهم التصديق والإيمان، ثم قوله في الآية التالية: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) بيانٌ للسبب الحقيقي الباطن في عدم إيمانهم وانتفاعهم وهو إضلال الله لهم.
الخَتْم في اللغة: تغطية الشيء بما يمنع من دخول شيء عليه، وأصله من إغلاق الأوعية والرسائل ونحوها بمادة يُوضع عليها علامة مرسومة في خاتم وهو عبارة عن قالب منقوش فيه علامة أو كتابة يُستعمل للختم والتوقيع. والغشاوة: الغطاء الذي يغطى به الشيء منعاً لدخول شيء عليه، من غشَّى الشيء إذا غطَّاه وستره.

وتنقسم الآية الكريمة إلى جملتين: الأولى فعلية وهي قوله تعالى: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) والثانية اسمية بقوله: (وعلى أبصارهم غشاوة) أي: وعلى أبصارهم ثَمَّ غشاوة، فإن الختم لا يكون على الأبصار بل على القلوب والأسماع، بدليل قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) [الجاثية:٢٣].

والجملة الفعلية تدل على الحدوث، بينما الجملة الاسمية دالة على الثبوت، فقوله تعالى (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم) دال على أن النذارة بلغت هؤلاء ولكنهم استحبوا الكفر على الإيمان، فختم على الله على قلوبهم وأسماعهم. ثم قوله (وعلى أبصارهم غشاوة) دال على أن الغشاوة كانت ثابتة في حقهم قبل وصول النذارة إليهم، إذ أن الآيات المبثوثة في الأنفس والآفاق من أعظم البراهين الشاهدة على وحدانية الإله ووجوب إفراده بالعبادة، وقد كانت هذه الآيات في متناول أبصارهم قبل تبليغهم وإنذارهم، إلا أنهم لم يستدلوا بها بل آثروا العَمَهَ على الهدى.

على أن المراد هنا أقوام مخصوصون من الكفار علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً، وإلا فإن الكثير من أهل الكفر آمنوا بعد إنذارهم، وأما هؤلاء فإنذارهم يستوي مع عدمه لشدة كفرهم وإعراضهم.

وقد اختلف المفسرون حول معنى الختم والغشاوة بين قائل بالحقيقة وقائل بالمجاز. أما أصحاب المسلك الأول فقالوا بأن الختم والغشاء هنا حقيقيان، فعلى القلب والسمع ختم حقيقةً، وعلى الأبصار غشاوة حقيقةً، وإنما هي أشياء غيبية لا يدركها الحس، والفاعل لذلك هو الله عز وجل.

وأما أصحاب المسلك الثاني فبين قولين: الأول ينفي فعل الله للختم والتغشية، والثاني يثبت هذا الفعل مع حمله على معنى آخر بطريق الاستعارة. والقرينة المانعة من حمل الكلام على معناه الظاهر كما قيل: أن فعل الختم والتغشية يفيد منع العبد من الإيمان وجبره على الكفر، وهو ما يتنافى مع حكمة التكليف، وعدله سبحانه في ترتيب الجزاء على حرية الاختيار.

أما نفاة الفعل فقالوا بأن الختم استعير لحصول هيئة في القلب والسمع تمنع من خلوص الحق إليهما وهي استحبابهم الكفر على الإيمان واعتيادهم على العناد والإعراض، حتى أصبحوا راسخين مستقرين على ذلك، فكأن قلوبهم مختومة لا ينفذ إليها إيمان، وأسماعهم مسدودة لا ينفذ إليها كلام. واستعيرت الغشاوة لحالة عدم اهتدائهم إلى النظر في آيات الكون باعتبار وتدبر لشدة تكبرهم وإعراضهم، فكأنما جُعل على أبصارهم غشاء يمنعهم من الإبصار. وعلى هذا القول ليس فاعل الختم هو الله تعالى وإنما الكفار أنفسهم أو الشيطان كما زعموا، ولكن أسند فعل الختم إلى الله على سبيل إسناد الفعل إلى المسبِّب لأن الله أقدرهم على ذلك، كما في قولهم: "بنى الأمير المدينة" مع أن العمال هم البناة.

وليس هذا القول بشيء وإن قاله من قاله، فإن إسناد الفعل إلى فاعل آخر لا يكون إلا بدليل، فأين يجدون في كتاب الله تعالى أو سنة نبيه بأن ختم القلوب والسمع وتغشية الأبصار من فعل الكافر أو الشيطان؟ بل الصحيح أن الختم والتغشية ونحوهما كالطبع والتعمية هي أفعال مسندة إلى الله تعالى في آيات وأحاديث يصعب إحصاؤها لكثرتها، فمن المحال أن يكون كل ذلك مجازاً وإلا لكان إخباراً بخلاف الحقيقة.

وأما الذين أثبتوا الفعل لله تعالى فقالوا بأن الختم والتغشية استعارة تمثيلية لما يخلقه الله فيهم من الحواجز النفسية التي تُزيغ قلوبهم عن الإيمان وتصرف آذانهم عن سماع الحق سماع قبول وأعينهم عن الإبصار إبصار اعتبار، فالله هو خالق الضلالة وأسبابها وآثارها تماماً كما أنه خالق الهداية وأسبابها وآثارها، وكما أنه لا يهديهم بالقسر والإرغام، فكذلك لا يُضِلُّهم بالجبر والإكراه، وإنما يُضِلُّهم سبحانه بما اختاروه لأنفسهم من الكفر والضلال، فإضلاله لهم: خلقه لأسباب الضلالة وآثارها في قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وتصريفها وتدبيرها.

وهذا القول هو أصح الأقوال وأقربها للنقل والعقل. أما النقل فإنه مطابق لما ذكره تعالى من إضلال عباده في الكثير من آي القرآن كقوله تعالى: (ومن يضلل الله فما له من هاد) [الزمر:٣٦]، وقوله سبحانه: (يضل من يشاء ويهدي من يشاء) [النحل:٩٣].

وأما من جهة العقل فلأن فعل الإضلال لا يُفهم منه منع الإيمان من ولوج القلوب بخلاف فعل الختم والتغشية كما هو ظاهر. وإن كان فيه صرفاً للفظ عن ظاهره فليس هذا من قبيل الإخبار بخلاف الحقيقة؛ وإنما هو تعبير عن الشيء نفسه بألفاظ وأساليب متعددة، وهذا من كمال بلاغة القرآن وفصاحته، فتارة يُعبَّر عن الإضلال بالختم والغشاوة، وتارة بالأكنة والأوقار، وتارة بالصرف والإزاغة، وتارة بالأقفال، وتارة بالصمم والبكم والعمى، وغير ذلك.

ثم ختم سبحانه الآية ببيان مآل هؤلاء: (ولهم عذاب عظيم) أي لهم عذاب عظيم في الآخرة جزاء كفرهم واستكبارهم، وهو الخسران المقابل لما ذكره تعالى في حق المتقين من الفلاح: (وأولئك هم المفلحون).
بعد الحديث عن أهل الإيمان وأهل الكفران، تستكمل السورة بيانها لأصناف الناس عند قيام دولة الإسلام بالحديث عن أهل النفاق. ولكن في حين أوجزت السورة في كلامها عن المتقين والكفار لوضوح هاتين الفئتين في المواقف والسمات، فإنها تُسهب في الحديث عن المنافقين لمواقفهم الملتوية وسماتهم المضللة التي تحتاج إلى مزيد من التفصيل والإيضاح. وفي هذا يكمن التنبيه على عظيم خطر هؤلاء وجسيم ضررهم، فإنهم عامل إفساد للأمة من الداخل وخير سند لعدوها في الخارج.

وبادئ بَدْء، فإن القرآن يُكذِّب ادعائهم الأول الذي يخادعون به أهل الإسلام وهو ادِّعاء الإيمان التام: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين)

هذا شروعٌ في تفصيل صفات المنافقين وأحوالهم؛ حتى تحذر الأمة منهم، وتجتنب طرائقهم، ولا تغتر بظاهر حالهم.

ولم يذكرهم بصريح نعتهم كما ذكر المتقين والكفار، بل قال: (ومن الناس) ليُعلم أن هذا النموذج طارئ وليس بأصل، وليكون هذا الإخبار متناسباً مع واقع التنزيل إذ لم تكن جميع سمات هذا الصنف قد ظهرت بعد؛ فناسب التلميح أكثر من التصريح.

وهؤلاء هم الذين تظاهروا بالإسلام عند قيام دولة الإسلام في المدينة خوفاً من المواجهة والقتل، فنطقوا بالشهادتين، وصلَّوا مع المصلين، وأنفقوا مع المنفقين، وخالطوا المؤمنين دون أن يخالط الإيمان قلوبهم، فهم مع المسلمين ظاهراً، ومع الكافرين باطناً، ينحازون إلى هذا الفريق أو ذاك، بحسب تَرَجُّح مصالحهم.
وقد جمعوا بذلك أسوء الصفات وأحطها، من اعتياد الكذب والغش، وملازمة الخوف والجُبن، والرضا بالتبعية والذل، وعدم الاستقرار على مبدأ ولا ضمير.

ولكي يصرفوا عن أنفسهم التهم والشكوك كانوا يتخيرون أحسن الكلام وأفصحه، ومن ذلك قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) فالإيمان بالله واليوم الآخر ركنين من أركان الإيمان وكلاهما من الغيب المستور، فذات الله سبحانه وتعالى من الغيب، وكذلك أحوال يوم القيامة. ولا شك أن الإيمان بالغيب أشق على النفوس من الإيمان بما هو كائن في عالم الشهادة كالإيمان بالكتب والنبيين، ولهذا زعم هؤلاء الإيمان بالله واليوم الآخر ولم يزعموا الإيمان بالرسول أو الكتاب فهم يدَّعون بلوغ أعلى مراتب التصديق إمعاناً في تنزيه ساحتهم ودفع الشكوك عن أنفسهم. ولهذا أيضاً تكررت الباء مع العطف في قولهم (وباليوم الآخر)؛ فإنها تفيد توكيد الإيمان بكل واحد من الركنين بحد ذاته، فكأنهم قالوا: نؤمن بالله إيماناً كاملاً، ونؤمن باليوم الآخر إيماناً كاملاً.

والله في المقابل ينفي عنهم الإيمان بآكد صيغة: (وما هم بمؤمنين) فلم يذكر سبحانه الجملة الفعلية "وما آمنوا" بل جاء بالجملة الاسمية (وما هم بمؤمنين) التي تدل على ثبوت الوصف للموصوف، فأفاد الكلام ثبوت وصف الكفر لهم وإن تزينت ألسنتهم بأحسن الألفاظ الدالة على الإيمان والإسلام، كما أفاد إخراج ذواتهم من الإيمان نفسه ومن صفوف أهله إذ معنى الكلام أنهم ليسوا من المؤمنين ولو خالطوهم وتشبهوا بهم.

ثم بيَّن تعالى حقيقة قصدهم من ادِّعائهم الإيمان فقال: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون)

الخداع في أصل اللغة هو الإخفاء، يُقال: أخدعت الشيء أي أخفيته، ويُقال خدع الضب إذا دخل في جحره وتوارى عن الأنظار، ثم صار يُستعمل بمعنى التمويه والتحايل، وهو إظهار الشيء وإخفاء ضده بُغية الوصول إلى المقصود.

والخداع في حقيقته يستلزم خفاء الأمر على المخدوع، وهذا في حق الله تعالى ممتنع، لأنه عليم بالسر وأخفى، وهو الغالب الذي لا يُغالَب، فقوله تعالى عنهم: (يخادعون الله) على ظنِّهم، أي: يظنون أنهم يخادعون الله تعالى إذ يُظهرون الإيمان ويُبطنون الكفر والعصيان، فيعصمون دماءهم وأموالهم، ويأمنون على أنفسهم من أحكامه في أهل الكفر الظاهر، أو أن المقصود هنا: تسجيلٌ لظاهر فعلهم دون لازمه من خفاء الأمر على الطرف المقابل، بمعنى أنهم يعملون عمل المخادع مع الله إذ يتظاهرون بقبول دينه مع إسرار الكفر به، دون أن يخفى على الله شيء من ذلك.

وأما خداعهم لأهل الإيمان فليس بممتنع لجهل المؤمنين بالسرائر والبواطن، وفي هذا قال تعالى: (ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم) [المائدة:٥٣].

وهذا الخداع لا يضر المؤمنين في النهاية بل يعود عليهم بالأجر والثواب، وأما المنافقين فلا يعود عليهم ذلك إلا بالخزي والعقاب، ولهذا قال: (وما يخدعون إلا أنفسهم) ووجه هذا الخداع أنهم أخفوا على أنفسهم سوء العاقبة بالتمنيات والأوهام الباطلة، فظنوا أنهم يُحسنون صنعاً بنفاقهم، وأن ذلك ينجيهم من عذاب الله ونكاله، وهم في الحقيقة صائرون إلى أسوء درجات العذاب، كما أخبر تعالى: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) [النساء:١٤٥].

وأما نفي الشعور عنهم بقوله (وما يشعرون) فاعلم أن الشعور يرد على معنيين: الأول: إدراك الشيء بالحواس، مشتق من الشعار وهو لباس تحت الثوب يلي شعر الجسد أي اللباس الداخلي. والثاني: إدراك ما دقَّ وخفي من الأشياء، مشتق من الشعر لدقته. والمعنى الثاني أنسب للمقام لأن خداعهم لأنفسهم: تعريضها للعذاب، وهذا العذاب لم يُعاجِلهم الله به حتى يُنفى عنهم الإحساس به، بل حصل خلافه من التمتع بالعصمة والأمان بفعل نفاقهم، فكان الشأن في ذلك أنه من الأمور الخفية التي يحتاج إدراكها إلى قدر من النباهة والفطنة وهو ما لا يملكه هؤلاء لتمرنهم على البلادة والغفلة.

ولمَّا بيَّن تعالى سوء طويتهم وفساد طريقتهم إذ يخادعون من لا يجوز عليه الخداع ومن لا يستحقون مثل هذا الخداع، أتبع ببيان العلة من وراء ذلك فقال: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون)

بيانٌ لسبب مخادعتهم الله والمؤمنين واغترارهم بذلك وهو المرض الذي استفحل في قلوبهم فما عادوا ينزعون عن غيِّهم وضلالهم.

والمراد بهذا المرض: ما يعتمل في قلوبهم من الرضا بشبهات الكفر والشرك والنفاق، والتعلق بشهوات الدنيا وإيثارها على واجبات الدين والإيمان، فكما أن المرض يصيب الجسم بالفساد ويخرجه عن صحته واعتداله، فكذلك الضلال يصيب القلب بالفساد ويخرجه عن صلاحه واستقامته. فسمَّى الضلال مرضاً لاشتراكهما في معنى الإخلال والإفساد، وهذا الضلال أثر عن عاملين: الشبهات والشهوات. فالشبهات تفسد كل علم صحيح، وتصور سليم، ورأي سديد، حتى يصير المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، والصلاح فساداً، والفساد صلاحاً، فلا يستقر القلب على حق ولا رُشد ولا صواب. والشهوات تفسد كل فطرة سوية، وخُلُق سليم، وطبع قويم، حتى يخضع القلب لها، فلا يتحرر من أغلالها وقيودها وإن جلبت عليه الأسقام والآلام. فالشبهات تُزيغ القلب وتُضلِّله، والشهوات تُذلُّه وتُقيِّده.

وعقاباً لهم على اختيارهم الضلال؛ زادهم الله منه: (فزادهم الله مرضاً) أي: زادهم ضلالاً فوق ضلالهم، بالإملاء لهم وإمدادهم بالأموال والأولاد فتنة لهم واستدراجاً، فالحاصل أنهم يزدادون غيَّاً وإثماً بسبب تلك الزيادة، فيكون إضلال الله لهم على قدر ذلك. وهذا عدله سبحانه في مجازاة العباد في عاجل الدنيا بما كسبت أيديهم، فيزيد الضالين ضلالاً، ويزيد المهتدين هداية، ويجعل عقوبة السيئة السيئة بعدها، ويجعل ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

وإن طال الإملاء والإمداد، وكثرت الأموال والأولاد، فلا شيء ينجيهم من عذاب الله: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) أي: لهم عذاب موجع لكذبهم في دعوى الإيمان. ومع أن الكفر أعظم من الكذب، إلا أنه رتَّب العذاب على الكذب إبرازاً لفظاعته وبشاعته؛ وليعلموا عدم انتفاعهم به في الآخرة كما كانوا ينتفعون في الدنيا إذ أن بعضهم يتوهم خلاف ذلك كما أخبر تعالى في قوله: (يوم يجمعهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون ويحسبون أنهم على شيء) [المجادلة].

ولمَّا أخبر سبحانه عما يُبطنون ويُخفون، أتبع بالإخبار عن بعض مواقفهم التي يُظهرون ويُعلنون: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)

هذا إخبارٌ عن موقف أهل النفاق من دعوة الإصلاح، وهو موقف لا يخلو من التعنت والعناد، والتكبر والاستعلاء دفاعاً عن فسادهم الظاهر لكل ذي عقل وعين، فإنهم إذا قُوبِلوا بالنهي عن الإفساد في الأرض لم يرفعوا بذلك رأساً، بل أمعنوا في غرورهم وعنادهم، ووصفوا أنفسهم بالإصلاح على وجه القصر والحصر: (قالوا إنما نحن مصلحون) فلم يقولوا "إنَّا مصلحون" بل أتوا بأداة "إنما" التي تفيد قصر الموصوف على الصفة، بمعنى أن الإصلاح هو شأنهم وديدنهم، وأن الإفساد لا يُنسب إليهم من أي وجه.

ومن صور إفساد هؤلاء: تنفير الناس عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتحريض على إخراج الرسول من المدينة، ومناصرة أهل الكتاب على أهل الإسلام، وتثبيط المؤمنين عن الإنفاق أو الجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال التي كانوا يرومون بها الصد عن دين الله والإضرار بأهله.

ثم قَلَبَ الله عليهم ما زعموه لأنفسهم من الإصلاح بقوله: (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) فقابل قصر أنفسهم على الإصلاح بقصرهم على الإفساد، وذلك من جهة استعمال ضمير الفصل (هم) تأكيداً بعد الضمير المتصل (إنهم)، وتعريف الخبر بلام الجنس: (المفسدون)، وهو قصر على سبيل المبالغة نسفاً لادعائهم من كل وجه وزيادةً في ذمهم، فكأنهم هم المختصون بالإفساد دون غيرهم.

أما نفي الشعور عنهم بقوله: (ولكن لا يشعرون) فإن الشعور كما تقدم إما أن يكون بمعنى إدراك الأشياء الظاهرة بالحواس، أو بمعنى إدراك ما خفي من الأشياء بالتأمل والتبصُّر. والأول هو المقصود هنا لأن الفساد من المحسوسات التي لا تخفى، فالحال أن هؤلاء لا يدركون حقيقة فسادهم وفساد أعمالهم إما لفرط جهلهم وغبائهم أو لغلبة الأهواء عليهم حتى أصبح الفساد في تصورهم زينةً وصلاحاً.

ومما يحسن ذكره ههنا قول الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: "لم يجئ أهل هذه الآية بعد"، ولعله يعني: أن يجيئوا جموعاً لا أفراداً، أو أن يجيئوا ظاهرين مستعلين لا مستخفين مستضعفين وإلا فإن صنف النفاق قد ظهر في زمانه وذاع أمره. وأما في عصرنا هذا، فقد ظهروا وتسيَّدوا، وقد زعموا فيما زعموا بأن نبذ الشريعة الإسلامية عن نظام الحكم ليس إفساداً في الأرض وإنما هو عين الإصلاح!

ولمَّا بيَّن تعالى موقفهم من النهي عن المنكر ودعوة الإصلاح، أتبع ببيان موقفهم من الأمر بالمعروف ودعوة الإيمان: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون)

إنَّ موقف أهل النفاق من دعوة الإيمان كموقفهم المتقدم من دعوة الإصلاح: لا يخلو من الغرور والعجب بالنفس، والتعالي على النصيحة والخلق، فإنهم إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس – أي الصحابة الكرام – ترفعوا عن ذلك بصورة استفهام مملوء بالشتيمة والإنكار: (أنؤمن كما آمن السفهاء؟) والسفه هو الجهل ونقص العقل، وأصله من الخفة والحركة، يُقال: ناقة سفيهة الزِّمام: خفيفة السير، ويُقال تسفَّهت الرياح الشيء: إذا حركته واستخفته فطيَّرته، فالسفيه هو الجاهل أو الأحمق الذي تحركه الأهواء بخلاف مقتضى الحكمة والعقل.

وإنما حكموا عليهم بالسفاهة لأن معيارهم في الحكم على الناس هو المال والجاه، لا الدين والإيمان، وقد كان أكثر المؤمنين آنذاك من الفقراء والموالي البسطاء؛ فحكم عليهم هؤلاء بالنظر إلى أشكالهم وأحوالهم المادية، لا بالنظر إلى أعمالهم وأحوالهم الإيمانية، فترفعوا عن الإيمان مثلهم لئلا يكونوا في نفس المنزلة مع من يُعيبون ويَزدرون.

وكما قصرهم تعالى على الإفساد فيما تقدم، قصرهم هنا على السفاهة بقوله: (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) وهذا أيضاً من قبيل قصر القلب، فإن المفهوم من سؤالهم الإنكاري (أنؤمن كما آمن السفهاء؟) هو أنهم أهل العلم والبصيرة المنزهون عن فعل ما يفعله أهل الجهل والسفاهة بزعمهم، فقلب الله عليهم ادِّعائهم هذا بأسلوب القصر حيث جاء بضمير الفصل (هم) مع تعريف الخبر بلام الجنس: (السفهاء)، فخصَّهم بالسفاهة دون غيرهم على سبيل المبالغة في ذمهم.

ولا يدور الكلام هنا حول شيء خفي لم يتحقق بعد، كالعذاب الآجل للمتنعمين في هذه الدار، ولا عن شيء محسوس كالفساد في الأرض، بل يدور حول خفة العقل وفساد الرأي، ولهذا نفى عنهم العلم لا الشعور كما في الآيتين السابقتين، فإن العلم إدراك الشيء بالتفكر، بينما الشعور: إدراكه بالحواس أو بالفطنة الخاصة، والحال أن جهلهم هذا لا يحتاج إدراكه إلى إحساس أو فطنة من نوع من خاص؛ وإنما يحتاج إلى علم ناشئ عن التفكر. ولمَّا كان هؤلاء لا يتفكرون في ذلك جاء بنفي العلم عنهم وذمَّهم بذلك غاية الذم، لأن أحط الناس منزلة من كان جاهلاً ولا يدري حقيقة جهله.

والحق أنه لا أسفه ولا أجهل ممن باع آخرته بدنياه، واشترى الكفر بالإيمان، فاختار الفاني على الباقي، واختار هواه الناقص المتقلب على الحق الكامل الراسخ.

ولمَّا بيَّن تعالى سيرتهم مع دعاة الإصلاح والإيمان، أتبع بالكشف عن سلوكهم في تغيير الولاءات، وتقليب الوجوه والسمات: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)

هذه الآية الكريمة كالتفصيل لما تقدم ذكره من مخادعة المنافقين لأهل الإيمان في قوله: (يخادعون الله والذين آمنوا)، وهي تُعبِّر عن سرعة تقلب المنافقين في نفاقهم واحترافهم ذلك؛ حيث تعرض بإيجاز موقفهم مع المؤمنين ثم موقفهم مع الشياطين في سياق واحد دون كلام معترض. فهؤلاء إذا صادفوا المؤمنين أظهروا لهم الإيمان والموالاة بنطق اللسان، ليتقوا منهم السخط والمجافاة، وليشاركوهم في مغانم الغزوات. ثم إذا انفردوا مع شياطينهم أعلنوا لهم التبعية والولاء بقولهم: إنَّا على دينكم وطريقتكم في الكفر والتكذيب بدين محمد، وليس شأننا مع المؤمنين إلا على سبيل الاستخفاف بهم والسخرية منهم.

والتعبير بالملاقاة دال على أن المنافقين يجتنبون المؤمنين لبغضهم إياهم فلا يجالسونهم بقدر ما أمكن لهم ذلك، لأن الملاقاة هي المصادفة من غير موعد ولا قصد، بينما التعبير بالخلوة مع الشياطين دال على خلاف ذلك من حصول المودة والأنس، لأن النفس لا تنفرد إلا بمن تطمئن إليه وتأنس به، ويُقوِّي هذا المعنى تعدية فعل (خلوا) بحرف (إلى) مع أن الأصل فيه أن يتعدى بـ (الباء) أو (مع)، فإن هذه التعدية دالة على تضمين فعل آخر يتعدى بهذا الحرف وهو (سكن) أو (اطمئن) فصار معنى الكلام: وإذا انفردوا بشياطينهم مطمئنين إليهم، وهذا أولى من أن يكون الفعل المضمن (انصرفوا)، لأن الانصراف معلوم بحصول الخلوة وليس فيه زيادة فائدة.

والمراد بالشياطين: سادة المنافقين وكبرائهم، فالشيطان هو كل متمرد من الإنس والجن، كما قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً) [الأنعام:١١٢] وهو مشتق من شطن أي بَعُد، يُقال شطن عنه: بَعُدَ عنه. وأشطنه: أبعده. وبئر شطون أي بعيدة القعر. فسُمي الشيطان شيطاناً لبعده عن الله وتمرده، وكذلك هو شأن كل متمرد من الخلق.

وفي لقاء المنافقين بالمؤمنين وخطابهم إياهم اكتفوا بقول (آمنا) دون توكيدٍ بـ (إنَّا)، وذلك لأن المؤمنين لا يرتابون في أمرهم لعدم اطلاعهم على حقيقة نفاقهم فلا يحتاج المنافقون إلى تأكيد الإيمان لهم، بل إنَّ تأكيده من دون سبب مبالغة تبعث على التشكيك فيهم، وأما في خطابهم هنا مع كبرائهم قالوا (إنَّا معكم) لأن كبرائهم كانوا مطلعين على ما يفعلونه من التقلب والتلون حتى صاروا يرتابون فيهم لفرط احترافهم الظهور بمظاهر التقوى والإيمان، فكان التوكيد بـ (إنا معكم) دفعاً لأن يتشككوا فيهم.

والآمر لهم بالإيمان هنا كالناهي لهم عن الإفساد في قوله المتقدم: (لا تفسدوا في الأرض) وهو مؤمن اطَّلع على أحوالهم لقرابة أو صداقة فأخلص لهم النصيحة وستر عليهم رجاء أن يهتدوا، وعملاً بسنة المصطفى معهم إذ أنه عليه الصلاة والسلام كان يتجاوز عنهم تأليفاً لقلوبهم ولئلا يكون قتلهم ذريعة إلى نفور الناس عن دعوته مظنة أنه يقتل أصحابه.

والله لا يفوته أمر هؤلاء، بل يعاملهم ويجازيهم على جنس أعمالهم من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون ولهذا أعقب بقوله: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)

اعلم أن الاستهزاء هو فعل أو قول ما يُقصد به الانتقاص والتحقير من شأن المستهزأ به، وقد يكون على وجه من اللعب والعبث، وقد يكون على وجه من الحكمة والعدل كالاستهزاء المسند إلى الله تعالى هنا، وهو بمعنى أنه تعالى يُظهِر للمنافقين من أحوال الدنيا الحسنة خلاف ما ينتظرهم من العذاب والنكال. فكما أظهر هؤلاء الإيمان خلاف الكفر على وجه من الانتقاص والتحقير، أظهر الله لهم العصمة والأمان خلاف السخط والعذاب انتقاصاً وتحقيراً لهم، وهذا المعنى جائز في حقه تعالى على الحقيقة، فالحاصل أن هؤلاء يزدادون إثماً ليزيدهم الله خزياً وعذاباً؛ وما ذلك إلا لهوانهم عليه، وسقوط منزلتهم عنده.

وقيل في تفسير الاستهزاء أنه على سبيل المشاكلة اللفظية التي تعني تطابق اللفظين في المبنى واختلافهما في المعنى، فيكون استهزاء المنافقين هو الاستهزاء المعهود منهم، وأما استهزاء الله بهم فهو مجازاتهم على ذلك، وإنما سمَّى مجازاته لهم بالاستهزاء؛ دلالةً على عدله سبحانه في مجازاة العباد فكأن العبد يُجزَى بنفس الفعل الذي فعل.

والقول بالمشاكلة مرجوح أمام القول المتقدم لثلاثة وجوه: أولها: أن المشاكلة اللفظية تعني صرف اللفظ عن ظاهره لوجود ما يوجب ذلك وهو أن فعل الاستهزاء لا يليق بالله جل وعلا، وهذا في الحقيقة وهمٌ لا موجب له، لأن فعل الاستهزاء مثل أفعال المكر والكيد والخداع ونحوها، ليس قبيحاً على إطلاقه، بل يكون كمالاً في حال، كإيصال الفعل لمن يستحق، ويكون نقصاً في حال كإيصاله لمن لا يستحق، ومنه ما يليق، ومنه ما لا يليق، فيصح إسناده إلى الله مقيَّداً بحال الكمال اللائق بالله تعالى. فالله يستهزئ ويسخر ويمكر ويكيد ويخادع، كما أخبر عن نفسه سبحانه في كتابه، لا بالمعنى القبيح الذي قد يتبادر إلى الذهن ولكن بالمعنى الحسن المتلبس بالحكمة والعدل كما يليق به سبحانه. فاستهزائه بالمنافقين: إظهار الأحوال لهم بخلاف مآلاتها انتقاصاً وتحقيراً. وهذا فعل كمال، موجب للمدح والثناء، فلا مانع من إثباته لله كما أثبته لنفسه، ولا موجب لصرفه عن ظاهره إلا قصور في فهم حقيقته.

الوجه الثاني: أن المجازاة تقتضي تنزُّل العقوبات، وقد أخبر تعالى أنه يستهزئ بهم حاضراً فلو كان الاستهزاء بمعنى المجازاة لحصل مقتضاه من تعذيبهم ومعاقبتهم، ولكن ذلك لم يحصل بل حصل نقيضه من العصمة والأمان.

الثالث: أنه تعالى ذكر المد وهو الزيادة بعد الاستهزاء بقوله: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) فكان ذلك كالبيان لحقيقة الاستهزاء وهو أنه يزيدهم بأسباب طغيانهم كالمال والأولاد، وهذا أتم في التناسق من معنى المجازاة، لأن المجازاة في الغالب تقتضي المنع لا الزيادة.

والطغيان هو مجاوزة الحد في كل شيء، يُقال: طغى الماء أي: فاض وزاد كثيراً، ومنه قوله تعالى: (إنَّا لما طغا الماء حملناكم في الجارية) [الحاقة:١١]، ويُقال: طغى الدم إذا هاج وثار، والمراد هنا: مجاوزة الحد في الكفر والفسوق والعصيان.

والعمه هو التردد والحيرة والتخبط، يُقال عمه الرجل إذا ضلَّ ولم يعرف طريقه، وأرض عمهاء أي أرض بلا أمارات أو أعلام يُهتدى بها، فقوله (يعمهون) أي: يتخبطون في الضلال، فلا يبصرون حقاً، ولا يهتدون سبيلاً.
 
والكلمة الأخيرة في هذا السياق، تُقرِّر حقيقة بوارهم وخسارهم، وضلال سعيهم واضمحلال أعمالهم، فلا يحسبن أحد أنهم ظفروا وأفلحوا بما تحقق لهم من العصمة والأمان، أو كثرة الأموال والأولاد: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين)

من لطيف البيان في هذه الآية أن عبَّر بالشراء والربح والتجارة في معرض الحديث عن خسران المنافقين وبوار أعمالهم، وهي الأمور التي إليها تهفوا قلوبهم، وعليها تنصب همومهم، فأفاد ذلك ما أفاد من التقريع والتحسير والتهكم بهم.

والشراء هو أخذ الشيء بثمن. فالمأخوذ هنا هو الضلالة، والثمن المبذول هو الهدى. وهي استعارة بليغة تصور رغبة هؤلاء في الضلالة وزهدهم في الهدى، لأن الشراء لا يكون إلا عن رغبة وطمع في الشيء المُشترَى مع الزهد في الثمن المبذول مقابله.

فإن قيل: كيف بذلوا الهدى ثمناً وما كانوا مهتدين قط؟ فالجواب أنه جعلهم كالمالكين للهدى من جهة تلبسهم به في الظاهر، فإنهم كانوا يأتون أعمال الهداية من صلاة وإنفاق، وكانوا يتلون كتاب الهداية ويُخالطون المهتدين ويخرجون معهم في الغزوات، فلمَّا آثروا الضلالة على كل ذلك كانوا كالذين استبدلوا شيئاً يملكونه بشيء آخر يطمعون فيه.

أما قوله بعد ذلك (وما كانوا مهتدين) فاعلم أن انتفاء الهداية عنهم مفهوم من اشترائهم الضلالة بالهدى كما تقدم في الآية، وهو ما يقتضي حمل الكلام على معنى آخر إذ لو كانت الهداية المنفية هنا هي نفسها الهداية المنفية في قوله (اشتروا الضلالة بالهدى) لكان ذلك تكراراً بلا فائدة، ولكن الفائدة تحصل بالتفريق بين الهدايتين، فالهداية الأولى هي الهداية الدينية، والهداية الثانية هي الهداية لطرق التجارة الرابحة، وعليه فقوله تعالى (وما كانوا مهتدين) زيادةُ نَعْيٍ عليهم بمعنى: وما كانوا راشدين في تجارتهم تلك، لأن الهدى بمثابة رأس المال الذي هو أساس التجارة، فلا خسارة بعد خسارته.

وبعد أن بيِّن تعالى حقيقة خسارهم وفساد طريقتهم أتبع بضرب الأمثال زيادةً في التوضيح والبيان. وهذا من بلاغة القرآن وفصاحته وجماله، فتارة يُعبِّر بأسلوب وتارة يُعبِّر بأسلوب آخر؛ فإذا بالصورة تزداد وضوحاً على وضوح، وإذا بالمُخاطَبِ ينشط لما يراه من تنوع أساليب الخطاب: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون)

اعلم أن الغرض من ضرب الأمثال: تقريب المعنى للأفهام بالتشبيه، فالخفي يُشبَّه بالجلي، والغائب بالمُشاهَد، والمجهول بالمعلوم. وهو أسلوب بليغ من أساليب الوعظ والإرشاد؛ يقوم على تجسيد المعنى في صورة المحسوس بما يدفع العقل إلى التخيل والقياس، فإذا بالمعنى ينجلي تمام الانجلاء، ويكتسب جمالاً من الصورة الحسِّية المتخيَّلة فيكون ذلك أدعى لقبول النفس له، والاقتناع به.

والمثل المضروب ههنا على بساطة تركيبه فيه من العمق والجمال ما يأخذ بالألباب: إنه يصور رجلاً يستوقد ناراً لعله ينتفع بها في إزالة الظلمة وفي تلبية حاجاته الأخرى. إنه لا يوقد النار ببساطة، بل يستوقدها، أي يبذل الجهد والوسع في ذلك، فليس (استوقد) بمعنى (أوقد) لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وهو ما يشير إلى شدة حاجة الرجل إلى تلك النار مما أوجب عليه بذل هذا الجهد في تحصيلها.

ولكن هذه النار لمَّا أضاءت واشتد أوارها، حتى أبصر الرجل ما حوله وأمِنَ بها واستأنس، أتاه بأس الله بغتةً، فأطفأ النار، وذهب بالنور، ولم يُبقِي إلا الظلمات المتراكمة؛ فلا إبصار ولا أمْنَ ولا انتفاع. وهذا هو مثل المنافقين في انتفاعهم الدنيوي القليل المنقطع، وما يصيرون إليه في النهاية من ظلمات يوم القيامة. فالرجل الذي يستوقد ناراً فتنير ما حوله تمثيل للمنافق الذي يُظهر الإيمان لمن حوله وهو يُبطن خلافه. وانتفاعه بالإضاءة مؤقتاً؛ تمثيل لانتفاع المنافقين بعصمة دمائهم وأموالهم في الدنيا قليلاً.

ثم ذهاب الله بنورهم وتركهم في الظلمات الشديدة المطبقة، تمثيل لما يحصل لهم في الآخرة من العذاب والحرمان والنكال، فإن الله يحرمهم من النور في الآخرة بما كسبت أيديهم، ومصيرهم هو الدرك الأسفل من النار.

ومن لطيف البيان أن حمل أول الكلام على صيغة المفرد حيث قال: (الذي استوقد) و(حوله) بينما حمل آخره على الجمع بقوله: (بنورهم وتركهم) مع أن السياق يقتضي "بنوره وتركه"؛ فكان في هذا الجمع بين الصيغتين تنويعاً لفظياً يُنشِّط همة السامع ويلفت انتباهه لما جُبلت عليه النفوس من حب التنقل والتنوع، مع كونه إشارة إلى أن النفاق يمكن أن يكون حالة فردية كما يمكن أن يكون حالة جماعية.

ثم شبَّه تعالى حال المنافقين بحال من فقدوا حواسهم من جهة عدم انتفاعهم بها في معرفة الحق واتباعه: (صم بكم عمي فهم لا يرجعون)

قيل: هذه الآية استكمال لمثل المستوقد في الآية السابقة. والأظهر أنها تشبيه منفصل عما تقدم لعدم تآلف المعنى، فإن ذهاب النور يحول دون الإبصار كما ذكر في قوله (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) ولكنه لا يُورث صمماً ولا خرساً كما قال هنا: (صم بكم).

وقد نفى الله عنهم الإبصار بقوله: (لا يبصرون)، بينما قوله هنا: (عمي) وصف مغاير لما تقدم، لأن الإصابة بالعمى ليست كعدم الإبصار لمجرد ذهاب النور. فإن قيل: (لا يبصرون) بمعنى (عمي)، قلنا: إن (عمي) تكرار إذن، والتجديد أولى من التكرير.

الأكثر من ذلك أن عدم الإبصار سيق للدلالة على عدم انتفاع المستوقد بالنار تمثيلاً لعدم انتفاع المنافقين بأعمالهم، ثم قوله: (صم بكم) لا وجه له في هذا التمثيل، لأن المستوقد إنما ينتفع بالنار في إبصار الأشياء، ولا ينتفع بها في سماع الأصوات أو النطق بالكلام.

وتشبيه هؤلاء بمن عُدمت حواسهم من نوع التشبيه البليغ الذي يُوصف بأنه أعلى مراتب التشبيه في البلاغة وقوة المبالغة، وهو التشبيه الذي تُحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه معاً، كقولهم: العلم نور، ومحمدٌ بحر. أما بلاغته فمن جهة الإيجاز وتعدد الدلالات، وأما قوة المبالغة فمن جهة الادِّعاء بأن المشبَّه هو عين المشبه به لحذف ما يفصل بينهما وهو أداة التشبيه فكأنهما شيء واحد.

ووجه الشبه هنا يتبين بما تقدم من صفات هؤلاء وهو عدم انتفاعهم بحواسهم من أجل الاهتداء إلى الحق، فهم (صم) لا يسمعون الحق سماع استجابة، (بكم) لا ينطقون بالحق والصدق، (عمي) لا يبصرون الحق إبصار اعتبار. ولمَّا عَطَّلوا حواسهم عن الانتفاع بها في ذلك ما كانوا ليرجعوا عن غيِّهم وضلالهم: (فهم لا يرجعون).
ثم ضرب تعالى مثلاً آخر لهؤلاء زيادةً في الكشف والبيان: (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين)

هذا المثل يفيض بالحركة والحسِّيَّات بخلاف المثل المتقدم جرياً على التنويع الذي تميل إليه النفوس بطبعها، والتوسع الذي هو برهان البلاغة والبراعة. فإذا كان المثل المتقدم يرينا الحركة الهادئة لاتقاد النار وذهاب نورها، فإن هذا المثل يضعنا في قلب عاصفة: صيِّب وظلمات ورعد وبرق وصواعق تنزل بساحة قوم لا يملكون إلا أن يسدُّوا آذانهم بأناملهم خوفاً واحترازاً من الموت.

وابتداء المثل بحرف (أو) يفيد التخيير بين شيئين بمعنى: مثِّلوهم بهذا أو بهذا، وهو ما يشير إلى اختلاف الحالين المشبَّهين لأن التخيير لا يكون بين متماثلين، فكأنه قال: إن شئتم مثِّلوهم بقوم أوقدوا ناراً فما لبثت أن طفئت وذلك من جهة عدم انتفاعهم بنفاقهم، أو مثِّلوهم بقوم نزل بهم مطر شديد في ظلمات مصحوبة بالرعد والبرق والصواعق وهم في وسط ذلك خائفين مضطربين؛ وذلك من جهة خوفهم واضطرابهم بفعل نفاقهم، قال تعالى في حق هؤلاء: (يحسبون كل صيحة عليهم) [المنافقون:٤] وهذا لشدة خوفهم من أن يُفتضح أمرهم، وقال أيضاً: (وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) [التوبة:٥٦] أي: يخافون. وقال في شأن اضطرابهم: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) [التوبة:١١٠] والريبة: اضطراب النفس بالشك والظن والوهم وغير ذلك. وكذلك قال فيهم: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء:١٤٣] أي: متحيرين مترددين.

وقيل: إن (أو) للتفصيل، بمعنى أن بعضهم يُشبَّه بالذي استوقد ناراً وهم الذين خَلُص نفاقهم، وبعضهم يُشبَّه بأصحاب الصيِّب وهم الذين يتقلبون بين كفر وإيمان، وما تقدم أظهر لأن السياق كله في بيان المنافقين خالصي النفاق.

وقد سلك أهل التفسير مسلكين في بيان هذا المثل البديع لما فيه من غزارة الألفاظ، فمنهم من جعله من التمثيل المفرَّق، ومنهم من جعله من التمثيل المركَّب. أما التمثيل المفرَّق فهو أن تتقابل أجزاء الحالتين في التشبيه بأن تُؤخذ كل كلمة بمفردها وتُشبَّه بما يناظرها في الحالة الأخرى، فيكون الصيِّب تشبيهاً للإسلام، والظلمات تشبيهاً لما في قلوب هؤلاء من الشكوك والأوهام، والرعد تشبيهاً لآيات الوعيد والتهديد، ونحو ذلك من تشبيهات.

وأما التمثيل المركَّب فهو تشبيه حالة بأخرى دون انفصال الأجزاء عن بعضها البعض واختصاص كل جزء بمعنى، بحيث يُنتزع وجه الشبه من امتزاج تلك الأجزاء وتآلفها، فيكون المقصود بالآية: تشبيه حال المنافقين في شدة خوفهم واضطرابهم وحيرتهم بفعل نفاقهم بحال أصحاب الصيِّب في شدة خوفهم من الصواعق، واضطرابهم وحيرتهم عند لمعان البُروق في الظلام الدامس.

ومن أمثال التمثيل المركَّب في القرآن قوله تعالى: (واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح) [الكهف:٤٥] فالمقصود: تشبيه سرعة زوال الدنيا بسرعة ذبول النبات، وليس تشبيه الماء بشيء، ونبات الأرض بشيء، والهشيم بشيء، والرياح بشيء.

وهذا النوع من التمثيل هو الأليق بجلال القرآن هنا، إذ أن القول بالتفريق ينضوي على التعارض بين مفردات الجملة الواحدة، فمن قال إن الصيِّب تمثيل للإسلام أو الوحي المنزَّل؛ لم يسلم من معنى: (فيه ظلمات)، ومن جعل البرق تمثيلاً للحق أو الآيات البينات لم يسلم من معنى: (وإذا أظلم)، فلا يليق التمثيل للإسلام والحق بمثل ذلك، ولا يصح تحميل بعض الكلام بما لا يلتئم مع بعضه الآخر.

وقوله تعالى في الختام: (والله محيط بالكافرين) يعني أنه محيط بهم علماً وقدرة، فهم تحت رقابته لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وهم تحت مشيئته النافذة وإرادته الشاملة؛ فلا يمنعه مانع من إنزال العقوبة بهم.
والملاحظ أن الآية التالية استكمال للمثل، فقوله: (والله محيط بالكافرين) جملة اعتراضية سيقت تنبيهاً على حقيقة كفر هؤلاء، وأن المثل مضروب لمن خَلُص نفاقهم واستحكم الكفر في قلوبهم، لا لمن اجتمع فيهم إيمان ونفاق وهم أصحاب القلب المصفح كما توهم مفسرون.

ولمَّا بيَّن تعالى حال أصحاب الصيِّب عند الرعود وأثر ذلك على أسماعهم، أتبع ببيان حالهم عند البُروق وأثر ذلك على أبصارهم: (يكاد البرق يخطف أبصارهم، كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير)

استكمالٌ لما تقدم من التمثيل لحال المنافقين في الآية السابقة، فكأنه تعالى قَسَم المثل إلى قسمين: الأول يُراد به بيان خوفهم وفزعهم من جهة ما يسمعون: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت)، والثاني يُراد به بيان حيرتهم واضطرابهم من جهة ما يُبصرون: (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا).

وإنها لصورة حسِّية تبلغ مداها في التعبير عما هم فيه من حيرة وانزعاج واضطراب، حيث يُوشك البرق أن يُعمي أبصارهم لقوة لمعانه ومباغتته لهم، فيُزعج حواسهم ويُشوِّش أذهانهم، وهم مع ذلك في اضطراب ما بعده اضطراب، وفي حيرة ما بعدها حيرة إذ يمشون في ضوء البرق كلما أضاء لهم، ثم يقفون مكانهم إذا ذهب نوره وأظلم عليهم الطريق، فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، ولا يزيدهم ضوء البرق الخاطف إلا اضطراباً وتحيراً.

وهذا هو مثل المنافقين في مسالك نفاقهم ودروب ضلالهم، فإن قلوبهم لا تعرف الاستقرار ولا الطمأنينة، وهم أنفسهم لا يستقرون على حال بل تارة مع المؤمنين دون إخلاص دينهم، وتارة مع المشركين دون انتحال ملتهم، فهم في غاية الحيرة والاضطراب في شأن دينهم كما وصفهم تعالى بقوله: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء:١٤٣].

ثم ختم سبحانه الآية بالإخبار عن نفاذ مشيئته وكمال قدرته تخويفاً وترهيباً: (ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير) أي: ولو شاء الله لأصمَّ آذانهم وأعمى أبصارهم، سواء بزيادة الرعد والبرق أو غير ذلك من أسباب فإن كل شيء تحت تدبيره وتصرفه.

وقوله: (إن الله على كل شيء قدير) بمنزلة التعليل لما ذكر من سلب السمع والأبصار كيف يشاء، فإنه من كان متصفاً بالقدرة على كل شيء لم يكن ليعجزه مطلوب ولا أن يفوته هارب. فكأنه قيل: هو قادرٌ على ذلك السَّلْبِ لكمال قدرته.

ولمَّا فرغ تعالى من بيان أقسام الناس عند قيام دولة الإسلام، أتبع بمخاطبة الناس جميعاً بالأمر الذي خُلقوا لأجله؛ وهو عبادة الله تعالى وحده: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون)
هذا هو أول نداء يُنادَى في القرآن وأول تكليف يُكَلَّف فلا جرم أن يكون أمراً للناس بتوحيد العبادة؛ إذ أن توحيد العبادة أساس الإسلام ورأس الدعوة إلى الله تعالى. فالمقصود بقوله: (اعبدوا ربكم) أي: أفردوه وحده بجميع أنواع العبادة من دعاء وصلاة واستغاثة ونحر ونذر وخوف وحب ورجاء، وغير ذلك من عبادات قلبية وعملية، باطنة وظاهرة. وهذا بدلالة قوله (ربكم) فإنه يُشير إلى اختصاصه بالربوبية ووجوب إفراده بالعبادة بحكم هذا الاختصاص إذ لا رب لهم سواه. فكأنه قال: اعبدوني ملاحظين معنى الربوبية وما يستوجبه ذلك من توحيد عبادتي.

ومن معاني اسم الرب: المالك، والسيِّد، والمدبر، فقوله هنا (ربكم) تصريحٌ بكونه مالكاً للعباد وسيِّداً لهم وقائماً على تدبير جميع مصالحهم وشؤونهم. فإذا استحضر العبد ذلك وعرف عظمة مالكه وسيِّده ومدبِّره؛ لم يجد بداً من الانقياد له خشوعاً لعظمته وخضوعاً لجلاله.

وكذلك فمن معاني هذا الاسم: المربِّي لعباده بأصناف النعم التي لا يحصيها إلا هو. فإذا استحضر العبد هذه النعم وتفكر فيها؛ رقَّ قلبه ووجدانه، ولم يجد بداً من محبة الرب بصدق، ومقابلة إحسانه بطاعته فيما يحب.

ثم ذكر تعالى الموجبات لتوحيد عبادته فقال: (الذي خلقكم والذين من قبلكم) أي: وحِّدوا عبادته لأنه الذي أوجدكم في أحسن هيئة وتقويم بعد أن كنتم عدماً، كما أوجد الذين من قبلكم.

والخلق يُطلق على معنيين: الأول: الإيجاد من العدم، كقوله تعالى: (قل هل من شركائكم من يبدئ الخلق ثم يعيده) [يونس:٣٤] وهو فعل خاص بالله وحده. والثاني: تحويل الشيء من صورة إلى صورة أو هيئة إلى هيئة كقوله تعالى: (ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً) [المؤمنون:١٤] فقوله (خلقنا) يعني: صيَّرنا وحوَّلنا. والخلق بهذا المعنى يصح إسناده إلى غير الله تعالى كإسناده إلى عيسى عليه السلام في قوله: (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني) [المائدة:١١٠] إذ معناه التصوير والتشكيل لا الإنشاء والإيجاد.

ولم يكتفي بقول (الذي خلقكم) مع دلالته على خلق جميع جنس البشر بل قال أيضاً: (والذين من قبلكم) زيادةً في بيان عظمته سبحانه وكمال قدرته، فهو خالق الأولين والآخرين، كان ولا يزال خالقاً مُوجِداً للآدميين. وفي هذا زيادة امتنان عليهم؛ لأن من طبع الناس أن يتفاخروا بأصولهم وأسلافهم.

وقوله (لعلكم تتقون) بيانٌ لغاية تكليف الناس بتوحيد العبادة: أي لتخشوا الله تعالى وتتخذوا ما يقيكم من غضبه وعقابه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

فالتقوى هي الخشية الموجبة للطاعة، تلك الخشية التي تملأ القلب إيماناً ويقيناً بعظمة الله تعالى وكمال قدرته، وشدة قوته وعذابه، فتدفع العبد إلى النهوض بالطاعات، وترك المحرمات، والوقوف عند كل حد، والمسارعة إلى كل بر. فالتقوى أعظم باعث على الطاعة لأن النفوس لا يحركها شيء كما يحركها الخوف من العقوبة والعذاب. ولمَّا كانت هذه السورة أكثر سور القرآن اشتمالاً على الأوامر والأحكام، فلا عجب أن تكون أكثر السور تضمناً لآيات التقوى بنحو واحد وثلاثين آية.

و(لعل) كلمة تحتمل معانٍ عدة، منها: الرجاء كما في قوله تعالى: (إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) [القصص:٢٩] فقوله (لعلي) بمعنى أرجو؛ لأن المقام مقام طمع وترجِّي.

ومنها: الاستفهام كقوله سبحانه: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) [الشعراء:٣] فهو استفهام إنكاري متضمن معنى النهي؛ أي: لا تبخع نفسك.

ومنها: التعليل، كقوله تعالى هنا: (لعلكم تتقون) فإن معناه: لتكونوا من المتقين. وقِس عليه ما يناظره في القرآن من قوله تعالى: (لعلكم تعقلون)، (لعلكم تشكرون)، (لعلكم تهتدون)، فإن معناه: لتعقلوا، لتشكروا، لتهتدوا.

وأما حمل هذه الكلمة على معنى واحد والتزامه في كل موضع، فلا يصح ولا يستقيم حتى مع تكلف ذلك، إذ لو التزمنا معنى التوقع وهو الرجاء في المحبوب والإشفاق من المكروه، وجعلناه في جانب المخاطَبين لا المتكلم كما يقول أصحاب هذا القول لما استقام ذلك في قوله تعالى: (كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) لأن التفكر في المتناول وليس بشيء يُرتقب حصوله، كما أن الغاية من بيان الآيات كما هو بيِّن: التفكر وليس رجاء التفكر، فلا يستقيم أن يكون المعنى: لترجوا أن تتفكروا.

وكذلك لا يستقيم معنى الإشفاق في قوله: (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) [هود:١٢]، لأن الإشفاق يكون من شيء متوقع حصوله، ومعلوم أن ترك الرسول لبعض ما يُوحى إليه ليس كذلك لعصمته.

ومثل ذلك يُقال في معنى الاستفهام ومعنى التعليل، فإن قوله: (لعلكم تتقون) ونحوه لا يحتمل معنى الاستفهام، كما أن قوله: (وما يدريك لعل الساعة قريب) [الشورى:١٧] لا تعليل فيه. فالصحيح كما قدمنا أن كلمة (لعل) يختلف معناها بحسب السياق الذي تجيء فيه، وقد تعلقت هنا بالغاية من الأمر بالعبادة وهي التقوى فدلَّ ذلك على معنى التعليل.

وإنما جاء بهذه اللفظة التي تفيد الترجي في أصل استعمالها إشعاراً بواجب الرجاء من جانب العبد، فإن شأن العبد لا يستقيم من غير الطمع في فضل الله ورحمته.

ثم أردف تعالى بالمزيد من موجبات توحيد عبادته فقال: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)

اعلم أن الإنسان أسير الإحسان، وهذا من صميم طبيعته وفطرته فإنه يتأثر بالنعم تأثراً بالغاً يدفعه إلى محبة المحسن إليه والسعي في مراضيه ومحابِّه. وكلما كان الإحسان أعظم؛ كلما كانت المحبة والسعي على قدر ذلك. ولهذا يكثر في القرآن الحديث عن نعم الله بعد الأمر والتكليف، كقوله تعالى في سورة إبراهيم: (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءً) فإنه جاء بعد أمره وتكليفه: (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم).

وكذلك الشأن هنا، فبعد أن كلَّفهم تعالى بقوله: (يا أيها الناس اعبدوا ربكم) أتبع بذكر أعظم النعم الدالة على عظيم قدرته وكمال صنعته ليحملهم ذلك على تعظيمه ومحبته وطاعته فقال: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً) والفراش: ما يفترشه الإنسان ليستقر عليه بالجلوس والنوم ونحوه، فشبَّه الأرض بالفراش من جهة صلاح الأرض للاستقرار عليها، حيث جعلها الله ممدودة مبسوطة ليسهل على الناس الإقامة عليها والسير في آفاقها والهجرة بين أجزائها.

ثم عطف على صنعة الأرض بصنعة السماء انتقالاً من الدليل الأقرب إلى الأبعد: (والسماء بناء) البناء في اللغة: ما بُني من الحجارة سواء أكان بيتاً أو سقفاً أو قبة، والمراد هنا السقف كما قال تعالى: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) [الأنبياء:٣٢] فشبَّه السماء بالسقف من حيث أن نفعها كنفعه في حفظ الناس من الأضرار النازلة عليهم كالنيازك والأشعة الشمسية الضارة.

هذا البناء الذي يدل العباد على عظمة الصانع لعظيم جماله وإحكامه، هو كذلك مصدر رزق لهم: (وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم) أي: أنزل من السماء مطراً عذباً فراتاً من أجل إنبات الثمر عطاءً لكم تنتفعون به سواء بالأكل منه أو النظر إلى حسنه وجماله أو بيعه والتجارة فيه أو الاستدلال به على عظيم قدرة الخالق وحكمته ورحمته كما قال تعالى: (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون) [الأنعام:٩٩]، فالرزق: كل عطاء ينتفع به الإنسان.

فتأمل كيف بيَّن الله للناس في الآية السابقة بأنه خالقهم وخالق أسلافهم، ثم بيَّن لهم هنا بأنه خالق عالمهم بما فيه من سماوات وأراضٍ، وأنه المتكفل بأرزاقهم وأقواتهم، فأعلمهم بذلك أنه وحده المستحق لكل عبادة وشكر وطاعة لتفرده في جميع ذلك، فلا فضل إلا فضله، ولا رزق إلا رزقه، ولا عظمة إلا عظمته، فهو وحده الحقيق بأن يُعبَد ويُبجَّل، ويُحبَّ ويُعظَّم.

وتشبيه الأرض بالفراش ثم السماء بالبناء، تعبير لطيف يحرك الفكر والوجدان: إنه يصور الأرض والسماء كما لو كانتا منزلاً فسيحاً تسكن فيه البشرية مستقرةً على فراشه الهنيء المريح، محتميةً بسقف بنائه المرتفع المتين!

ولمَّا كانت هذه الأدلة موجبة لترك الشرك والتنديد، رتَّب عليها هذا الزجر: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون) أي: فلا تجعلوا لله أمثالاً ونظراء تسمونها آلهة، تصرفون لها من العبادة ما لا يجوز صرفه إلا لله وحده، وتعتقدون فيها النفع والضر، وأنها أهلٌ للتقديس والتشريف، والحال أنكم تعلمون أنها لا تخلق ولا تملك، ولا تسمع ولا تبصر، ولا تتصف بشيء من صفات الكمال، ولا تفعل شيء مما يفعله الإله.

فالند هو النظير والمثيل، وعلى التحقيق: ما كان مثل الشيء يُضاده في أموره، وهو مأخوذ من ندَّ البعير إذا نفر وشرد وباعد، ثم أطلق على النظير المخالف لنظيره لما يقع بينهما من التنافر والتباعد.

وفي قوله: (وأنتم تعلمون) ما لا يخفى من الذم والتشنيع لشأنهم، لأن ارتكاب الباطل مع العلم الموجب لتركه أقبح من ارتكابه دون العلم بذلك لما فيه من معاندة الحق.

وبعد أن أقام تعالى الحجة على وحدانيته ووجوب عبادته، أعقب بإقامة الحجة على صدق رسوله وربانية كتابه باعتبارهما الوسيلة الموصلة إلى كيفية عبادته، ولأنه لا سبيل إلى تحقيق التقوى التي هي غاية التوحيد والعبادة إلا باتباع الرسول والكتاب المنزَّل عليه: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين)

هذا هو التحدي الأول في القرآن لمعارضيه والمرتابين فيه، وهو أن يأتوا بسورة واحدة تماثله في حسن بيانه وجمال نظمه وقوة معانيه، وأن يستعينوا بآلهتهم المزعومة على ذلك إن كانوا صادقين فيما يزعمون من أنه قول البشر.

ويتضمن هذا التحدي إثبات ربانية القرآن وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. أما إثبات ربانية القرآن فظاهر بعجزهم عن الإتيان بشيء يُماثله مع كونهم أهل الفصاحة والبيان. وأما إثبات نبوة محمد وصدقه فيما يبلغه عن ربه، فمأخوذ من ثبوت ربانية الكتاب نفسه وإعجازه لمخالفيه، لأن صدق الرسول يُعرَف بالبينات والمعجزات الخارقة للعادة الخارجة عن قدرات الناس والخلق، فإذا ثبت أنه الكتاب المعجز للخلق كلهم؛ ثبت أن الذي جاء به رسول من عند الله بحق.

ومثل هذا التحدي يتكرر في القرآن على أكثر من وجه تأكيداً لحقيقة الإعجاز وتقريعاً لمعارضيه، فتارة يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بكتاب مثله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) [الإسراء: ٨٨] وتارة يتحدى المخالفين أن يأتوا بكلام يماثله: (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) [الطور:٣٤] وتارة يتحداهم أن يأتوا بعشر سور مماثلات: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) [هود: ١٣] وتارة يتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مماثلة كما الشأن هنا وفي سورة يونس كذلك: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون اللّه إن كنتم صادقين) [يونس: ٣٨].

وهو التحدي الذي يتناسب مع طبيعة القوم الذين نزل فيهم القرآن باعتبارهم أرباب الفصاحة والبلاغة، فكان هذا التحدي المعجز لهم في مجال فخرهم واختصاصهم زلزلةً لكيانهم، ثم كان تكراره مرة تلو الأخرى وعلى مستويات متفاوتة أبلغ في تقريعهم إذ يعجزون عن ذلك مراراً وهم أهل الشأن وفرسان الميدان.

وفي قوله تعالى (ونزلنا على عبدنا) ما لا يخفى من التنويه بشأن نبيه الكريم؛ حيث وصفه بالعبودية التي هي أشرف الصفات في مقام تنزيل القرآن عليه منجَّماً، وأضافه إليه تنبيهاً على عظيم منزلته عنده واختصاصه به، فجمع له بين شرف الوصف والمقام، وشرف النسبة والإضافة.

وقوله تعالى: (وادعوا شهداءكم من دون الله) يعني أن يدعوا معبوداتهم من دون الله ليعينوهم على فعل ذلك، لا أن يدعوا من يشهد لهم بأنهم قد أتوا بما يماثل القرآن، وهذا ظاهر لقوله: (من دون الله) فلو كان المعنى: ادعوا شهداءكم ليشهدوا لكم، لكان قوله (من دون الله) استثناءً لا فائدة منه لأن الله لا يُدعى للشهادة. وإنما سمَّى معبوداتهم بالشهداء؛ لأنهم كانوا يُغالون في تعظيمها وتقديسها حتى زعموا أنها تشفع لهم عند الله وتشهد لهم بالخيرية إذا بُعثوا يوم القيامة، كما أخبر تعالى عنهم: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس: ١٨].

على أن المعنى الأول وهو دعاء المعبودات للإعانة على مماثلة القرآن، أبلغ في الإفحام والتحدي وإظهار سمو القرآن من دعاء الشهداء لمجرد الشهادة، لأنه يُظهر عجز المعبودات فضلاً عن عجز عابديها.
وقوله: (إن كنتم صادقين) شرط حُذف جوابه لدلالة الكلام عليه دلالة واضحة حتى صار ذكره حشواً لا يليق بالكلام البليغ، ومثل هذا الحذف البليغ كثير في القرآن الذي هو معجزة البلاغة، وتقدير الجواب: إن كنتم صادقين في أن القرآن كلام البشر فافعلوا هذا الذي طُلب منكم.

ثم ذكر تعالى لهم حاصل التحدي مع التهديد والإنذار: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكفرين)

أي: فإن عجزتم عن الإتيان بمثل القرآن، ولن تقدروا على فعل ذلك أبد الدهر، فقد تبين لكم صدق الكتاب وصدق مُبَلِّغِه، فاتقوا ما يتوعدكم به من نارٍ عظيمةٍ تتقد بالناس والحجارة.

ففي الكلام هنا حذف يقتضيه الإيجاز البليغ، لأن مقصود التحدي إثبات صدق الكتاب وصدق مُبَلِّغِه، لا مجرد أمرهم باتقاء النار، كما هو واضح في قوله المتقدم: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا).

ومع أن مقصود الكلام إقامة الحجة عليهم لكي ينزعوا عن ريبهم ويؤمنوا، إلا أنه لم يقل "فآمنوا" بل قال (فاتقوا النار) لأن معارضتهم للوحي لا بد معها من وعيد ترتجف لهوله الفرائص والقلوب وهو النار التي تُسعَّر بالناس والحجارة.

هذا وقد دلت الآية على معجزة القرآن من وجهين: الأول عجز المعارضين في جميع الأزمنة عن الإتيان بمثله مع توفر الدواعي إلى ذلك من شدة العداوة وقوة البلاغة عند بعضهم، فظهر بذلك أنه كلام فوق سلطان البشر.

والثاني: أنه أخبر عن انتفاء معارضته في المستقبل ووقع الأمر كما أخبر فكان ذلك من قبيل الإخبار بالغيب الذي لا يملكه إلا رب البشر. وهي المعجزة الباقية إلى قيام الساعة كما أفاد قوله (ولن تفعلوا) فإن (لن) تفيد التأبيد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء من نبيٍّ، إلا وقد أُعطَى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أُوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة" فقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما كان الذي أوتيته وحياً" يعني أن القرآن هو المعجزة الموجبة للإيمان به واتباعه، وأما رجاؤه بأن يكون أكثر الأنبياء أتباعاً يوم القيامة فلعلمه ببقاء معجزة القرآن حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وأما وجوه الإعجاز في القرآن فهي عديدة، منها: الإعجاز البلاغي وهو قدرة القرآن على إيصال المعاني والمقاصد بأكمل الألفاظ وأساليب البيان على نحو لا يُجارَى ولا يُضاهى، فكل لفظ في موضعه لا أحسن منه في إفادة المعنى والمراد، وكل جملة متَّسقة مع أخواتها أكمل اتِّساق، وفيه من التنوع اللفظي والأسلوبي ما يدل على كمال القدرة في التعبير والبيان، وإذا تكرر الكلام لم يُسأم منه كما يُسأم من كلام البشر؛ بل وجدت فيه من الطلاوة والجمال كلما تكرر، ومع كثرة الآيات والمضامين المترامية المتباينة؛ تراه في غاية الاتساق والتلاحم والانسجام كالجملة الواحدة.

ثم هناك النَظم البديع المباين لكل ما هو معهود من كلام البشر وأساليب خطابهم، فما القرآن بشعر ولا نثر، بل هو قسم خاص متفرد بشهادة خصومه من أرباب البلاغة. وإذا جاء بصورة السجع في كثير من آياته، فلا يُقال بأنه سجع لأن المعنى في السجع تَبَعٌ لِلَّفظ، بينما المعنى في القرآن هو المُقَدَّم واللفظ تَبَعٌ له، ولهذا لا ترى فيه شيئاً من تكلف السجع مهما كثرت فواصله، قال تعالى: (وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون) [الحاقة:٤١] فنفى عنه أن يكون شعراً، ونفى عنه أن يكون قولاً لكاهن أي: سجعاً.
وحسبك في بلاغة القرآن وفصاحته المعجزة، أنه إذا توعد وأنذر جاء بما تنصدع له القلوب وتقشعر منه الجلود من أصناف العذاب والنكال دون شطط ولا إسراف، فتفزع النفس من الموصوف دون نفور ولا انقباض، كقوله تعالى: (يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم الجلود، ولهم مقامع من حديد) [الحج:١٩]، ثم إذا وعد وبشَّر جاء بالترغيب الذي يُشوِّق الأرواح والقلوب دون أن تنجرف النفس مع الشهوة وإن كان الموصوف هو أعظم مُشتهَى، كقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً) [الواقعة:٣٥] وقوله سبحانه: (فيهن خيران حسان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، حور مقصورات في الخيام) [الرحمن:٧٠-٧٢] فسبحان من كان كلامه على هذا الوجه من الحسن والبهاء، والعلو والجمال.

ومن وجوه إعجاز القرآن أيضاً: إخباره بالغيبيات مما كان وسيكون إخباراً دقيقاً مفصَّلاً، ووقوع بعض هذه الغيبيات على وجه مطابق لما أخبر؛ مما يقطع بأنه كلام من يعلم الماضي والمستقبل علماً شاملاً لا يتبعض ولا يتغير. وهذا كله خارج عن طوق البشر.

ومنها: اتصافه بالكمال التام، فلا كذب فيه ولا افتراء، ولا اختلاف ولا تضاد، ولا تعقيد ولا إشكال، ولا قصور ولا نقصان، ولا أخطاء ولا أغلاط، بل كله حق وصدق وعدل، وجميعه فصيح مفيد حسن صحيح، وهذا مع كثرة سوره وآياته، وغزارة قصصه ومواضيعه، وتنوع فنونه وأساليبه، مما يزيد الإعجاز إعجازاً.

ومنها: أنه الكلام الذي لا تنقضي عجائبه وأسراره، ولا تُحصى معانيه وفوائده، فلا يزال العلماء ينهلون من علومه ومعارفه، ويستخرجون كنوزه ودفائنه، فهو معجز من أن يُحاطَ به.

ومنها: تناسب ضروب الخطاب فيه مع عقول البشر على مختلف مشاربهم ومستوياتهم، وتلبية جميع مطالبهم وحاجاتهم في جميع أماكنهم وأزمانهم، ولا يحيط بجميع ذلك إلا اللطيف الخبير بمن خلق.
والمراد بالناس في قوله: (وقودها الناس والحجارة) هم الكافرون كما بيَّن تعالى في سورة آل عمران: (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله وأولئك هم وقود النار) [آل عمران:١٠]. وأما الحجارة فقيل بأنها أصنامهم التي عبدوها من دون الله؛ بدليل قوله تعالى: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها) [الأنبياء:٩٨]. والغاية من حشر الأصنام معهم وتحريقها: تذكير عُبَّادها بما أوجب لهم هذا العذاب فيزدادوا حسرةً وندامة، وكذلك الإيلام النفسي لمن أحبها وتعلق قلبه بها كما فُعل بعجل السامري: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفاً لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفاً) [الطور:٩٧]. وقال بعض الصحابة والسلف: هي حجارة الكبريت لسرعة اتقادها وشدة حرها وقبح رائحتها، والتحقيق أن اللفظ يحتمل كلا القولين، فلا بأس في الجمع بينهما بمعنى أن يكون في النار أصنام وحجارة.

ولا يعني وصف الناس والحجارة بالوقود أن النار لا تتقد إلا بهم، وإنما المعنى أنها تزداد إحراقاً بورودهم فيها، فضلاً عما هي عليه من تلظٍ وإحراق في أصلها، والدليل عليه: اتفاق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، والأحاديث التي تدل على ذلك كثيرة منها حديث أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها قال فرجع إليه قال فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بها فحفت بالمكاره فقال ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها قال فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره فرجع إليه فقال وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد قال اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا فرجع إليه فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها فأمر بها فحفت بالشهوات فقال ارجع إليها فرجع إليها فقال وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها".
وقوله تعالى: (أعدت للكافرين) يعضد ما ورد في السنة من أن النار مخلوقة منذ أن خلقها الله، فإن (أعدت) فعل ماضي يفيد التحقق والوقوع، والإعداد هو التهيئة ولا تكون التهيئة إلا للموجود، فدل الكلام على أن النار موجودة مخلوقة وإن كانت محجوبة عنا كسائر الغيوب.

وإذ توعد تعالى أهل الكفران، أتبع بتبشير أهل الإيمان. وهذه هي طريقة القرآن في الجمع بين الترغيب والترهيب، لأن كمال حال العبد بين الخوف والرجاء: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار؛ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا رزقنا به من قبل وأتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون)

البشارة: الإخبار بما يسر المخبَر به، حتى يظهر أثر ذلك على بشرته. فأصل اللفظ: انبساط بشرة الوجه فرحاً بالخبر، ولهذا يُستعمل في معنى السرور مقيَّداً بالخير وغير مقيَّد كقوله تعالى: (وبشر المؤمنين) [التوبة:١١٢] بينما لا يُستعمل في معنى الغم والحزن إلا مقيَّداً بالشر المبشَّر به كقوله تعالى: (فبشرهم بعذاب أليم) [الانشقاق:٢٤] فلا يُقال قط: وبشِّر الكافرين.

وقوله: (وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أمرٌ من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه ويسلم أن يبشِّر الذين صدَّقوا بالله ورسوله وكانت جوارحهم مصدِّقة لما في قلوبهم بأداء الأعمال التي بها صلاح أحوالهم في الدنيا والآخرة. فاجتمع لأهل الإيمان سببين لسرور القلب: البشارة نفسها، وأن المبشر بذلك هو أشرف الخلق والمرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم.

هذا ولم يتحدث تعالى بالتفصيل عما يذوقه أهل الكفر من صنوف العذاب يوم القيامة في الآية السابقة بل اكتفى بذكر النار التي تتقد بالناس والحجارة وكفى به من ترهيب، بينما فصَّل هنا في نعيم المؤمنين ترغيباً يليق بمقام التبشير؛ فذكر أربعة نعم تشتاق لها النفوس وترتفع لها الهمم:

النعمة الأولى: (أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار) أي: حدائق ذات قصور ومساكن تجري من تحتها الأنهار. وقوله (من تحتها) يعني من تحت أشجار الجنات وقصورها وغرفها لا من تحت أرضها، ويؤكد ذلك وصفه تعالى لأنهار الدنيا بقوله: (وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم) [الأنعام:٦] والشاهد أنه لا عبرة لجريان الأنهار في باطن الأرض وإنما العبرة بظهورها على وجه الأرض ليظهر حسنها وجمالها.

وغالباً ما يذكر القرآن جريان الأنهار في معرض الحديث عن الجنة لأن في هذا الوصف دلالة على الحياة الدائمة والنعيم التام، فالماء هو مادة الحياة، وجريان الأنهار من تحت الجنات؛ يُوحي بتمام نمو الأشجار وكمال عطائها.

النعمة الثانية: (كلما رُزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهاً) أي: كلما رزقهم الله من ثمار الجنة ظنوا أنها نفس الثمار التي رزقهم إياها من قبل في الجنة، ثم إذا تفكهوا بها وجدوها مختلفة في المذاق والنكهة، وهذا بدليل قوله تعالى: (وأتوا به متشابهاً) أي: جيئوا بالرزق متشابهاً في المنظر مختلفاً فيما وراء ذلك، فإن معنى التشابه مفهوم من قولهم المتقدم: (هذا الذي رزقنا من قبل) فلمَّا ذكر ذلك مرة أخرى بقوله: (وأتوا به متشابهاً) وجب حمله على معنى آخر تحصل به الفائدة وهو أن هذه الثمار متشابهة في الشكل متباينة في الطعم. ويشهد لهذا المعنى أن الموضع هنا موضع امتنان بنعيم عجيب متجدد، وهذا لا يكون في حال تشابهت الثمار قلباً وقالباً وإنما يكون في حال تشابهت في المرأى واختلفت في المزايا الأخرى. فالتفكه بثمار الجنة يتجاوز التلذذ الحسِّي إلى التلذذ بالمفاجئة وغرابة الموقف.

فقوله: (من قبل) يعني: من قبل في الجنة، لا من قبل في دار الدنيا كما ذهب مفسرون كثر. والدليل عليه أن قوله (كلما) يفيد التكرار والاستمرار، فلو كان المقصود ثمار الدنيا لحصل التعجب في المرة الأولى دون غيرها، ولكنه يتكرر بتجدد ثمار الجنة نفسها في كل مرة.

النعمة الثالثة: (ولهم فيها أزواج مطهرة) أي: ولهم في الجنات زوجات من حور العين ونساء الدنيا المؤمنات، مطهرات في أخلاقهن من كل خُلُق معيب، ومطهرات في أجسامهن من كل قذر وخبث وآفة، فلهن الحسن والجمال ظاهراً وباطناً. فنساء الدنيا المؤمنات يُلحقهن الله بأزواجهن في الدنيا كما قال تعالى: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم) [الرعد: ٢٣]، وأما اللاتي لا أزواج لهن في الدنيا فإنهن يتزوجن هناك ممن يرتضينه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما في الجنة أعزب".

النعمة الرابعة: (وهم فيها خالدون) أي: لا يموتون ولا يهرمون، بل هم في شباب دائم، وقوة لا تفتر، وجمال لا يتغير. وبهذا الخلود يحصل الالتذاذ على أكمل الوجوه فلا خوف من موت أو فتور أو انقطاع.

اعلم أن شأن المغلوب العاجز عن التحدي أن يسلك مسلك الطعن والتجريح في حق المعارض له انتصاراً لنفسه وتنفيساً لغيظه، فلمِّا عجز الكافرون عن مماثلة القرآن في سورة واحدة من سوره، توجهت ألسنتهم إلى ذم ما جاء فيه من التمثيل بمخلوقات صغيرة حقيرة كالعنكبوت والذباب. ولذلك بعد أن تحدى الله هؤلاء بمماثلة القرآن منذراً المعارضين مبشِّراً المؤمنين كما تقدم، أعقب بالرد على ما أوردوه من الطعن في كتابه العزيز فقال عز من قائل: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين)

أصل الاستحياء في اللغة هو الامتناع عن الشيء خشية الوقوع فيما يُذَم، ومنه قوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء) [القصص:٢٥] أي: تمشي على احتشام، وهو خشيتها وامتناعها عن الوقوع فيما يُذم عند مخاطبة النساء للرجال. وهذا المعنى في حق الله محال، فوجب حمل اللفظ على المعنى الذي يليق به سبحانه وهو امتناعه عن الفعل بغير خشية أو انقباض أو نحو ذلك مما لا يصح.

فقوله تعالى: (إن الله لا يستحيي أي يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها) يعني: إن الله لا يمتنع من أن يضرب مثلاً لبعوضة وما فوقها في الصغر في كتابه.

والذين عابوا على القرآن ضرب هذه الأمثال ليسوا بطائفة واحدة، بل منهم المشركون، ومنهم اليهود، ومنهم المنافقون، كما جاء في أسباب النزول. فقد رُوي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما أنه لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين، يعني قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً)، وقوله: (أو كصيب من السماء)، قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله: (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها).

وروي عن قتادة قوله: لما ذكر الله العنكبوت والذباب، قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يُذكران؟! فأنزل الله هذه الآية. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما نزل قوله سبحانه: (يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له)، فطعن في أصنامهم، ثم شبه عبادتها ببيت العنكبوت، قالت اليهود: أي قدر للذباب والعنكبوت حتى يضرب الله المثل بهما؟! فنزلت هذه الآية.

ولا مانع من تعدد أسباب النزول للآية الواحدة بحيث يتم الجمع بين الروايات المختلفة دون ترجيح إحداها كما قرر أهل التحقيق. وهو القول الأنسب هنا لاحتمال الآية جميع ما تقدم، فما رُوي في حق المنافقين في غاية التناسب بالنظر إلى السياق المتقدم من السورة وما جاء فيه من التمثيل لهؤلاء: (مثلهم كمثل الذين استوقد ناراً)، وما رُوي في حق اليهود والمشركين في غاية التناسب من جهة المعنى الذي نصَّت عليه الآية من ذكر البعوضة وما فوقها وهو ما اعترض عليه هؤلاء.

وقوله: (فما فوقها) يحتمل معنيين: أحدهما أن تكون الفوقية هي الزيادة في المعنى الذي جرى من أجله التمثيل وهو الصغر والضعف، فيكون المعنى: بعوضة فما أصغر وأضعف. والثاني أن الفوقية هي الزيادة في العِظَم والكِبَر، فيكون المعنى: بعوضة فما أعظم وأكبر. والأول أقرب إلى مقصود الآية لأنه يتضمن الرد على ما قد يُقال في موجودات مذكورة في القرآن هي أدنى من البعوضة كالقمل وحبة الخردل، بينما المعنى الآخر قد يُوهم امتناع الله عن ذكر ما هو أدنى من البعوضة وقد علمت انتفاء ذلك.
 
وبعد؛ فإن التقرير بطريق الاستئناف الابتدائي في الكلام البليغ، يستتبع قدراً من التعليل أو التفصيل، ولذلك بعد أن قرَّر تعالى عدم امتناعه عن ضرب الأمثال التي ذمَّها المعارضون، أتبع بما يتضمن التعليل لعدم امتناعه عن ذلك، وهو بيانه لموقف المؤمنين والكافرين من تلك الأمثال، وما يتعلق بذلك من زيادة المؤمنين هداية وزيادة الكافرين ضلالة: (فأما الذي آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين)

والمقصود بالاستئناف الابتدائي أو النحوي: انفصال الجملة المستأنفة عما قبلها معنىً وإعراباً، وهذا ظاهر في جملة (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً) فإنها منفصلة عما قبلها من جهة الإعراب والمعنى.

وبيانه تعالى لموقف المؤمنين والكافرين يتضمن التعليل لعدم امتناعه عن ضرب تلك الأمثال من جهة أنه يُشير إلى امتحان العباد وابتلائهم وكفى بها من حكمة تقتضي عدم الامتناع، فالمؤمنين يتلقون آيات ربهم بالتسليم والتصديق ليقينهم بحكمته تعالى وإن خفيت عليهم فيعلمون بأن هذه الأمثال حقٌ من ربهم، بينما الكافرين يتلقونها بالطعن والتشكيك لما طُبعوا عليه من الجهل والتعنت فقولهم: (ماذا أراد الله بهذا مثلاً؟) ليس استفهاماً يُراد به تحصيل العلم ومعرفة الحق؛ وإنما هو استفهام يُراد به الإنكار والاستهانة.

والحق الغني عن التصريح ههنا أن قيمة الأمثال تُقاس بما تشتمل عليه من المقاصد الحكيمة، والدلالات المفيدة، لا بحجم المسميات المذكورة فيها. والله جل جلاله لم يمتنع أصلاً عن خلق تلك المخلوقات الضعيفة ولم يكن ذلك محل انتقاد من أهل الكفر والضلال، فلماذا يمتنع عن ذكرها في كتابه وضرب الأمثال بها وهي في واقع الحياة شواهِد على كمال حكمته وعظيم قدرته وبديع صنعته؟

وحاصل تسليم المؤمنين لحكمة ربهم أن يزدادوا هداية، بينما حاصل تشكيك الكافرين بذلك أن يزدادوا ضلالاً، وليس هذا بمنفصل عن فعل الله بهم فإن الله خالق كل شيء ومدبره بما في ذلك أسباب الهداية والضلالة وآثارهما؛ ولهذا قال هنا: (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً) أي: يزيد الكافرين ضلالاً لازديادهم كفراً وتكذيباً، ويزيد المهتدين هداية لازديادهم إقراراً وتصديقاً.

والله حكم عدل؛ لا يُضلُّ إلا الذين اختاروا سبل الضلالة: (ولا يضل به إلا الفاسقين) والفسوق في كلام العرب هو الخروج، يُقال: فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها، وسُميت الفأرة فويسقة لخروجها من جحرها على الناس.

والفسق في القرآن يرد على معنيين: فسق أكبر، وفسق أصغر. فالأكبر هو خروج الكافرين والمشركين عن فطرة الإيمان والتوحيد إلى الكفر والتنديد وهو المقصود هنا بقرينة الإضلال وما سيأتي من أوصاف هؤلاء، وأما الأصغر فهو خروج المؤمنين عن الطاعة المعينة لا عن الدين والملة بارتكابهم لمعصية غير مكفِّرة، كما في قوله تعالى: (ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم) [البقرة:٢٨٢] فالإضرار بالكاتب أو الشهيد لا يلزم الكفر باتفاق.

ولمَّا ذكر تعالى الفاسقين بقوله (وما يضل به إلا الفاسقين) أتبع ببيان صفاتهم والتي يدخل فيها كل كافر ومنافق، فانظر إلى بديع التناسب في النظم كيف ذكر في بداية القسم صفات الكافرين والمنافقين بانفراد، ثم ذكر هنا الصفات الجامعة الشاملة لهذين الفريقين تمهيداً لإقامة الحجة عليهم جميعاً عبر أدلة الاعتبار القائمة في الأنفس والآفاق: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك هم الخاسرون)

النقض هو إفساد ما أُحْكِم. يُقال: نقض الحبل إذا حلَّه بعد أن كان مبرماً. ويُقال: نقض البناء إذا هدمه، ونقض العظم إذا كسره، ونقض العهد إذا أبطله.

والعهد لفظ تدور مادته حول الالتزام بالشيء وحفظه، ولذلك يطلق على الموثق والوصية والذمَّة والأمان واليمين، والمراد هنا: الموثق الذي يجب التزامه وهو ما أمر الله به عباده من توحيده وعبادته، قال تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان) [يس:٦٠] أي: ألم آمركم يا بني آدم. وقال سبحانه: (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) [البقرة:١٢٥] أي أمرناهما.

والميثاق في قوله (من بعد ميثاقه) اسم مصدر بمعنى: إيثاقه أي إحكامه، والضمير فيه يجوز أن يعود على اسم الله أو على العهد، والأظهر عوده على العهد لأنه المتحدث عنه فيكون المعنى: من بعد إحكامه بالحجج والبينات والآيات المبثوثة في الأنفس والآفاق.

فالصفة الأولى للفاسقين والتي هي رأس الفساد: نقض العهد مع الله إذ هو تنكبٌ عن الفطرة التي أودع الله فيها معرفته وتوحيده، وجحودٌ لجميع النعم الموجبة لشكر الله وطاعته فيما أمر، وتمردٌ على الرب الذي خلق ودبَّر وقهر وأهلك المكذبين من الأمم، فلا ينقض عهده مع الله إلا من تشوهت فطرته، وخَبُث طبعه، وطاش عقله.

ومن قطع عهده مع الله فمن شأنه أن يقطع ما دون ذلك من الروابط والصلات، ولهذا كانت الصفة الثانية لهؤلاء: (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) واللفظ هنا عام يدخل فيه جميع ما أمر الله بوصله، فالله أمر أن يُوصَل القول بالعمل، وأن يُوصَل الإيمان بجميع الأنبياء، وأن يصل الناس أرحامهم، وأن توصل العهود والحقوق.

فكان شأن الفاسقين في ذلك: فصل العمل عن القول، والتفريق بين الأنبياء، وقطع الأرحام، وسوء الجوار، ونكث العهود، وهضم الحقوق.

ثم ذكر تعالى الصفة الثالثة المترتبة على ما تقدم من نقض العهد وقطع الصلات فقال: (ويفسدون في الأرض) ووجه هذا الترتيب أن الأمر بالتوحيد والعبادة وَوَصْل الأشياء التي لا بد من وصلها إنما جُعل لإصلاح أحوال العباد ورفع الفساد، فلا جرم أن من نقض العهد مع الله وقطع الصلات فَسَدَ في نفسه وأفسد ما حوله لأن فساده يتعدى إلى من يخالطهم ويساكنهم، وإذا تقوَّى بأسباب القوة كان فساده أعظم بالصد عن سبيل الله والتعدي على حقوق العباد.

ومن كانت حاله كذلك فقد نقَصَ نفسه حظَّها من رحمة الله الواسعة، فلم يكن له في الآخرة من أهل ولا متاع: (أولئك هم الخاسرون) والخَسْر والخُسْران: النقص، ومنه قوله تعالى: (وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون) [المطففين:٣] أي: يُنقصون في الكيل والوزن. فالخاسرون هم الناقصون حظوظهم من رحمة الله تعالى، المحرومون من الأهل والنعيم في دار المعاد لمعصيتهم إياه وكفرهم به، قال تعالى: (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة) [الزمر:١٥].

ولمَّا بيَّن تعالى أوصاف هؤلاء وكان رأسها الكفر بالله، أتبع بهذا التقريع والإنكار: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)

استفهامٌ يُراد به توبيخ الكافرين على كفرهم والاحتجاج عليهم بما يقع لأنفسهم من تدابير الله وذلك عطفاً على ما تقدم من بيان كفرياتهم في قوله (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض).

ومعنى الكلام: كيف تكفرون بالله وقد حصل لكم في أنفسكم ما يقتضي منكم خالص الخشية من الله والشكر له بتوحيده وطاعته، حيث كنتم أمواتاً لا وجود لكم من قبل، فأحياكم في بطون أمهاتكم، ثم يميتكم في هذه الدنيا عند بلوغ آجالكم، ثم يبعثكم من قبوركم، ثم تُرجعون إليه ليجازيكم على أعمالكم، فكيف يليق بمن كان خاضعاً لكل هذا التدبير أن يكفر بالله؟ وكيف يليق بمن تنعم بالحياة أن يكفر بمن أنعم عليه ذلك؟
وهذا الاستفهام أبلغ من توبيخهم مباشرة، لأن التوبيخ المباشر يصرف الذهن إلى الرد والانتصار للنفس، وأما الاستفهام فيصرفه إلى استخراج الجواب فيفتح له باب التفكير والمراجعة.

وقد جمعت الآية بين الدليلين النقلي والعقلي في إثبات المعاد، أما النقلي فظاهر بقوله: (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) وأما العقلي فقوله: (وكنتم أمواتاً فأحياكم) وذلك أن من كان قادراً على إحياء الخلق من عدم فهو قادر على إحيائهم من العظام والرفات لأن الإعادة أسهل من الإنشاء.

وهكذا يلفتهم تعالى إلى دليل الاعتبار القائم بأنفسهم من حصول الإحياء لهم بعد أن كانوا عدماً، ليعلموا عظيم قدرته وكمال وحدانيته وتمام فضله، فيُفردوه بالتعظيم والشكر والخشية والعبادة. ثم يلفتهم في الآية التالية إلى دليل الاعتبار القائم فيما حولهم من مخلوقات مسخرة من أجلهم تكميلاً لإقامة الحجة عليهم في وجوب توحيد عبادته: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم)

هذا بيانٌ للأدلة المتعلقة بالكون من حولهم بعد بيان الأدلة المتعلقة بذواتهم في قوله (كيف تكفرون وكنتم أمواتاً فأحياكم) لتقوم الحجة عليهم في وجوب توحيد عبادة الله تعالى من كل وجه، قال جلَّ من قائل: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) [فصلت:٥٣].

وبدأ بالأدلة الأقرب والأظهر؛ فذكر أدلة العالم السُّفلي قبل العالم العلوي: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) أي: هو الذي خلق من أجلكم جميع ما في الأرض من أشياء لتنتفعوا بها ديناً ودنيا.

أما الانتفاع الديني فمن جهة الاستعانة بتلك الأشياء على طاعة الله، والاستدلال بها على عظمته سبحانه وكمال صفاته مما يزيد الإيمان ويرفع الدرجات. وأما الدنيوي فهو انتفاع الإنسان بما حوله على الصعيد المادي والمعنوي حيث يتغذى على أنواع النبات والحيوان، ويسكن في السهول والجبال، وتبتهج نفسه برؤية المناظر البهية للطبيعة والكائنات، وغير ذلك من وجوه الانتفاع.

فهذا الإنعام الذي تفضل به الرحيم المنَّان على الناس بأسرهم يقتضي منهم الشكران لا الكفران، والتوحيد لا الإشراك، تماماً كما أن إحيائهم من العدم وإماتتهم وبعثهم كما تقدم في الآية السابقة يقتضي منهم مثل ذلك.
واللام في قوله: (خلق لكم) للاختصاص والاستحقاق فتفيد معنى الإباحة إذ لا عبرة بهذا الاختصاص والاستحقاق دون حصول الانتفاع. ولفظ (ما) في قوله (ما في الأرض) اسم موصول يفيد العموم، ثم قوله بعد ذلك (جميعاً) يفيد العموم كذلك فكان هذا بمثابة توكيد العموم دفعاً لوهم من يتوهم عدم إرادة ذلك، ومن هنا كانت هذه الجملة من أقوى الأدلة على قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة" والتي تعني أن كل ما في الأرض مباح للانتفاع به إلا ما قام الدليل على حرمته.
وإذ بيَّن تعالى أدلة العالم السُّفلي، أتبع ببيان أدلة العالم العلوي كشاهد آخر على عظمته ووحدانيته ووجوب توحيد عبادته: (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات)

اعلم أن أصل الاستواء في اللغة هو العلو والارتفاع، يُقال: استوى الرجل على ظهر البيت أي علا فوقه، ومنه قوله تعالى: (لتستووا على ظهوره) [الزخرف:١٣] أي: لتعلوا على ظهور الفلك. وقوله تعالى: (واستوت على الجودي) [هود: ٤٤] أي: علت على جبل الجودي، وإن قيل استقرت، فالاستقرار على الشيء يكون بالعلو عليه. ومما يدل على أن أصل الاستواء هو العلو والارتفاع قوله تعالى في حق نبيه موسى عليه السلام: (حتى إذا بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً وعلماً) [القصص:١٤] حيث ذكر الاستواء بعد بلوغ الأشد وهو منتهى القوة، فلو كان معنى الاستواء هو الكمال والتمام لكان تكراراً بلا فائدة أو توكيداً بلا ضرورة، ولكن إذا حملناه على أصله فقد تبين المعنى المراد به وهو ارتفاع قامة موسى على غير المعهود من أقرانه، ويؤيده ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً لموسى: "رأيت ليلة أسري بي موسى رجلا آدم طوالا جعدا كأنه من رجال شنوءة"، وشنوءة اسم لقبيلة يُعرف أفرادها بطول القامة. ومن هنا وُصف موسى بالاستواء ولم يُوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد في قوله تعالى عنه: (ولما بلغ أشده آتيناه حكماً وعلماً) [يوسف:٢٢].

وتعدية الفعل بـحرف (إلى) لا يعني أنه سبحانه ارتفع من جهة إلى أخرى أو أنه ارتفع بعد أن كان تحت؛ وإنما المعنى أنه ارتفع إلى السماء ارتفاعاً يليق بجلاله دون أن يكون هناك شيء فوقه ودون أن يكون ذلك مثل ارتفاع مخلوقاته. وهذا العلو والارتفاع نظير استوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً عليه: (الرحمن على العرش استوى) [طه:٥] فإن العرش مخلوق من مخلوقات الله تعالى. وهو كذلك مثل إخباره تعالى عن نفسه بأنه ينزل إلى السماء الدنيا في الحديث الصحيح المتفق عليه: "ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له، حتى ينفجر الفجر".

وهذه الأدلة يعضد بعضها بعضاً، فكما أنه سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا دون أن يترك العرش أو يكون تحته، فكذلك علا وارتفع إلى السماء دون انتقال ودون أن يكون هناك شيء فوقه. فإن قيل: كيف ذلك؟ قلنا: كما لا تعلم كيف يسمع ويبصر ويتكلم ولا تعلم كيف هي ذاته أصلاً، فكذلك لا تعلم كيف يستوي ويجيء وينزل، فهذا من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، والناظر فيه كالناظر إلى قرص الشمس يسبر غورها، كلما نظر أكثر كلما ازداد اضطراباً وتحيراً.

وهذا هو منهج السلف في باب الأسماء والصفات، فإنهم يُثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) [الشورى:١١]، فالله لا يشبهه شيء من الأشياء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.

وإنما منشأ الضلال عند أهل التعطيل والتحريف: قياس صفات الخالق على صفات خلقه، وعدم لجم العقل عند حدِّه؛ فقاسوا الغائب على المشاهد، والمجهول على المعلوم، ولم يفقهوا حقيقة قوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وأن اشتراك الصفات في اللفظ لا يعني الاشتراك في الحقيقة أو الكيفية، فكما أن سمع الله وبصره ليس كسمع وبصر مخلوقاته، فكذلك علوه واستواؤه ونزوله وإتيانه وغير ذلك.

وأما الذين فسَّروا الاستواء على أنه القصد والعمد والإقبال لتعدية الفعل بـ (إلى)، فقد عمد بعضهم إلى هذا المعنى خشية الوقوع في المعنى المتوهم ههنا وهو ارتفاع الله سبحانه مثل ارتفاع خلقه من أسفل إلى أعلى، والحق أن العمد إلى الشيء المادي – وهو السماء في هذه الحالة – يحتمل معنى الحركة والانتقال كذلك، فلا حاجة إلى صرف الاستواء عن أصل معناه أو تضمينه معنى آخر بسبب توهم ذلك، بل نُثبت العلو والارتفاع كما ورد لأن فعل الله ليس كفعل خلقه، فلا يلزم أنه سبحانه كان في الأسفل ثم ارتفع أو غير ذلك مما يلزم خلقه.

ومما يتصل بهذه المسألة: الكلام عن صفة الحركة وهل هي من لوازم الصفات التي أثبتها تعالى لنفسه في كتابه أو على لسان رسوله من استواء ونزول ومجيء وإتيان، أم أنها غير لازمة؟ وفي ذلك قولان لعلماء أهل السنة: الأول: التوقف فيها، فلا إثبات ولا نفي. والثاني: إثبات الحركة دون تشبيهها بحركة المخلوقين لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء). والقول الأول هو الأصح والأسلم، فلا إثبات ولا نفي لعدم مجيء نص في ذلك.
والسماء اسم مشتق من السمو وهو العلو، يُطلق على الواحد وعلى الجنس، والمراد هنا الجنس أي العوالم العُليا لا السماء الدنيا بدليل قوله: (فسوَّاهن) فإن اسم الجنس يتضمن معنى الجمع بخلاف الواحد؛ ولهذا لم يقل "فسوَّاها".

وأصل التسوية في اللغة: التقويم والإتمام، يُقال: سوَّى فلان الشيء أي قوَّمه وعدَّله، ويُقال: سوَّى الطعام: أنضجه. وسوَّى سريره: رتَّبه ونظَّمه. فالمقصود بتسوية السماوات: جعلُها على هيئة قويمة لا اختلال فيها ولا اضطراب، كما قال تعالى: (الذي خلق سبع سماوات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير) [الملك:٣-٤].
ثم ختم سبحانه الآية بالإشارة إلى عظمته في ذاته كموجب من موجبات توحيد عبادته فقال: (وهو بكل شيء عليم) أي: يعلم كل ما في الوجود أزلاً وأبداً، فهو الذي خلق الأشياء كلها فكان عليماً بخواصها وتفاصيلها كلها، قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك:١٤]، وهو المتصف بكمال العلم فلا يزيد علمه ولا ينقص.

وهذا موجب آخر من موجبات توحيد العبادة التي يحشدها السياق ههنا بعد الإنكار المتقدم على من يكفر بالله برفض عبادته على الوجه الذي أمر في آية (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم)، فكيف لا يُفرد بالعبادة من أحيا بعد العدم وأمات وقهر؟ وكيف لا يُفرد بالعبادة من خلق جميع ما في الأرض من نعم؟ وكيف لا يُفرد بالعبادة من سوَّى السماوات السبع؟ وكيف لا يُفرد بالعبادة من كان عليماً بكل شيء؟ فهو سبحانه المستحق وحده للعبادة سواء أكان ذلك من جهة الشكر والامتنان له على ما تفضل وأنعم، أو من جهة الخشية والخوف منه لعظيم قدرته ونفاذ تدبيره، أو من جهة الحب والتعظيم له لكماله في ذاته وصفاته.

ثم ينتقل السياق من إقامة الحجج وحشد الأدلة إلى صنف آخر من صنوف البيان وهو القصص. وأسلوب القصص من أبرز أساليب القرآن لما فيه من الوعظ والتذكير باستحضار تجارب الأولين، وأحوال السابقين، وسنن الله في العالمين. قال تعالى: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) [الأعراف:١٧٦] فالغاية من القصص إذن: التفكر في تلك التجارب والأحوال والسنن من أجل الاتعاظ والعمل بما ينفع، فهو أسلوب يُراد به إصلاح القلوب والأخلاق والأعمال، لا التمتع والتفكه بوقائع التاريخ وغرائب الأحداث.

ومن هذا المنطلق تجيء قصة آدم عليه السلام هنا كأول قصة تُروى في القرآن باعتبارها أم القصص، فهي قصة الإنسان الأول، والابتلاء الأول، والمعصية الأولى، والتوبة الأولى. وهي قصة اندلاع الصراع بين جنس الإنسان وجنس الشيطان وما يتعلق بذلك من عواقب ومآلات. وهي القصة التي تجيب عن الأسئلة الوجودية الكبرى التي تطرأ على العقول والألباب: من نحن؟ ومن أين جئنا؟ وما هو دورنا في هذا الوجود؟ وإلى أين مصيرنا بعد الممات؟

فقصة آدم هي أحرى القصص بأن يتدبرها كل إنسان؛ ليعرف أصل وجوده، وحقيقة الصراع الذي يحيط به، وماهية الدور المطلوب منه.

على أن هذا الانتقال إلى قصة آدم في غاية التناسب مع ما تقدم سواء في السياق القريب أو البعيد من السورة. ففي الآية السابقة امتن سبحانه على الناس بخلق كل ما في الأرض لمنافعهم وحياتهم ومعاشهم، وهنا يمتن عليهم بإيجاد أصلهم وخلق أبيهم آدم وتكريمه واستخلافه. ففي كلا الآيتين امتنان يُوجب شكر الله بطاعته وعبادته.

وأما السياق البعيد فمن جهة أنه تعالى بيَّن أقسام الناس وأحوالهم ومآلاتهم، ثم خاطبهم وكلَّفهم بتوحيد عبادته، ثم نصب لهم البراهين الدالة على أنه وحده المستحق للعبادة، فناسب أن يردَّهم هنا إلى بداية الأمر كله: وهو الإعلان عن خلق أبيهم آدم وقصة استخلافه.

قال تعالى: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون).

(إذ) هنا ظرف للوقت الماضي بمعنى حين، وهي متعلقة بفعل أمر محذوف تقديره: "اذكر" لأن الخبر من الله تعالى يتضمن أمر رسوله بذكر ذلك. يعني: واذكر يا محمد حين قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.

والخليفة مشتق من خلف أي: نابَ، يُقال خلف فلانٌ فلاناً إذا ناب منابه في أمر من الأمور. فالخليفة هو الذي ينوب عن الله سبحانه في تحكيم شريعته وتنفيذ أحكامه.

وذهب بعض العلماء إلى أن الخليفة هو الذي يعقب غيره، من خلف إذا عقب وجاء بعد، وأن اللفظ هنا من باب إطلاق المفرد وإرادة الجمع بمعنى: خلائف، فيكون المعنى: بشراً يخلف بعضهم بعضاً، أو يخلفون الجن الذين سكنوا الأرض من قبل، واستشهدوا لذلك بقوله تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) [الأنعام:١٦٥].
والقول الأول هو الأظهر لأن الكلام يدور حول استخلاف آدم بالذات، ألا ترى أنه عطف بقوله: (وعلم آدم الأسماء كلها) مع أن آدم لم يُذكر في قوله المتقدم (إني جاعل في الأرض خليفة)، على أن معنى الخلافة الشرعية أليق وأنسب بالمقام؛ لأنه يُعبِّر عن الغاية التي من أجلها حصل الاستخلاف وهو التكليف، بخلاف المعنى الآخر وهو تعاقب أجيال البشر. ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى لنبيه داوود عليه السلام: (يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض) [ص:٢٦] أي: حاكماً تحكم بشرعنا وأمرنا.

وهكذا يُقرِّر القرآن دور الإنسان في الأرض: إنه مستخلف عن الله ليقيم دينه وشريعته في الأرض كلها، حتى يسود العدل والصلاح ويعلو حكم الله فوق كل حكم، فلا ينبذ شريعة الله ويرتضي غيرها من الشرائع والقوانين الوضعية البشرية، إلا من كان مفسداً ظالماً، ارتضى لنفسه أن يكون مخالفاً لله بدل أن يكون مستخلفاً.

ثم أخبر تعالى كيف استجاب الملائكة لما أخبرهم به من استخلاف آدم: (قالوا أتجعل فيها من يفسد فيه ويسفك الدماء؟) وليس هذا استفهاماً للإنكار أو الاستهجان أو نحو ذلك مما يتعارض مع عصمة الملائكة الذين قال الله فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم:٦]، وإنما هو استفهام يُراد به طلب المعرفة واستجلاء الحكمة من وراء الاستخلاف لعلمهم بما سيقع من ذرية آدم من الإفساد وسفك الدماء.

وقد علموا ذلك بإعلام الله لهم، ولكن حُذف الكلام لدلالة السياق عليه وهو الإيجاز الذي تقتضيه البلاغة، فهذا أصح من أن يُقال بأنهم استدلوا على وقوع الإفساد قياساً على إفساد الجن في الأرض من قبل، أو أنهم فهموا من لفظ "خليفة" وقوع ذلك لأن من شأن الخليفة أن يردع المفسدين في الأرض، فإن كلامهم قد جاء بصيغة الجزم بما سيقع، ولم يتضمن ما يدل على أنه توقع أو استدلال.

ثم قولهم: (ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) ليس استعظاماً على آدم ولا تزكية لأنفسهم كما ذهب بعض أهل التفسير، وإنما هو توصيف متجرد لحقيقة حالهم في مقابل ذرية آدم، وهو بمثابة التعليل من وراء السؤال الذي طرحوه، فكأنهم قالوا: إذا كانت الغاية من خلق هؤلاء هي العبادة، مع أن فيهم من يُفسد ويَفتِك بالخلق، فنحن نسبحك تسبيحاً ممزوجاً بحمدك، ونقدس لك بإخلاص وتجرد، فما الحكمة من خلق هؤلاء واستخلافهم دوننا؟

أما التسبيح فهو تنزيه الله جل ثناؤه عن كل سوء ونقص. وأصله من السَّبح وهو البُعْد. قال العلامة ابن فارس: "العرب تقول: سبحان مِن كذا، أي ما أبعده". فتسبيح الله تعالى: تبعيد صفات السوء والنقص عنه. وقولهم: (بحمدك) يعني اقتران التسبيح بالحمد وهو الشكر والثناء، فالباء هنا للمصاحبة بمعنى: نسبحك تسبيحاً مصحوباً بحمدك. ثم قولهم (نقدس لك) أي: نعظمك وحدك بلا شريك، فالتقديس هو التعظيم والتبجيل، و(لك) للاختصاص؛ فتفيد التجرد والإخلاص.

ثم أجابهم تعالى بقوله: (قال إني أعلم ما لا تعلمون) أي: أعلم ما لا تعلمون من جدارة هذا المخلوق بالخلافة وما يتعلق بذلك من مصالح عظيمة جليلة. فأشار تعالى بهذا إلى علمه بأن المصالح التي لا يعلمونها في خلق هذا الصنف هي أضعاف المفاسد التي ذكروها من الإفساد وسفك الدماء، وأن محابَّه ومراضيه في ذلك هي أضعاف مكارهه ومساخطه، فبهذا الاستخلاف يحصل تعبيد الخلق واختبارهم، وظهور العبادة الحقَّة وأولياء الله باختيارهم، فلو عُدم الفساد وسفك الدماء؛ لما ظهر المصلحون المجاهدون الذين هم أهل الله وخاصته من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولما ظهرت عبوديات هي أحب إلى الله من عدمها، كالجهاد والمصابرة والأدعية وغيرها. فوجود الصالحين خير عظيم في ذاته مهما قلَّ عددهم ومهما عظم فساد المفسدين من حولهم، ولا شك أن وجود صنف الإنسان بسبب صلاح الصالحين؛ خيرٌ من عدمه بسبب فساد المفسدين.

ثم خصَّ تعالى آدم بعلمٍ تجهله الملائكة إظهاراً لفضيلته وعلو منزلته عنده، وإثباتاً لأهلية استخلافه في الأرض دونهم: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)

أي: علَّم آدم أسماء الموجودات كلها، ثم عرضهم على الملائكة قائلاً لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء الموجودات إن كنتم صادقين في أنكم أكثر أهلية للاستخلاف منه.

فكأنه تعالى بعد أن قال لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون)، أقام عليهم الحجة في عدم أهليتهم للاستخلاف بتعليم آدم ما لا يعلمون ثم سؤالهم عن ماهية تلك الأسماء ثم أمْرِه لآدم بإعلامهم بها كما سيأتي. وهذا كله يجيب عن سؤالهم المتقدم حول وجه الحكمة من استخلاف آدم دونهم، لأنه إذا ثبت لهم فضل آدم وعلو منزلته عند الله ثبت لهم استحقاقه للاستخلاف بصرف النظر عما سيقع من فساد وسفك للدماء. وإذا ثبت أنهم عاجزون عن معرفة تلك الأسماء التي سُئلوا عنها؛ ثبت أنهم غير مؤهلون للاستخلاف في الأرض بخلاف من عرفها.

وقوله: (الأسماء كلها) يعني أسماء كل ما خلق الله من إنس وجن وطير وحيوان وغير ذلك مما هو كائنٌ في الأرض.

ثم كان جواب الملائكة تسبيحاً لربهم وإقراراً بعجزهم عن معرفة تلك الأسماء: (قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك العليم الحكيم)

أي: ننزهك من أن يحيط أحد بشيء من علمك إلا بما شئت، ونقر بعجزنا من أن نعلم شيئاً لم تعلمنا إياه أنت، فأنت العليم بكل شيء، الحكيم التي يضع كل شيء موضعه.

وليس في قولهم (سبحانك) ما يفيد الاعتذار عما سألوه كما توهم مفسرون فإن الملائكة معصومون عن فعل ما لا يحل، وإنما هو طبعهم أن يسبحوا الله كل حين، قال تعالى: (يسبحون الليل والنار لا يفترون) [الأنبياء:٢٠] أي: لا يضعفون ولا يسأمون، فالتسبيح لهم كالتنفس لغيرهم من الكائنات.

وقد نفوا علمهم بتلك الأسماء على أبلغ وجه، فلم يقولوا: "لا نعلمها" بل قالوا: (لا علم لنا إلا ما علمتنا) وذلك اعترافاً منهم برجوع العلم كله إلى الله تعالى، فجمعوا بين إقرارهم بفضل الله عليهم عرفاناً وامتناناً، وبين إقرارهم بقصورهم وعجزهم خضوعاً واستسلاماً، وجميع ذلك من مظاهر العبودية.

ثم أمر سبحانه آدم بإعلام الملائكة بما عجزوا عن معرفته، تحقيقاً للمقصود من جميع ما تقدم وهو ظهور فضيلته وأهليته: (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)

أمَرَ الله تعالى آدم بتلقين الملائكة الأسماء التي لم يعرفوها، إظهاراً لفضيلته وجدارته بالاستخلاف دونهم حيث جعله بمنزلة المعلِّم الملقِّن لهم، وهذا كالجواب على سؤالهم المتقدم حول الحكمة من استخلاف آدم دونهم مع وجود من سيفسد من ذريته، إذ أن تفضيل آدم عليهم بالعلم والتعليم يعني أنه حقيق بالاستخلاف دونهم، كما يعني أنه مخلوق كريم على الله تعالى؛ فوجوده خير من عدم وجوده بسبب ما سيقع من الفساد وسفك الدماء من غيره.

ولمَّا ظهر لهم ما لم يكونوا يعلمونه وكان هذا كالحجة على قوله المتقدم: (إني أعلم ما لا تعلمون)؛ استحضر تعالى ذلك وأكَّد عليه بهذا الاستفهام التقريري: (قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) أي: قال الله للملائكة: ألم أقل لكم إني أعلم كل ما غاب عن حواسكم مما في السماوات والأرض، وأعلم ما تُظهرون من الأقوال والأعمال، وما تكتمونه في أنفسكم من الخواطر والأفكار.
وما كتمه الملائكة هو التساؤل عمَّا لا يعلمونه في قوله تعالى لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون). وقيل: هو ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والتعاظم على آدم، وهو قول بعيد؛ لأن إبليس واحد واللفظ هنا للجمع، وتغليب الجمع على المفرد يكون لفائدة من تعظيم أو نحوه، ولا فائدة هنا.

وبعد أن خصَّ تعالى آدم بكرامة العلم وتعليم الملائكة، خصَّه بكرامة أخرى ألا وهي إسجاد الملائكة له: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)

هذه قصة ظهور العداوة بين آدم وإبليس وما ترتب على ذلك من أحداث جسام. فقوله هنا: (وإذ قلنا للملائكة) معطوف على قوله (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) من باب عطف القصة على القصة، ولهذا لم يكتفي بالواو العاطفة بل أعاد (إذ) إيذاناً بأن ما سيُروى قصة قائمة بذاتها حصلت في زمن منفصل.

والسجود في اللغة هو الخضوع بالانحناء أو وضع الجبهة بالأرض، يُقال: سجد إذا انحنى وتطامن إلى الأرض، وأسجد الرجل: طأطأ رأسه وانحنى، ثم شاع في العرف والشرع على أنه وضع الجبهة على الأرض. والراجح هنا أن سجود الملائكة بمعنى الانحناء والتطامن لا بمعنى السجود المعروف، لأن السجود المعروف هو غاية التذلل والخضوع، ولا يليق ذلك إلا بالله عز وجل. ومن فسَّره على أنه السجود المعروف قال بأنه سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وطاعة، أو قال بأن آدم كان بمنزلة القبلة والسجود لله تعالى، وما تقدم من معنى الانحناء والتطامن يُغني عن مثل هذا التأويل والتعقيد.

ولم يكن إسجاد الملائكة لآدم امتحاناً لهم ولا عقوبة كما ذهب مفسرون، فإن الملائكة مفطورون على الطاعة فأنى يُمتحنون أو يُعاقَبون؟ وإنما هو تكريم لآدم وجنسه، ولتظهر عدواة إبليس الذي اختار الكفر والعصيان على أن يسجد لمن هو أدنى منه مرتبة بزعمه: (فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) أي: فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس امتنع عن السجود وتكبر على الله بإنكار استحقاق آدم لذلك، فصار من الجاحدين لنعم ربه، المطرودين من رحمته. وقد ورد تفصيل هذا الإباء والاستكبار في مواضع أخرى من القرآن كقوله تعالى: (لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون) [الحجر:٣٣] فعُلم من ذلك أن معصية إبليس لم تكن من جهة الشهوة أو الشبهة وإنما كانت تكبراً وتعالياً على أمر الله لما في قلبه من التعاظم على آدم بسبب أصل خلقته، فجمع اللعين بذلك بين التكبر على الخالق، والتكبر على الخَلْق.

وقد اختلف المفسرون في جنس إبليس هل هو من الملائكة أم لا وذلك على قولين: الأول أنه ملك أو صنف خاص من الملائكة، والثاني: أنه من الجن. أما من قال بأنه ملك فقد أخذ بظاهر النص وحمل الاستثناء في (إلا) على أنه استثناء متصل، فكان تقدير الكلام عنده: فسجدوا إلا واحداً منهم هو إبليس أبى السجود. وليس في هذا ما يقطع بأن إبليس واحد من الملائكة، بل من المحتمل أنه خُوطب تحت اسم الملائكة لأنه كان حاضراً بينهم وليس لأنه واحد من جنسهم جرياً على أسلوب التغليب، فيكون الاستثناء هنا من النوع المنقطع بمعنى ولكن، أي: فسجد الملائكة ولكن إبليس الذي كان بينهم أبى.

والدليل الذي يحسم المسألة هنا قوله تعالى في سورة الكهف: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) [الكهف:٥٠] فرَدَّه تعالى بصريح العبارة إلى جنس الجن ولم يقل: كان من الملائكة؛ وعلَّل فسقه بكونه من الجنة لقابلية الجن على العصيان بخلاف الملائكة الذين قال الله فيهم: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون) فلو كان إبليس ملكاً لما صدر منه ما صدر.

فإن قيل: وما شأن إبليس أن يكون بين الملائكة في الملأ الأعلى وهو ليس منهم؟ فالجواب أن إبليس كان من ساكني الأرض قبل آدم كما جاء في قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون والجان خلقناه من قبل) [الحجر:٢٦-٢٧] فأشهده الله مع الملائكة مشهد تكريم آدم حتى يُقِرَّ له بالخلافة. أو أن إبليس لمَّا كان أبو الجن والأصل في المخلوق الأول أن يكون صالحاً، فلا يبعد أنه كان من العابدين لله في الأرض فأكرمه الله برفعه إلى السماء مع الملائكة وإن لم يكن من جنسهم، ثم جرى ما جرى من تكبره وفساده لما في طبيعته من الاستعداد لذلك، والله تعالى أعلم.

ثم أخبر تعالى عما حصل بعد تمرد إبليس من إكرام آدم وزوجه بإسكانهما الجنة وابتلائهما بالشجرة المحرمة: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا مها رغداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)
هذه كرامة أخرى أكرم الله تعالى بها آدم فوق الكرامات المتقدمة من اختياره للخلافة وتعليمه الأسماء وإسجاد الملائكة له، حيث أسكنه الله الجنة مع زوجه حواء، وأباح لهما أن يأكلا أكلاً كثيراً واسعاً حيث شاءا من مواضع الجنة وأشجارها، إلا شجرة واحدة نهاهما عن القرب منها، وحذرهما بأن الأكل منها يعني ظلمهما لنفسيهما بمعصية الله واستحقاق عقابه.

والرغد في اللغة هو الكثرة والخصب والسعة. يُقال عيش رغد: كثير. ويقال أرغد فلان: أصاب عيشاً واسعاً. وأرغد القوم: أخصبوا. فكان من سعة فضل الله تعالى أن أباح لآدم وزوجه الأكل الواسع الكثير قدر ما يشاءان، ثم كان من حكمته سبحانه أن حرَّم عليهما الأكل من شجرة معينة لامتحانهما في ذلك.

والنهي عن القرب من الشجرة في قوله (ولا تقربا) أبلغ من النهي عن مجرد الأكل منها، لأنه يشمل النهي عن ارتكاب الفعل نفسه والنهي عن كل سبب موصل إليه.

وقد اختلف أهل العلم في حقيقة هذه الجنة: هل هي جنة الخلد أم جنة من جنان الأرض؟ والصحيح أنها جنة الخلد للعديد من الشواهد والأدلة، أولها: أن الله تعالى قال في شأنها: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) [طه:١١٨] والشاهد أنه لا يمتنع الشقاء والجوع والعري والظمأ والضحى، إلا في جنة المأوى لا في دار البلوى.

ثانيها: أن بعض حِكَم الله تعالى من إسكان آدم الجنة تتجلى باعتبارها جنة الخلد لا باعتبارها جنة في الأرض، فإن في إسكان آدم جنة الخلد تعريف بها وبكمال نعيمها، وإثبات لخلقها ووجودها، وترغيب لآدم وبنيه بالعودة إليها بوصفها موطنهم الأصل.

ثالثها: أنه عرَّف الجنة بلام العهد إذ قال: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)، ولا جنة معهودة في أذهان المخاطبين إلا جنة الخلد، فمتى قيل (الجنة) انصرف الذهن إليها ولم ينصرف إلى غيرها.

رابعها: أن حقيقة الابتلاء الشديد الذي تعرض له آدم يتجلى باعتبارها جنة الخلد لا جنة في الأرض، حيث أغواه إبليس بالخلد ودوام الملك كما جاء في قوله تعالى: (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) [طه:١٢٠] فكانت حقيقة ابتلائه: أيرضى أن يعيش مخلوقاً فانياً في جنة خالدة أم أنه سيطمع بالخلود فيأكل من شجرة الخلد؟ فمن قال: كيف يصح عقلاً على آدم أن يطلب شجرة الخلد وهو موجود أصلاً في دار الخلد، لم يتفطن لحقيقة هذا الابتلاء، ولم يدرك أن القول المخالف لهذا القول هو الممتنع إذ كيف يصح عقلاً على آدم أن يطلب شجرة الخلد ليكون خالداً في دنيا زائلة؟

خامسها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم عليه السلام فيقولون يا أبانا استفتح لنا الجنة فيقول وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم". فقول آدم ههنا: "وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم" صريح في الدلالة على أن الجنة التي يطلبون استفتاحها يوم الجزاء، هي عين الجنة التي أُخرج منها.

هذه هي أبرز الأدلة الدالة على أنها جنة الخلد لا جنة غيرها، ولا يُعكِّر على ذلك ما ذكره المخالفون من أن آدم أُخرج من الجنة بينما الله يقول في شأنها: (وما هم منها بمخرجين) [الحجر:٤٨]، وذلك أن المراد بهذه الآية: من دخلها جزاءً، ومعلوم أن آدم لم يدخلها جزاءً وإنما امتحاناً.

وأما قولهم بأن دخول إبليس إلى الجنة وعصيانه فيها ينفي كونها جنة الخلد لأن جنة الخلد محرمة على الكفرة أمثاله وقد قال الله في شأنها: (لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً) [النبأ:٣٥]، فالجواب عليه أن كل ذلك إنما جُعل في الجنة بعد دخول أهلها فيها يوم الحساب، إذ لا عبرة في تطهيرها من كل ذلك دون وجود من يسكنها ويستقر فيها، ولذلك لم يكن ممتنعاً على آدم أن يعصي ربه في الجنة ويأثم فيها، كما لم يكن ممتنعاً على إبليس أن يدخلها أو أن يفعل فيها ما فعل. والله تعالى أعلم.

ثم أخبر تعالى عما وقع فيه آدم من المعصية بفعل وسوسة الشيطان له، وما ترتب على ذلك من أمرهم بالهبوط إلى الأرض: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين)

بيانٌ مجمل لما وقع فيه آدم من المعصية دون بيان الكيفية التي أغوى بها إبليس آدم فإن هذا مفصَّل في مواضع أخرى كقوله تعالى: (قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) [طه:١٢٠]، وهذه هي طريقة القرآن في عرض قصصه، فإنه يسرد القصة الواحدة مرات متعددة ليكشف في كل مرة عن جوانب وتفاصيل لم تُذكر في المواضع الأخرى، فيحصل بذلك التذكير بالقصة وترسيخها في الأذهان لفرط أهميتها دون الوقوع في التكرار المحض. وفي هذا ضرب من ضروب الإعجاز القرآني وهو القدرة التي لا تُجارى على تنويع الأساليب والمباني وزيادة الفوائد والمعاني؛ حتى أن القصة الواحدة ولو تكررت عشرين مرة تبدو كالقصة الجديدة في كل مرة.

وقد عُلم مما تقدم في السياق أن معصية إبليس كانت من جهة الكِبْر والغرور كما هو بيِّن في قوله تعالى (أبى واستكبر وكان من الكافرين)، ثم قوله هنا: (فأزلهما الشيطان عنها) دالٌ على خصلتين متلازمتين وهما الحقد والحسد؛ فإن تقصُّد إبعادهما عن الجنة أثرٌ عن تمني زوال النعمة عن المُتَنعِّم بها وهذا هو معنى الحسد، وهو كذلك أثرٌ عن حفظ العداوة في القلب والتربص لفرصتها وهذا هو الحقد.

فحسَدَ إبليس آدم لما خصَّه الله به من الإكرام دونه مع كونه أفضل منه بزعمه، وحقد عليه لاعتباره السبب فيما جرى له من المهانة والطرد.

والإزلال يعني الإزلاق والإبعاد. يُقال: زلَّت قدمه أي انزلقت، وأزلَّ فلانٌ فلاناً عن مكانه أي أبعده، وأزلَّ عنه نعمة: أخرجها، أبعدها. فقوله تعالى: (فأزلهما) يعني نحَّاهما وأبعدهما. والسر في التعبير بهذا اللفظ: الإشارة إلى سرعة إيقاع إبليس لآدم وزوجه في المعصية بما سلكه معهما من أساليب التضليل والغواية. وهذا ظاهر في استعمالات هذا اللفظ كقولهم: زلَّت قدمه، فإن ذلك يكون خطفةً، ومنه قيل: أزلَّ إليه نعمة إذا أسداها إليه بسرعة، وماء زُلال: ماء سريع المرور في الحلق لرقته.

وقوله تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه) بعد قوله: (فأزلهما الشيطان عنها) والذي يُفهم منه إخراجهما من الجنة تأكيدٌ يُراد به التنبيه على عظيم الخسارة المترتبة على عصيانهما، ولهذا لم يقل "فأخرجهما من النعيم" بل طوى ذكر النعيم وكأنه أجلَّ من أن يُوصَف حتى تُستعظم خسارته أشد استعظام.

هذا ولا يسلم بنو البشر من مقارفة الذنوب بحكم ضعفهم الذي جُبلوا عليه كما قال تعالى: (وخلق الإنسان ضعيفاً) [النساء:٢٨] وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون"، وذلك أن عدم وقوعهم في الذنوب يعني انتفاء الحكمة من خلقهم ابتداء لأنهم مخلوقون للامتحان والابتلاء الذي يستخرج منهم العبودية الحقَّة لا ليكونوا كالملائكة: (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً)[الإنسان:٢].

أما الأنبياء – صلوات ربي وسلامه عليهم جميعاً – فليسوا كسائر البشر في ذلك بل هم معصومون عن الكبائر كما أجمع أهل العلم، وأما الصغائر فشأن مختلف فيه. والحق أن القول بعصمتهم عن الصغائر عصمة مطلقة قول مخالف لصريح القرآن الذي أخبر تعالى فيه عن وقوع بعض الأنبياء في ذنوب عاتبهم عليها وغفرها لهم، وقد أقرُّوا هم بتلك الذنوب وأشفقوا منها وسألوا الله التوبة والمغفرة، وكل ذلك بمجموعه لا يقبل التأويل، كقول يونس عليه السلام: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) [الأنبياء:٨٧] وقول نوح عليه السلام: (قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) [هود:٤٧] وما ذكره تعالى في حق نبيه داود عليه السلام: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب فغفرنا له ذلك) [ص:٢٤].

وهذا القول بجواز وقوع الأنبياء في المعاصي الصغيرة النادرة، لا يقدح بنبوتهم، ولا يعني امتناع الاقتداء بهم أو الامتثال لأوامرهم مخافة أن يكون ذلك معصية منهم كما قد يُتوهم، فإنهم معصومون في التبليغ عن ربهم وفي الأفعال التي أمرنا باتباعهم فيها، وليسوا كذلك في الأفعال التي هي محض اجتهادهم كمغادرة يونس لقومه أو طلب نوح إنجاء ابنه. وما هي إلا صغائر نادرة وقعت منهم إما على وجه التأويل أو الخطأ أو النسيان. وفي حالة آدم هنا فالظاهر أنه أكل من الشجرة ناسياً ما لا يجب أن يُنسى كما قال تعالى: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي) [طه:١١٥]. والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: (فأخرجهما مما كانا فيه) من قبيل إسناد الفعل إلى ما كان سبباً في حدوثه؛ لأن المُخْرِج لهما في الحقيقة هو الله تعالى، وأما إبليس فقد كان سبباً في ذلك فأُسند الفعل إليه تنبيهاً على شدة عداوته، وعظيم خطره وضرره، وأن إخراجهما من النعيم كان غايته ومطلبه.

ثم قوله: (وقلنا اهبطوا منها بعضكم لبعض عدو) إعلام لآدم وزوجه بأن إبليس عدو لهما ولذريتهما عداوة ثابتة لا تنقطع.

فالخطاب في (اهبطوا) يشمل آدم وزوجه وإبليس. ولا يُعكِّر على هذا ما جاء في سورة الأعراف من إهباط إبليس قبل ذلك: (قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين) [الأعراف:١٣] فإنه إهباطٌ من بقعة في السماء إلى بقعة أدنى منها، وليس إهباطاً من الجنة إلى الأرض، ولهذا لم يكن ممتنعاً عليه أن يدخل الجنة بعد ذلك كما هو ظاهر الآيات، والله تعالى أعلم.

ثم بيَّن لهم تعالى طبيعة الحياة في الأرض بألطف خطاب فقال: (ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين) أي: لكم في الأرض موضع تستقرون فيه ومتاع تنتفعون به إلى حين انقضاء آجالكم. فهذا تطمين بأن الأرض التي أهبطهم إليها مهيئة لهم ولمصالحهم، وتنبيه على حتمية الممات فلا يغتر أحد باستقرار حال ولا كثرة متاع.

ثم أخبر سبحانه عن سعة رحمته ولطفه بآدم إذ ألهمه التوبة وقبِلها منه: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم)

قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) أي: ألهم الله آدم كلمات يتوب بها إليه، وهي ما ذُكر في سورة الأعراف: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [الأعراف:٢٣].

ولم يقل "وتاب آدم" بل أضمر ذلك لأنه مفهوم من سياق الكلام، إذ أن توبة الله على عبده لا تكون إلا بتوبة العبد إليه.

والتوبة في اللغة: العودة والرجوع عن الشيء، فتوبة العبد إلى الله: رجوعه عن معصيته مع الندم والعزم على عدم العَوْد. وتوبة الله على العبد: رجوعه عليه بالقبول والمغفرة.

وذيَّل الآية بقوله (إنه هو التواب الرحيم) إظهاراً لمنته، وتعليلاً لتوبته، فـ "توَّاب" على وزن فعَّال، وهي صيغة مبالغة بمعنى كثير القبول لتوبة العبد، فالله يقبل توبة العبد مهما عَظُمَ الذنب، وهو الذي يقبل التوبة مهما وقع العبد في نفس الذنب إذا ما صدق العبد في توبته.

وغالباً ما يقرن القرآن بين اسمي التواب والرحيم لأن التوبة من مظاهر رحمته سبحانه، وتأخير الرحيم دائماً لأنه بمثابة العلة فلا يقال قط "الرحيم التواب"، بل (التواب الرحيم) أي التواب لسعة رحمته.

ومع أن معصية آدم كانت سبباً في خروجه من الجنة، إلا أن إهباطه إلى الأرض لم يكن عقوبة له لأن الله قد أهبطه بعد أن تاب عليه، ولأن الغاية من خلق آدم أصلاً هي أن يكون خليفة في الأرض، فوجوده في الأرض استكمال لامتحانه وامتحان ذريته من بعده.

ثم كرَّر سبحانه الأمر بالهبوط فقال: (قلنا هبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)

قيل في بيان السر من وراء تكرار الأمر بالهبوط، أن الإهباط الأول كان من الجنة إلى السماء الدنيا، بينما الإهباط الثاني كان من السماء الدنيا إلى الأرض، وهو قول بعيد، لأن قصة آدم في السور الأخرى لا تذكر إلا إهباطاً واحداً. وقيل: إن هذا التكرار لمجرد التوكيد، وهو بعيد كذلك لانعدام الفائدة. والصحيح أن الغرض من التكرار زيادة الاعتناء بالمعنى المتعلق بكل أمر، ففي الأمر الأول جاء الإخبار عمَّا سيكون عليه حالهم في الأرض من عداوة واستقرار وتمتع، بينما في الأمر الثاني جاء الإخبار عن تكليفهم باتباع الوحي. فأفاد الفصل زيادة الاهتمام بكل معنى لمجيئه منفرداً، وإلا فإنه أمر واحد، وإهباط واحد كما جاء في قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى) [طه:١٢٣].

وهكذا بيَّن تعالى لهم بأنهم مكلفون باتباع هداه أي اتباع ما يُوحيه إلى رسله من الآيات والبينات، ورتَّب على ذلك الثواب والعقاب، فمن آمن بالهدى وعمل بمقتضاه كان من أهل الجنة حيث لا خوف ولا أحزان، ومن جَحَد وكذَّب بالهدى كان من أهل النار حيث الخلود في الغموم والآلام وهو قوله في الآية التالية: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

وأضاف تعالى الهدى إلى نفسه في قوله (هداي) فأفاد تعظيم الهدى وتشريفه لأن الإضافة دالة على الاختصاص بفضل، وقد جاء بهذه الإضافة بعد أن ذكر صدور الهدى منه بقوله (مني هدى) فأفاد ذلك التأكيد على أن الهدى الموصل إلى دار السلام هو هدى الله وحده، فلا يتوهم أحد الاهتداء بغيره.
ولم يذكر الجنة صراحةً وما فيها من مظاهر النعيم، بل قال: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وذلك لأن آدم وزوجه خرجا من نعيم الجنة إلى مجهول الأرض، فكان تطمينهما أولى وأبلغ من الترغيب بنعيمٍ قد أُخرجوا منه للتو.

والخوف: ما يحدث في النفس من الانفعال لتوقع حصول مكروه. والحزن هو تألم النفس بسبب وقوع المكروه. فلا خوف في الجنة من حصول مكروه لأنها دار السَّلامة من كل شر وآفة، ولا حزن فيها على حصول مكروه أو فوات محبوب، لأنها نعيم يشمل كل مرغوب ومطلوب.

ولمَّا بيَّن تعالى مصير السائرين على طريق الهداية والحق، أتبع ببيان مصير الضالين المتنكبين عنه: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)

هذه الآية الكريمة جارية مجرى المقابلة على طريقة القرآن في المقابلة بين الشيء وضده لكمال التوضيح والبيان، فلمَّا ذكر تعالى مصير من اتبع الهدى في الآية السابقة، ذكر ههنا مصير من كفر بالهدى وكذَّب به، فدلَّ قوله (والذين كفروا وكذبوا بآيتنا) على أن المراد باتباع الهدى هو الإيمان والتصديق بآيات الله، ثم دلَّ قوله (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) على أن المراد بقوله (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) هو ثواب الجنة لا ثواب الدنيا.

إلى هنا تنتهي قصة أبي البشرية آدم عليه السلام والمعصية الأولى للإنسان، وتبدأ قصة أخرى مليئة بالمعاصي والآثام العظيمة، هي قصة بني إسرائيل عبر مرور الأجيال. وبهذا ينتهي القسم الأول من السورة ليبدأ القسم الثاني منها.

وإنما ألحقنا قصة آدم بالقسم الأول لكونها تأصيلاً لاستخلاف ونشأة الإنسان، والتأصيل هو السمة الغالبة فيما تقدم من السورة كما هو ظاهر من تقسيم الناس وبيان صفاتهم ومصائرهم وأمرهم بالأمر الجامع وهو توحيد العبادة وغير ذلك، بينما القسم الثاني يتحدث أساساً عن بني إسرائيل فلا جرم أنه قسم جديد منفصل.
 
عودة
أعلى