أنت تستخدم أحد المتصفحات القديمة. قد لا يتم عرض هذا الموقع أو المواقع الأخرى بشكل صحيح.
يجب عليك ترقية متصفحك أو استخدام
أحد المتصفحات البديلة.
تفسير سورة الإسراء من مختصري لتفسير الطبري (متجدد)
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا إِحْدَى عَشَرَةَ وَمِائَةٌ
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[الإسراء: 1]
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} تَنْزِيهًا لِلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا يَقُولُ فِيهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَنَّ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شَرِيكًا، وَأَنَّ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، وَعُلُوًّا لَهُ وَتَعْظِيمًا عَمَّا أَضَافُوهُ إِلَيْهِ، وَنَسَبُوهُ مِنْ جَهَالَاتِهِمٍ وَخَطَأِ أَقْوَالِهِمْ.. وَالْإِسْرَاءُ وَالسُّرَى: سَيْرُ اللَّيْلِ.. فَإِنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، وَكَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ اللَّهَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ حِينَ أَتَاهُ بِهِ، وَصَلَّى هُنَالِكَ بِمَنْ صَلَّى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، فَأَرَاهُ مَا أَرَاهُ مِنَ الْآيَاتِ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: أَسْرَى بِرُوحِهِ دُونَ جَسَدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ عَلَى رِسَالَتِهِ، وَلَا كَانَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا حَقِيقَةَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ بِهِ عَنْ صِدْقِهِ فِيهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ، وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ ذَوِي الْفِطْرَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنْ يَرَى الرَّائِي مِنْهُمْ فِي الْمَنَامِ مَا عَلَى مَسِيرَةِ سَنَةٍ، فَكَيْفَ مَا هُوَ عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ؟.. وَبَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا أَخْبَرَ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ أَسْرَى بِعَبْدِهِ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَسْرَى بِرُوحِ عَبْدِهِ، وَلَيْسَ جَائِزًا لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَدَّى مَا قَالَ اللَّهُ إِلَى غَيْرِهِ، بَلِ الْأَدِلَّةُ الْوَاضِحَةُ، وَالْأَخْبَارُ الْمُتَتَابِعَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ أَسْرَى بِهِ عَلَى دَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ، وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِرُوحِهِ لَمْ تَكُنِ الرُّوحُ مَحْمُولَةً عَلَى الْبُرَاقِ، إِذْ كَانَتِ الدَّوَابُّ لَا تَحْمِلُ إِلَّا الْأَجْسَامَ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا: أَسْرَى بِرُوحِهِ: رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِجَسَدِهِ عَلَى الْبُرَاقِ، فَيُكَذِّبُ حِينَئِذٍ بِمَعْنَى الْأَخْبَارِ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ جِبْرَئِيلَ حَمَلَهُ عَلَى الْبُرَاقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ إِذَا كَانَ مَنَامًا عَلَى قَوْلِ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ، وَلَمْ تَكُنِ الرُّوحُ عِنْدَهُ مِمَّا تَرْكَبُ الدَّوَابَّ، وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَى الْبُرَاقِ جِسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَوْلِهِ حُمِلَ عَلَى الْبُرَاقِ لَا جِسْمُهُ، وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ، وَصَارَ الْأَمْرُ عِنْدَهُ كَبَعْضِ أَحْلَامِ النَّائِمِينَ، وَذَلِكَ دَفْعٌ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ، وَمَا تَتَابَعَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ عَنِ الْأَئِمَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ..
{مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَفِيهِ كَانَ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ هُوَ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ بَيْنَهُمْ إِذَا ذَكَرُوهُ..
{إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَقِيلَ لَهُ: الْأَقْصَى، لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تُزَارُ، وَيَنْبَغِي فِي زِيَارَتِهِ الْفَضْلُ بَعْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ تَنْزِيهًا لِلَّهِ، وَتَبْرِئَةً لَهُ مِمَّا نَحَلَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِشْرَاكِ وَالْأَنْدَادِ وَالصَّاحِبَةِ، وَمَا يَجِلُّ عَنْهُ جَلَّ جَلَالُهُ، الَّذِي سَارَ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ بَيْتِهِ الْحَرَامِ إِلَى بَيْتِهِ الْأَقْصَى..
{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} الَّذِي جَعَلْنَا حَوْلَهُ الْبَرَكَةَ لِسُكَّانِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَغُرُوسِهِمْ..
{لِنُرِيَهُ} كَيْ نُرِيَ عَبْدَنَا مُحَمَّدًا..
{مِنْ آيَاتِنَا} مِنْ عِبَرِنَا وَأَدِلَّتِنَا وَحُجَجِنَا، وَذَلِكَ هُوَ مَا قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيهِ فِي طَرِيقِهِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَعْدَ مَصِيرِهِ إِلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعِبَرِ وَالْمَوَاعِظِ..
{إِنَّهُ} إِنَّ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ..
{هُوَ السَّمِيعُ} لِمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي مَسْرَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ وَقَوْلِ غَيْرِهِمْ..
{الْبَصِيرُ}[الإسراء: 1] بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ الْأَعْمَالِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يَعْزُبُ عَنْهُ عِلْمُ شَيْءٍ مِنْهُ، بَلْ هُوَ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهِ عِلْمًا، وَمُحْصِيهِ عَدَدًا، وَهُوَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، لِيَجْزِيَ جَمِيعَهُمْ بِمَا هُمْ أَهْلُهُ.
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء: 2]
{وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، وَآتَى مُوسَى الْكِتَابَ، وَعَنَى بِالْكِتَابِ الَّذِي أُوتِي مُوسَى: التَّوْرَاةَ.
{وَجَعَلْنَاهُ} وَجَعَلْنَا الْكِتَابَ الَّذِي هُوَ التَّوْرَاةُ..
{هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} بَيَانًا لِلْحَقٍّ، وَدَلِيلًا لَهُمْ عَلَى مَحَجَّةِ الصَّوَابِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ، وَأَمَرَهُمْ بِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ.
{أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا}[الإسراء: 2] أَلَّا تَتَّخِذُوا حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ.
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء: 3]
{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ».. وَعَنَى بِالذُّرِّيَةِ: جَمِيعَ مَنِ احْتَجَّ عَلَيْهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذَا الْقُرْآنِ مِنْ أَجْنَاسِ الْأُمَمِ، عَرَبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلَهُ اللَّهُ مَعَ نُوحٍ فِي السَّفِينَةِ..
{إِنَّهُ} إِنَّ نُوحًا..
{كَانَ عَبْدًا شَكُورًا}[الإسراء: 3] لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ.. قال سَلْمَانُ الفارسي: كَانَ نُوحٌ إِذَا لَبِسَ، ثَوْبًا أَوْ أَكَلَ طَعَامًا حَمِدَ اللَّهَ، فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا.
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء: 4]
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} وَفَرَغَ رَبُّكَ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ عَلَى مُوسَى صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ إِيَّاهُمْ، وَإِخْبَارِهِ لَهُمْ..
{ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} لَتَعْصُنَّ اللَّهَ يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَتُخَالِفُنَّ أَمْرَهُ فِي بِلَادِهِ مَرَّتَيْنِ.. وكَانَ إِفْسَادُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْأُولَى قَتَلَهُمْ زَكَرِيَّا نَبِيَّ اللَّهِ، مَعَ مَا كَانَ سَلَفَ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَهُ، إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَنْ أَحَلَّ عَلَى يَدِهِ بِهِمْ نِقْمَتَهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ، وَعُتُوِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ.. وَأَمَّا إِفْسَادُهُمْ فِي الْأَرْضِ الْمَرَّةَ الْآخِرَةَ، فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ كَانَ قَتْلَهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا..
{وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا}[الإسراء: 4] وَلَتَسْتَكْبِرُنَّ عَلَى اللَّهِ بِاجْتِرَائِكُمْ عَلَيْهِ اسْتِكْبَارًا شَدِيدًا.
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا}[الإسراء: 5]
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَهُمَا} فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ يُفْسِدُونَ بِهِمَا فِي الْأَرْضِ..
{بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ} وَجَّهْنَا إِلَيْكُمْ، وَأَرْسَلَنَا عَلَيْكُمْ..
{عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} ذَوِي بَطْشٍ فِي الْحُرُوبِ شَدِيدٍ..
{فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} فَتَرَدَّدُوا بَيْنَ الدُّورِ وَالْمَسَاكِنِ، وَذَهَبُوا وَجَاءُوا
{وَكَانَ} جَوْسُ الْقَوْمِ الَّذِينَ نَبْعَثُ عَلَيْهِمْ خِلَالَ دِيَارِهِمْ..
{وَعْدًا} مِنَ اللَّهِ لَهُمْ..
{مَفْعُولًا}[الإسراء: 5] ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُفُ الْمِيعَادَ.. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى جَالُوتَ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ، وهو قول قتادة، ويروى عن ابن عباس.. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ بَعَثَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى سَنْحَارِيبَ، وهو قول ابن جبير، وابن المسيَّب.. وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي بِذَلِكَ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ، قَالُوا: وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قِتَالٌ، وهو قول مجاهد.
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]
{ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ} ثُمَّ أَدَلْنَاكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ يَبْعَثُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْإِدَالَةُ وَالْكَرَّةُ لَهُمْ عَلَيْهِمْ، فِيمَا ذَكَرَ السُّدِّيُّ فِي خَبَرِهِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ غَزَوْهُمْ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ، وَاسْتَنْقَذُوا مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْهُمْ، وَفِي قَوْلِ آخَرِينَ: إِطْلَاقُ الْمَلِكِ الَّذِي غَزَاهُمْ مَا فِي يَدَيْهِ مِنْ أَسْرَاهُمْ، وَرَدَّ مَا كَانَ أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَفِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنْهُ هِيَ إِدَالَةُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ جَالُوتَ حَتَّى قَتَلُوهُ.
{وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} وَزِدْنَا فِيمَا أَعْطَيْنَاكُمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْبَنِينَ..
{وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6] وَصَيَّرْنَاكُمْ أَكْثَرَ عَدَدٍ نَافِرٍ.
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا}[الإسراء: 7]
{إِنْ أَحْسَنْتُمْ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِيمَا قَضَى إِلَيْهِمْ فِي التَّوْرَاةِ: إِنْ أَحْسَنْتُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَطَعْتُمُ اللَّهَ وَأَصْلَحْتُمْ أَمْرَكُمْ وَلَزِمْتُمْ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ..
{أَحْسَنْتُمْ} وَفَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ..
{لِأَنْفُسِكُمْ} لِأَنَّكُمْ إِنَّمَا تَنْفَعُونَ بِفَعْلَتِكُمْ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنْفُسَكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْكُمْ مَنْ بَغَاكُمْ سُوءًا، وَيُنَمِّي لَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، وَيَزِيدُكُمْ إِلَى قُوَّتِكُمْ قُوَّةً، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُثِيبُكُمْ بِهِ جِنَانَهُ..
{وَإِنْ أَسَأْتُمْ} وَإِنْ عَصَيْتُمُ اللَّهَ وَرَكِبْتُمْ مَا نَهَاكُمْ عَنْهُ حِينَئِذٍ..
{فَلَهَا} فَإِلَى أَنْفُسِكُمْ تُسيئُونَ، لِأَنَّكُمْ تُسْخِطُونَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ رَبَّكُمْ، فَيُسَلِّطُ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا عَدُوَّكُمْ، وَيُمَكِّنُ مِنْكُمْ مَنْ بَغَاكُمْ سُوءًا، وَيُخَلِّدُكُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ.. وَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ «وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»، وَالْمَعْنَى: فَإِلَيْهَا كَمَا قَالَ «بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا»[الزلزلة: 5]، وَالْمَعْنَى: أَوْحَى إِلَيْهَا..
{فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآَخِرَةِ} فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ مِنْ مَرَّتَيْ إِفْسَادِكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَرْضِ..
{لِيَسُوءُوا} لِيَسُوءَ مَجِيءُ ذَلِكَ الْوَعْدِ لِلْمَرَّةِ الْآخِرَةِ..
{وُجُوهَكُمْ} فَيُقَبِّحَهَا..
{وَلِيَدْخُلُوا} وَلْيَدْخُلْ عَدُوُّكُمُ الَّذِي أَبْعَثُهُ عَلَيْكُمْ..
{الْمَسْجِدَ} مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَهْرًا مِنْهُمْ لَكُمْ وَغَلَبَةً..
{كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} حِينَ أَفْسَدْتُمُ الْفَسَادَ الْأَوَّلَ فِي الْأَرْضِ..
{وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا} وَلْيُدَمِّرُوا مَا غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ..
{تَتْبِيرًا}[الإسراء: 7] تَدْمِيرًا.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء: 8]
{عَسَى رَبُّكُمْ} لَعَلَّ رَبَّكُمْ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ..
{أَنْ يَرْحَمَكُمْ} بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ بِالْقَوْمِ الَّذِينَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيَسُوءَ مَبْعَثُهُ عَلَيْكُمْ وُجُوهَكُمْ، وَلْيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَيَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَيَنْتَشِلُكُمْ مِنَ الذُّلِّ الَّذِي يُحِلُّهُ بِكُمْ، وَيَرْفَعُكُمْ مِنَ الْخُمُولَةِ الَّتِي تَصِيرُونَ إِلَيْهَا، فَيُعِزُّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَ«عَسَى» مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ، فَكَثُرَ عَدَدُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَرَفَعَ خَسَاسَتَهُمْ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْمُلُوكَ وَالْأَنْبِيَاءَ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَهُمْ..
{وَإِنْ عُدْتُمْ} يَا مَعْشَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِمَعْصِيَتِي وَخِلَافِ أَمْرِي، وَقَتْلِ رُسُلِي..
{عُدْنَا} عَلَيْكُمْ بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ، وَإِحْلَالِ الذُّلِّ وَالصَّغَارِ بِكُمْ، فَعَادُوا، فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِعِقَابِهِ وَإِحْلَالِ سَخَطِهِ بِهِمْ.. قَالَ قَتَادَةُ: عَادَ الْقَوْمُ بِشَرِّ مَا يَحْضُرُهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَ مِنْ نِقْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ، ثُمَّ كَانَ خِتَامُ ذَلِكَ أَنْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ..
{وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا}[الإسراء: 8] وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ فِرَاشًا وَمِهَادًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْبِسَاطَ الصَّغِيرَ حَصِيرًا، وَمِنْه قُولُه تُعُالى: «لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ»[الأعراف: 41].