-هذه ثلاث ملاحظات ابتدائية موزعة على جرس السورة ،وموضوعها ،وبنائها:
1-جاءت الفاصلة في السورة على ثلاثة أنحاء: فاصلة مهيمنة،فاصلة مقطوعة، وفاصلة فريدة: الفاصلة المهيمنة امتدت على مساحة ثلثي السورة (من الضحى إلى أغنى) ويمكن عدها امتدادا لفاصلة سورة" الليل" السابقة مما يقوي الوشائج بين السورتين: -الترتيب في المصحف، -القسم بالليل والنهار في المطلعين، -المناسبة في النزول والموضوع. ( فقد سمى كثير من المفسرين سورة "الليل" سورة أبي بكر وسورة "الضحى" سورة محمد..)
الفاصلة الثانية مبنية على صوت الراء الساكن..والمرتِّل يتوقع استمرار النسق في الآية الثالثة: " وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ ..." لكنه ما يلبث أن يجد نفسه أمام إيقاف مفاجيء للنسق: " ...فحدث" إنه إغلاق للسورة بفاصلة فريدة ،وبحرف" الثاء" الذي لم يتكرر في السورة من قبل وكأنه احتفظ به ليكون حضوره إيذانا بقفل السورة.وهذا من بديع القرآن الصوتي .
2- الضحى (سورة محمد) والاسم مناسب بالنظر إلى أن كل آية في السورة - بعد القسم- جاءت مشتملة على ضمير - أو أكثر- عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم فالخطاب متمحض له خلال السورة كلها..
3-يبدي بناء السورة تنضيدا بديعا لوحداتها ،ويشكل النسق الثلاثي قاعدة في البناء، وهو ملحوظ على المحور الأفقي والعمودي معا: أعني بالأفقي توالي المقاطع الثلاث المكونة للسورة ،وأعني بالعمودي اشتمال كل مقطع على ثلاث وحدات.. فلنسم كل مقطع بصبغته الأسلوبية: المقطع الأول مقطع "توكيد" المقطع الثاني مقطع "استفهام" والمقطع الثالث مقطع "طلب". اندرج ضمن المقطع الأول ثلاث وحدات: 1-مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى 2-وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى 3-وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وثلاث وحدات في الثاني: 1-أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى 2-وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى 3-وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى وثلاث وحدات في الثالث: 1-فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ 2-وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ 3-وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ هذا ونشرع في تفسير السورة الكريمة مبتدئين بتحليل المعنى البلاغي للقسم على الصعيد النظري ،وتنزيله عمليا على قَسَم مطلع السورة..
باب لم ينل حظوة عند البلاغيين وما كان لإهمالهم عذر: -فللقسم سريان في الكلام مشهود، حتى أنه ليدخل على مجرد قول "نعم" و"لا"(إي والله ،لا والله..) -وله حضور في كتاب الله فقد جاء في مطالع كثيرة من سوره .. -وليس لهم أن يقولوا "تركوه لقلة نكته" (كما فعلوا في بعض أبواب الإنشاء كالتعجب وصيغ البيوع..) فإنا نرى القسم داخلا في أربعة من فنون القول: 1-فن الحجاج وهذا -فيما نحسب- غرض متأصل فيه، ونحسب أن هذا يعم لغات البشر وليس خاصا باللسان العربي.. 2-فن المعاني...والقسم معدود فيه من أقوى مؤكدات الخبر.. 3-فن البديع وقد فطن كثير من المفسرين إلى جمالية القسم فكانوا يبحثون فيه عن وجه التناسب والاتساق بين المقسم به والمقسم عليه.. 4-فن البيان يكون فيه القسم من المبينات( كالتشبيه وغيره) وللأستاذة عائشة عبد الرحمن فضل في استدراك هذا الغرض واشتغلت به في تفسيرها لبعض سور القرآن...وملخص نظريتها أن في القسم القرآني يكون المقسم به حسيا ليبين المقسم عليه المعنوي، فتكون وظيفة القسم مندرجة ضمن المقصد البياني العام وهو التقديم الحسي للمعنى... قالت: "والذي اطمأننت إليه بعد طول التدبر لسياقها في الآيات المستهلة بالواو، هو أن هذه الواو قد خرجت عن أصل معناها اللغوي الأول في القسم للتعظيم، إلى معنى بلاغي، هو اللفتُ بإثارة بالغة إلى حِسَّيات مُدرَكة لا تحتمل أن تكون موضع جدل ومماراة، توطئة إيضاحية لبيانِ معنوياتِ مُمارَى فيها، أو تقرير غيبياتِ ليست من الحسيات والمدركات. فالبيان القرآني في قسمه بالفجر وبالصبح إذا أسفر وإذا تنفس، وبالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى. . . يَجلو معاني من الهدى والحق أو الضلال والباطل، بماديات من النور والظلمة في مختلف درجاتهما. وهذا البيان للمعنوي بالحسي، هو مدار استعمال البيان القرآني للظلمات والنور بمعنى الضلال والهدى..."
إلا أننا نلاحظ أن قولها عن "خروج الواو عن أصل معناها اللغوي "غير دقيق، فالقسم يؤدي وظائف حجاجية وبيانية على الاستقلال أو التوازي ،فلا خروج من غرض إلى آخر، ولا تراتبية للأغراض زمنيا فيدعى أن غرضا أسبق من الآخر...والباحثة إنما سارت على نهج جمهور البلاغيين والمتكلمين الذين زعموا أن دلالات الألفاظ ترجع –دائما- إلى أصل واحد هو المعنى الوضعي( أو المنطقي) ويصنفون تبعا لذلك كل الدلالات الأخرى على أنها فروع، أو مجازات ،أو خروج عن مقتضى الظاهر.. وقولنا هذا لا يعارض ما ذكرناه من أن الحجاج هو الغرض المتأصل في القسم ،فالأغراض الأخرى مستقلة عنه، وغير منبنية عليه ،فلو كنا نؤمن بنظرية الوضع لقلنا إن القسم موضوع لكل تلك الأغراض على التساوي ثم يعرض له أن يكثر استعماله في غرض بسبب ظروف التداول وأنماط الخطاب..ففي الخطاب القانوني -مثلا- يكون القسم ذا صبغة حجاجية وفي الخطاب الشعري يكون ذا صبغة بيانية وهكذا... والقسم إذ يكون للحجاج لا ينفصل عنه معنى التعظيم أبدا.. فمراد المقسم أن يقنع مخاطبه ،ولا يتأتى له ذلك إلا في ضمن شبكة ثقافية يكون للمقسم به مكانة خاصة عند المتكلم...فلو لم يكن المقسم به معظما لفرغ القسم من محتواه الجدي وأصبح دعابة أو سخرية!! ويبدو أن الباحثة كانت متذمرة قليلا من انسياق المفسرين نحو الكشف عن مظاهر التعظيم في القسم فقالت عن تفسير ابن القيم لسورة الضحى: "وكان ابن القيم أقرب إلى إدراك الملحظ البياني في القسم لولا أن غلب عليه التأثر بفكرة الإعظام التي قررها أصلا في كل أقسام القرآن فجعل موضع القسم هنا الدلالة على ربوبية الله وحكمته ورحمته، مع أن السياق لا يشير من قريب أو بعيد إلى أن الموقف كان ارتيابيا من من المشركين في ربوبية الله وحكمته ورحمته.."
الحقيقة أن الإعظام في القسم ليس فكرة خارجة يتأثر بها المرء أو يقررها من عند ذاته أصلا بل هو مقوم من نسيج القسم نفسه بشرط أن يكون المضمار مضمار حجاج..فلا حرج على المفسرين أن يبينوا وجوه عظمة المقسم به، ولا حرج على الباحثة أن تستكنه وجوه الاتساق والبيان بعيدا عن مظاهر التعظيم فكل ميسر لما خلق له...
وقالت في موضع آخر: "فإذا كان القصد إلى إعظامها، فما وجه إيثارها بهذا الاستهلال، وليس في القرآن كله، سورة مفتتحة بالواو مع اسم من أسماء الله الحسنى، وأين من عظمته تعالى عظمة مخلوقاته؟ ولا مجال أن نقيس بعظمة الله، عظمةَ التين والزيتون والعاديات ضبحاً، والنجم إذا هوى. . . بل ليس في القرآن "والله" قسماً غير قسم المشركين يوم القيامة..."
ولنا ملاحظات: -أولا :القصد إلى الإعظام ضربة لازب في كل قسم حجاجي..وإلا انقلب جنسه! -ثانيا:المقسِم هنا هو الله تعالى وله أن يقسم بما شاء..والمانع في القسم بغير الله-بالنسبة للإنسان- شرعي لا بلاغي...ففي بعض المقامات- لا يصدق المخاطب الدعوى بمجرد القسم بالله ولكنه يذعن بالقسم بغيره.... -ثالثا: القسم من الله لا ينفك عن التعظيم أيضا..فمآل القسم بالمخلوقات هو القسم بالله..فكأن الله تعالى يقسم بصفاته المتجلية في مخلوقاته..وهذا مقصد مطرد في كتاب الله –في القسم وغيره-فدعوة الإنسان إلى التفكر في المخلوقات هي من باب الذرائع لا من باب المقاصد..فالعلم بالطبيعة لا اعتبار له إن لم يكن وسيلة للعلم بالله..وقول الكاتبة :"لا مجال أن نقيس بعظمة الله، عظمةَ التين والزيتون.." صحيح لكن عظمة التين دالة على عظمة الله...فالعلاقة بين التعظيمين علاقة دال ومدلول وهي علاقة تلازم لا تعارض ... ومع كل هذا فنحن في تفسيرنا للقسم في هذه السورة لن نحيد عن مذهب الباحثة- رحمها الله -فنختار أرضية بيانية لتوجيه القسم ...
لعله من المفيد أن نضيف إلى مستويات التحليل الدلالي المألوفة(معجمية، سياقية ،رمزية،ثقافية..) مستوى آخر يكون منه رصد"السمات المزاجية" للكلمة أوالعبارة..ونعني بالمزاج ما ينطبع في النفس من أثر عند التلقي فينشأ عنه "مزاج حسن" أو "مزاج سيء"...أو قل إن هذه الإيحاءات المزاجية ذات قطبية ثنائية فإما أن تستشعر النفس ارتياحا وابتهاجا لسماع الكلمة والعبارة، (مثل كلمة حمامة ، أو نور، أو فوق أو ترياق) أو على العكس تستشعر ألما ونفورا لسماع الكلمة والعبارة،.. (مثل كلمة غراب ،أو ظلمة أو تحت أو طاعون) فلنسم النوع الإيجابي :الدلالة أو السمة "الانبساطية"(نقترح هذا المصطلح معادلا للكلمة الأعجمية Euphorique) ولنسم النوع السلبي:الدلالة أو السمة "الانقباضية"(نقترح هذا المصطلح أيضا معادلا للكلمة الأعجمية Dysphorique)
فلننظر من هذه الجهة إلى القسم في السورة السابقة قصد البيان والمقارنة: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) القسم الأول موسوم ب"الانقباضية" فليس الليل –في هذا السياق- مما ترتاح إليه النفس بالنظر إلى ما تولده الكلمة في النفس من إيحاءات بالعزلة والظلمة والتيه والخوف.... هذه السمة الانقباضية في الآية تجد لها تكرارا وعضدا في فعل( يَغْشَى) من جهتين: -من جهة مادة الفعل: فالغشاء والغشاوة والغاشية...تأتي في القرآن الكريم موسومة في الغالب بسمة "انقباضية " {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا } [يونس : 27] {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه : 78] {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان : 32] {رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب : 19] {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان : 11] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية : 1] (وقد ترد- في النادر- بسمة "انبساطية" كما في قوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال : 11]) -من جهة صيغة الفعل: المضارع دال على التجدد والتدرج ففيه استدامة للانقباض واستطالة للضيق..كما لو كنت تشاهد شخصا يغرق شيئا فشيئا... لكن القسم الثاني في مطلع السورة ( وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ) موسوم بالدلالة الانبساطية نلقاها في كلمة النهار ،ونتلقاهامتكررة في فعل( تَجَلَّى ) من جهتين (فيكون بين القسمين بديع التقابل): فمادة الفعل دلت على الكشف والإظهار والتحرر... وصيغة المضي أفادت كشف السوء- الذي كان ينزل متدرجا- بضربة واحدة..(والانبساط في زوال الألم فورا أقوى من إدراك زواله شيئا فشيئا..) لكن القسم في سورة الضحى جاء بترتيب عكسي: فقدم القسم بالنهار على القسم بالليل... غير أن المثير للانتباه حقا هو تخالف الانبساط والانقباض ..فالضحى موسوم ب"الانقباضية" والليل موسوم ب"الانبساطية" على غير المتوقع..والسر البياني في هذا الانقلاب هو القيد الظرفي العجيب:"إذا سجا"...فكأن هذا القيد أزال عن مقيَّده كل وحشة وأعده لتقبل حسن من قبل المزاج ،وبما أن الضحى هو القسم المقابل لليل فقد قدر له أن يتحمل وحده الدلالة الانقباضية !وذلك وفق البيان التالي :
إِذَا سَجَى: لهذه العبارة إشعاع دلالي ممتد على ثلاث جهات: فهي –أولا- قيد لليل وتوصيف له . وهي -ثانيا ،وبمقتضى اتساق المقابلة -دالة على القيد المضمر للضحى. وهي- ثالثا- عينت مناط القسم ومحل الاعتبار. ونحن نحسب أن يكون مناط القسم الظرفية لا الزمنية،والفرق بينهما أن الظرفية تستلزم مظروفا يكون هو المقصود، أماالزمنية فلا تدل إلا على نفسها ،مثل الفرق بين قولك:"أكرم المرأة" و" أكرم الأم" فإكرام المرأة معتبر فيه المرأة نفسها أي النوع المقابل لنوع الرجل(الأنوثة) بخلاف إكرام الأم فإنه يستحضر المرأة بما لها من ولد ،ويجعل مناط التكريم وظيفة الأمومة لا مقوم الأنوثة.. كذلك"الضحى" و"الليل"، فلا يدلان هنا على طرفين من مقولة الزمن ، ولكن على السلوك الإنساني الذي هما إطاران له.فلو كانت الزمنية هي المقصودة لكانت الضوئية/الظلامية هي المعتبرة في القسم -كما في سورة الليل السابقة-ومن ثم سيتقوم الضحى بالانبساطية والليل بالانقباضية والترتيب على هذا النحو تجديف بلاغي في حق السورة المبنية على معنى الانتقال من السيء إلى الحسن: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} انتقال من اليتم إلى الإيواء، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الحاجة إلى الاستغناء... فلا مناص للقسم –بيانيا-من أن يكون إرصادا لهذا المعنى..فيستهل بالسيء (الضحى) ويثني بالحسن(الليل).. لذا رجحنا في القسم معنى الظرفية لتكون ثنائية الكد/الراحة هي مناط القسم، فينتقل المزاج من انقباضية الكد والتعب إلى انبساطية الهدوء والراحة...وهذا هو الأوفق لجو السورة العام... والملاحظ أن فريقا من المفسرين جعلوا الظرفية والزمنية معا مناطا للقسم: -قال ابن فارس: "(سجو) السين والجيم والواو أصلٌ يدلُّ على سكونٍ وإطباق. يقال سَجَا اللّيلُ، إذا ادلهمَّ وسكَن". "سجا" بمعنى سكن يقال عن الليل ويقال عن غيره:بحر ساج ،وطرف ساج، ويقال (ناقَةٌ سَجْواءُ ) أي : إذا حُلِبَتْ سَكَنَتْ ، أو تَسْكُنُ عنْدَ الحَلْبِ..وليلة ساجية ساكنة الريح والبرد والسحاب غير مظلمة.سجت الريح: سكنت... -قال ابن جرير (بعد أن استعرض الأقوال في تأويل" إذا سجا"): وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه: والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه...
-قال الألوسي: "والإسناد مجازي أو هو على تقدير المضاف كما قيل.."
قلت: القول بالمجاز مبني على عدم صحة إسناد الحركة (ومقابلها السكون) إلى الليل بما هو زمن..ولكن تسند لما من شأنه الحركة والسكون كالأناسي والحيوان والجماد (كالريح ونحوها) ...وعلاقة التلبس الزماني مصححة لإسناد السجو لليل، وهي من العلاقات المعتبرة عندهم في المجازالعقلي... حاصل الأمر أن الليل ليس موصوفا بما له وإنما بما فيه..وهذا هو المراد والله أعلم..
-قالت عائشة عبد الرحمن: أما سجا الليل،فالسكون أو الفتور هو ما يلائم الموقف بيانيا، وليس الاقبال ولا الادبار، كما قال مفسرون، ولم تأت مادة "سجا" في القرآن كله في غير هذا الموضع ،إلا أن مقابلتها للضحى ،تجعلنا نطمئن ألى أن سجو الليل هو فترة هدوئه وسكونه،على ما تعرف العربية في استعمالها لطرف ساج وبحر ساج والسجواء هي الناقة التي إذا حلبت سكنت . والسكون هو المعنى الذي ذكره الراغب في مفرداته وقال النيسابوري هو بمنزلة الضحى من النهار."
ولله درها إذ اقتصرت على شق واحد فذكرت السكون ولم تذكر الظلام..لكن نجد في تفسيرها للضحى -قبل هذا الكلام- شيئا من التعارض بين مفهوم قولها وصريحه..قالت:
"وإذا كان اللفظ لغة يحمل أكثر من معنى على ما ذكروا في ضحى وسجى فإن البلاغة لا تجيز إلا معنى واحدا في المقام الواحد يقوم به لفظ بعينه لا يقوم به سواه.." ثم استعرضت مجموعة من معاني الضحى لتستقر على ذلك المعنى الواحد وهو" دلالة الوضوح " الملحوظة في الاستعمالات الحسية للمادة : فالضاحية السماء والمضحاة الأرض التي لا تكاد تغيب عليها الشمس..وضحا الطريق ظهر وبدا...
لكن كان يلزمها أن يكون ذلك المعنى الواحد هو "الحركة" لا "الظهور"! وهو المفهوم من قولها-أعلاه-: "ولم تأت مادة "سجا" في القرآن كله في غير هذا الموضع ،إلا أن مقابلتها للضحى ،تجعلنا نطمئن ألى أن سجو الليل هو فترة هدوئه وسكونه.." فالمقابل للسجو- وقد اختارت معنى السكون فيه- هو التعب والحركة.. أما الظهور فمقابل للاستتار (الظلام) وقد استبعدت هذا المعتى في السجو..
هذا،ودلالة الضحى ومشتقاته على الكد والعمل والمعاناة ثابتة في الاستعمال العربي ومنه قوله تعالى:
{وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} [طه : 119] -قال ابن القيم: "تأمل كيف قابل الجوع بالعرى، والظمأ بالضحى. والواقف مع القالب ربما يخيل إليه: أن الجوع يقابل بالظمأ، والعرى بالضحى. والداخل إلى بلد الفقه عن الله: يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن، والعرى ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا." ففعل (تَضْحَى) -إذن-قد احتفظ من أصله بمعنى الحرارة الانقباضي وليس بمعنى النور الانبساطي.. وقال شاعرهم:
قُولاَ لِجَابَانَ فَلْيَلْحَق بِطِيَّتِهِ نَوْمُ الضُّحَى بَعْدَ نَوْمِ اللَّيْلِ إِسْرَافُ فلم يستسغ نوم الضحى لأنه مرتبط في أذهانهم بالمشقة والكد... ومن كناياتهم: امرأَةٌ رَقُودُ الضُّحَى : مُتنَعِّمة . فهي مخدومة في قومها،مستثناة من التعب والكد، تنوب عنها الجواري والخدم في ذلك..
حاصل البحث إن الله تعالى أقسم بالضحى باعتباره ظرفا للحرارة والعناء والتعب وعطف عليه القسم بالليل باعتباره ظرفا للسكون والراحة والمسامرة ليكون القسم بيانا للجو العام للسورة التي حملت بشارة كبرى للرسول صلى الله عليه وسلم من أن ما يستقبل من أمره خير مما استدبر مثل من ينتقل من العناء والكد في الضحى إلى الدعة والراحة في الليل.
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} ودع :ترك ،سواء أقرئت بالتخفيف أم بالتشديد. قالوا:والتوديع أبلغ في الودع ، لأن من ودّعك مفارقاً فقد بالغ في تركك.. قلى:أبغض. قال في تاج العروس: (أَبْغَضَهُ وكَرِهَهُ غايَةَ الكراهَةِ فَتَرَكَهُ، أَوْ قَلاهُ فِي الهَجْرِ) فيكون الترك متضمنا في الفعلين،مع فارق وازن: في التوديع الترك مع بقاء خلة ومودة، أما القلى فالترك فيه مع بغض وكراهة. قال الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل ......وهل تطيق وداعا أيها الرجل فالهجرفي التوديع لسبب عارض قاهر ،لكنه في القلى بسبب من الكراهة نفسها. ونريد الآن أن نبحث في المقصد البلاغي من ترتيب الفعلين على النحو الذي جاء في الآية:نفي التوديع أولا، ثم نفي القلى ثانيا.. إعلم أن القياس يقتضي عكس ترتيب الآية :فنفي الضرر الأكبر يجب أن يكون مقدما على نفي الضرر الأصغر،ولا شك أن القلى شر من التوديع، وأن التوجس عند المخاطب من حصول الأول أكبر من التوجس في حصول الثاني..فهذا المقام يقتضي-إذن- مقالا يتصدر فيه نفي القلى على نفي التوديع... فلو قدر وقوع الفعلين فقيل: أ-ودعك فلان... فالمخاطب يعلم أن الترك من جهة المسافة المكانية فقط أما العلاقة الوجدانية فقائمة قطعا فلا يودع إلا المحبوب..فليس في الخسارة إلا شطرها.. ولكن لو قيل: ب-قلاك فلان ستكون الخسارة مطلقة على اعتبار حصول الترك من جهتين :من جهة المكان ومن جهة الوجدان... فإذا أريد تعجيل البشارة كان نفي القلى هو المقدم في ذوق البلاغة .
ويمكن أن نصل إلى هذه النتيجة نفسها من زاوية أخرى: عندما نريد أن ننفي أمرين فالقاعدة على أن نبدأ بنفي الأكثر(في الكميات) و الأشد(في الكيفيات) فلو قلت : أ-"فلان لا يعطي ألفا ولا مائة.." جاء قولك على مهيع مرضي.. أما لوقلت: ب-"فلان لا يعطي مائة ولا ألفا.." فقولك لغو ساقط في ميزان البلاغة... وتحسم( التداوليات )في الحكم على القولين على النحو التالي: عندما أخبرت مخاطبك: "فلان لا يعطي ألفا... "فقد قدرت في نفسك أن مخاطبك يسأل الآن نفسه "هذا الرجل لا يعطي الكثير ولكن قد يعطي القليل -مائة مثلا-فتعطف : ......ولا مائة" فيصيب مقالك محز المقام وعندما أخبرت مخاطبك: "فلان لا يعطي مائة...."فلا يمكن أن تقدر في نفسك أن مخاطبك يحتاج إلى معرفة إمكان إعطاء الألف...فهو ليس من الغباء بحيث يخطر بباله ذلك، فهو يعلم أن من لا يعطي مائة أولى ألا يعطي ألفا..فإذا عطفت: ...ولا ألفا" كان العطف لغوا لأن المقام لا يستدعيه.. فإذا تقررت هذه القاعدة ظهر منها ،أيضا، اقتضاء تقديم نفي القلا على نفي التوديع... لكن البيان المعجز قدم -رغم كل شيء- نفي التوديع على نفي القلى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} فلمه؟ وما هذا المقام الذي اعتبرته الآية فجاءت مطابقة له بتقديم نفي الهين على نفي الفاحش؟ لعلنا نجد الجواب في مناسبة النزول: قال الطبري: وذُكر أن هذه السورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تكذيبا من الله قريشا في قيلهم لرسول الله ، لما أبطأ عليه الوحي : قد ودّع محمدا ربّه وقَلاه . ذكر الرواية بذلك : حدثني عليّ بن عبد الله الدهان ، قال : حدثنا مفضل بن صالح ، عن الأسود بن قيس العبديّ ، عن ابن عبد الله ، قال : لما أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت امرأة من أهله ، أو من قومه : ودّع الشيطان محمدا ، فأنزل الله عليه : وَالضّحَى . . . إلى قوله : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى . قال أبو جعفر : ابن عبد الله : هو جُندَب بن عبد الله البَجَلي . حدثني محمد بن عيسى الدامغاني ، ومحمد بن هارون القطان ، قالا : حدثنا سفيان ، عن الأسود بن قيس سمع جندبا البجليّ يقول : أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى قال المشركون : ودّع محمدا ربّه ، فأنزل الله : وَالضّحَى واللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى . حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الأسود بن قيس ، أنه سمع جندبا البَجَليّ قال : قالت امرأة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أرى صاحبك إلا قد أبطأ عنك ، فنزلت هذه الاَية : ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى . حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، قال : سمعت جندب بن عبد الله يقول : إن امرأة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى شيطانك إلا قد تركك ، فنزلت : والضُحَى وَاللّيْلِ إذَا سَجَى ما وَدّعَكَ رَبّكَ وَما قَلى .
فأنت تلاحظ أن ( الإشاعة ) يتناقلها الناس هي الخلفية أو الصبغة العامة في المناسبة.. ولست محتاجا أن تكون من علماء الاجتماع لتعرف أن الإشاعة لها مسار مخصوص لا تحيد عنه:فهي تبدأ دائما بدعوى صغيرة ثم تلوكها الألسنة ثم يتزايد الناس فيها فتتحول الحبة إلى قبة.. كان الخبر في ولادته :إن رب محمد ودعه...ثم تفاحش الخبر فأضحى :إن رب محمد قلاه.. فلا جرم أن جاءت الآية لتقطع دابر الشائعات..فاستأصلتها متتبعة تاريخ صدورها: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} فالترتيب بحسب زمن الشائعة وتطورها...فالخطاب للرسول الكريم والتعريض بقالة السوء من المشركين..فلله هذا القرآن!!
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} نسق الآيات موسوم من البيان بعلامتين: أ-التوكيد ب-الحذف فالتوكيد بالقسم، وتكرار النفي، ثم لام الابتداء.. أما الحذف فلضمير المخاطب في قلى، والموصوفين، والمفعول الثاني لفعل "أعطى ". أ-نكتة حذف الضمير غير واضحة عندي،وقد اقترح المفسرون ثلاث توجيهات: 1- رعاية الفاصلة وقد ردته الاستاذة عائشة -عن حق-قالت: "فليس من المقبول عندنا أن يقوم البيانى القرآني على اعتبار لفظي محض وإنما الحذف لمقتضى معنوي بلاغي يقويه الأداء اللفظي دون أن يكون الملحظ الشكلي هو الأصل.." وقد يقال تراعى الفاصلة إذا استوت الاعتبارات المعنوية كلها، فيكون الجرس مرجحا للاستعمال...ولكن أنى للإنسان أن يحيط بكلام الله فيقطع بتساوي تلك الاعتبارات! 2-حذف المفعول لدلالة ودعك عليه قال ابن عاشور: وَهُوَ إِيجَازٌ لَفْظِيٌّ لِظُهُورِ الْمَحْذُوفِ وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: (فَآوَى) ، (فَهَدَى) ، (فَأَغْنَى) . وفيه أن هذا يصلح تعليلا لجواز الحذف وليس تعليلالغايته. 3- وعللت بنت الشاطيء الحذف بمراعاة "مقام اللطف الإيناس وقد تحاشى خطابه تعالى لحبيبه المصطفى في مقام الإيناس: ما قلاك لما في القلى من الطرد والإبعاد وشدة البغض .أما التوديع فلا شيء فيه من ذلك..." وهذا التوجيه شبيه بتعليل العدول من الخطاب إلى الخبر في مطلع سورة عبس: عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) قال ابن عاشور فَوَجَّهَهُ إِلَيْهِ عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ لِيَكُونَ أَوَّلُ مَا يَقْرَعُ سَمْعَهُ بَاعِثًا عَلَى أَنْ يَتَرَقَّبَ الْمَعْنِيَّ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فَلَا يُفَاجِئُهُ الْعِتَابُ، وَهَذَا تَلَطُّفٌ مِنَ اللَّهِ بِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقَعَ الْعِتَابُ فِي نَفْسِهِ مُدَرَّجًا وَذَلِكَ أَهْوَنُ وَقْعًا.. لكن الجملة في سورة الضحى جاءت منفية..
ب-حذف الموصوفين للاتساع الدلالي :فالآخرة تحتمل الآن أن تكون صفة للدار كما تحتمل أن تكون صفة للحال... فالدار الآخرة خير لك من الدنيا وحالتك في الدنيا بعد نزول السورة خير من حالتك قبلها( بشارة بالعزة والتمكين...) أو أن تلقي الوحي بعد الآن لن يشوبه انقطاع (بشارة بدوام الصلة بربه)
ج- حذف المفعول في "أعطى" لتبئير الفعل... فكأن الشأن في الإعطاء ذاته لا في ما يعطى...والأمر شبيه بقول أرباب الأخلاق: "لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى من تعصى".
الجملة الاسمية (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى ) توسطت الجمل الفعلية وفصلت الاسمية بين الزمن الماضي والزمن المستقبل، على تقدير: لم يودعك ربك فيما مضى ، ولسوف يعطيك فيما سيأتي،والثابت أن الآخرة خير لك من الأولى دائما. وفصلت الاسمية أيضا بين تأكيد لاوقوع (التوديع والقلا) وتأكيد مقابله وقوع (العطاء) وقد يلاحظ في نسق آيات السورة اشتمال كل مجموعة ثلاثية على عنصرين متجانسين فيما ينفرد الثالث قليلا بتركيبه أو دلالته أو جرسه: 1- مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} الآية الوسطى جملة اسمية خالية من الفعل ،والآيتان المجاورتان جمل فعلية اشتملت كل واحدة على فعلين.. 2- أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} الآية الوسطى اختلفت عن المجاورتين باعتبار تباين الحقلين المعجميين: فاليتم والعيلة من عناصر الحقل الاجتماعي/الخارجي ،أما الهدى فينتمي إلى الحقل الداخلي (ذهني أو قلبي) 3- فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} الآية الأخيرة متميزة عن شقيقتيها من خمسة وجوه بحسب مراتب اللغة: أ-على صعيد الجرس الصوتي: فقد اتحدت الآيتان في صوت" الراء" وانفردت الأخيرة بصوت "الثاء". ب-على صعيد التركيب تناسب "اليتيم" و"السائل "من حيث تعلقهما بالفعل..لكن الفعل الأخير تعلق به مركب حرفي( بِنِعْمَة ) إضافي (نعمة ربك) ج-وعلى صعيد البديع جاءت الآيتان موسومتين بالتوازي (أو مرصعتين باصطلاح القدماء) فلو كتبنا الآيتين مصفوفتين على سطرين لظهرت الموازاة بين الكلمات..لكن لا موازاة مع الآية الأخيرة في النسق.. د-وعلى صعيد علم المعاني اجتمعت الآيات الثلاث على . الطلب ،لكن الأخيرة انفردت بمقصد الأمر( فَحَدِّثْ) بينما اتفقت الآيتان قبلها على مقصد النهي (فَلَا تَقْهَرْ-فَلَا تَنْهَرْ). ه-على صعيد منطق الدلالة نلحظ تشخصا في معنى الآيتين (قهر اليتيم ونهر السائل) وإجمالا في معنى التحديث بالنعمة ... أو قل إن في آية ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) تأسيسا لمفهوم، وفي الآيتين السابقتين تنصيصا على مصاديق..فقد قال كثير من المفسرين النعمة هي النبوة والقرآن والشريعة.. فيكون معنى النعمة عاما يدخل فيه بعض أفراده من قبيل حسن المعاملة لليتيم والفقير.
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} رب سائل يسأل: لم جاءت – هنا- صيغة الاستقبال فقال "ولسوف يعطيك" وجاءت صيغة الماضي في سورة الكوثر فقال :"إنا أعطيناك" ! إن المعنى في الصيغتين باعتبار المآل واحد ،فلا فرق في ثبوت التحقق بين ما فعله الله وما أخبر بأنه سيفعله -لاستحالة الكذب عليه تعالى-لكننا لا ننظر من جهة عقدية ولكن من جهة بيانية حيث ينحصر اشتغالنا بأشكال التعابير وإيحاءاتها وطرق دلالاتها. فلننظر أولا إلى أوجه الاختلاف بين الآيتين، ثم نعللها ثانيا بالاستناد إلى مقتضيات سياق كل آية على حدة: ظاهر آية الكوثر أنها أوكد من آية الضحى: أ-فآية الضحى( ت)ضمنت وعدا بالعطاء فيما سيأتي "لَسَوْفَ يُعْطِيكَ" وآيةالكوثر نصت على وقوع العطاء فيما مضى "إنا أعطيناك". ب- آيةالضحى أسندت العطاء إلى الضمير الثالث هو "يعطيك" وآية الكوثر أسندت العطاء إلى الضميرالأول نحن" أعطيناك"(ولا شك أن الخطاب بالخبر أوكد من حكاية الخبر). ج-آية الكوثر أسندت الفعل إلى نحن التعظيمية ..وآية الضحى أسندته إلى الفاعل المفرد. لا يقال -تبعا لهذا- إن آية الكوثر أبلغ من آية الضحى ( فكثير من الناس يخلطون بين المبالغة والبلاغة) فليست المبالغة في التوكيد هي دائما توكيدا للبلاغة! وإنما الشأن في مطابقة المقام، وليس في تضخيم المعنى مطلقا: فمقام يقتضي التوكيد ،ومقام لا يقتضيه حتى إذا أكدت فيه أفسدت المعنى وانقلب عليك. (وقد قيل يكاد المذنب يقول خذوني..وما ذلك إلا لأن المقترف للذنب تراه يبالغ في الحلف والبكاء درءا للتهمة ، فتكون تلك المبالغة منشأ للشك والارتياب فلا يحقق المذنب إلا عكس مقصوده!) الجو العام لسورة الكوثر هو المواساة و"جبر الخاطر".. جبر الخاطر لا يناسبه الوعد بالعطاء ،بل العطاء فورا ،لذلك قدم في السورة آية الإعطاء وأخر فيها آية التنديد.. وجبر الخاطر يستلزم من جهة أخرى إظهارالعناية والاحتفاء فيكون التنوع والتكرارسمة أسلوبية لا مناص منها..ألا ترى أننا عندما نريد جبر خاطر متضرر(طفل مثلا) كيف ننوع ونجمع بين الربت على الكتف، والتلطيف في الكلام، والوعد الحسن، والضم إلى الصدر، والتقبيل.... وغير ذلك. ولما كان الفعل عند البيانيين ينحل إلى مادة وصيغة ونسبة فقد شاء رب العزة أن يواسي حبيبه بكل عناصر الفعل: فقدطمأن نبيه بمادة الفعل: أعطيناك وليس آتيناك(والفرق بين الفعلين –كما حققه الأستاذ فاضل السامرائي-أن العطاء تمليك نهائي لا رجعة فيه، أما الإيتاء فقد يعقبه استرجاع كما في إيتاء الملك مثلا..) وأقرعينه بصيغته: أعطيناك وليس سنعطيك. وأرضاه بنسبته:أعطيناك وليس أعطيتك. في صيغة الماضي سر آخر بديع، فقد رتب الإنشاء على الإخبار ،وربطت "الفاء" بين فعل قد قضي قبل الكلام والأمر بفعل سينفذ بعد الكلام.. فالإعطاءسابق على الصلاة والنحر..وفي هذا الترتيب رفع لعبادة الرسول إلى مقام عزيز هو مقام الشكر.. وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ولو قيل :صل لربك وانحرفنعطيك الكوثر لنزلت العبادة درجة، لأنها ستغدو عبادة سؤال وطلب، لا عبادة شكروامتنان! لكن المقام في سورة الضحى هو مقام إيمان وثقة..والعلاقة بين قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} وما بعدها علاقة دعوى وبينة.. فكأن التقدير:سيعطيك ربك في الآجل بدليل أنه ما تخلى عنك من قبل في يتمك وضلالك وفقرك.. والمقصد هو الاعتبار وقياس ما يستقبل على ما يستدبر.. قال الشيخ ابن عاشور: اسْتِئْنَافٌ مَسُوقٌ مَسَاقَ الدَّلِيلِ عَلَى تَحَقُّقِ الْوَعْدِ، أَيْ هُوَ وَعْدٌ جَارٍ عَلَى سَنَنِ مَا سَبَقَ مِنْ عِنَايَةِ اللَّهِ بِكَ مِنْ مَبْدَأِ نَشْأَتِكَ وَلُطْفِهِ فِي الشَّدَائِدِ بِاطِّرَادٍ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الصُّدَفِ لِأَنَّ شَأْنَ الصُّدَفِ أَنْ لَا تَتَكَرَّرَ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ مُرَادٌ لِلَّهِ تَعَالَى. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا إِيقَاعُ الْيَقِينِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ مَا وَعَدَهُ اللَّهُ بِهِ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ قِيَاسًا عَلَى مَا ذَكَّرَهُ بِهِ مِنْ مُلَازَمَةِ لُطْفِهِ بِهِ فِيمَا مَضَى وَهُمْ لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ عَسَى أَنْ يُقْلِعُوا عَنِ الْعِنَادِ وَيُسْرِعُوا إِلَى الْإِيمَانِ وَإِلَّا فَإِنَّ ذَلِكَ مَسَاءَةٌ تَبْقَى فِي نُفُوسِهِمْ وَأَشْبَاحُ رُعْبٍ تُخَالِجُ خَوَاطِرَهُمْ. وَيحصل مَعَ هَذَا الْمَقْصُودِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْوِيَةٌ لِاطْمِئْنَانِ نَفْسِهِ بِوَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ. قلت: وعلى هذا الأساس جاءت صيغة المستقبل ملائمة للاستدلال..فإنه لا معنى للاستدلال على شجرة تشير إليها لمخاطبك ،ولكن يصح الاستدلال على البذرة التي تدعي له أنها ستكون شجرة.. خلاصة الفرق: أن العطاء في الكوثر قد تحقق وبنى عليه المطالبة بعبادة الشكر.. وأما العطاء في الضحى فلم يتحقق بعد فأقام على تحققه الدلائل إثباتا لإنجاز الوعد وزيادة لاطمئنان النبي صلى الله عليه وسلم...
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} فعل "وجد" أفرغه الفلاسفة من حمولته اللغوية وشحنوه بدلالات عقلية سرت منهم إلى اللغويين..انظر مثلا إلى صنيع الراغب إذ يقول: "وجد الوجود أضرب: وجود بإحدى الحواسّ الخمس. نحو: وَجَدْتُ زيدا، ووَجَدْتُ طعمه. ووجدت صوته، ووجدت خشونته. ووجود بقوّة الشّهوة نحو: وَجَدْتُ الشّبع. ووجود بقوّة الغضب كوجود الحزن والسّخط. ووجود بالعقل، أو بواسطة العقل كمعرفة الله تعالى، ومعرفة النّبوّة، وما ينسب إلى الله تعالى من الوجود فبمعنى العلم المجرّد، إذ كان الله منزّها عن الوصف بالجوارح والآلات. نحو: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ [الأعراف/ 102] . وكذلك المعدوم يقال على هذه الأوجه. فأمّا وجود الله تعالى للأشياء فبوجه أعلى من كلّ هذا. ويعبّر عن التّمكّن من الشيء بالوجود. نحو: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة/ 5] ، أي:حيث رأيتموهم، وقوله تعالى: فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ [القصص/ 15] أي: تمكّن منهما.." فما جاء الراغب رحمه الله إلا بتقسيم فلسفي لاطائل تحته...مع استغرابنا لتفسيره ل"وجد فيها رجلين "بمعنى تمكن منهما !! وقال الزبيدي في التاج: قَالَ شَيخنَا نقلا عَن شَرْحِ الفصيح لابنِ هشامٍ اللَّخميِّ: وَجدَ لَهُ خَمْسَةُ مَعَانٍ، ذَكرَ مِنْهَا أَرْبَعَةً وَلم يَذكر الخَامِس، وَهُوَ: العِلْمُ والإِصابَةُ والغَضَب و الإِيسارُ وَهُوَ الاستغْنَاءُ، والاهتمام وَهُوَ الحُزْن، قَالَ: وَهُوَ فِي الأَوّل مُتَعَدَ إِلى مفعولينِ، كَقَوْلِه تَعَالَى: { {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى} (سُورَة الضُّحَى، الْآيَتَانِ: 7 و 8) ...
قلت :تفسير الوجود بالعلم فيه نظر..فنرجح أنه متسرب من الفلسفة وإن كان كثير من المفسرين قالوا به كالزمخشري والرازي وأبو حيان وغيرهم ... والحدس اللغوي يأبى أن يكون العلم مرادا في مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) قال الزمخشري: والوجود:يجوز أن يكون بمعنى العلم، ومفعولاه (لَهُ عَزْماً) وأن يكون نقيض العدم كأنه قال:وعدمنا له عزما. فيكون المعنى حسب الزمخشري: لم نعلم له عزما(!) أو جهلنا له عزما(!!) ولعل تفسير الصوفية لفعل وجد أقرب إلى المعنى اللغوي ..فهو عندهم بمعنى المصادفة والاتصال ونقيضه الفقدان -وليس العدم كما عند الفلاسفة- وقد أحسن الفيروزأبادي صنعا إذ اقتصر على: • وَجَد المَطْلوبَ، كوَعَدَ ووَرِمَ، يَجِدُهُ ويَجُدُهُ، بضمِّ الجِيمِ، ولا نَظيرَ لَها،وجْداً وجِدَةً ووُجْداً وَوُجوداً ووِجْداناً وإجْداناً، بكسرِهِما: أدْرَكَهُ، وـ المالَ وغَيْرَهُ يَجِدُهُ وجْداً، مُثَلَّثَةً، وقال شارحه في التاج: "ومقتضَى كلام المصنّف أَنها مقصورةٌ على مَعْنَى وَجَدَ المَطلوبَ، ووَجَد عليه إِذا غَضِب، كما سيأْتي، ووافقَه أَبو جَعفر اللَّبْلِيّ في شَرْح الفصيحِ..."
فعل "وجد" يلزم عنه حالان سابقتان: 1-حال فقدان الشيء 2-حال طلبه والبحث عنه 3-ثم وجوده... فيكون في فعل "وجدك يتيما" إيحاء بالحفاوة والعناية أكثر من "كنت يتيما "على تقدير :"كنت مرغوبا فيه ومطلوبا فوجدك.."ولا نرى هنا حاجة إلى التنبيه على القاعدة البدهية في أنه لا يضاف إلى الله تعالى إلا ما يليق به فلا يسند إليه فقدان أو احتياج ونحن إنما نبحث في لوازم الدلالة وإيحاءات الكلمة في اللسان العربي وحسبنا منها معاني الحفاوة والعناية..وهي معاني متسقة مع المضمون العام للسورة..وهي أولى من معنى العلم -كما في تفسير الزمخشري وغيره -لأن خصوص العناية أولى في الاعتبار من عموم العلم.
اعلم أن القوة الإنجازية الحرفية للاستفهام لا تتحقق إلا بشرطين تداوليين يتعلق أولهما بالسائل وثانيهما بالمسؤول: -فالسائل ينبغي له ألا يكون عالما بما يَسأل عنه. -والمسؤول ينبغي له أن يكون عالما بما يُسأل عنه (إما في نفس الأمر وإما في اعتقاد السائل.) فإذا تخلف أحد الشرطين ،أو كلاهما، تعين المصير إلى الدلالة الاستلزامية التي تؤشر عليها ملابسات التداول.. وبناء عليه نقرر قاعدة كلية مطلقة فحواها : "كل استفهام صادر عن الله تعالى ليس له إلا دلالة استلزامية " (وهذه القاعدة أوجبها تخلف الشرط الأول كما لا يخفى ...)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} للاستفهام هنا استلزامان ثانيهما مبني على الأول : فأما الأول فمداره على الإقرار وأما الثاني فاتجاهه نحو الاستدلال... إن معنى الإقرار حمل المخاطب على" الاعتراف بالمعرفة" أو قل هو أن يظهر بلسانه المكنونَ في صدره، وهذا المكنون معروف عند السائل، كما هو معروف عند المسؤول، لدرجة أن الاستفهام الإقراري لا يترك للمسؤول اختيارا:فإما اعتراف ب "بلى" وإما مكابرة فجة مفضوحة لا يقدم عليها عاقل! وهكذا فإن الحالات الثلاث التي جاءت في الآيات لا يمكن إنكارها من قبل المسؤول ( على اعتبار الخطاب تصريحيا )كما لا يمكن إنكارها من قبل القرشيين (على اعتبار الخطاب تعريضيا) وفائدة الاستلزام ليست في هذا ،وإنما في الاتفاق على المقدمة الصلبة التي سيبنى عليها الاستدلال (وهو الاستلزام الثاني). فكأن في السورة حوارا مطويا يكون نشره –تقريبا- على النحو التالي: -ألم يجدك يتيما فآوى؟ -بلى (إقرار) -إذن،(كذلك) سيعطيك ربك فترضى... (استدلال)
-ألم تكن من قبل في جهل وغفلة فجاءك العلم والنبوة؟ -بلى -إذن،(كذلك) لا يتخلى عنك ربك وسيعطيك فترضى...
-ألم تكن محتاجا فقيرا فأغناك ربك عن سؤال الناس؟ -بلى -إذن،(كذلك) سيعطيك فترضى.... فيتحد في السورة خطاب الامتنان وخطاب الحجاج.
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} السورة محكمة البناء، وآية ذلك هذا الموضع الذي شغله المقطع الاستفهامي، فهو المحور الذي تدور عليه السورة: فقد رأينا من قبل أن المقطع الاستفهامي مقدمة لإثبات مضمون المقطع التأكيدي السابق، وها نحن نرى أن هذا المقطع ذاته مقدمة لإثبات مضمون المقطع الطلبي اللاحق... فيكون وسط السورة بؤرة الاستدلال:دليل على ما ذكر واستدلال على ما سيذكر.. ونلاحظ -قبل التفصيل -أنه يمكن "توأمة" الآيات الثلاث في الاستفهام مع الآيات الثلاث في الطلب لنحصل على ثلاثة أزواج متجانسة تنتمي إلى مجال دلالي واحد، وذلك وفق التوزيع التالي: أ- أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} ب- وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} ج- وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} فالعنصر الأول من كل زوج مقدمة في الاستدلال ،والعنصر الثاني نتيجة له .. والاستدلال هنا -كما هو واضح -عملي يتخذ صبغة التهييج والتحفيز...ويمكن تقدير الحوارية على النحو التالي: -أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى؟ -بلى -إذن فأحسن كما أحسن الله إليك فلا تقهرن أي يتيم..
-الم يَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى؟ -بلى - إذن فأحسن كما أحسن الله إليك فلا تنهرن أي سائل محتاج..
-ألم يجدك ضَالّاً فَهَدَى؟ -بلى -إذن فبلغ للناس ما أنزل إليك كي تهديهم من الضلالة كما هداك ربك وحدثهم بنعمة ربك...
نلاحظ أن المقدمات ليست بعيدة بل هي مأخوذة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مما يرفع درجة التحفيزإلى أعلاها اعتبارا للقاعدة الحجاجية التي صاغها الشاعر الحكيم: لا يعرف الشوق إلا من يكابده .... ولا الصبابة إلامن يعانيهـا فلا يعرف حالة اليتم إلا من عاناها... ولا يعرف حرقة الحاجة إلا من عاشها..... ولا يعرف شقاء الوعي الباحث عن الهدى إلا من تلبس به ... ولا يفوتنا أن نسجل محورية المقطع الاستفهامي من وجه آخر: 1-فقد قسم السورة إلى فضائين: فضاء الاستدلال النظري وفضاء الاستدلال العملي.. ففي الأول اختبار للإيمان (الثقة بالله والاطمئنان إلى وعده....) وفي الثاني اختبار للسلوك ( تبليغ الوحي والرفق بالمستضعفين من الناس...)
2-كم قسم مجال العلاقة إلى قسمين: -علاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالحق (برب العباد) -وعلاقة النبي صلى الله عليه وسلم بالخلق (بالعباد).
النواة المعجمية لليتم مكونة من مقومين: -صغر السن -وفقدان الأب بلحاظ الضعف والحاجة المتولدة عنهما .. قالَ الحراليُّ: اليُتْمُ فِقْدانُ الأَبِ حِينَ الحاجَةِ ولذلِكَ أَثْبَتَه مُثبتٌ في الذَّكَرِ إلى البُلوغِ، والأُنْثَى إلى الثَّيوبَةِ لبَقاءِ حاجَتِها بعْدَ البُلوغِ.
فصغر السن علامة على الضعف الذاتي فاليتيم لا يستطيع أن يعتمد على نفسه أو يدافع عنها ،كما أن فقدان الأب علامة على أنه لا يستطيع أن يعتمد على غيره (فالأب هو أول معتمد للولد وأول مدافع عنه.) واليتم حالة طارئة تزول بزوال الحاجة وفرق اللغويون بين الذكر والأنثى فمددوا مدة اليتم عند الأنثى لامتداد فترة الحاجة عندها : فقالوا عن الذكر: هو يَتِيمٌ ما لم يَبْلُغ الحُلُمَ، فإذا بَلَغَ زالَ عنه اسْمُ اليُتْم. وقالوا عن الأنثى: تُدْعى يَتِيمةً ما لم تَتَزوَّج فإذا تَزوَّجَتْ زالَ عنها اسْمُ اليُتْم.. بل أفرط بعضهم فقال: يقالُ للمرْأَةِ يَتِيمةٌ لا يَزولُ عنها اسْمُ اليُتْمِ أَبدا..
القَهْرُ: الغَلَبَةُ والأَخْذُ من فَوْقٍ عَلى طَرِيقِ التَّذْلِيل. وقهر اليتيم ينم عن خسة في الأخلاق..وهو فعل من أفعال "الجبناء" على اعتبار أنه ما قهَر اليتيم إلا من بعد أن تأكد عنده أنه صغير بلا نصير.. وهذا يدل على نظام خلقي مستنكر في كل الفطروالعقول، فلا أقبح من سلوك من" يخاف ولا يستحي".
النهي الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم موجه له ولغيره كما تقرر في علم الأصول... بل غيره أولى بالنهي منه.. لكن خطاب القرآن أوكد.. اعلم أن التوكيد لا يكون لفظيا أو معنويا فقط بل يكون خطابيا أيضا..فإذا أراد المتكلم التشديد على الحكم لم يأمر به المعني به ابتداءاٌ، بل أمر به غيره ممن هو دونه فينقلب الأمر إلى الأول وقد تأكد أكثر بواسطة مؤكد عقلي إضافي هو قياس الأولى.. فالله سبحانه يعلم أن قهر اليتيم لا يمكن أن يصدر عن رجل كريم النحيزة ،فكيف يصدر عن نبي شهد له الله تعالى بالخلق العظيم..! فنهي من لا يتصور فيه الإقدام على الفعل المستقبح هو نهي أشد لمن لا يتورع على الإقدام على ذلك الفعل..فيكون التأكيد ناشئا عن التعريض بالخطاب.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} جاء في تاج العروس: "..ونَهَر الرّجُلَ يَنْهَرُه نَهْراً: زَجَرَهُ، كانْتَهَرَه، قال اللَّه تعالى: وأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَر... وفي التهذيب: نَهَرْتُه وانْتهَرْته، إِذا استقبَلْته بكلامٍ تَزْجرُه عن خَبرٍ." قالت بنت الشاطيء: (وفي "السائل"قيل هو المستجدي وقيل هو طالب العلم (الزمخشري والنيسابوري) وصرح ابن القيم لأن آية الضحى تتناولهما معا يعني سائل المعروف والصدقة وطالب العلم. واختار الطبري كل ذي حاجة.. واختار الشيخ محمد عبده المستفهم عما لا يعلم وهو عندنا أولى بالمقام ،ويؤيده الاستئناس بالاستعمال القرآني لمادة "سأل" حيث ترد كثيرا في هذا المعنى كما يرجحها سياق الآيات قبلها) قلت :لعل السياق يرجح المعنى الآخر أكثرمن ثلاثة وجوه: 1-حاجة المستجدي إلى المال والطعام متسقة مع وضع اليتيم كما في قوله تعالى: { كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) } [الفجر : 17 - 20] وفي قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) [الماعون : 1 - 3]
2-حاجة المستجدي مناسبة لقوله تعالى في السورة.. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} كما بينا من قبل. 3- إجابة طلب العلم متضمنة في قوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} وحمل المعنى على التأسيس خير من حمله على التوكيد.. لاسيما وأن الأستاذة رحمها الله قد ذهبت في تفسير الآية الأخيرة من السورة مذهبا حسنا.إذ قالت: وحمل التحدث هنا على الشكر،إذا سمح به الاستعمال اللغوي،فإن السياق لا يعين عليه،وإنما التحدث هنا ،هو صريح ما تعلق به مما يتصل بمهمة الرسول التي اصطفي لها ،وهو أن يبلغ رسالة ربه.ومن هنا نؤثر أن تكون النعمة هنا، مهما يكن من دلالاتها المعجمية اللغوية،هي الرسالة ،أكبر النعم التي يؤثر بها نبي مرسل..." وهذا كلام حسن كما ترى.. نضيف إليه أن سورة الضحى وهي من الوحي المبكر قد حددت منذ البداية معالم الرسالة في وجهيها المشرقين: 1-التعليم 2- والتزكية {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة : 129] {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة : 151] {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران : 164] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة : 2]
فيكون قوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} من مجال تزكية النفوس وقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} من مجال تبليغ العلم ونشره. والنعمة هي النبوة والدين كما قالت الأستاذة ...وهي الواردة في قوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة : 3] فتكون النعمة مذكورة في حالة ابتدائها مثلما هي مذكورة في حالة إتمامها.
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} ماالسر البياني في النهي؟ من المعلوم أن القوة الإنجازية الحرفية للنهي عدمية فقط ،فهو لا يطلب إضافة فعل إلى الوجود (كالأمر) بل يقتصر على طلب إنهاء فعل هو موجود وقت صدور النهي... فنلحظ- تبعا لهذا- أن الآيتين لم تتضمنا طلب إيصال خير بل طلب الكف عن الشر!! فليس المطلوب توفير حماية لليتيم ،ولا الربت على رأسه، ولا الإحسان إليه بصورة من الصور بل المطلوب هو عدم قهره فقط، أو قل كأن الآية لا تأمر: " أيها الناس اصنعوا خيرا في اليتامى" بل تنهى: "أيها الناس امنعوا شركم عن اليتامى!" وإذا استحضرنا آيتي اليتيم في السورة: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} نجد الرحمن قد تكفل-وحده- باليتيم أما الناس فحسبهم أن يمنعوا شرهم عنه فلا يقهروه.
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} اعلم أن للسائل ثلاث أحوال مع مسؤوله: -حالة إيجاب -حالة حياد -حالة سلب الحالة الأولى فيها جبر للمنكسر، وإزالة لحاجة السائل بالإطعام وغيره.. في الحالة الثانية يرجع السائل صفر اليدين كما أتى صفر اليدين.. في الحالة الثالثة يزداد انكسارا..فبدل أن يعطيه المسؤول يؤذيه بالنهر... فينقلب السائل لم يصب خيرا بل ازدادت حالته سوءا فقد شفع الانكسار المادي بالانكسار المعنوي... فما طلبت الآية من المسؤول موقفا بالحياد. ولا طلبت منه- فضلا عن ذلك - إغناء السائل. بل اقتصرت على نهيه من السقوط إلى المرتبة الثالثة فيزيد السائلَ هما إلى هم... وإذا استحضرنا آيتي السائل في السورة: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} أدركنا هذا العمق الدلالي مرة أخرى:إغناء الفقير شأن رباني لا يطلب من الإنسان، بل المطلوب من الإنسان –الآن على الأقل- ألا يكون مخربا فنزلت صيغة الأمر: "أصلح!" إلى صيغة النهي: "لا تفسد!".....
هي الحكمة البالغة في الدعوة!! السورة من الوحي المبكر..والعالم جله شر..(والرسول صلى الله عليه وسلم أول من عانى من هذه الشرور )فمنهج الدعوة السليم يقتضي التخلية قبل التحلية : فلا بد من قلع نوازع الشر عند الانسان، وإحياء فطرته وضميره، شرطا ضروريا قبل أن يتأهل لإصلاح العالم..فتكون السورة بشرت بهذا المنهج المتدرج الحكيم: نطالبكم- اليوم- بعدم قهر اليتيم وبعدم نهر المسكين،وقد نطالبكم –غدا- بما هو أزكى من ذلك وأسمى!! فلله هذا القرآن!!
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} آوَى.. هَدَى... أَغْنَى الأفعال مسندة كلها إلى الله تعالى. والقاعدة العقدية عندنا أن كل فعل في الوجود يسند إلى الله تعالى خلقا وتقديرا ،ويسند بعضها إلى المخلوقات كسبا، ويسند بعضها إليها تسببا ،فيصح أن يقال: أنبت الله الزرع. وأنبت الماء الزرع. وأنبت الله الزرع بالماء. بيد أن هذا التقرير العقدي غير كاف في المنهج البلاغي ،ففي الحالات التي يصح فيها إسناد الفعل إلى الله تعالى وإلى غيره ينتصب السؤال البلاغي العتيد:لم أسند الفعل إلى هذا الفاعل بعينه، وما النكتة في ذلك الإسناد؟؟ المسألة تحتاج إلى بحث استقرائي في القرآن، ولا يحضرني الآن إلا فكرتان : 1-أن ينسب الله الفعل إلى نفسه ،وإن تلبس به غيره، تنبيها على حكمة بالغة كامنة في الفعل، لو تأملها العقل لوجدها تسمو عن طاقة الفاعل الإنساني ووعيه.. 2- أن ينسب الله الفعل إلى نفسه وإن تلبس به غيره، تنبيها على أن إنجاز ذلك الفعل تم على وجه فيه شائبة خرق العادة... لنوضح بالمثال الآتي: { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)} [قريش : 3 - 4] فإطعام قريش تم-قطعا- بالأسباب الدنيوية الوضعية ،وليس كإطعام قوم موسى-مثلا- في برية التيه حيث كانت تنزل عليهم المن والسلوى من غير أسباب اعتيادية..فلو أسند الإطعام في آية قريش إلى ما لم يسم فاعله وقال(أطعموا..) لصح التعدد في تقدير الفاعل، فهو الله باعتباره أراد وقدر وخلق، وهم بعض مخلوقاته من الحجاج والزوار والتجار وغيرهم ممن باشر إيصال الطعام إلى قريش.. غير أن الله تعالى أسند الفعل إلى ذاته العلية تنبيها على أن الفعل قد تحقق على وجه فيه شائبة خرق العادة...إذ كيف يشبع ساكنة واد غير ذي زرع؟بل كيف يعمرون مكانا أجرد غير مرحب فلا يهجرونه إلى مكان خصيب وقد كانت الشعوب في ذلك الوقت رحلا يبحثون عن مكان فيه وفرة طعام وفسحة أمن؟ ثم ما هذا الوضع غير المعتاد للقرشيين: غيرهم يذهبون إلى الطعام وهم الطعام يأتيهم! إذن فلا فرق بين إطعام بني إسرائيل في سيناء وإطعام قريش بين جبال فاران..إطعام العبريين تم على وجه معجز جلي و إطعام العرب تم على وجه معجز أيضا لكن فيه خفاء.. وأسند الله فعل الإطعام لنفسه إشارة إلى هذه النكتة.. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} لنلحظ أن فعل "آوى" يختلف نوعيا-بالمعنى الذي قررناه - عن فعل "هدى" ،على اعتبار أن الإيواء تحقق لليتيم محمد داخل منظومة القرابة الاجتماعية، فيصح أن يقال" آوى عبد المطلب حفيده" و"آوى أبو طالب ابن أخيه" (بل لعل السورة عندما نزلت كان النبي عليه السلام ما يزال في مأوى عمه.) لكن فعل "هَدَى" لا يمكن إسناده إلا لله..فهو خالص لله من جميع الوجوه:إرادة وتقديرا وخلقا وفعلا.. وسنرى أن نسبة الأفعال الثلاثة إلى الله وحده إما دالة على خرق العادة، أو على ما يشبه خرق العادة...فيكون في سورة الضحى ثلاثة من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} ما عسى أن تكون حظوظ يتيم في مجتمع عنجهي لا يحب ملؤه أن يزاحموا على سلطة أو سؤدد؟ سؤدد هم مستعدون للخلود في جهنم ولا يتنازلون عن شيء منه! (فقد كانوا في قرارة أنفسهم لا يكذبون النبي وهو يوعدهم جهنم ولكن اعترافهم بنبوته يعني تراجعهم خطوة في تراتبية السيادة وتقدم المتأخرين فيها وهذا غير مقبول عندهم..) {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف : 31] كأن النبوة مقبولة فقط إذا حفظت المراتب! هب هذا المجتمع أقل عنجهية، وأكثر تسامحا مع الضعفاء واليتامى فهل سيغير ذلك شيئا من وضع اليتيم النفسي وترتيبه في السلم الاجتماعي..؟ كلا...! فنفوس الناس لا تنشأ في يوم واحد..بل هي ترسبات نفسية واجتماعية يطول عليها الأمد فلا يكون التشكيل النهائي للنفس إلا وفق ما عملته فيها الظروف.. والغالب أن قدر اليتيم النفسي: الانكسار وأن قدره الاجتماعي: الانزواء وقد يقترب الأمر من الحتمية في مجتمع مثل قريش.. وهنا يظهر غور قوله تعالى:".. فَآوَى" فالإيواء شيء أكثر من توفير مسكن ومشرب ومطعم (وقد تكفل به أفراد مثل الجد والعم..) لكن الشيء الذي لا يستطيعه الجد ولا العم هو حفظ "المعنويات"... فبربكم كيف تتصورون أن يخرج من وضعية اليتم (مضنة الانكسار والانزواء) رجل يتحدى العالم كله ويصارعه!! من أين استمد اليتيم تلك القوة المعنوية الهائلة! هذا علم من أعلماء النبوة بلا أدنى شك. وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} الآية تطرح هنا مشكلة "المصدر الثقافي" وهي مشكلة جعلت الإسلاملوجيين ينطحون رؤوسهم بالجدران فما وجدوا لها تفسيرا..وقنعوا -وحاولوا إقناع غيرهم- بما يضحك الثكلى! ضال بين ضالين فمن أين تأتي الثقافة المضادة! ثم إن الثقافة ليست لُقطة يعثر عليها في منعرج سبيل..ولا تتولد من مجرد احتكاك عابر بين شخصين... الثقافة هي الهواء الذي يعيش فيه مجتمع..ولها سلطة قاهرة على الأفراد والجماعات: فعندما يولد الفرد فإنه يتنفس ثقافة مجتمعه بأنفه رغم أنفه..فإن كان الهواء ملوثا فإن داخل الفرد يتلوث .وقد أثبت مالك بن نبي رحمه الله هذا المعنى في مثال الطبيب والراعي الجزائريين والطبيب والراعي الإنجليزيين..فالطبيب الجزائري لا يتصرف مثل الطبيب الإنجليزي بل مثل الراعي الجزائري والطبيب الأنجليزي يتصرف مثل مواطنه الراعي..فالشهادات والاختصاصات والأوضاع الاجتماعية لا تغير شيئا من الترسبات الثقافية في النفوس...فيكون السلوك الثقافي سلوكا قاهرا لا شعوريا في الأغلب الأعم.. وهو مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ.... » الترويض الثقافي يأخذ طريقه قبل تبلور الوعي نفسه..
وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} من أين جاءت ثقافة الهدى إلى مجتمع يتنفس ثقافة الضلال.. السؤال محير حقا للإسلاملوجيون وغيرهم من الكفار...وآية حيرتهم غباء تلك الاقتراحات التي ذكر القرآن بعضها ليشهد الناس على غباوة الكافرين اليوم إلى يوم القيامة.. {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل : 103] وجاء في دلائل البيهقي: "زعم أهل التفسير أنه كان لابن الحضرميّ غلامان نصرانيان يقرآن كتابا لهما بالرومية، وقيل بالعبرانية. فكان صلى الله عليه وسلم يأتيهما فيحدثهما ويعلّمهما، فقال المشركون: إنما يتعلّم محمد منهما.." نعم، يجوز أخذ معلومة أو معلومات ولكن الثقافة لا تؤخذ بهذه الطريقة ..وقد اختلط على القوم مفهوم المعرفة ومفهوم الثقافة... فقد نتصور أن يأخذ محمد عن عداس قصة يوسف مثلا..ولكن: كيف يأخذ عنه نظاما أخلاقيا برمته؟ وكيف يأخذ عنه رؤية جديدة للعالم؟ وكيف يأخذ عنه أنظمة سياسية واجتماعية واقتصادية هي أفضل ما عرفت البشرية على الإطلاق؟ باختصار كيف يأخذ ثقافة -إن كانت الثقافات مما يؤخذ-!؟ ...لكن القوم لا يعقلون.. وليس أبطل من قصة عداس وقصة غلامي ابن الحضرمي إلا قصة بحيرا الراهب..التي نزعم أنها من اختلاق الإخباريين ... والعجيب أن هذه القصة وافقت أهواء أنصار النبوة وأعدائها معا: فأنصار النبوة رأوا فيها دليلا إضافيا على صحة النبوة فواحد من أهل الكتاب توسم النبوة في وجه الغلام القرشي..وأعداء النبوة وجدوا في القصة قشة النجاة:فهاهو مصدر الإسلام الذي أعياهم البحث عنه يلهج به الإخباريون من المسلمين أنفسهم: بحيرا الراهب وأمثاله من الأحبار!! ونود هنا أن نصحح أسطورة روجها الإخباريون وكتاب السيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وهي أسطورة ذات شقين: 1-هستيريا إرهاص النبوة..كان كل الناس يعلمون-واعجبا!- أن موعد الرسالة الخاتمة قد حان ،فيخرج الناس من العرب والعجم يستقصون الأخبار ويرشحون هذا الشريف أو ذاك لمنصب النبوة..!! هي هستريا شبيهة بهستريا نهاية العالم التي نشهدها اليوم..! 2-علامات النبوة يقرأها الرهبان والأحبار والكهان وحتى المومسات..!!! (فقد قالوا أن عبد الله بن عبد المطلب راودته مومس بكل عزيمة وعندما عاد من عند آمنة بنت وهب زهدت فيه ولما سئلت عن ذلك قالت إن بقعة النور التي كان في وجهه قد اختفت وكانت ترجو أن تكون صاحبة الحظ بدلا من آمنة!! ) هذا الكلام رجم بالغيب ،يحرمه الإسلام نفسه، فكيف يتخذ دليلا على الإسلام! ومن المسلمين السذج من يحسن الظن فيبالغ في علم أهل الكتاب..ليت شعري ماذا كانوا يعلمون بالضبط: فوحيهم زيفوه، وكتبهم الهرمسية السرية لا يعتد بها فهي من السحر لامن الوحي.. أقصى ما يمكن أن يصح في كتبهم بشارة بالنبي الخاتم وعلامات عامة عنه ،وهي مازالت في كتبهم عرفها المسلمون قديما وحديثا ولكن تحديد زمن الظهور بدقة غير ممكن إلا تخرصا ورجما بالغيب..وعلى فرض تنصيص كتبهم المقدسة على صفات جسدية للنبي المنتظر فلا يمكن تنزيلها على محمد اليتيم وحده دون الآلاف ممن تنطبق عليهم تلك الأوصاف فهي على كل حال نعوت لغوية مسموعة من قبيل (أجعد، واسع العينين، ربع القامة ..وغيرها) وليست-مثلا- صورة شمسية يتعرف على صاحبها بمجرد رؤيتها!! لكن القوم جعلوا محمدا قبل البعثة لا يتحرك إلا وقالوا له -أو عنه- :هذا النبي المنتظر،احذر اليهود،سيكون لهذا الغلام شأن..... وغيرها... وهذا الأمر يخدم أهواء أعداء النبوة وهم لا يشعرون.. فقد يجدون في هذه الأخبار الحافز النفسي والاجتماعي على ادعاء النبوة ، فيقولون ادعى محمد النبوة لأنها اختمرت في لاوعيه تحت إيحاءات المجتمع أو أن مشروع النبوة قديم في نفس محمد فمهد لها شيئا فشئيئا قبل البعثة بالاتصال ببحيرا وغيره... كل هذا باطل وقبض الريح.. ما كان محمد إلا فتى عاديا ، وشابا من قريش لا يكاد يختلف عن غيره..فهداه الله وهدى به قومه وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وهذا علم آخرمن أعلام النبوة.
وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} قالت عائشة عبد الرحمن رحمها الله: "وإن يكن القرآن استعمل الغنى للمال في مثل آيات النساء وآل عمران والتوبة والحشر فلسنا نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثرى بعد المبعث أو اقتنى مالا،بل لا نعرف أن مستوى حياته قد تغير ماديا،لعد أن أفاء الله عليه ما أفاء من غنائم ،فحمل الغنى على الثراء المالي لا يعين عليه ما نعلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من تعفف وتجمل مع فقر ومن قناعة وزهد وتواضع في المأكل والمشرب والمسكن ،بعد أن سعت إليه الدنيا.....وإنما أغناه الله بالتعفف وسد الحاجة فلم يذله فقر المال كما لم يكسر اليتم نفسه بل وقاه الله وقاية نفسية معنوية من آثار اليتم والفقر والضلال،وليس وقاية مادية ترد إليه أباه الذي مات قبل مولده ،وتملأ خزائنه بالمال،وتهيء له رغد العيش.."
قلت إن هذه الحماية من ذل السؤال، وإن ذلك التوسط في المستوى المعيشي قبل البعثة وبعدها لهو من أعلام النبوة.
نختم تفسير هذه السورة الكريمة بملاحظة إجمالية : في السورة مقاطع ثلاثة:تأكيدي،تقريري،طلبي..وتفاعل النبي صلى الله عليه وسلم مع كل مقطع منها يؤسس ركنا من أركان الإيمان: 1-اعتقاد بالقلب 2-إقرار باللسان 3-عمل بالجوارح
أ-وَالضُّحَى{1} وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى{2} مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى{3} وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى{4} وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى{5} استجابة النبي صلى الله عليه وسلم ستكون إيمانا واطمئنانا بوعد الله (عبادة قلبية)...
ب-أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى{6} وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى{7} وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى{8} استجابة النبي صلى الله عليه وسلم ستكون "بلى" إقرارا وشكرا للنعمة باللسان (عبادة لفظية)
ج-فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ{11} استجابة النبي صلى الله عليه وسلم ستكون تنفيذا عمليا (عبادة عملية)
ذلك جماع الإيمان..!
هذا ما تيسر لنا من تفسير هذه السورة المباركة ...نرجو أن يكون صوابنا فيه أكثر من خطئنا .ولنا معكم موعد قريب مع تفسير بياني لسورة العصر ..وسبحان الله وبحمده أستغفره وأتوب إليه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه .