سورة الإسراء لزاهية الدجاني.
أرجو أن تكون به فائدة.
الآية ا لأولى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىٰ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
المعنى
يمجّد تعالى نفسه، ويعظّم شأنه، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، فلا إله غيره ولا رب سواه .. تبدأ السورة بالتسبيح .. أليق حركة نفسية تتسق مع جو الإسراء اللطيف، وأليق صلة بين العبد والرب في ذلك الأفق الوضيء.
والإسراء من السير ليلاً، والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مختارة من اللطيف الخبير، تربط بين عقائد التوحيد الكبرى، وتربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وهذه الرحلة تتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها للنظرة الأولى.
وتذكر الآية صفة العبودية للرسول صلى الله عليه وسلم: (أسرى بعبده)؛ لتقريرها وتوكيدها في مقام الإسراء والمعراج إلى الدرجات التي لم يبلغها بشر، وذلك كي لا تُنسى هذه الصفة، ولا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى عليه السلام.
ووصف المسجد الأقصى بـ(الذي باركنا حوله) وصف يرسم البركة حافّة بالمسجد، فائضة عليه، والإسراء آية صاحبتها آيات: (لنريه من آياتنا)، والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش النبي صلى الله عليه وسلم آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود.
(إنه هو السميع البصير): يسمع ويرى كل ما دقّ ولطف، وخفي على الأسماع والأبصار من اللطائف والأسرار.
المناسبة
مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر، ونهاه عن الحزن على المشركين وأن لا يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه به، أعقب ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به، وعلو منزلته عنده.
البلاغة
- براعة الاستهلال (سبحان الذي أسرى)؛ لأنه لما كان أمراً خارقاً للعادة بدأه بلفظ يشير إلى كمال القدرة، وتنزُّه الله عن صفات النقص، وعلو النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المقام أنسب معه أن يسبَّح الله، وينزّه.
- قيل: (سبحان) مصدر كـ(غفران)، بمعنى التنزّه، ففيه مبالغة من حيث إضافة التنزه إلى ذاته المقدسة.
- إضافة (سبحان) إلى الموصول المذكور؛ للإشعار بعليّة ما في حيز الصلة للمضاف؛ فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته، وغاية تنزهه تعالى عن صفات النقص.
- إيثار كلمة (العبد) على غيرها .. قال القشيري: لما رفعه الله تعالى إلى حضرته السنيّة، وأرقاه فوق الكواكب العلويّة، ألزمه اسم العبودية، أ.هـ.
والعبودية أشرف المقامات وأسمى المراتب العليّة، وحتى لا يلتبس مقام العبودية بمقام الألوهية.
- إضافة (العبد) إلى ضميره تعالى إضافة تشريف وتكريم واختصاص، قال الشاعر:
لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائيا
- معلوم أن السرى لا يكون إلا بالليل، ولكنه ذكر هنا (ليلاً) على سبيل التأكيد، وكذلك للتظليل والتصوير، على طريقة القرآن الكريم، فيلقى ظل الليل الساكن، ويخيّم ليله الساجي على النفس وهي تتملى حركة الإسراء اللطيفة وتتابعها.
- التنكير في (ليلاً) يدل على تقليل مدة الإسراء، وأنه أُسريَ به في بعض أجزاء الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وهذا أدلّ على القدرة.
- (الأقصى) سميَ المسجد الأقصى بذلك؛ إذ لم يكن حينئذٍ وراءه مسجد، والمقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البُعد في ليلة.
- (الذي باركنا حوله): صفة مدح لإزالة اشتراك عارض، ومن باب أولى أن يكون هو نفسه مباركاً.
- إطلاق البركة وعدم تقييدها يدل على العموم، فهي بركة دنيوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض، وبركته بما خُصّ به من الخيرات الدينية كالنبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في نواحيه ... فالبركة عامة.
- وهذا التعبير (باركنا حوله) وصف يرسم البركة حافة بالمسجد، وهو ظل لم يكن ليلقيه تعبير مباشر، مثل: باركناه.
- الالتفات من الغيبة إلى التكلم (باركنا . . . لنريه من آياتنا) لتعظيم تلك البركات والآيات.
- (لنريه من آياتنا) عبّر بـ(من) الدالة على التبعيض؛ لأن إراءة جميع آيات الله تعالى لعدم تناهيها مما لا يكاد يقع، ولو قيل: (لنريه آياتنا) لتبادر الكل.
- (باركنا) (لنريه) نسبة الفعل إلى الله تعالى (نون العظمة) فيه تعظيم الفاعل وتعظيم القدرة، فهو المتصرف بخلقه.
- مناسبة التذييل (إنه هو السميع البصير): قرّب الله عز وجل عبده محمد، وخصّه بهذه الكرامة؛ لأنه سبحانه مطّلع على أحواله، عالم باستحقاقه لهذا المقام، أو: سميع ما يدعو، بصير بما يكابد. وقيل: وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك، أي هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
- توسيط ضمير الفصل بين اسم (إن) وخبرها؛ لتأكيد هذه الصفات، أو لأن سماعه تعالى بلا أذن، وبصره بلا عين، على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد.
- السياق ينتقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله (سبحان) إلى صيغة التقرير من الله (لنريه)، إلى صيغة الوصف لله (إنه هو السميع البصير)، وفقاً لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس، فالتسبيح يرتفع موجهاً إلى ذات الله سبحانه، وتقرير القصد من الإسراء يجيء منه تعالى نصّاً، والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذاته الإلهية، وتجتمع هذه الصيغ المختلفة لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة.
الدروس المستفادة
- كلما تحقق مضمون العبودية من الخضوع والخشوع والإخلاص لله سما صاحبُها وزاد قدره.
- ربط الله عز وجل بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى؛ لتكون فلسطين بوابة العروج إلى السماء، وليربط بينهما في قلوب المسلمين، وليكون ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى وثيقاً، فالمسجد الحرام محور العبادة، والمسجد الأقصى محور الصراع.
- هذه الرحلة تربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد جميعاً، وكأنما أريد بهذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول صلى الله عليه وسلم لمقدسات الرسل قبله، وارتباط رسالته بها جميعها.
- الإنسان مهما علا وارتفع لا يصل ولا يقترب من مقام الألوهية إطلاقاً.
- تقرير عقيدة الإسراء والمعراج بالنبي بالروح والجسد معاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم إلى السموات العُلى.
- بيان الحكمة في حادثة الإسراء والمعراج، وهي أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم بأم عينيه ما كان آمن به وعلمه من طريق الوحي، فأصبح الغيب لدى الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة.
يتبع ...الآية الثانية