تفسير سورة الأنعام من مختصري لتفسير الطبري (متجدد)

إنضم
12/06/2004
المشاركات
456
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَكِّيَّةٌ وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَسِتُّونَ وَمِائَةٌ
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}[المائدة:1]
{الْحَمْدُ} الْكَامِلُ..
{لِلَّهِ} وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، دُونَ جَمِيعِ الْأَنْدَادِ وَالْآلِهَةِ، وَدُونَ مَا سِوَاهُ مِمَّا تَعْبُدُهُ كَفَرَةُ خَلْقِهِ مِنَ الْأَوْثَانِ وَالْأَصْنَامِ.. وَهَذَا كَلَامٌ مَخْرَجُهُ مَخْرَجُ الْخَبَرِ يُنْحَى بِهِ نَحْوَ الْأَمْرِ، يَقُولُ: أَخْلِصُوا الْحَمْدَ وَالشُّكْرَ لِـ..
{الَّذِي} خَلَقَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ..
{خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} وَلَا تُشْرِكُوا مَعَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدًا شَيْئًا، فَإِنَّهُ الْمُسْتَوْجِبُ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ بِأَيَادِيهِ عِنْدَكُمْ وَنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ، لَا مَنْ تَعْبُدُونَهُ مِنْ دُونِهِ وَتَجْعَلُونَهُ لَهُ شَرِيكًا مِنْ خَلْقِهِ..
{وَ} الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي..
{جَعَلَ} خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَ..
{الظُّلُمَاتِ} أَظْلَمَ اللَّيْلَ..
{وَالنُّورَ} وَأَنَارَ النَّهَارَ..
{ثُمَّ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ مُعَجِّبًا خَلْقَهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كَفَرَةِ عِبَادِهِ وَمُحْتَجًّا عَلَى الْكَافِرِينَ: إِنَّ الْإِلَهَ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ حَمْدَهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، الَّذِي جَعَلَ مِنْهُمَا مَعَايشَكُمْ وَأَقْوَاتَكُمْ وَأَقْوَاتَ أَنْعَامِكُمُ الَّتِي بِهَا حَيَاتُكُمْ، فَمِنَ السَّمَوَاتِ يَنْزِلُ عَلَيْكُمُ الْغَيْثُ، وَفِيهَا تَجْرِي الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِاعْتِقَابٍ وَاخْتِلَافٍ لِمَصَالِحِكُمْ، وَمِنَ الْأَرْضِ يَنْبُتُ الْحَبُّ الَّذِي بِهِ غَذَاؤُكُمْ وَالثِّمَارُ الَّتِي فِيهَا مَلَاذِكُمْ، مَعَ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا مَصَالِحِكُمْ وَمَنَافِعُكُمْ بِهَا..
{الَّذِينَ كَفَرُوا} نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ خَلْقِ ذَلِكَ لَهُمْ وَلَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ.. فَعَمَّ بِذَلِكَ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَجَمِيعُهُمْ دَاخِلُونَ فِي ذَلِكَ: يَهُودُهُمْ، وَنَصَارَاهُمْ، وَمَجُوسُهُمْ، وَعَبْدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْهُمْ، وَمَنْ غَيْرُهُمْ مِنْ سَائِرِ أَصْنَافِ الْكُفْرِ..
{بِرَبِّهِمْ} الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ وَأَحْدَثَهُ..
{يَعْدِلُونَ}[المائدة:1] يَجْعَلُونَ لَهُ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ، فَيَعْبُدُونَ مَعَهُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ وَالْأَوْثَانَ، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ شَرَكَهُ فِي خَلَقِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا فِي إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، بَلْ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَهُمْ يُشْرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ.. فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَبْلَغَهَا مِنْ حُجَّةٍ وَأَوْجَزَهَا مِنْ عِظَةٍ، لِمَنْ فَكَّرَ فِيهَا بِعَقْلٍ وَتَدَبَّرَهَا بِفَهْمٍ، وَلَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ.. وعَنْ كَعْبٍ، قَالَ: فَاتِحَةُ التَّوْرَاةِ فَاتِحَةُ الْأَنْعَامِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}..
 
{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام: 2]
{هُوَ الَّذِي} خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَظْلَمَ لَيْلَهُمَا وَأَنَارَ نَهَارَهُمْا، فَكَفَرَ بِهِ مَعَ إِنْعَامِهِ عَلَيْهِمُ الْكَافِرُونَ، وَعَدَلُوا بِهِ مَنْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ، هُوَ الَّذِي..
{خَلَقَكُمْ} أَيُّهَا النَّاسُ..
{مِنْ طِينٍ} فالنَّاسَ وَلَدُ مَنْ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، فَأَخْرَجَ ذَلِكَ مَخْرَجَ الْخِطَابِ لَهُمْ، إِذْ كَانُوا وَلَدَهُ..
{ثُمَّ قَضَى أَجَلًا} ثُمَّ قَضَى أَجَلَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..
{وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} وَهُوَ أَجَلُ الْبَعْثِ عِنْدَهُ، لِإِعَادَتِكُمْ أَحْيَاءً وَأَجْسَامًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ مَمَاتِكُمْ.. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تَرْجِعُونَ}[البقرة: 28].. فَإِنَّهُ تَعَالَى نَبَّهَ خَلْقَهُ عَلَى مَوْضِعِ حُجَّتِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمُ الْآلِهَةَ وَالْأَنْدَادَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَابْتَدَأَكُمْ وَأَنْشَأَكُمْ مِنْ طِينٍ، فَجَعَلَكُمْ صُوَرًا أَجْسَامًا أَحْيَاءَ بَعْدَ إِذْ كُنْتُمْ طِينًا جَمَادًا، ثُمَّ قَضَى آجَالَ حَيَاتِكُمْ لِفَنَائِكُمْ وَمَمَاتِكُمْ، لِيُعِيدَكُمْ تُرَابًا وَطِينًا كَالَّذِي كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَكُمَ وَيَخْلُقَكُمْ..
{ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ}[الأنعام: 2] ثُمَّ أَنْتُمْ تَشُكُّونَ فِي قُدْرَةِ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِظْلَامِ اللَّيْلِ وَإِنَارَةِ النَّهَارِ، وَخَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ حَتَّى صَيَّرَكُمْ بِالْهَيْئَةِ الَّتِي أَنْتُمْ بِهَا عَلَى إِنْشَائِهِ إِيَّاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَمَاتِكُمْ وَفَنَائِكُمْ، وَإِيجَادِهِ إِيَّاكُمْ بَعْدَ عَدَمِكُمْ.
 
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[الأنعام:3]
{وَهُوَ اللَّهُ} فَإِنَّ الَّذِي لَهُ الْأُلُوهَةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِهِ، الْمُسْتَحِقُّ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصَ الْحَمْدِ لَهُ بِآلَائِهِ عِنْدَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، الَّذِي يَعْدِلُ بِهِ كُفَّارُكُمْ مَنْ سِوَاهُ، هُوَ اللَّهُ، الَّذِي هُوَ..
{فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، يَقُولُ: فَرَبُّكُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْكُمُ الْحَمْدَ، وَيَجِبُ عَلَيْكُمْ إِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لَهُ، هُوَ هَذَا الَّذِي صِفَتُهُ، لَا مَنْ لَا يَقْدِرُ لَكُمْ عَلَى ضَرٍّ، وَلَا نَفْعٍ، وَلَا يَعْمَلُ شَيْئًا، وَلَا يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ سُوءًا أُرِيدَ بِهَا..
{وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ}[الأنعام:3] وَيَعْلَمُ مَا تَعْمَلُونَ وَتَجْرَحُونَ، فَيُحْصِي ذَلِكَ عَلَيْكُمْ لِيُجَازِيكُمْ بِهِ عِنْدَ مَعَادِكُمْ إِلَيْهِ.
 
{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[الأنعام: 4]​

{وَمَا تَأْتِيهِمْ} وَمَا تَأْتِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أَوْثَانَهُمْ وَآلِهَتَهُمْ..
{مِنْ آيَةٍ} وحُجَّةٍ وَعَلَامَةٍ وَدِلَالَةٍ..
{مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} مِنْ حُجَجِ رَبِّهِمْ، وَدِلَالَاتِهِ، وَأَعْلَامِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَحَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَصِدْقِ مَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي..
{إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}[الأنعام: 4] إِلَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا -يَعْنِي: عَنِ الْآيَةِ- فَصَدُّوا عَنْ قَبُولِهَا وَالْإِقْرَارِ بِمَا شَهِدَتْ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَدَلَّتْ عَلَى صِحَّتِهِ، جَهْلًا مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَاغْتِرَارًا بِحِلْمِهِ عَنْهُمْ.
 
{فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام:5]
{فَقَدْ كَذَّبُوا} فَقَدْ كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلُونَ بِاللَّهِ..
{بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} وَذَلِكَ الْحَقُّ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَذَّبُوا بِهِ، وَجَحَدُوا نُبُوَّتَهُ لَمَّا جَاءَهُمْ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ مُتَوَّعِّدًا عَلَى تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ..
{فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ} سَوْفَ يَأْتِي الْمُكَذِّبِينَ بِكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ قَوْمِكَ وَغَيْرِهِمْ..
{أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام:5] سَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَخْبَارُ اسْتِهْزَائِهِمْ بِمَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ مِنْ آيَاتِي وَأَدِلَّتِي الَّتِي آتَيْتَهُمْ، ثُمَّ وَفَى لَهُمْ بِوَعِيدِهِ لَمَّا تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَعَتَوْا عَلَى رَبِّهِمْ، فَقَتَلَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ.
 
{أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}[الأنعام: 6]
{أَلَمْ يَرَوْا} أَلَمْ يَرَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي الْجَاحِدُونَ نُبُوَّتَكَ يَا مُحَمَّد..
{كَمْ} كَثْرَة مَنْ..
{أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} وَهُمُ الْأُمَمُ الَّذِينَ..
{مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} وَطَّأْتُ لَهُمُ الْبِلَادَ وَالْأَرْضَ وَطَاءَةً لَمْ أُوَطِّئْهَا لَكُمْ، وَأَعْطَيْتُهُمْ فِيهَا مَا لَمْ أُعْطِكُمْ..
{وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ} الْمَطَرَ..
{عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} غَزِيرَةً دَائِمَةً..
{وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ} فَأَخْرَجَتْ لَهُمُ الْأَشْجَارُ ثِمَارَهَا، وَأَعْطَتْهُمُ الْأَرْضُ رِيعَ نَبَاتِهَا، وَجَابُوا صُخُورَ جِبَالِهَا، وَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ بِأَمْطَارِهَا، وَتَفَجَّرَتْ مِنْ تَحْتِهِمْ عُيُونُ الْمِيَاهِ بِيَنَابِيعِهَا بِإِذْنِي..
{فَأَهْلَكْنَاهُمْ} فَغَمَطُوا نِعْمَةَ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رَسُولَ خَالِقِهِمْ وَخَالَفُوا أَمْرَ بَارِئِهِمْ، وَبَغَوْا حَتَّى حَقَّ عَلَيْهِمْ قَوْلِي، فَأَخَذْتُهُمْ..
{بِذُنُوبِهِمْ}بِمَا اجْتَرَحُوا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَعَاقَبْتُهُمْ بِمَا اكْتَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، وَأَهْلَكْتُ بَعْضَهُمْ بِالرَّجْفَةِ، وَبَعْضَهُمْ بِالصَّيْحَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ..
{وَأَنْشَأْنَا} وَأَحْدَثْنَا..
{مِنْ بَعْدِهِمْ} الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ..
{قَرْنًا آخَرِينَ}[الأنعام: 6] فَابْتَدَأْنَا سِوَاهُمْ.
 
{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}[الأنعام: 7]
{وَ}هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِرَبِّهِمُ الْأَوْثَانَ وَالْآلِهَةَ وَالْأَصْنَامَ، كَيْفَ يَتَفَقَّهُونَ الْآيَاتِ، أَمْ كَيْفَ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى بُطْلَانِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَجُحُودِ نُبُوَّتِكَ بِحُجَجِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَأَدِلَّتِهِ، وَهُمْ لِعِنَادِهِمُ الْحَقَّ وَبُعْدِهِمْ مِنَ الرُّشْدِ..
{لَوْ نَزَّلْنَا} لَوْ أَنْزَلْتُ..
{عَلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ الْوَحْيَ الَّذِي أَنْزَلْتُهُ مَعَ رَسُولِي..
{كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ} يُعَايُنُونَهُ..
{فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} وَيَمَسُّونُهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَيَقْرَءُونَهُ مِنْهُ، مُعَلَّقًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، بِحَقِيقِةِ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَصِحَّةِ مَا تَأْتِيهِمْ بِهِ مِنْ تَوْحِيدِي وَتَنْزِيلِي..
{لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} لَقَالَ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ بِي غَيْرِي، فَيُشْرِكُونَ فِي تَوْحِيدِي سِوَايَ..
{إِنْ هَذَا} مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ..
{إِلَّا سِحْرٌ} سَحَرْتَ بِهِ أَعْيُنَنَا، لَيْسَتْ لَهُ حَقِيقَةٌ وَلَا صِحَّةٌ..
{مُبِينٌ}[الأنعام: 7] لِمَنْ تَدَبَّرَهُ وَتَأَمَّلَهُ أَنَّهُ سِحْرٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ.
 
{وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}[الأنعام: 8]
{وَقَالُوا} قَالَ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبُونَ بِآيَاتِي الْعَادِلُونَ بِيَ الْأَنْدَادَ وَالْآلِهَةَ لَكَ، لَوْ دَعَوْتَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِي، وَإِذَا أَتَيْتَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْعِبَرِ بِمَا أَتَيْتَهُمْ بِهِ، وَاحْتَجَجْتَ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَجْتَ عَلَيْهِمْ مِمَّا قَطَعْتَ بِهِ عُذْرَهُمْ..
{لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} هَلَّا نَزَلَ عَلَيْكَ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ فِي صُورَتِهِ، يُصَدِّقُكَ عَلَى مَا جِئْتَنَا بِهِ، وَيَشْهَدُ لَكَ بِحَقِيقَةِ مَا تَدَّعِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ فِي قِيلِهِمْ لِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونُ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]..
{وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا} عَلَى مَا سَأَلُوا ثُمَّ كَفَرُوا وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي..
{لَقُضِيَ الْأَمْرُ} لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلٍ..
{ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}[الأنعام: 8] وَلَمْ يُنْظَرُوا فَيُؤَّخَرُوا بِالْعُقُوبَةِ مُرَاجَعَةَ التَّوْبَةِ، كَمَا فَعَلْتُ بِمَنْ قَبْلَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي سَأَلَتِ الْآيَاتِ ثُمَّ كَفَرَتْ بَعْدَ مَجِيئِهَا مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ وَتَرْكِ الْإِنْظَارِ.
 
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ}[الأنعام: 9]
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} وَلَوْ جَعَلْنَا رَسُولَنَا إِلَى هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي، الْقَائِلِينَ: لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مَلَكٌ بِتَصْدِيقِهِ..
{مَلَكًا} يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، وَيَشْهَدُ بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتِّبَاعِهِ..
{لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا} فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنَ الْبَشَرِ، لِأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَرَوْا الْمَلَكَ فِي صُورَتِهِ، يَقُولُ: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَسَوَاءٌ أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مَلَكًا أَوْ بَشَرًا، إِذْ كُنْتُ إِذَا أَنْزَلْتُ عَلَيْهِمْ مَلَكًا إِنَّمَا أُنْزِلُهُ بِصُورَةِ إِنْسِيٍّ، وَحُجَجِي فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ عَلَيْهِمْ ثَابِتَةٌ بِأَنَّكَ صَادِقٌ وَأَنَّ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ حَقٌّ..
{وَ} لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا مِنَ السَّمَاءِ مُصَدِّقًا لَكَ يَا مُحَمَّدُ، شَاهِدًا لَكَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِي الْجَاحِدِينَ آيَاتِكَ عَلَى حَقِيقَةِ نُبُوَّتِكَ، فَجَعَلْنَاهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي آدَمَ إِذْ كَانُوا لَا يُطِيقُونَ رُؤْيَةَ الْمَلَكِ بِصُورَتِهِ الَّتِي خَلَقْتُهُ بِهَا..
{لَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ} الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، فَلَمْ يَدْرُوا مَلَكٌ هُوَ أَمْ إِنْسِيُّ، فَلَمْ يُوقِنُوا بِهِ أَنَّهُ مَلَكٌ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِهِ، وَقَالُوا: لَيْسَ هَذَا مَلَكًا، وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ..
{مَا يَلْبِسُونَ}[الأنعام: 9] مَا يَلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِكَ وَصِحَّةِ بُرْهَانِكَ وَشَاهِدِكَ عَلَى نُبُوَّتِكَ..
 
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام:10]​

{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسَلِّيًا عَنْهُ بِوَعِيدِهِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ عُقُوبَةَ مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ أَذَى الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ وَالِاسْتِخْفَافِ فِي ذَاتِ اللَّهِ: هَوِّنْ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَا أَنْتَ لَاقٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِكَ الْمُسْتَخِفِّينَ بِحَقِّكَ فِي وَفِي طَاعَتِي، وَامْضِ لِمَا أَمَرْتُكَ بِهِ مِنَ الدُّعَاءِ إِلَى تَوْحِيدِي وَالْإِقْرَارِ بِي وَالْإِذْعَانِ لِطَاعَتِي فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَادَوْا فِي غَيِّهِمْ وَأَصَرُّوا عَلَى الْمُقَامِ عَلَى كُفْرِهِمْ، نَسْلُكُ بِهِمْ سَبِيلَ أَسْلَافِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ مِنْ تَعْجِيلِ النِّقْمَةِ لَهُمْ وَحُلُولِ الْمَثُلَاثِ بِهِمْ، فَقَدِ اسْتَهْزَأَتْ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكَ بِرُسُلٍ أَرْسَلْتُهُمْ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ الَّذِي أَرْسَلْتُكَ بِهِ إِلَى قَوْمِكَ، وَفَعَلُوا مِثْلَ فِعْلِ قَوْمِكَ بِكَ..
{فَحَاقَ} فَنَزَلَ وَأَحَاطَ..
{بِالَّذِينَ سَخِرُوا} بِالَّذِينَ هَزِئُوا..
{مِنْهُمْ} بِرُسُلِهِمْ وَ..
{مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[الأنعام:10] مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَهْزَأُونَ بِهِ وَيُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا بِهِمْ عَلَى مَا أَنْذَرَتْهُمْ رُسُلُهُمْ.
 
{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام: 11]​

{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْعَادِلِينَ بِيَ الْأَوْثَانَ وَالْأَنْدَادَ الْمُكَذِّبِينَ بِكَ الْجَاحِدِينَ حَقِيقَةَ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِي..
{سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} جُولُوا فِي بِلَادِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمُ الْجَاحِدِينَ آيَاتِي مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ ضُرَبَائِهِمْ وَأَشْكَالِهِمْ مِنَ النَّاسِ..
{ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام: 11] ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ أَعْقَبَهُمْ تَكْذِيبُهُمْ ذَلِكَ الْهَلَاكَ وَالْعَطَبَ وَخِزْيَ الدُّنْيَا وَعَارَهَا، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَوَارِ وَخَرَابِ الدِّيَارِ وَعَفْوِ الْآثَارِ، فَاعْتَبِرُوا بِهِ، إِنْ لَمْ تَنْهَكُمْ حُلُومُكُمْ، وَلَمْ تَزْجُرْكُمْ حُجَجُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، عَمَّا أَنْتُمْ مُقِيمُونَ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَاحْذَرُوا مِثْلَ مَصَارِعِهِمْ، وَاتَّقُوا أَنْ يَحِلَّ بِكُمْ مِثْلُ الَّذِي حَلَّ بِهِمْ.
 
عودة
أعلى