تفسير القرآن بالقرآن: دراسة في المفهوم والمنهج (أ. سعاد كوريم)

إنضم
23/01/2007
المشاركات
1,211
مستوى التفاعل
2
النقاط
38
الإقامة
كندا
الموقع الالكتروني
www.muslimdiversity.net
تفسير القرآن بالقرآن: دراسة في المفهوم والمنهج
أ. سعاد كوريم

المصدر: مجلة إسلامية المعرفة (العدد 49)

يتضمن كل عمل تفسيري لنص ما، اقتراحاً لمعادلة تفسيرية، أحد طرفيها هو النص المفسَّر، وطرفها الثاني هو المقولة المفسِّرة. وتتسع هوة المفارقة بين الطرفين أو تضيق، تبعاً لمقصدية النص، وكفاءة المتلقي، وكفاية المنهج، ومدى التقارب بين النص وتفسيره. ولا يخرج تفسير القرآن الكريم عن هذا الإطار، من حيث إن هاجسه الأساس، هو إدراكُ قصد الله من كلامه وإيصالهُ إلى المخاطبين به. فإذا علمنا أن أحد طرفي المعادلة في تفسير القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، تبين لنا مدى الحرج المعرفي الذي يقع فيه المفسر؛ إذ ما من مقولة تفسيرية، ترتقي إلى درجة التقارب مع النص القرآني، والوفاء بأداء معناه، إلا إذا كانت من نفس جنسه ومادته. ولعل المدخل الأقدر في هذه الحالة على إيجاد معادلة متكافئة الأطراف، هو تفسير القرآن بالقرآن، نظراً لما قد يكفله من وحدة في النسق، وانسجام في الدلالة، ناتجين عن انتماء كل من المفسِّر والمفسَّر إلى نظم واحد، مشَكل من لغة واحدة، وصادر عن متكلم واحد. ويستلزم التحقق من هذا الافتراض القيام بدراسة لمفهوم تفسير القرآن بالقرآن ومنهجه، تهدف إلى تكوين تصور دقيق عن مصاديقه وأدواته، على نحو يمكِّن من اختبار كفايته، والحكم على طبيعته ووظيفته؛ إذ من شأن التصور الذي تكفله تلك الدراسة، أن يكشف عن حدود قدرة تفسير القرآن بالقرآن على تقليص هامش التأويل، وتقليل فوارق المعنى بين النص وتفسيره، وتأمين طريق الفهم عن الله تعالى، وإدراك قصده من كلامه. ولا يخفى ما لذلك من أهمية بالنسبة للخطاب الشرعي فِقهاً وامتثالا وحفظا، فلابد من فِقه معهود المتكلم في استعمال عناصر الخطاب، وضمان امتثاله من قبل المكلفين به؛ لأن صحة العمل بالقول تبعٌ لصحة العلم به، ولابد أيضا من حفظه من التحريف الدلالي، الذي يفضي إلى ضياع المعنى الأول المقصود في أصل النظم.

وتزداد الحاجة إلى تناول هذا الموضوع إلحاحاً؛ نظراً لافتقار الدراسات القرآنية إلى أدبيات تُفرِدُه بالبحث والتصنيف؛ إذ الملاحظ أن أعمال القدماء، وإن تضمنت مادة مهمة في تفسير القرآن بالقرآن، وشملت جملة من مباحثه وأنواعه، إلا أنها لم تخصه بمؤلف حامل لاسمه، جامع لكل ما يتعلق به على نحو يتسم بالإحاطة والاستيعاب، يُفصّل مفهومه، ويؤصل لمنهجه، ويشرح طريقة اشتغاله. ويمكن التأكد من ذلك بالرجوع إلى مكتبة التراث التفسيري بمعناه الواسع، الذي يشمل كل عمل تناول القرآن الكريم، بنوع من الدرس العلمي، كما هو الحال بالنسبة لكتب التفسير، وعلوم القرآن، والمناسبة، والوجوه، والنظائر، وتوجيه المتشابه وغيرها.

ولا تخرج أعمال المحدَثين أيضا عن هذا الحكم؛ فرغم تضمنها لمؤلفات تحمل عنوان "تفسير القرآن بالقرآن"، إلا أن الغالب عليها، كان الاهتمام بالجانب التطبيقي أكثر من غيره؛ إذ غاب عنها التفصيل في المفهوم، والتأصيل للمنهج، وشرح طريقة الاشتغال، إلا في حالات قليلة، تضمنت إشارات إلى بعض ما سبق، دون أن تتسم بالعمق المطلوب. ويمكن التمثيل لذلك بجملة من العناوين منها؛ كتاب "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" لمحمد بن الأمين الشنقيطي، و"التفسير القرآني للقرآن" لعبد الكريم محمود الخطيب.

واستدعت هذه العوامل مجتمعة، إعادة دراسة "تفسير القرآن بالقرآن"، بحسب ما تقتضيه طبيعة الموضوع من مناهج؛ إذ تطلب البحث في المفهوم تحليلَه إلى وحدات صغرى، هي المفردات المكونة له، ووصفَ كل مفردة منها، بحسب ما تفيده مختلف مستويات الدلالة، ثم إعادةَ تركيب ذلك كله، للبث فيما يتولد عنه من إشكالات. وتطلب البحث في المنهج، التعريف به، والبيان التحليلي لأصوله النظرية، والحلقات الأساسية للعمل الذي يقوم به، مع تصنيف أدواته الإجرائية ووصفها، مشفوعة بتطبيقاتها من القرآن الكريم.

أولاً: مفهوم تفسير القرآن بالقرآن

لتحليل مفهوم تفسير القرآن بالقرآن، يلزم تحقيق الألفاظ المفردة المكونة له، وتحصيل معانيها المستقلة المستفادة من المعطيات الصوتية، والصرفية، والمعجمية، ثم التداولية، تمهيداً للوصول إلى الألفاظ المركبة، واستخراج دلالتها، مما يكفل الاستثمار الوظيفي لما يفيده كل من الواقع الاستعمالي المحقَّق للكلمة، ونظامها الافتراضي المجرد.

1. تحليل المفردات:

* مفهوم التفسير:

الدلالة الصوتية:
تقع الفاء والسين والراء في الطرف العلوي للجهاز الصوتي؛ فالفاء من الحروف الشفهية، والراء من الحروف الذلقية، والسين من الحروف الأسلية، مما ييسر نطقها، خاصة أن الفاء تخرج من بين الشفتين، وأن الراء تخرج من ذلق اللسان، فهي من الحروف التي مذل بها اللِّسان، وسهلت عليه في المنطق، فكثرت في أبنية الكلام. أي أن الكلمة المؤلفة منها تتضمن معنى تيسير التداول، وتعميم الاستعمال، وهي مهمة التفسير الذي يقرب معاني المفسَّر ويبسطها للمتلقين. ويؤكد هذا، ما يفيده حرف السين دلالياً وجمالياً، فهو من جهة يوحي بالسعة والشمول، وهما ما يتسم به التفسير، نظراً لمحاولته الإحاطة بمعاني المفسَّر، واستيعاب آفاق انتظار المخاطبين، وهو من جهة أخرى لا يدخل على بناء إلا حسّنه، لأن السين لانت عن صلابة الصاد وكزازتها، وارتفعت عن خُفوت الزاي فحسنت، ومعلوم أن حسن منهج التفسير، وحسن طريقة عرضه، هما الضامن لانسجامه وقبوله.
وتكرس الراء هذه المعاني وتقويها، لأنها تحمل معنى ترديد الشيء وتكراره مرات عديدة، ولأن التكرار تقويةٌ للمعنى المحدَّث به والمستفاد من مجموع الكلمة. ولكن يضعف من قيمتها دخول الفاء، لأنها إذا اقترنت في كلمة بحرف أو أكثر من الحروف الآتية: الدال والتاء والطاء والراء واللام والنون، دلت على الوهن والضعف، ومنه ينتقل هذان المعنيان إلى 'التفسير' عبر الاشتقاق. ولا يخفف من حدتهما إلا صياغة الكلمة على وزن (تفعيل) المفيد للتكثير والتقوية. ويترجم ذلك دلالياً إلى أن الحكم بالضعف والرد، مصيرُ كل تفسير ينسب معنى ما إلى المفسَّر، دون أن يكون مشفوعا بما يقويه. وكما أن الصياغة هي التي جعلت لفظ التفسير يرتفع نوعاً ما عن معنيي الضعف والوهن، فإن العمل التفسيري لا يتقوى، إلا بأن يصاغ وفق نسق منهجي منظم، يوصل للكشف عن المراد.

الدلالة المعجمية:
تدل مادة الفاء والسين والراء، كيفما وقعت، على الوضوح والبيان، وهذا من باب الاشتقاق الأكبر . فكون الفاء والسين والراء مادة واحدة، يعني أنها مهما شُكلت على صور مختلفة، فكأنها لفظة واحدة من حيث دلالتها على معنى معين هو الوضوح والبيان. وقد أفضى النظر في جهات تركيبها الست، إلى رد ثلاثة منها (ف.س.ر - ف.ر.س - س.ف.ر) إلى أصل الوضوح والبيان. ذلك أن مادة الفاء والسين والراء، إذا ركبت على شكل "فسر"، فإنها تعني كشف المغطى ببيانه وإيضاحه، ويكون التفسير بمعنى كشف المراد من اللفظ المشكل عن طريق إيضاحه وتبيينه، وإذا جاءت على شكل (ف.ر. س) فمنها تأتي الفراسة، التي تعني عمقاً في النظر، والتثبت للشيء والبصر به، وفراسة المؤمن: ملكة باطنة، تجعل صاحبها ينظر بنور الله، فيستشعر الأمر الخفي بصدق حس أو دلالة خبر. أما إذا جاءت السين قبل الفاء والراء فهي أصل واحد يدل على الانكشاف والجلاء.

الدلالة الصرفية:
وهي آخر محطات تفكيك المعنى على المستوى الإفرادي، وتمكِّن من تسييج المساحة التي يحيل عليها التفسير داخل المجال المعجمي المشترك. ونكتفي هنا باستثمار صيغة (تفعيل) في جانبها الإفرادي، بمعزل عن نوع مقولتها التركيبية، فننطلق من أن صيغة (تفعيل) تفيد المبالغة والتكرار والتكثير. وبذلك تكون دلالة "التفسير"، هي ناتج تركيب معنى "التفعيل"، على معنى "الفسر"، وفقاً للعملية الإجرائية التالية:

التفسير = الفسر+التفعيل لتفسير = الوضوح والبيان+المبالغة والتكرار والتكثير

أي أنه يحمل معاني المبالغة والتكرار والتكثير، التي تتسق مع مهامه وطريقة اشتغاله. فهو أولا مبالغة في الفسر، أي استفراغ للوسع، طلباً للإيضاح والبيان، ويبلغ هذا الاستفراغ مداه، إذا كان موضوع التفسير هو كلام الله، لأنه يروم آنذاك، تأمين طريق الفهم عن الله، وَفِقْهَ مراده من كلامه، مما يشعر بأن تحري مطابقة التفسير للمفسر، من جهةِ إصابةِ القصد، وتعيينِ المراد، واحدٌ من أكبر هواجس العمل التفسيري. والتفسير أيضاً تكرار للفسر، أي أنه عمل قائم على العود المستمر. ويتخذ هذا العود وجهتين، فهو يحدد وظيفة التفسير في علاقته بالنص، ووظيفته في علاقته بالمتلقين. فالتكرار من جهة، لصيق بمنهجية التفسير؛ إذ بموجبه، يصير لزاماً على المفسر، أن يرجع مراراً إلى النص المفسَّر، ويعرض عليه عمله، حتى يطمئن إلى صحة ما توصل إليه. وهو من جهة أخرى، متسق مع ما ينتظره المتلقون من التفسير؛ إذ هو بالنسبة إليهم مترجمُ تَوْقِهم المستمر إلى مساءلة النص القرآني، لفهم أوضاعهم المتجددة. وفي كلتا الحالين، فإنه وصف مُشعِر بأن الحرص على ترسيخ المعنى القرآني، وتوسيع مجال تداوله، واحدٌ من أكبر هواجس العمل التفسيري. كما أن التفسير تكثير للفسر، وفي ذلك تنصيص على ضرورة تنويع مداخل الإيضاح والبيان، وعدم الاقتصار على واحد منها فقط، ومنه يصير لزاماً على كل تفسير، استجلابُ الأدلة والأدوات التي تكفل له الانضباط المنهجي، والكفاية التفسيرية، وتَضْمَنُ مصداقيته. فالتكثير مظنة اكتساب القوة، لأن قوة التفسير من قوة المنهج والدليل، وفي الاهتمام به إشعارٌ بأن الحرصَ على الإقناع، واحدٌ من هواجس العمل التفسيري.

وبناء على كل ما سبق نقول، إن التفسير عمل بياني بشري، يُقرّب معاني المفسَّر إلى المتلقين، باعتماد متواليات منهجية، توصل إلى كشف المراد، وتكسبه قوة ومسؤولية، تمكنان من ترسيخ نتائجه والإقناع بها.

* مفهوم القرآن:

الدلالة الصوتية: تحدد الشحنات الدلالية لمخارج وصفات (ق.ر.أ)، الإيحاءات التي أفادها تأليفها في أصل الوضع، لأن مكونات الكلمة تُنتقى على سَمْت الأحداث المعبر بها عنها، حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث. وقد جمع هذا الجذر مخارج مختلفة؛ فالقاف تنتمي إلى المجموعة اللهوية، والراء إلى المجموعة الذلقية، وتخرج الهمزة من الجوف، والجمع خاصية لصيقة بالقرآن نفسه، فهو يهدي العالمين إلى الصراط المستقيم. والملاحظ أيضا أن مادة (ق.ر.أ) مؤلفة من أصوات مجهورة وشديدة، صدراً وحشواً ونهاية، مما يكسبها قوة في النطق ووضوحاً في السمع. وحين يكون الكلام قرآناً، تبلغ القوة ذروتها، محققة مرتبة الإعجاز، ويدرك الوضوح مداه عند نزول القرآن بلسان عربي مبين.

والملاحظ كذلك انفراد كل صوت بمزايا تخصه، فالقاف تضفي معنى الحسن، والراء تتصف بالإذلاق، الذي يؤدي معنى اليسر، كما تحمل معنى الترديد والتكرار، الذي يفيد الحركة المستديمة ويرسخ المعنى ويقويه. أما الهمزة فتضفي على الكلمة التي تركب فيها مسحة إطلاقية. وتعكس هذه الإيحاءات الدلالية خصائص لصيقة بالقرآن؛ ففيه يقول الله عز وجل: ﴿الله نزل أحسن الحديث﴾ (الزمر:23) وفيه يقول أيضا: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (القمر:17). ويتصف القرآن أيضا بقوة هائلة صورها قوله تعالى: ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله﴾ (الحشر:21)، ويعمل على ترديد الوعيد ليتعظ الناس: ﴿وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا﴾ (طه:113). كما أنه ذو صفات فيها معنى الحركة المستديمة والفعل المستمر، فعطاؤه دائم لا ينفد لقوله تعالى:﴿إنه لقرآن كريم﴾ (الواقعة:77)، وهو ذو وجود مستمر مزدوج الاتجاه؛ مصدق لكتب السابقين، ومورَّث للمصطفين اللاحقين ﴿والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير﴾. (فاطر:31-32)، والقرآن أيضا كتاب مطلق لإحاطة مصدره، وانفتاح وجهته، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وإنه لتنزيل رب العالمين﴾ (الشعراء:192).

الدلالة المعجمية: (ق.ر.أ) أصل صحيح دال على الجمع والاجتماع والضم، وهي معان تفيد القوة. وترد سائر المشتقات إلى هذا الأصل باطّراد. ولا ينقض هذا الأصل استعمال مادة قرأ في القراءة أو الإلقاء، فالقراءة تؤول إلى الجمع، لأن المراد بها ضم الحروف والكلمات في الترتيل، والتلفظ بها وإلقاؤها مجموعة. وكلمة "قرآن"، وإن صارت علماً مختصاً بكتاب الله، فإنها تتضمن هذه المعاني لاشتقاقها من مادة قرأ.

الدلالة الصرفية: تبلغ مادة (قرأ) ذروة القوة، حين تصاغ على وزن (فعلان)، لأن هذه الصيغة ذات قوة دلالية خاصة بين الصيغ والكلمات التي تم تشكيلها وفقا لهذا القالب دليل ذلك.

ومن هنا تكون كلمة (قرآن)، قد جمعت عبر رحلتها التكوينية، كافة مقومات القوة التي يوفرها الدرس اللغوي للخطاب في حالته الإفرادية. ولما كانت هذه الكلمة عَلماً مختصاً بكتاب الله، بحيث لا يشاركه في ذلك غيره، وكان العَلم، علامة مقصورة على المسمى، وشارة خاصة به، وافية في الدلالة عليه، صح القول: إن سمات لفظة (القرآن)، انعكاس لسمات مماثلة مقصودة الحضور في محمولها، وأمكن تنـزيل الخصائص المستفادة من التحليل اللغوي، على النص القرآني نفسه، لنخلص إلى أن القرآن، نص مطلق وجامع، على نحو مستوعب للزمان والمكان والإنسان، وقوي بالقدر الذي يتحقق به التحدي والإعجاز، أنزله الله عز وجل للهداية، فبلغت فيه مواصفات اليسر والوضوح والحسن الغايةَ، كما أودع فيه مقومات تكفل له الحفظ، لتؤمن عطاءه المستمر، وتعمل على تثبيت مفاهيمه، لتضمن رسوخها الدائم.

2. تحليل التراكيب:

* تفسير القرآن:

تثير إضافة التفسير إلى القرآن، إشكالاً معرفياً يترجمه التساؤل عن مدى حاجة هذا الكتاب الفعلية إلى مفسر، يضطلع بمهمة بيانه، ويتولى النطق عن مراده، وعمّا إذا كانت تلك الحاجة - في حال تأكدها- ذاتية لصيقة بالنص، ونابعة عن نقصان في قدرته البيانية، أو عرضية راجعة إلى التدني التدريجي لملكات المتلقي، ومحدودية سقفه المعرفي. ويقتضي حل هذا الإشكال، تسليط الضوء على مسألتين مهمتين هما: القدرة البيانية للنص القرآني، والطاقة الاستيعابية للمتلقي البشري، وذلك لتحديد وجه الحاجة إلى التفسير، ومعرفة القصور - الذي يتهدد كل قناة اتصال- إن حصل ذلك.

القدرة البيانية للنص القرآني: على نقيض ما توهم به وساطة التفسير، من إدانة لقدرة القرآن البيانية، على اعتبار أن غير المبيَّن هو الذي يحتاج إلى بيان، فقد تضافرت أدلة عدة، تجعله في قمة الوضوح والبيان:

أولها، ما نبه عليه الزركشي، من أن كل من وضع كتاباً، فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح، ومفاد ذلك، أن الحاجة إلى الشروح أمر حادث، يستدعيه طارئ عرضي يلزم من وجوده حصول تلك الحاجة، ومن ارتفاعه انتفاؤها.

وثاني الأدلة، كون الله وصف القرآن بأنه نور مبين، وكتاب مبين، نزل بلسان عربي مبين ، وأن آياته بينات ومبينات، تؤهله ليكون بينة، لا تبين للناس ما اختلفوا فيه فحسب، وإنما هي تبيان لكل شيء. وفضلاً عن صفة البيان، فقد أكد الله تعالى أن القرآن ميسر للذكر فقال: ﴿ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر﴾ (القمر:7). وإذا علمنا أن "التيسير هو إيجاد اليسر في الشيء، وأن اليسر هو السهولة وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب، وأن القرآن المتصف به في الآية كلام، تبين لنا أن معنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يراد من الكلام، وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به، دون كلفة ولا إغلاق. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ، فذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها. وأما من جانب المعاني فبوضوح انتزاعها من التراكيب."

أما الدليل الثالث فهو أن القرآن يعلن عن أهدافه بوضوح، بعيداً عن العبارات الاحتراسية الموارية للقصد، وبمنأى عن الالتواءات الأسلوبية المعتمة للخطاب، مما يجعله على درجة سامقة من البيان، ويجعل فهمه عملاً ميسوراً يتم عبر عرض الدلالات المستفادة من الألفاظ على المقاصد، للتأكد من أنها عين المراد. ومن هذه الأهداف المعلنة أن القرآن كتاب هداية، أمر الله بتلاوته وتدبره واتباعه، وهذا يجعل تعذر فهمه أمراً مستحيلاً؛ إذ لا يعقل أن يكون غرضه هداية العالمين، ومع ذلك لا يمكن لأحد أن يفهمه، خاصة وأن الامتثال فرع عن الفهم وفِقْه الخطاب. ومن هذه الأهداف أيضاً، أن القرآن نزل ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ومعلوم أن الحكم لا يكون فيصلا تقوم به الحجة، ولا قاطعاً يقبل التنفيذ، إلا إذا كان واضح الدلالة، وعليه فالاختلاف لا يرجع إلى أصل القرآن، بل هو وليد معطيات خارجية، كتلك التي ترجع إلى سلوكات الناس اتجاهه، التي تختلف باختلاف خلفياتهم. وبناء على ما سبق يتضح أن القرآن واضح، وأن القول بحاجته الذاتية إلى تفسير خطأ منهجي، فالتفسير لا يمكن أن يضيف إلى النص القرآني شيئاً، لأن كل العناصر البيانية ثاوية فيه، ولأنه النور الذي جعله الله تفسيراً للحياة والأحياء، "ومتى ما عمد الإنسان إلى النور ينيره وإلى الضوء يضيئه وإلى المفسر يفسره فقد قلب المنهج."

ولقائل أن يقول: إن ما يشكك في صحة هذا الأصل أمران اثنان، أحدهما ما يفيده ظاهر قوله تعالى: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب﴾ (آل عمران:7) ويفهم من ذلك أن القرآن يتضمن آيات متشابهة، لا سبيل لأحد إلى يتبين مدلولها لأنه مما استأثر الله بعلمه، ويترتب على ذلك، أن قدراً من القرآن مستحيل الإدراك، وما كانت هذه حاله، فلا يكون بيّناً ولا مبينا. أما الأمر الثاني الذي يعود على هذا الأصل بالنقض، فهو ما يدل عليه ظاهر قوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ (النحل:44) من أن الله أوكل مهمة بيان القرآن إلى النبي عليه السلام، مرشداً إلى مكانته المركزية، التي تخول له توضيح مراد الله، وجاعلاً منه حلقة في الفهم غير ممكنة التجاوز. وفي ذلك إيذان بأن حاجة القرآن إلى التفسير ذاتية، طالما أن فهمه لا يمكن أن يتم من داخله، وفي غنى عن أي مبين خارجي؛ إذ لو كان الأمر بخلاف ذلك، لما كان للتعبير بلام التعليل في الآية وجه يُعتبر.

والواقع أن هذا الاعتراض لا ينقص من قيمة ذلك الأصل، وإمعان النظر في الآيتين يفضي إلى العدول عن ظاهرهما، والاطمئنان إلى أنه غير مراد. ففيما يخص آية التشابه،فهي لا تقوم دليلا على ما استشهد بها لأجله، لأسباب أهمها اثنان؛ أحدهما كون المتشابه - الذي يفترض أنه غامض وملتبس الدلالة وأن لا أحد غير الله قد اطلع على معناه- قليلاً جداً، بالمقارنة مع القدر المحكم الذي يمثل المعظم من آيات القرآن. ذلك أن آية آل عمران لما قابلت بين المحكم والمتشابه، صار من اللازم أن يفسر المتشابه بما يقابله، ويعضد ذلك أسلوب الآية وهو الجمع مع التقسيم، لأنه تعالى فرّق ما جمع في معنى الكتاب بأن قال: ﴿هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾ (آل عمران:7) ويستفاد من هذا التقابل الماثل في قوله تعالى في المحكمات: ﴿هُنَّ أمُّ الكتاب وأُخَرُ متشابهات﴾ أن المحكم كثير والمتشابه قليل، وتدل المحكمات بذلك على أنها "المعظم والجمهور وأم الشيء معظمه وعامته، كما قالوا أمّ الطريق بمعنى معظمه،" ويستفاد من هذا التقابل أيضاً أن المحكم أصل، وأن المتشابه فرع، لأن لفظ "أمّ" في الآية يعني الأصل أيضاً. وبإضافة هذا المعنى إلى الذي قبله، يظهر أن التشابه لا يقع في الأصول الكلية، وإنما يختص بالفروع الجزئية؛ إذ لو وقع في أصل من الأصول اشتباه، للزم سريانه في جميعها، لأن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها، فكثيراً ما يكون التفريع على أصل، متوقفاً على أصل آخر. وبهذا الموجب لا يكون المحكم أُمّ الكتاب، ولكن الآية أفادت كونه كذلك، فدلّ هذا على أن المتشابه ليس أصلاً، وأنه لا يكون في شيء من الأصول. ولما كان المتشابه، الذي يفترض أنه يورث إشكالا وحيرة قليلاً، كان الالتباس المترتب عليه مثله في القلة أيضا، وبذلك فالتشابه لا ينافي ما يتصف به القرآن من وضوح وبيان، لأن قلته تزكي هذه الصفات وتؤكد أنها الأصل.

وإذا كان السبب الأول لبطلان الاعتراض على أصل البيان في القرآن، هو قلة المتشابه، وندرته الكمية، مما يفيد قلة نسبة الغموض، ومن ثم قلة الحاجة الذاتية إلى تفسير، فإن السبب الثاني، ومن خلال استناده إلى تحقيق مفهوم المتشابه في آية آل عمران، ينفي هذه الحاجة نفياً كلياً. ذلك أن مبعث التشابه في القرآن ليس احتمال اللفظ لمجموعة من المعاني وتردده بينها، أي أن التشابه لم ينشأ من ناحية الاختلاط والتردد في معاني اللفظ ومفهومه اللغوي، لأن الاتّباع المذكور في الآية ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ (آل عمران:7) لا يكون، إلا إذا كان للفظ مفهوم لغوي يكون العمل به اتباعاً له. فالتشابه الذي وصف به القرآن هنا، نوع خاص، لابد فيه أن يكون قابلاً للاتباع، وهذه القابلية ناتجة عن وجود مفهوم لغوي معين للفظ، يكون العمل به اتباعاً له. وعلى هذا الأساس لا يكون التشابه حاصلاً من هذه الجهة؛ إذ لابد أن يكون للَّفظ المتشابه مفهوم لغوي معين، وإنما ينشأ التشابه من الاختلاط والالتباس في تجسيد الصورة الواقعية، والمصداق الخارجي لذلك المفهوم اللغوي.

وإذا كان هذا شأن المتشابه، تَبين أن الطريقة المثلى للتعامل معه، هي التسليم له، والإيمان به من غير خوض فيه وبحث عن مآله، لأن ذلك لا يتعلق به تكليف من جهة، ولا يؤدي من جهة أخرى إلا إلى إيقاظ الفتن. فإذا أخذنا مثلا قوله تعالى: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (طه:5) وجدنا لِلفظ الاستواء ظهوراً لغوياً معيناً يدل من خلاله على الاستقامة والاعتدال، ولكنه في الآن نفسه كلام متشابه، تبعاً لما ينتج عنه من لبس في تحديد صورة هذا الاستواء الواقعية، وتجسيد حقيقته الخارجية، على النحو الذي يتناسب مع الرحمن الذي ليس كمثله شيء. وفي مقابل المتشابه يأتي المحكم الذي ينصرف إلى ما تعينت دلالته، وأمكن تصوره. وعلى هذا الأساس ينتفي كل غموض ذاتي عن النص القرآني، وتبقى آياته بينة بنفسها، واضحة، ومقدوراً على الوصول إلى معناها، ومن ثم تكون الحاجة إلى التفسير، عائدة إلى المتلقي لا إلى أصل النص.

أما الآية الثانية فتفيد معنيين، لا يدل أي منهما على أن القرآن غيرُ بيّن بذاته، ومفتقر إلى دعم مِن مُبين خارجي، فقوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ (النحل:44) يفيد أن الرسول عليه السلام مباشر للبيان تبليغاً وتفسيراً؛ فهو يبين بسرده نص القرآنِ ما نُزل، وهو يبين بتفسيره، ما أشكل على المتلقين مما نُزل. وبمقتضى ذلك، فإن الآية تكرس وساطة النبي في عملية تلقي القرآن، جاعلة منه وسيطاً معرفياً يتولى أمر البيان التبليغي ووسيطاً منهجياً يتكفل بمهمة البيان التفسيري. ويزيد هذه الوساطة تأكيداً الإتيان بضمير المخاطب في قوله: ﴿وأنزلنا إليك﴾، ففيه إيماء من الله إلى تشريفه للرسول بمرتبة الوساطة بين الله والناس، بأن جعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم. إذن فالبيان الموكول إلى النبي عليه السلام، هو بيان للفظ وللمعنى المستقى منه، وهو في الحالة الأولى بيان تبليغ وإخبار، وفي الحالة الثانية بيان تفسير وإظهار، ولا بد من تناول كل حالة بيانية بالتحليل والتفصيل، للتأكد من مدى حاجة القرآن أو غناه عن التفسير، وذلك عبر خطوتين منهجيتين اثنتين، تتمثل أولاهما في بحث وجه دلالة الآية على المعاني المستفادة منها، وتتمثل الثانية في بحث النهايات المعرفية التي تفضي إليها تلك المعاني، وعلاقتها بقدرة النص القرآني البيانية.

إن أول ما ينبغي التنبيه عليه، هو أن البيان الذي ذكره الله في الآية ﴿لتبين﴾ وجعله غاية الإنزال، يُستعمل للدلالة على مجموعة من المعاني التي حفظت المعاجم اللغوية جملة منها، ويتطلب تعيين المراد من بينها الاحتكامَ إلى السياق، فهو الذي يعطي للكلمة شخصيتها المستقلة، ودلالتها النهائية، من خلال الكشف عن أبعاد العلاقات التي تربطها بما يجاورها، من كلمات داخل التركيب. ومن هذا المنطلق لزم الكشف عن مفهومين مفتاحيين في الآية، من شأنهما توضيح معنى البيان الموكول إلى النبي عليه السلام وهما ﴿الذكر﴾ و﴿ما نزل إليهم﴾. وتدل اللفظة الأولى على القرآن بإجماع المفسرين، أما الجملة الثانية، فإكسابها معناها يتوقف على مدى قبولها النحوي وانسجامها وما يشكل معها جملة داخل السياق النصي، ذلك أنها تقتضي أن "ما صدق الموصول غيرُ الذكر المتقدم، والذي هو القرآن بإجماع المفسرين؛ إذ لو كان إياه لكان مقتضى الظاهر أن يقال لتبينه للناس. ولذا فالمراد بما نزل إليهم الشرائع والوعد والوعيد وغير ذلك مما أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فجعل القرآن جامعاً له ومبيناً له ببليغ نظمه، ووفرة معانيه، فيكون في معنى قوله تعالى: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء﴾. (النحل:89) وتم إسناد التبيين إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ إذ هو مبلغ الناس هذا البيان." ومن هذا المنظور يكون البيان المقصود في الآية هو بيان التبليغ، ويكون القرآن في الآن نفسه كتاباً بيناً في نفسه، ومبيناً لما أراد الله من عباده امتثالَه والاتعاظ به، ومن ثم فلا دلالة في الآية من هذا الوجه على ما استدل بها لأجله، من افتقار كلام الله إلى تفسير وإيضاح.

غير أن تركيب الآية يسمح أيضا بتفسير ﴿ما نزل إليهم﴾ على أنه عين الذكر المنزل، فيكون المعنى: أنزلنا إليك الذكر لتبينه للناس، أما استعماله للإظهار في مقام الإضمار، فهو لإفادة أن إنزال الذكر إلى النبي، هو إنزاله إلى الناس، كما في قوله تعالى: ﴿لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم﴾ (الأنبياء:10). وإنما ذكره في هذه الآية مرتين للإيماء إلى التفاوت بين الإنزالين؛ إنزاله إلى النبي مباشرة، مع تخويله صلاحيات البيان، وإيضاح المعنى، وإنزاله إلى عامة الناس - لأن التعريف في ﴿للناس﴾ يفيد العموم - الذين لا بد لهم، بمقتضى لام العلة الغائية في ﴿لتبين﴾، من مبين يوضح لهم هذا القرآن الذي نزل إليهم. وواضح من هذا التحليل، أن هناك بيانا آخر تقصد إليه الآية، غير بيان الإبلاغ والإخبار، وهو بيان الإيضاح والإظهار. فهل يعني ذلك أن فهم القرآن رهين شرح النبي، القادر وحده على حل رموز النص الإلهي وفك (شفرته)؟ أوليس هذا مؤشرا على وجود "عوز بياني" في النص القرآني أحوجه منذ نزوله إلى التفسير؟

للإجابة ينبغي النظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، وذلك من خلال تسليط الضوء على واحدة من أهم الحقائق المرتبطة بملكات النبي صلى الله عليه وسلم، التي تجعله أعلم الناس بالقرآن، وتجعل العودة إليه لا تستلزم الطعن في البيان القرآني، بقدر ما تترجم الرغبة في تمثل أمثل مناهج التعامل مع الوحي على الإطلاق، وهذا هو مغزى جواب مطرف بن عبد الله لمن قال له "لا تحدثونا إلا بالقرآن"؛ إذ قال "والله ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا." وقد نبّه الشافعي إلى هذه الحقيقة في مناقشته لعربية القرآن، فبعد أن بيّن أن "جماع علم كتاب الله، العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب" أكد على ضرورة معرفة الحيثيات التي لأجلها كان "الموضع الذي وضع الله به نبيه من الإبانة عنه فيما أراده من كلامه،" وما يهُمُّنا منها هنا، قدرة النبي عليه السلام على الإحاطة باللسان الذي نزل به القرآن، تلك الإحاطة التي عبر عنها الشافعي قائلاً: "والقرآن يدل على أن ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب، (...) ولسان العرب أوسع الألسنة مذهباً، وأكثرها ألفاظاً ولا نعلمه يحيط بجميع علمه غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجوداً فيها."

ويتضح من هذه الصورة، عن الممارسة اللغوية المواكبة لنزول الوحي، أن لغة القرآن مثالية، مبينة، ومؤلفة من أمشاج من اللهجات المختلفة التي استخدمها العرب، مما جعلها لغة مختلطة، وهو أمر تؤكده نوعية الألفاظ والتراكيب القرآنية، التي تعود لمختلف القبائل العربية. ولما كانت هذه طبيعة لغة القرآن، وكانت وظيفتها مخاطبة البشر جميعاً، كان لزاماً على من يروم الأَوْل بلفظ القرآن إلى صحيح معناه، أن يحيط علماً باللسان الذي نُظِم به مبناه. والنظر إلى واقع الاستعمال اللغوي، إبان نزول القرآن وبعده، يفيد أن الإحاطة الفردية خصيصة نبوية، وأن الإحاطة الجماعية واقع تداولي؛ فالنبي محيط باللسان العربي بمقتضى مهمة التبليغ، والجماعة اللغوية محيطة به، بمقتضى وظيفة التواصل. وعلى هذا الأساس تتأكد مرجعية النبي عليه السلام، وتبرز أهمية تمثل كلامه، بصفته مرشداً للمعنى المراد، ما دام متعذراً على من دونه أن يجمعوا علم اللسان، فلا يذهب عليهم شيء منه. والحاجة إلى البيان النبوي، ليست من جهة ضعف بيان القرآن، أو استحالة إدراك معناه، وإنما هي من جهة عجز الأفراد عن الإحاطة بعلم اللسان. فالعجز، عجز الفرد المستقل، الذي لا قدرة له بمعزل عن جماعته اللغوية - آنية كانت أو تاريخية- على تحصيل سائر مخزون ما تدل عليه الصيغ في أصل وضعها على الإطلاق، وكذا ما تدل عليه بحسب المقاصد الاستعمالية، التي تقضي العوائد بالقصد إليها.

الطاقة الاستيعابية للمتلقي البشري: يلزم تحويل وجهة الاستشكال، صوب الموطن الحقيقي للإشكال. وذلك بربط قضية اللغة والتفسير، بمعرفة الذات، وتعميق النظر في قدرة المتلقي ومؤهلاته الإدراكية. وعليه ينبغي تجاوز النهج الذي يركز على واجبات المرسل، متناسياً حظوظ المتلقي في فهم اللغة، ومدى قدرته على استيعابها؛ إذ لابد أن نضع موضع تساؤل، قدرة استيعابنا الكامنة، ومستوى تفهمنا الفعلي، خاصة أن النص الذي استشكلناه، يتأسس على البيان منذ لحظة الانطلاق.

قدرة الاستيعاب الكامنة: يكون النص واضحاً، إذا مر عبر قناة تواصلية مشتركة، يستعملها المتكلم والمتلقي، وكذا إذا توفر المتلقي على الملكة المؤهلة لتحليل الخطاب. ويمكن الجزم باجتماع ذلك في متلقي القرآن لأن:

- قدرة المتلقي على استيعابه، مختبرة تاريخياً، حسبما يستفاد من واقع العصر الإسلامي الأول، وحالِ الذين نزل عليهم القرآن؛ فالعرب كانوا على مستوى يمكنهم من التفاعل معه، وإدراك معانيه؛ إذ المادة اللغوية المستعملة واحدة، والأبنية المجردة المعتمدة لا تكاد تختلف، لأن الله "خاطب بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيه." فضلاً عن ذلك، أن البيان كان في العرب سليقة وطبعاً، يصرفونه حيث يشاؤون حسبما هداهم إليه تصورهم لمعناه، وتفهمهم لغايته، مما يسر للعرب التعامل مع القرآن، ورشح رصيدهم المعجمي، وقواعد التركيب المعتمدة من قبلهم، وسنن التخاطب بينهم، لأن تكون منفذاً إلى المعنى القرآني، ما دام المجال التداولي للغة القرآن ينتمي إلى عصر الوحي.

- المتلقي التالي لعصر التلقي الأول، قادر مبدئيا على فهم القرآن كفهم سابقيه له. وقد تضافرت عدة نصوص، لبيان أن الخطاب القرآني يقصد إفهام المخاطَبين، وتوصيل مرادات المعنى إليهم، وأنهم قادرون على استيعابه، وتعقل معناه، تبعاً لقدرتهم على التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة، وتبعاً لامتلاكهم رصيداً يؤهلهم لتحليله وفقهه، أو قدرتهم على تحصيل ذلك الرصيد. وهذا يدل على أن القدرة الاستيعابية، ليست حصرية مقصورة على جماعة تاريخية؛ إذ "لما أمر الله جل ثناؤه عباده بتدبره وحثهم على الاعتبار بأمثاله، كان معلوماً أنه لم يأمر بذلك من كان بما يدل عليه آيه جاهلاً؛ إذ لم يجز أن يأمرهم بذلك إلا وهم بما يدلهم عليه عالمون." فطلب التدبر والاعتبار، دالٌ على أن الامتثال في وسع المخاطبين، لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها، وسبيل الامتثالِ، التوسلُ بالتفكر، والنظر المؤدي إلى المعرفة، بالنسبة لمن يعرف كلام العرب، مع تعلم معاني كلام العرب بالنسبة للجاهل بها. وهذا يجعل القرآن حجة على العالمين، فاتجاهه إليهم ومخاطبته لهم بحسب طاقاتهم، وإمكان بلوغه إلى جميعهم، لا يجعل في وسعهم جهل ما فيه.

مستوى التفهم الفعلي: في ضوء هذا الواقع، يبقى واقع الحاجة إلى التفسير، في حاجة إلى تفسير، لأن الصورة المقدمة آنفاً، تحيل على تصور يصطدم بحال معظم المتلقين المقبلين بتزايد على الأعمال التفسيرية، وكذا بواقع الأعمال التفسيرية نفسها، نظراً لما تتضمن من حالات الاختلاف في تعيين القصد، أو العجز عن تعيينه. ولتفسير هذه الظاهرة، لابد من الكشف عن أسبابها، التي ترجع أساساً إلى الفرق بين الكامن الموجود بالقوة، والمتشيئ الموجود بالفعل، فوجود طاقة استيعابية كامنة لدى سائر المتلقين، لا يستلزم استثمارها من لدنهم جميعا، لأن الاستثمار المؤدي إلى التفهم الفعلي، يبقى رهين أمرين هما:

أولاً: توفر القبليات المعرفية اللغوية: أي المعرفة اللغوية التي تسبق قراءة النص وتمهد لها، وتمكن من تبادر المعنى وانسيابه إلى الذهن مباشرة، عند سماع اللفظ أو قراءته، سواء كان قصد المتكلم مصرحاً به في ظاهر الكلام، أو كان مبثوثاً في ثناياه، لأن القبليات في هذه الحالة الأخيرة، تعطي المتلقي زاداً لغوياً، يتمكن بفضله من تشغيل طاقته الاستيعابية الكامنة، ومن إعمال ذهنه وقدراته التخيلية، لإلحاق الأشباه بنظائرها، وملء الفراغات التي قصد المتكلم إلى إهمال إتمامها. وبديهي، والحال هذه، أن يفضي الجهل بالقبليات اللغوية لدى المتلقي –وإن أدرك هذا الأخير مرحلة النضج والكمال العقلي- إلى العجز عن تعيين القصد الثاوي في إنجاز كامل يستعمل لغة كاملة.

ثانياً: التناول المنهجي الكلي للنص القرآني: وبمقتضاه يلتزم كل تعامل مع النص بنظرة كلية لخطابه، من أجل تفادي كل خطأ في الفهم، أو توهم للتعارض؛ ذلك أن النظرة التجزيئية للقرآن الكريم، لا تجعل صاحبها قادراً على فهمه حق الفهم، لأن من "فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده،" ومن ثم فإن تلك النظرة لا تصلح لأن تعتمد، إلا في المراحل الأولى للقراءة، بغرض معرفة مدلولات المفردات في القاموس العربي، والوقوف على ما يحيل عليه ظاهر الخطاب، وبعد ذلك ينبغي تخطيها إلى القراءة الكلية النسقية، التي تمكن من اختبار كفاية القراءة السابقة من جهة، وتخول الوقوف على مقصد المتكلم من جهة أخرى. وممن نبه على هذا الأمر الشاطبي حين قال: "لا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد، وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه، لا بحسب مقصود المتكلم، فإذا صح له الظاهر على العربية، رجع إلى نفس الكلام، فعمّا قريب يبدو له منه المعنى المراد." ثم إن الاقتصار على النظرة الجزئية في تحليل الخطاب، يؤدي إلى التعامل مع القرآن تعاملاً سطحياً، ينظر إلى آيات الكتاب نظرة عجلى، تعجز عن الربط بينها وفهمها داخل السياق، مما يفقد المتلقين القدرة على ملاحظة قوة الترابط، وعظيم التناسق في الكلام الإلهي، إلى حد تبدو معه معانيه للنظرة العجلى مقولات متناثرة فحسب.

لا ننكر أن للتناول التجزيئي أهميته، ما دام يمكّننا من تعرف معهود العرب إفراداً وتركيباً، لكن التناول الكلي يستطيع أن يلامس الطبقة الثانية من الدلالات التي تُظهر تماسك المعنى وترابط السياق؛ إذ من خلال تعامله مع الآيات بوصفها نصاً واحداً تَقبل كل آية فيه أن تنفتح دلالتها على غيرها من الآي، يكون قد تجاوز عتبة الاكتفاء بالحدود الدلالية، التي تفيدها ألفاظ الآية مستقلةً، ووعى ضرورة تجاوزها للنظر في دلالة السياق برمته، مما يكفل معرفة أعلى من الدراية بمعهود العرب فحسب، وتلك هي المعرفة بمعهود المتكلم في استعمال عناصر الخطاب.

إن وحدة الخطاب القرآني، تقتضي النظرَ إلى سائر آياته، على أنها كلام واحد، والتعاملَ معها بناء على ذلك، لأن "كلام الله في نفسه كلام واحد لا تعدد فيه بوجه ولا باعتبار،" ومنه فلازم فهم وبيان بعضه على ضوء بعضه الآخر، خاصة وأن "كثيرا منه لا يفهم معناه حق الفهم، إلا بتفسير موضع آخر أو سورة أخرى، ولأن كل منصوص عليه فيه من أنواع الضروريات مثلا مقيد بالحاجيات، فإذا كان كذلك فبعضه متوقف على البعض في الفهم، فلا محالة أن ما هو كذلك فكلام واحد." وعلى هذا الأساس تكون وحدة الخطاب القرآني سارية في سائر مكوناته، إلى حد تصير معه سور القرآن الكريم، بمنزلة الآيات من السورة الواحدة. وفي ذلك ينقل ابن هشام عن أبي علي الفارسي قوله: "القرآن كلُّه كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو ﴿وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون﴾ (الحجر:6) وجوابه: ﴿ما أنت بنعمة ربك بمجنون﴾. (القلم:2)." وتتحقق الوحدة الفعلية للخطاب بالنسبة للمتلقي، على نحو يكفل له تخطي سلبيات التجزئة، من خلال"العلم بخصائص أسلوب القرآن، فإن كل ذي كلام له في كلامه أساليب تخصه،" لابد من مراعاتها والاهتداء بها عند التفسير، وإلا كان المعنى المتوصل إليه بعيدا عن مراد المتكلم.

وبناء على المعرفة الدقيقة بالأسلوب القرآني، يتمكن المتلقي من فهم الخطاب الإلهي، من خلال التوسل بمدخلين اثنين، أشار إليهما الفراهي في التكميل، وهما، وإن كانا متعلقين أساساً بالتعارض بين النصوص أو بين تفاسيرها، فإنهما صالحان أيضا للنظر في النصوص والتفاسير، التي لا تعارض (آني) بينها، خاصة وأن التعارض أمر مفتوح تتسع، دائرته أو تضيق بحسب أحوال المتلقي، ومستوى تفهمه الفعلي. ومن هذا المنظور، فإن الدراية بالأسلوب، تمهد لاعتماد مدخل الموافقة بين الآيات عند التفسير، وذلك برد بعضها إلى البعض الآخر، مما يسهم في حل إشكال التعارض الظاهري بين النصوص، وتكثير سبل التحقق من الدلالة. وتمكن تلك الدراية أيضاً من حل إشكال التعارض الظاهري والحقيقي بين التفاسير، ومعرفة أقربها إلى مقصود المتكلم، باعتماد مدخل آخر، وهو معاملة نتائج الأعمال التفسيرية التي هذه حالها – ويلحق بها غيرها مما ليس هذا شأنه - على أنها من قبيل المشترك، وفي ذلك يقول الفراهي عند حديثه عن الأصول التي تهدي إلى معنى واحد: "إذا كثرت وجوه التأويل في آية، كان الأمر كاشتراك اللفظ موقع استعماله. فهكذا عند اشتراك الوجود في آية، لا سبيل إلا بالنظر إلى موقع الآية."

* تفسير القرآن بالقرآن:

يثير "تفسير القرآن بالقرآن" إشكالات، يقتضي فكها تحديد ماهيته، ببيان الجهة المسؤولة عنه، وتعيين المقدار الذي يدخل في مسماه، والنظر في مدى حجيته.

من يفسر القرآن في تفسير القرآن بالقرآن؟ يتبادر إلى الذهن عند إطلاق عبارة "تفسير القرآن بالقرآن" أن القرآن مفسر لنفسه بنفسه، وأن ليس للمفسر البشري دور، سوى جمع ما يراد تفسيره من نصوص بما يفسره منها، وكأن عملية التفسير عملية مغلقة، تنم عن وجود علاقات ثابتة محددة سلفا،ً لا دخل فيها للعنصر البشري بنسبيته ومتغيراته. إننا هنا أمام انغلاق للمتن، وانغلاق للعلاقات الدلالية في الوقت نفسه، غير أن لهذا التصور أسبابه المعرفية التي تدعمه، فمن دليل العقل، وجوب التماس تفسير القرآن منه أولاً؛ إذ لا يعلم مراد الله على الحقيقة والقطع إلا هو، وذلك نظراً لكون المتكلم أولى من يوضّح مراده بكلامه، فإذا تبيّن مراده به منه، فلا يُعدل عنه إلى غيره. ونظراً لأن التفسير رواية عن الله تعالى، و(ترجمة) لحكمه وحكمته، وشهادة عليه بما أراد من كلامه، فإذا لم يكن من كلامه دليل على ذلك المراد، فهو محض تَقَوُّل، والتقول محظور بنص قوله تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.﴾ (الأعراف: 33) ومن دليل النقل آيات عديدة، لكن قصارى ما يستفاد من مجموع المنقول والمعقول، هو ضرورة العودة إلى القرآن لاستقاء التفسير، بمعنى أنها أدلة متجهة في المقام الأول إلى بيان المصدرية، لا تحديد الجهة العاملة على استثمارها وتوظيفها، والفرق دقيق بينهما.

ولقائل أن يقول إن هذا الحكم غير صالح للتعميم على سائر الأدلة؛ إذ يستثنى منها قوله تعالى: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة: 19)، والذي يظهر من خلاله، أن الله عز وجل لم يحدد المصدر التفسيري فحسب، وإنما حدد الجهة المفسرة أيضاً بأن أوكل إلى نفسه مهمة البيان. غير أن هذا الاعتراض لا يلبث أن يتلاشى، عند استحضار السياق النصي والتاريخي الذي وردت فيه هذه الآية. وممن اعتمد السياقين لاستخراج الدلالة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فعن موسى بن أبي عائشة عن سعيد ابن جبير عن عبد الله بن عباس في قوله: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ (القيامة: 16) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله الآية التي في ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾ (القيامة: 1): ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه﴾ (القيامة:17) قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه، ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ (القيامة:18) فإذا أنزلناه فاستمع، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة:19) علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله." ومنه يتضح أن الآيات تدل على مصاحبة العناية الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم في سائر مراحل تلقي القرآن الكريم وأدائه، من التنزيل إلى الجمع في الصدر، فالتلفظ والتبليغ، لتطمئنه بذلك، فلا يحتاج بعدُ إلى تحريك لسانه، استعجالا لتبليغه مخافة نسيانه.

ومن هذا المنطلق فلا تكون لقوله تعالى: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة:19) علاقة تذكر بالتفسير عموماً، ولا بتفسير القرآن بالقرآن على وجه الخصوص، إنْ تحديدا لمصدره، أو بياناً، لجهته، لأن غاية ما سيقت له، هو الدلالة على أن القرآن نص إلهي في قمة الحفظ، منذ أن تكلم الله به، إلى حين تكلم به رسوله. وبذلك يكون معنى قوله تعالى: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة: 19) أي علينا أن تبلغه وتتلفظ به تماماً، كما أنزلناه عليك، وجعلنا صدرك يعيه، فالمراد بالبيان هنا الأداء والتلفظ والقراءة، أما ﴿علينا﴾ ففيها وعد من الله بحصول ذلك البيان. ويؤكد ذلك، الربطُ بين ترتيب الجمل داخل الآية، وترتيب وجود مدلولاتها في واقعي الغيب والشهادة؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرك لسانه عجلة بالقرآن، أنبأه الله عز وجل بأنه قد تعهد بحفظه جمعاً وقراءة، ثم طلب منه الاستماع والإنصات إلى تلاوة جبريل بدقة وتركيز شديدين، عبرت عنهما الآية باتباع القراءة، وعقِب ذلك نصَّ على اتساع دائرة الحفظ، لتشمل ما لأجله تحرك اللسان عجلة بالقرآن، وهو هاجس التبليغ، فطمأنه بأنه قد تكفل بالبيان، أي بإبراز النص وإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة من خلال تأمين تلفظ النبي به. وبذلك تكون غاية الآية هي تسليط الضوء على مطابقة الملفوظ للمحفوظ، وهو ما فطن إليه ابن عباس رضي الله عنه فربط بينها وبين مآلها ومصداقها الخارجي فقال: "فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله."

ثم إن دلالة البيان على التفسير في هذا المقام أمر مستبعد لسببين؛ أحدهما انعدام المناسبة بينه وبين القضية التي جاءت الآية لعلاجها كما تبين قبل، والثاني أن صرفه إلى ذلك المعنى، يفضي إلى التلويح بانخرام واحدة من أهم حلقات التلقي وانفراطها عن عقد الحفظ، ومن ثم التشكيك في صحة النقل النبوي للنص القرآني، واحتمال تطرق النسبية البشرية إليه، هذا في حين لا يعقل أن يتم النص على حفظ التفسير وتعهد الله به، دون أن يكون سياق الآية محله، ويُسكت عن بيان حظ الأداء والتبليغ من الحفظ في موضع الحاجة إلى بيانه؟

ثم إن تحديد الجهة القائمة على تفسير القرآن بالقرآن، يستدعي استحضار ملحظ آخر، يفضي اعتباره إلى معالجة المسألة من زاوية مختلفة للنظر، فيما إذا كان المفسر في هذا النوع من التفسير، هو المفسر البشري، أو النص القرآني الناطق عن القصد الإلهي. ويتمثل هذا الملحظ في خصوصية القرآن الكريم، وفي أنه كما قال علي كرم الله وجهه: "خط مسطور لا ينطق وإنما يتكلم به الرجال." ومعلوم أن ما كان هذا شأنه، فلا سبيل إلى استنطاقه، أو الجزم بأن كذا هو عين مراده، لأن ذلك يتضمن نطق المتكلم، ببيان كلامه بعد التكلم به، وهو أمر لم يقع بالنسبة للقرآن الكريم؛ إذ القرآن "كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان للوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار، فإن الإنسان يمكن علمه بمراد المتكلم بأن يسمع منه أو يسمع ممن سمع منه. أما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم، إلا بأن يسمع من الرسول عليه السلام، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل." يتبين إذن أن الوصول إلى قصد الله بالسماع منه. أمر متعذر، لأن الله عز وجل غير مدرَك حسياً ولا ظاهر ماديا، ولأن وساطة الرسول صلى الله عليه وسلم قد انتهت بوفاته. واستنادا إلى هذا الواقع، يصعب أن ينسب المعنى المتوصل إليه عبر تفسير القرآن بالقرآن إلى القرآن أو إلى الله عز وجل، خاصة إذا كان ذلك التفسير، مفتقراً إلى الوساطة النبوية التي فُوض إليها وحدها نقل كلام الله.

ومن هنا نخلص إلى أن تفسير القرآن بالقرآن، عمل يقوم به المفسر البشري، يعتمد فيه القرآنَ مصدراً لاستقاء المادة التفسيرية، وهو ما تدل عليه المقاربة اللغوية للفظة "تفسير القرآن بالقرآن"، من خلال المحددين التاليين:

- المحدد الأول: وهو دلالة التغيير الذي تدخله الصيغة الصرفية على بنية الجملة، على اعتبار أن التصريف يجعل الكلمة على صيغ مختلفة لضروب من المعاني. ويتعلق الأمر هنا بالفعل "فسَّر"، لأنه الأصل الذي اشتقت منه كلمة "تفسير". وقد صيغ هذا الفعل على وزن فعَّل، الذي يفيد أغراضاً كثيرة، يهمنا منها هنا دلالته على التعدية، وفي ذلك يقول صاحب المفصل: "فعَّل يواخي أفعل في التعدية نحو: فرّحته وغرّمته ومنه خطأته وفسّقته (...) وفي السلب نحو فزّعته وقذّيت عينه وجلّدت البعير وقرّدته أي أزلت الفزع والقذى والقراد" ، وعن أفعل يقول هي "للتعدية في الأكثر" ، فدل ذلك على أن فعَّل تحمل أيضا معنى التعدية في الأكثر. وكون فسَّر فعلاً متعدياً، يقتضي وجود فاعل ومفعول به معمولين له يسهم تحديدهما في تعيين الجهة المسؤولة عن التفسير. وبالنظر إلى الإمكانات التي يتيحها التركيب، نجد أنفسنا مبدئيا أمام احتمالين اثنين؛ أحدهما أن يكون أصل الجملة "فسّر القرآنُ القرآنَ"، والثاني أن يكون أصلها "فسر المفسرُ القرآنَ بالقرآن" بتقدير فاعل غير بارز في السياق هو "المفسِّر". ويقتضي الترجيح بين هذين الأصلين المفترضين استجلاب معطيات إضافية، وهو ما يكفله المحدد الثاني.

- المحدد الثاني: دلالة حروف المعاني؛ إذ بحسب الحرف الذي وُظف يترجح أحد الاحتمالين. ولما كان حرف الباء هو المستعمل في هذا التركيب "تفسير القرآن بالقرآن"، تبين أن تقدير "المفسِّر" فاعلاً مضمراً أصح وأولى بالاعتبار؛ إذ لو كان القرآن هو الفاعل، للزم أن نقول "تفسير القرآن للقرآن" بدلاً من تفسير القرآن بالقرآن. ومن هذا المنطلق يكون أصل الجملة هو "فسّر المفسّر القرآنَ بالقرآن"، وهذا يدل على وجود علاقة عاملية بين الفعل، ومصحوب حرف الباء، أي القرآن. وبوجود هذه العلاقة، تؤدي الباء معنى الاستعانة نحو (كتبت بالقلم)، فيكون المفسر هو المسؤول عن عملية التفسير، ويكون القرآن مصدراً مستعاناً به، لاستمداد ذلك التفسير.

تفسير القرآن بالقرآن بين المطابقة والتوسع: أول ما يلفت الانتباه، بعد تبين المراد بتفسير القرآن بالقرآن ومصدرِه والجهةِ المسؤولة عنه، أسئلة تبحث في مقدار التفسير الذي يدخل في هذا المسمى كالآتي: هل كل ما قيل إنه تفسير للقرآن بالقرآن، يراد به وقوع البيان عن شيء في الآية بآية أخرى، أم أن المصطلح أوسع من ذلك، بحيث يضم كل أشكال الربط بين الآيات؟ وما معيار التفريق بين ما هو من تفسير القرآن بالقرآن وما ليس كذلك؟ وما أسباب الاختلاف في تحديد ذلك المعيار بين موسع ومضيق؟

إن الربط بين الآيات لا يُعدّ كله من تفسير القرآن بالقرآن بالمعنى المطابق، خاصة إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى تجليه، ولم يتوافر في الآية المفسَّرة شرط حصول الإشكال وفي الآية المفسِّرة شرط رفع الإشكال. ففي هذه الحالة يكون الربط محض توسع في ما يمكن أن يشمل تفسير القرآن بالقرآن، وهو توسع تندرج ضمنه كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها مثلا. وعلى هذا الأساس يمكن القول إن العلاقة التي تربط الآيات فيما بينها، علاقة متفاوتة بتفاوت حاجة الآيات المفسَّرة إلى البيان، فمنها ما لا يمكن الوقوف على المراد منه، إلا بعد ربطه بآيات أخرى تجليه، وفي هذه الحالة يرتبط الجميع بعلاقة تفسيرية وطيدة ومباشرة، بحيث لا يمكن فهم بعض النصوص بمعزل عن بعضها الآخر، أي دون الكشف عن هذه العلاقة. ومنها ما يمكن فهمه دون رده إلى غيره، وفي هذه الحالة لا يكون في الآية غامض يحتاج إلى إيضاح، ويكون استحضار المفسّر للآيات الأخرى، من قبيل إيراد ما له علاقة بالموضوع نفسه، مما يعد توسعاً في التفسير.

والخلاف حول إدراج التوسع في الربط بين الآيات، ضمن تفسير القرآن بالقرآن، مبني على الاختلاف في مفهوم التفسير، هل يختص بالإيضاح الذي يسبقه إشكال، أم يشمل كل إيضاح سواء تقدمه إشكال أم لا؟

فمن زاوية النظر الأولى، يتعامل التفسير مع الألفاظ – كلمات كانت أو عبارات- التي يلفها الغموض، ويحول دون فهمها الكامل الدقيق، وتتمثل مهمته في الوصول إلى الفهم التام، من خلال التوسل بجملة من القواعد التي تعين على إجلاء غوامض النص. ويمكن أن نلمس حضور هذه النظرة، في مجموعة من التعريفات، التي تلتقي في اشتراط خفاء المعنى، واعتبار الإيضاح الذي يأتي بعده، هو الذي يصدق عليه اسم التفسير. ومن ذلك ما أورده أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية من أن "التفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ، نحو البحيرة والسائبة والوصيلة، أو في وجيز يتبين بشرح نحو: ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ (المزمل:20)، أو في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها كقوله تعالى: ﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ (التوبة:37)" فجعل التفسير مشتملا على إيضاح الغريب، وتفصيل المجمل، وبيان مناسبات الآيات وقصصها، التي لا يمكن إدراك المعنى بمعزل عنها.

أما الزركشي فقد عدّ التفسير وثيق الصلة بالكشف والإظهار، وبيّن أنه يدل في الأصل على "كشف المغلق من المراد بلفظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم به." وبذلك يكون من فسّر آية، فكأنما أطلق معناها السجين في ألفاظها ليصير إلى السامع. ويفيد هذا الكلام أن التفسير يشتغل على كل ما أشكل فهمه من ألفاظ، وهو ما عبر عنه الزركشي بالمغلق والمحتبس عن الفهم، ويروم رفع ما به من خلال الكشف عن المعنى وإظهاره. وذهب أبو البقاء الكفوي المذهب نفسه في بعض التعريفات التي ساقها في الكليات؛ إذ قال: "التفسير: الاستبانة والكشف والعبارة عن الشيء بلفظ أسهل وأيسر من لفظ الأصل." وقال أيضا: "التفسير هو أن يكون في الكلام لبس وخفاء، فيؤتي بما يزيله ويفسره." فبحسب التعريف الأول، يكون الأصل المراد تفسيره صعباً ممتنعاً، ومستعصياً عن الفهم، ويؤتى بالتفسير بغرض التسهيل والتبسيط وتيسير الفهم. ولا يخرج التعريف الثاني عن هذا الإطار؛ إذ صرح باختصاص التفسير واتجاهه إلى الكلام الخفي والملتبس دون غيره، ثم أوكل إليه مهمة بيان ذلك الكلام ورفع اللبس والخفاء عنه.

وإلى جانب هذا الاتجاه، يوجد اتجاه آخر، لا يحصر التفسير في رفعِ ما يلحق الكلام، من إشكال وتفصيلِ ما يطاله من إجمال، إنما يوسع دائرته، لتشمل كل إخراج من مقام الخفاء إلى مقام التجلي، سواء تعلق الخفاء بالنص، أو تولد عن عنصر خارجي؛ كأن يتخذ شكل إشكال، يود المفسّر علاجه من خلال القرآن الكريم، أو يتخذ شكل قضية، يروم استجماع عنصرها منه، والكشف عن صورتها فيه. ومن هذا المنطلق تكون مهمة التفسير هي بيان معاني القرآن، بغض النظر عن ظهورها أو خفائها في ذاتها. وممن نحا هذا المنحى من المتقدمين، الأصبهاني حين قال: "اعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره." فهو انطلق مما هو معروف ومتداول بين العلماء، من دلالة التفسير على كشف المعاني، وأصَّل لتوسيع المفهوم وتعميمه على نحو يشمل كل بيان للمراد، سواء كان خفيا أم لا. وبهذا الموجب، لا يتجه الكشف إلى الألفاظ المشكلة وغيرها، مما هو على شاكلتها فحسب، وإنما يتناول اللفظ في سائر أحواله. وبذلك، يصير التفسير دالا على مطلق إيصال المعنى المراد إلى المتلقي. ويقدم الطاهر بن عاشور تعريفاً للتفسير، يصب في هذا السياق أيضاً يقول فيه: "التفسير (...) اسم للعِلْم الباحث عن بيان معاني ألفاظ القرآن، وما يستفاد منها باختصار أو توسع. (...) وموضوع التفسير: ألفاظ القرآن من حيث البحث عن معانيه، وما يستنبط منه (...) [فهو] تفسير ألفاظ أو استنباط معان. فأما تفسير الألفاظ فهو من قبيل التعريف اللفظي، وأما الاستنباط فمن دلالة الالتزام." ويتضمن هذا التعريف ثلاث إشارات تدل على توسيع مفهوم التفسير:

- الإشارة الأولى: أن التفسير بيان لمعاني ألفاظ القرآن الكريم على الإطلاق؛ إذ عدم تقييد الألفاظ القرآنية بوصف من الأوصاف، يجعلها شاملة تتناول القرآن الكريم برمته، مما يفيد أن التفسير يسع اللفظ المشكل وغيره من جهة، وأنه من جهة أخرى يهتم بالمعاني وكيفية دلالة الألفاظ عليها.

- الإشارة الثانية: أن التفسير أيضاً، استنباط معان باعتماد دلالة الالتزام، فهو لا يقتصر على استخراج معاني الآيات فقط، وإنما يمتد إلى استخلاص لازم معانيها أيضاً، على اعتبار أن دلالة الالتزام، هي دلالة الكلام على معنى لازمٍ للمعنى الذي سيق الكلام لإفادته. والبحث عن لازم المعنى، يعدّ من التوسع في التفسير.

- الإشارة الثالثة: أن التفسير بيان للمعاني ولوازمها باختصار أو توسع. ومع أن التوسع ورد هنا في مقابل الاختصار، فدلّ، من ثَمَّ على الإسهاب، إلا أنه يدل أيضا على ما نحن بصدده؛ لأن التوسع، أياً كانت صورته، فهو مظنة الخروج عن حد المطابقة.

ويظهر من مقارنة الاتجاهين أن الاتجاه الثاني، القائل بالتوسع أولى بالاعتبار، خاصة أن هناك عوائق معرفية تمنع من ترجيح سابقه؛ ومنها أن واقع الأعمال التفسيرية، يحول دون حصر التفسير في الإيضاح الذي يسبقه خفاء، فهو واقعٌ يقضي بنسبية الخفاء في حد ذاته، وبالارتفاع المستمر لنسبة النصوص التي تستعصي على فهم المتلقي. ويتحكم في ذلك تفاوت مَلَكات المتلقين اللغوية، ومدى معرفتهم بمعهود القرآن في استعمال الألفاظ. وتنتج عن هذا الواقع حركة دائبة للحدود الفاصلة، بين ما يحتاج إلى تفسير، وما هو في غِنىً عنه. وبموجب هذه الحركة تصير رقعة التفسير أكثر امتداداً، مما كانت عليه قبل حدوث الخفاء، ويؤول التفسير إلى التوسع على حساب المطابقة. ومن ذلك أيضا أن تضييق دائرة التفسير يتعارض مع قصد الإفهام. وفَهْمٍ يحظى بالدقة، ويرقى إلى مستوى الفقه، وينسجم مع قصد الله تعالى، لابد أن يستند إلى معرفة تحليلية تتناول القرآن كله، وهي معرفة يتيحها التوسع في التفسير، ولا يسعف فيها تضييق دائرته. وبهذا الموجب، فالتوسع أقرب إلى قصد الإفهام، لأنه مظنة تحقيق فهم المتلقين لكلام الله برمته، رغم تعددهم واختلاف مشاربهم وتفاوت سقوفهم المعرفية.

تفسير القرآن بالقرآن بين التوقيف والاجتهاد: يستمد كل تفسير حجيته من معطيين اثنين؛ من المصدر المستقى منه والجهة المسؤولة عنه. فكلما كان المصدر موثوقاً به، وكانت الجهة (أي المفسِّر) تتمتع بقدر كبير من العلم، وحظ وافر من التجرد والموضوعية، كان التفسير أحرى بالقبول.

علاقة المصدر بالحجية: يجدر التنبيه بداية إلى أن القرآن هو المصدر الذي يستمد منه تفسير القرآن بالقرآن، لأن التقييد بعبارة "بالقرآن" في هذا المقام، جاء للدلالة على أن المقصود هو التفسير، الذي يكون استمداده محصوراً في كتاب الله تعالى وحده، وبذلك تُستثنى بقية المصادر الأخرى، لأنها غير مقصودة بهذه الدراسة. والمراد بالمصادر تحديداً؛ تلك المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره لكتاب الله، كالقرآن والسنة وغيرهما. ويعد القرآن حجة في التفسير، لأنه أقوى المصادر التفسيرية على الإطلاق، وهي قوة يكتسبها من جهتي النقل والنظم. فباعتبار الجهة الأولى، تنبع قوته من قوة سنده وصحة نقله عن المتكلم به، فهو نص قطعي الثبوت، تكفل الله تعالى بحفظه، واعتنت به الأمة الإسلامية عناية فائقة، فحفظته حفظ صَدْرٍ وسطر، مستشعرة أنه النص المقدس الذي يضمن ببقائه بقاء الشريعة والأمة ويحفظ وجودها واستمرارها. وباعتبار الجهة الثانية، تنبع قوته المصدرية من وحدة النظم واتحاد النسق، وبذلك ينتمي كل من المفسَّر والمفسَّر به إلى لغة واحدة هي لغة الوحي، ويتحقق انسجامهما الدلالي. ومبدئيا تساعد المقابلة بين النصوص المنتمية إلى اللغة نفسها، على الاقتراب من معهود استعمال المتكلم لعناصر الخطاب، والإقنتاع بصحة التفسير المتوصل إليه.

علاقة المفسر بالحجية: يتم الوصول إلى التفسير من أحد طريقين، طريق النقل أو طريق الاستدلال، وقد اصطلح على تسمية الأول تفسيراً بالمأثور، وتسمية الثاني تفسيراً بالرأي. وتصنيف "تفسير القرآن بالقرآن" ضمن أحدهما، يكون بالنظر إلى القائل بهذا التفسير أولاً، وكيفية توصله إليه، لا بالنظر إلى طريقة وصوله إلى من بعد القائل، التي هي طريق الأثر بطبيعة الحال. ومن هذا المنطلق يُنسب تفسير القرآن بالقرآن، إلى من فسّر به أول الأمر، لأنه هو الذي عمل على الربط بين الآيات، فجعل بعضها تفسيرا لبعضها الآخر، وفي ذلك دلالة واضحة على أن طريق الوصول إلى هذا النوع من التفسير هو الاستنباط. ولما كان الأمر كذلك، تبين أن حجية القرآن الكريم، لا تستلزم دائما حجية التفسير المعتمد عليه، ذلك أن الحسم في هذه المسألة يقتضي استحضار دور المفسِّر، ومدى تدخله في الربط بين الآيات؛ إذ بحسب مقامه في العلم، ونزاهته في الفهم، يكون حال تفسيره قبولاً وإلزاماً أو رداً وإهمالاً. وتبنى على هذه المسألة قضيتان:

القضية الأولى: لا يلزم قبول كل قول، يرى أن آية ما تفسر آية أخرى، نظراً لما قد يعتريه من خطأ في الربط بين الآيات. وذلك لأن تفسير القرآن بالقرآن يدل على جهد ذاتي، والمفسِّر حين يردّ آية إلى آية، أو لفظة في آية إلى لفظة في آية أخرى، فهو يقوم بعملية ذهنية ذاتية واضحة، تتطلب قبل كل شيء، تتبعاً لنصوص القرآن في الذهن، كما تتطلب مهارة وفهما، أي أن عملية التفسير بالقرآن عملية مقارنة، يقوم الممارس لها من المفسرين بدور المقارن، حتى يفضي به ذلك إلى تحديد المعنى. وبالنظر إلى طبيعة هذه العملية، فإن المفسِّر قد يقع في بعض المنزلقات المنهجية، سواء على مستوى تتبع النصوص القرآنية، أو على مستوى فهمها، أو على مستوى المقارنة بينها لتحديد المعنى. ومن جهة أخرى، فإن المفسر قد يتأثر بقبلياته المعرفية؛ إذ يبدو في الظاهر، أن المعنى الموضوعي قد انتقل من النصوص – المفسَّرة والمفسِّرة - إلى الذهن، في حين أن المعنى الذاتي، هو الذي انتقل من الشعور إلى النصوص، فتم إسقاطه عليها دون أن يفطن المفسِّر إلى ذلك. ومن هذا المنظور، لا ينبغي إغفال دور الافتراضات والمعلومات القبلية، لأن الحكم على التفسير يُعدّ عملاً عقيماً من دون الحكم على مقدماته.

القضية الثانية: من اللازم ملاحظة المكانة العلمية التي يحظى بها المفسِّر نظراً لدورها في تحديد الحجية؛ فإذا جاء التفسير بالقرآن عن مفسر معتمد، فهو دليل علو مكانة ذلك التفسير. وعليه فورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي عليه السلام أبلغ، لأن ما صح مما ورد عنه، ملزم ومَحَلّهُ القبول، وقبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن فحسب، بل لأن المفسر هو النبي بوصفه أعلم عباد الله بكتاب الله على الإطلاق. وبارتباط مع هذا الملحظ، وجب تقديم التفسير الثابت عنه على الثابت عن غيره، "فإن ما كان من التفسير ثابتاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان المصير إليه متعيناً، وتقديمه متحتماً (...) فهو واجب التقديم له، متحتم الأخذ به." واستنادا إلى هذا المعطى عدّ الزركشي النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أول أمهات مآخذ التفسير، ويدخل في هذه الأفضلية، تفسير القرآن بالقرآن الثابت عنه عليه السلام. أما تفسير القرآن بالقرآن الصادر عمن دونه، فهو اجتهاد من صاحبه، قابل للصواب والخطأ بحسب التزامه المنهجي. فكلما استطاع المفسر أن ينفض عن ذهنه أي تصور قبلي، ويدخل إلى عالم القرآن، بغير مقررات تصورية عقلية أو شعورية سابقة، ويلتزم المنهج النبوي في الربط بين الآيات ما أمكن، حظي عمله بالقبول. وإذا كان تفسير القرآن بالقرآن رأياً واجتهاداً من غير أصل فحسب، فهو محض تلفيق بين النصوص، مرفوض بنص القرآن نفسه، وذلك في قوله تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ (الأعراف، 33) وقد جمعه الله تعالى بالفواحش والإثم والبغي والشرك في مقام واحد، وهو أبلغ في الدلالة على حرمته. ويدخل في هذا النطاق التفاسير التي وجهتها الأهواء، فصار معها جهد المفسر تبريرياً يُتخذ فيه القرآن سنداً لرأي قد اعتُقد سلفاً، دون اهتمام بالسياق العام للنص.

ثانياً: منهج تفسير القرآن بالقرآن:

إن القدر المجزوم بصحته من تفسير القرآن بالقرآن خصوصا، ومن التفسير على وجه العموم، هو الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما ما عداه، فتعددت مواقف الدارسين منه، بين مانع ومجيز ومتوسط بينهما. فالمانع حرص على مصداقية التفسير، فحصر المقبول منه في المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمجيز يمم وجهه صوب تعميم الفهم، وجعل إدراك مراد كلام الله حقاً مشروعا لسائر متلقيه. أما المتوسط ففطن إلى ضرورة ضبط التعامل مع النص، ونصَّ على مجموعة من الشروط والأدوات، ونصبها معايير للقبول والرد، واحتكم إليها لحسم الخلاف. والتفسير المعتبر هو الذي تتوافر فيه سائر هذه المقومات، فهو الذي يلتزم بضوابط تضمن عدم خروجه عن المعاني التي يقبلها النص، وهو الذي يوافق مراد الله عز وجل ما أمكن، كما أنه ذاك الذي ييسر للمتلقين، أمر التعامل مع القرآن الكريم، ويمكنهم من استيعابه تمهيداً للاهتداء به.

ولكي يرقى المفسر بعمله إلى هذا المستوى، لابد له من الاعتماد على المنهج، بصفته إطاراً يضمن اضطلاع التفسير بهذه الوظائف. ولا يخرج تفسير القرآن بالقرآن عن هذه القاعدة؛ إذ يحتاج فهم القرآن من خلال القرآن نفسه إلى المنهج الذي يرقى إلى مقام تحليل الخطاب الإلهي، ويمكن من معرفة الطريقة التي تتوزع بها الألفاظ، ويساعد على إدراك العلاقات التي تربط بينها في إطار النظم القرآني، ويُبِين عن مدى تأثيرها في حركة الخطاب، ويكشف عن وجه دلالتها على القصد الإلهي. ويقتضي الحديث عن منهج تفسير القرآن بالقرآن اعتمادَ مدخلين؛ أحدهما معرفي، يتناول التعريف بهذا المنهج وبأهميته، والثاني إجرائي، يعرفنا على الأصول النظرية للأدوات الإجرائية التي يوظفها المنهج وعلى طريقة اشتغالها.

1. المدخل المعرفي:

تعريف منهج تفسير القرآن بالقرآن:

اشتقت كلمة "منهج" من الجذر (ن.ﻫ.ج). و"نهَج" أبان وأوضح، وأنهج وضح واستبان، والمنهج والمنهاج كالنهج في الدلالة على البيان والوضوح. والطريقة الناهجة أي الواضحة، ومنه قول العباس "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترككم على طريقة ناهجة". و"نهِج" نهجاً تواتر نفسه من شدة الحركة، وفي حديث عائشة "فأخذت بيدي حتى أوقفتني على باب الدار وإني لأنهج" . ولم يرد في القرآن لفظ المنهج، وإنما ورد لفظ المنهاج بمعنى يوافقه في النتيجة، وذلك في قوله: ﴿لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا﴾ (المائدة، 48) أي طريقة واضحة في الدين .

من هذا المنطلق يمكن القول إن الألفاظ المركبة من مادة (ن.هـ.ج)، كالنهج والمنهج والمنهاج والمنهجية والمنهاجية، ترد في اللغة بمعنى واحد ، وتشترك في الإشارة إلى الطريق المستقيم الواضح، الموصل إلى الغاية بسهولة ويسر، وهي صفات تضفي على المنهج طابع الدقة والوثوق. وتتضمن هذه الألفاظ أيضاً معنى الإسراع في السير في الطريق لوضوحه، أو في إنجاز العمل لوضوح طريقته. وقد حضرت هذه المعاني، أو بعضها، في التعريفات الاصطلاحية المتداولة عن المنهج، ومن ذلك أنه: "طريقة يصل بها إنسان إلى حقيقة" ، وأنه "إجراء يُستخدم في بلوغ غاية محدّدة" ، وأنه "الترتيب الصائب للعمليات العقلية التي نقوم بها بصدد الكشف عن الحقيقة، والبرهنة عليها."

وبذلك يكون المنهج "طرقة التفكير والإجراءات التي يتبعها الباحث، بهدف الكشف عن الحقيقة في مجال معرفي معين، والتي تحكم سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل بيسر ووضوح إلى نتيجة معينة." ومن هذا التعريف يتبين لنا:

- أن المنهج هو الطريق الموصل إلى المقصد، ومصدر الوعي الحقيقي بالموضوع المدروس. ويستتبع العلم به معرفة الطريق، وكيف أفضت إلى النتيجة المتوصل إليها، فهدفه ليس الوصول فحسب، بل تأمين الوصول أيضا. ولما كان الوصول إلى الشيء يتم عند نهاية طريقه، كان اتباع المنهج ضرورياً في كافة مراحل البحث، ومن دونه يظل الطريق مفتوحا على آلاف الافتراضات.

- أن المنهج لا يرتكز على الميل والذوق الشخصيين، ولا يحيل على البديهيات والمسلمات التي تلتقي عندها العقول والطبائع، لأن ما كان هذا شأنه، لا يصلح أن يصف طريقة تفكير الفئات المختلفة من الناس، وطريقة فهمهم لمصادر المعرفة وتعاملهم معها، من أجل استنباط الأحكام أو تحديد قواعد السلوك، كما أنه لا يكفل نتيجة علمية دقيقة وموضوعية.

- أن المنهج وسيلة للإثبات والاستدلال على المعرفة، مما يجعله مقياسا يتيح للباحثين عملية التقييم والمعالجة. وبه تحاكم الأعمال العلمية ونتائجها المعرفية، مما يكفل الاطلاع على الأهداف ووسائل تحقيقها، ومدى الانسجام أو المجافاة بينها، ومشروعية وصلاحية الوسائل المعتمدة للوصول إلى الأهداف المرجوة.

ولكل حقل معرفي منهجه الذي تحدده طبيعة المادة المدروسة، ولكل فرع علمي منهجه الأخص الذي تحدده خصوصية موضوعه، فللتفسير منهج يميزه عن سائر العلوم ولتفسير القرآن بالقرآن، منهج يستقل به عن باقي أنواع التفسير. وباستصحاب التعريف العام للمنهج إلى مجال التفسير، يمكن القول إن منهج التفسير هو الطريقة التي يتعامل بها المفسر مع القرآن، والإجراءات التي يتبعها، ليكشف عن معاني آياته، ويتمكنَ من الوصول إلى مراد الله من كلامه. فالمنهج إذن هو الذي يضبط مسيرة التفسير ويوجهها، ويحدد مدى صلاحيته للتعبير عن لغة القرآن، وترجمة أهدافه ومقاصده. فالتفسير بطبيعته، عمل قابل للتنوع والاختلاف. وتقديم تفسيرات متعددة لآية واحدة، أمر ممكن عقلاً وموجود فعلاً، خاصة إذا علمنا أن التحولات التي يعرفها هذا المجال، تخضع لتجدد متلقيي القرآن الكريم، وتغير أحوالهم، وسعة أو ضيق معارفهم، وتنوع احتياجاتهم؛ فكل يتجه إلى كتاب الله، وفي جعبته آلاف الأسئلة التي ينتظر إجابة عنها، وكلٌّ يتوصل إلى نتائج بحسب المؤهلات التي تخول له ذلك. وحيال هذا الوضع، الذي يفرض تعدد الأجوبة بتعدد المستفسرين، تثار أحياناً مجموعة من الأسئلة من قبيل: هل يمكن التوفيق بين التفسيرات المتعددة؟ وإذا كان الأمر ممكناً فما الذي يسعنا استخدامه لتحقيق ذلك؟ وعلى أي أساس تختلف التفاسير؟ ثم كيف للمتلقين أن يفهموا النص؟ إن المنهج هو الذي يجيب عن هذه الأسئلة ويحل إشكالاتها، فهو الذي يقنن عملية التفسير، ويضفي عليها صبغة العلمية والإقناع، وهو الذي يمكن من وصل النتائج بأصولها ومنطلقاتها، وتبرير الصحيح منها والاستدلال عليه، وبيان الأسباب المؤدية إليه، ورد الفاسد منها بعد كشف عُواره، تمهيداً لتضييق دائرة الخلاف.

ولكل منهج تفسيري منطق يناسب مصدر استمداده، فللتفسير المعتمد على اللغة منهجه الذي يميزه عن التفسير المعتمد على الذوق، وهكذا دواليك. وإذا علمنا أن منهج تفسير القرآن بالقرآن، هو طريقة في التفسير تعتمد القرآن مصدراً وحيداً لاستمداد المادة المفسِّرة، أمكن تحديد خصوصياته في ما يلي:

- إن التعامل مع سائر مصادر التفسير يبدأ عبر النظر في مصداقيتها، ومناقشة حجيتها، وإذا كانت تلك المصادر نصوصاً، فلا بد من توثيق أسانيدها، وتحقيق متونها، ومعرفة أصحابها، وبيئاتهم، وثقافتهم، وتاريخ حياتهم. وذلك ما يعفينا منه القرآن، لكونه وحياً منزلاً من الله تعالى، ولأنه حظي بحفظ وتوثيق لم يمسسه بفضلهما أدنى تبديل أو تحريف.

- إن التفسير عمل يعترف بإشكالية التعامل مع نَسَق. ولحل هذه الإشكالية، يقترح منهج تفسير القرآن بالقرآن، التعامل مع النسق من داخله، لأنه يعدّ ذلك أنجع وسائل الحفاظ على وحدته، وأمثل سبل النطق عن مراده. غير أن هذا الاقتراح لا يستلزم الوقوع في الدور لسببين اثنين؛ أولهما؛ أن الرجوع إلى النص يستهدف الاستيضاح والفهم وتكوين تصور معمق، ولا يقصد إثبات النص وتصديقه والاستدلال عليه من داخله. والثاني؛ أن هناك فرقاً بين الدور والآصرة المتبادلة، فالقرآن نصٌّ يتكون من سور وآيات وجمل ومفردات، أي أنه نصٌّ كلي يضم نصوصاً جزئية متلاحمة يبين بعضها بعضاً. وعليه فإن تفسير القرآن بالقرآن، يعني تفسير بعض هذه النصوص ببعضها الآخر، ولا يعني مطلقا تفسير النص موضوع الدراسة من داخله، وبذلك تنتفي شبهة الدور عن هذا المنهج.

- إن قضية التفسير تتضمن استبدال النص المفسَّر بالنص المفسِّر أثناء الفهم، ومغزى هذا الاستبدال يحتاج إلى وقفة قصيرة. فالنصَّان ينتميان عادة إلى مستويين لغويين مختلفين، وهذا يعني أنهما غير متساويين، مما يحول دون توازن طرفي المعادلة التفسيرية. غير أن المسافة بين الطرفين تضيق أو تكاد تنعدم، إذا انتمى النصان إلى نفس المصدر، وتم الربط بينهما على نحو منهجي، بعيداً عن التعسف والاعتباطية، وهذا ما يكفله منهج تفسير القرآن بالقرآن.

- إن منهج تفسير القرآن بالقرآن يختص بمجموعة من الأدوات الإجرائية، التي يستقل بها عن غيره من مناهج التفسير، ومن ذلك اختصاصه - على سبيل المثال - باعتماد كلّ من الضابطين: السياقي، والموضوعي، في الجمع بين الآيات وبيان بعضها ببعض. وهذا ما سيتناوله بعد قليل بشيء من التفصيل.

أهمية منهج تفسير القرآن بالقرآن

من الضروري الحرص على استقامة المنهج في مجال البحث العلمي؛ "إذ العلم –كما هو معلوم- ليس هو القناطير المقنطرة من المعلومات، يتم تكديسها وخزنها في أدمغة بني آدم، وإنما هو صفة تقوم بالشخص، نتيجة منهج معين في التعلم والتعليم، تجعله قادراً على علم ما لم يعلم. والعالِم ليس هو الذي يحمل في رأسه خزئين ومكتبات، ولكنه الذي يعرف كيف يوظف ما في رأسه، وما هو في الخزائن والمكتبات، من أجل إضافة بعض الإضافات. حقاً إنه لا بد من الاستيعاب أولاً –وهو جزء من المنهج- ولكن المهم هو ما بعد ذلك من تحليل وتعليل وتركيب."

ولما كان كتاب الله هو الدليل الهادي الذي يصلح به حال الإنسان ومآله، وكان تفسير القرآن بالقرآن فرعاً علمياً، يتناول بالدراسة كتاب الله عز وجل، كان التزام المنهج فيه بالغ الأهمية، لأنه القادر على ترشيد الوعي بالنص. فالمفسر حين يحاول نقل المعنى كما يدركه، فإنه لا يوفق دائما في مطابقة ما قصده المتكلم، لأن الاقتراب أو الابتعاد عن ذلك القصد، تحدده نتيجة التفاعل بين عنصرين اثنين، الأول؛ هو المدركات القبلية المستقرة في ذهن المفسر، وتتمثل عادة في مجموع المبادئ والقيم والمسبقات المعرفية والكفاءة اللغوية، والثاني؛ هو الأدوات الإجرائية التي يستخدمها، والعمليات العقلية التي يمارسها في سبيل استنطاق النص من داخله، وربط الآيات ببعضها، على نحو لا يجافي مقاصد القرآن.

وفيما يخص العنصر الأول، فإن المنهج هو المقترب الذي يجنب المفسِّر الشططَ والغلو والتخبط في الربط بين الآيات القرآنية؛ إذ يحول دون الجمع بين الآيات، على نحو مستهتر يخضع للرأي الصوري أو الذوقي الصرف، كما يمنع من تدخل القبليات التي لا تتناسب بتاتاً مع أهداف النص ومقاصده، ويعمل على تضبيط المقبول منها، في حدود صائنة من التعدي على روح النص وفضائه العام. وهذا ما يكفل للمتلقين تفسيراً منهجياً بديلاً عن التفسير المذهبي، الذي تتضخم فيه قناعات المفسر المسبقة، لتتحكم في النتائج المحصل عليها، وتدفعَ بالعمل التفسيري كي يقود إليها. ويحقق المنهج هذه الإنجازات، من خلال ترجيح كفة العنصر الثاني وتغليبه أثناء البحث، فيفرض على المفسر التزود بالعدة التي تتيح له الفهم الدقيق للنصوص، والربط الصحيح بينها، ويفرض عليه استعمال أدوات تنتمي إلى حقل الدراسة المنهجية، حتى يتمكن من العثور على إجابات حقيقية، حيال الأسئلة المطروحة على الوحي.

وتزداد أهمية اتباع المنهج لكونه الأقدر على تحقيق هدف تفسير القرآن بالقرآن، والمتمثل في ضمان مطابقة القصد الإلهي. ومن شأن هذا الهدف إذا تحقق، أن ييسر فقه كلام الله على حقيقته، وتثوير النصّ، وتفجير طاقاته في مواجهة الزمان المتغيّر، والمثقل بالوقائع والمستجدات. ومن هذا المنطلق، فإصابة المنهج في تفسير القرآن بالقرآن، تمكن من قراءة الواقع بالنص، وفهم حركته، تمهيداً للتأثير فيه،و تمكننا كذلك من تفعيل الدور التفسيري للقرآن في علاقته بالكون.

2. المدخل الإجرائي:

تأصيل الأدوات الإجرائية:

إن تعيين المعنى الذي يدل عليه القول بدقة، لا يتحقق بمعزل عن مقاصد البَاثّ. والتعرف على هذه المقاصد يعتمد على سبيلين؛ أحدهما استفسار المتكلم مباشرة عند حضوره، والثاني رد بعض كلامه إلى بعض عند غيابه. ولما كان القرآن الكريم كلاماً كان هذان السبيلان، أولى الوسائل بالاعتبار عند إرادة التعرف على مراد الله، واتباعهما أمثل طرق تفسير القرآن بالقرآن.

وقد تحقق السبيل الأول تاريخياً، عبر الاتصال المباشر الذي يؤمنه الوحي، واتخذ شكلين نتج كلٌّ منهما عن صور إشكال المعنى على المتلقين؛ إذ يتمثل الشكل الأول في بعض حالات النزول التدريجي لآيات القرآن، التي نذكر منها ما رواه أنس رضي الله عنه، عندما نزل تحريم الخمر: "فقال بعض القوم: قُتل قوم وهي في بطونهم، قال: فأنزل الله ﴿ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات.﴾ (المائدة:93)" أما الشكل الثاني فتمثله حالات الربط النبوي بين الآي، ومنها قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لما نزلت: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ (الأنعام:82) قلنا: يا رسول الله أيّنا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون. ﴿لم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾: بشرك، أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: ﴿يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.﴾ (لقمان:13)"

أما السبيل الثاني؛ فيضم حالات الاستفسار حين لا يغيب الباث غياباً مادياً فحسب، بل يستحيل كل اتصال مباشر به تبعاً لختم النبوة. وهذا أحد وجوه عسر التفسير التي صورها الزركشي، فعدّ القرآن "كلام متكلم لم يصل الناس إلى مراده بالسماع منه، ولا إمكان للوصول إليه، بخلاف الأمثال والأشعار، فإن الإنسان يمكن علمه بمراد المتكلم، بأن يسمع منه أو يسمع ممن سمع منه. أما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول عليه السلام، وذلك متعذر إلا في آيات قلائل." فعدم تحديد المتكلم لمعاني كلامه إزاء حالات الاستفسار المتجددة، يعوق تحديد المعنى المقصود، ويحول دون القطع به، فيغيب المعنى ويتعذر إدراكه.

وهذا مأزق دلالي لا خلاص منه إلا باعتماد مدخلين منهجيين؛ أولهما رد بعض الكلام إلى بعض قدر الإمكان، خاصة إذا وردت مؤشرات تشعر بقصد المتكلم إليه، وهو قصد يثبت بالنظر إلى المواضع التي وظف فيها الإحالة. وهذا الرد تسعف فيه مظان كثيرة، منها إحالة الله تعالى في النص المجمل المحتاج إلى تفسير، على نص آخر ورد فيه التفصيل كقوله تعالى: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل﴾ (النحل، 118)؛ إذ حرم عليهم أموراً لم يبينها هنا، ولكنه أحال على تفصيلها الوارد في سورة أخرى، فتحتم الرجوع إليه وحمل الكلام عليه، وهو قوله تعالى: ﴿وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون.﴾ (الأنعام:146)

أما المدخل الثاني فيقوم على الاستصحاب المنهجي لحالات البيان السابقة، فهو انتقال من الجزء (النموذج التفسيري) إلى الكل (القاعدة التفسيرية)، ويتم من خلال الوقوف على أوجه الربط بين الآية المفسِّرة والآية المفسَّرة، لاستخلاص الضوابط التي حكمت هذا الربط وتعديتها إلى غيرها، ومن ثم تأسيس قواعد تفك الإشكالات المستجدة. ومثاله ما جاء في بيان قوله تعالى: ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ (الأنعام، 82) إذ ربطه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم﴾ (لقمان، 13) مبينا أن المراد بالظلم هنا هو الشرك. بينما ذكر علي رضي الله عنه، أن الآية نزلت في إبراهيم عليه السلام وأصحابه فربطها بسياقها. فبالنسبة للحالة الأولى، نبّه الربط النبوي إلى ضابط مهم، هو الوحدة الموضوعية، أي الضابط الذي يراعي الملحظ التكاملي بين النصوص، فيجمع ما كان منها ذا صلة بالموضوع في مقام واحد. وقد جمع هنا نصين، أولهما موضع استفسار، والثاني مفتاح تفسير، والقاسم المشترك بينهما هو الحديث عن "الظلم". وبالتدقيق في الحديث، يبدو أن مثار الإشكال في قوله تعالى: ﴿ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ (الأنعام:82) هو تقرير الآية لحكم شرعي بلفظ عام، وسبب العموم مجيء النكرة في سياق النفي، فكان ذلك مظنة لأن يفهم منه العموم في كل ظلم، دقّ أو جلّ، ولأجل هذا سأل الصحابة ليتبينوا أي أنواع الظلم أراد الله في الآية. فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ﴿يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم،﴾ (لقمان:13) دلالة منه على أن المراد بالظلم في آية الأنعام، هو الشرك بالله تعالى. وعلى هذا الأساس تكون علاقة الظلم بالشرك، علاقة كل بجزء؛ إذ الشرك من مشمولات الظلم، ويلزم النظر إلى علاقتهما بمقتضى الضابط الكلي. و هناك ضابط آخر دل عليه التفسير المأثور عن علي رضي الله عنه، وهو الضابط السياقي؛ إذ اكتنف الآية من طرفيها، تنديد بالشرك والأوثان، إضافة إلى أن السورة جاءت مقررة لقواعد التوحيد وهادمة لقواعد الشرك.

رصف الأدوات الإجرائية ووصفها:

بعد أن تَمَّ تأصيل أبرز الأدوات الإجرائية، التي يعتمدها منهج تفسير القرآن بالقرآن، نأت إلي رصف ووصف للأدوات السالفة ولأدوات أخرى، تبعاً لاعتبارات متعددة، يترجم كل منها مستوى للتعامل مع نص قرآني، وهذه الاعتبارات هي:

باعتبار نقل النص: وبه يدخل في التفسير بالقرآن، البيانُ بالقراءات المتواترة، لأن تعددها كتعدد الآي، ولأن المعنى المراد هو ما دلت عليه الآية بقراءاتها المتواترة، وهذا من صور الإعجاز بالإيجاز؛ إذ يدل على معان متعددة مقصودة للشارع، معبَّر عنها بلفظ واحد. ثم إن القراءات المتواترة التي تتوارد على الآية الواحدة إما أن تكون:

- متحدة في المعنى العام ومبينة لبعضها كما في قوله: ﴿ولهم عذاب عظيم بما كانوا يكذبون﴾(البقرة:10)، فقد قرأ الكوفيون﴿يَكْذِبُونَ﴾ بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد، والقراءتان "متداخلتان ترجعان إلى معنى واحد، لأن من كذب رسالة الرسل وحجة النبوة، فهو كاذب على الله، ومن كذِب على الله وجحَد تنزيله فهو مكذب بما أنزل الله."

- أو مستقلة عن بعضها البعض في المعنى، وفي هذه الحالة تكون لها صورتان:

الصورة الأولى: أن تضيف كل قراءة معنى جديداً دون تعارض، كما في قوله: ﴿بضنين﴾ (التكوير:24) فقرأها نافع وابن عامر وعاصم وحمزة بالضاد، وقرأها الباقون بالظاء، والآية الأولى نفت عن الرسول صلى الله عليه وسلم الضنة والبخل بالوحي، بينما نفت عنه الثانية الزيادة والنقصان فيه. ولا تعارض بين القراءتين؛ فقد دلتا معاً على تنـزيه الرسول عما يضاد مقصود الرسالة من كتمان.

الصورة الثانية: أن تضيف كل قراءة معنى جديدا مع ظهور التعارض، وهنا يلزم توجيه الخلاف لرفع التعارض الظاهري.ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وأرجلَكم إلى الكعبين﴾ (المائدة:6) مع قراءة ﴿وأرجلِكم﴾ فقد قال الشنقيطي في بيانهما: قراءة الخفض المفهمة مسح الرجلين في الوضوء، تبينها قراءة النصب الصريحة في الغَسل، فهي مبينة وجوب غسل الرجلين في الوضوء، فيفهم منها أن قراءة الخفض لأجل المجاورة للمخفوض أو لغير ذلك من المعاني."

باعتبار القرب الموضعي للنص: وهو البيان الفوري الذي يقع فيه الاتصال المباشر بين الآية المفسَّرة والآية المفسِّرة، ومثاله قوله تعالى: ﴿وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود،﴾ (البقرة:187) فقد بين المراد من الخيط الأبيض والأسود قوله: ﴿من الفجر﴾. وهذا النوع من البيان يستدعي استحضار الضابط السياقي، وما من شك في أنه كان حاضراً في ذهن المفسر الأول – رسول الله صلى الله عليه وسلم- عند بيانه لمراد الله من كلامه، كما تؤكد حالات البيان النبوي، والتي نذكر منها قوله: "الدعاء هو العبادة، ثم قرأ ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين.﴾ (غافر:60)" فهنا فسّر "الدعاء" الوارد في هذا السياق بـ"العبادة" اعتمادا على ما ورد في آخر الآية: ﴿إن الذين يستكبرون عن عبادتي﴾ وهو ترجيح أحد المعاني المحتملة بقرينة السياق.

باعتبار القرب الموضوعي للنص: وهو البيان المتراخي الذي تنفصل فيه الآية المفسِّرة عن الآية المفسَّرة موضِعياً، وتتصل بها موضوعياً. ويستدعي هذا النوع مراعاة الضابط الموضوعي في التعامل مع النصوص، وذلك بجمع الآيات التي تعالج قضية واحدة في مقام واحد، والنظر في بعضها على ضوء بعضها الآخر. وقد كان هذا الضابط حاضراً في البيان النبوي، ومن ذلك أن النبي جمع الآيات التي تتحدث عن ماء أهل النار، وفسر بعضها ببعض، ففي قوله تعالى: ﴿ويسقى من ماء صديد يتجرعه﴾ (إبراهيم، 16- 17) قال عليه السلام:"يقرب إليه فيكرهه، فإذا دنا منه شوى وجهه ووقع فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره، يقول الله عز وجل: ﴿وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم﴾ (محمد، 15) ويقول الله عز وجل: ﴿وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب﴾ (الكهف، 29)" . ولهذا النوع من البيان صور منها:

- أن يذكر شيء في موضع، ثم يقع عنه سؤال وجواب في موضع آخر، يزيده وضوحا وتفصيلا ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ملك يوم الدين﴾ (الفاتحة:3)، فقد جاء بيانه عن طريق السؤال والجواب في موضع آخر، وهو قوله تعالى: ﴿وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله﴾ (الانفطار، 17- 19).

- أن يذكر وقوع شيء، ثم يذكر في محل آخر كيفية وقوعه كقوله تعالى: ﴿وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة﴾ (البقرة:51)، فلم يبين كيفية الوعد هل كانت مجتمعة أو مفرقة؟ ولكنه بينها في موضع آخر بقوله: ﴿وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة﴾ (الأعراف:142).

- أن يُذكر شيء في موضع، ثم يذكر في موضع آخر شيء يتعلق به كسببه مثلا : ومثال ذلك قوله تعالى: ﴿ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة،﴾ (البقرة:84) فهو لم يبين هنا سبب قسوة قلوبهم، ولكنه بينه بقوله: ﴿فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية﴾ (المائدة:13) وقوله: ﴿فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم.﴾ (الحديد:16)

باعتبار بنية النص: أي الشكل الذي يتخذه المفسِّر والمفسَّر، والتفسير بالقرآن بهذا الاعتبار له صور منها:

أ. أن تفسر لفظة بلفظة، وفي هذه الحالة تكون اللفظة الأولى غريبة، وتكون الثانية أشهر منها. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل﴾ (الحجر:74)، فالسجيل هنا هو الطين بدليل قوله تعالى: ﴿لنرسل عليهم حجارة من طين.﴾ (الذاريات:33)

ب. أن تفسر لفظة في آية بجملة في آية أخرى. ومن ذلك آية: ﴿أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما﴾ (الأنبياء:30) فقوله: ﴿ففتقناهما﴾ يعرف معناه من قوله تعالى: ﴿والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع.﴾ (الطارق:11- 12)

ج. أن تفسر جملة في آية بجملة في آية أخرى. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا﴾ (النساء:42)، فجملة: ﴿تسوى بهم الأرض﴾ تفسرها جملة: ﴿ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا.﴾ (النبأ:40)

باعتبار المجال الدلالي للنص: ويحدد العلاقة الدلالية للمفسِّر بالمفسَّر ومن ثم نوع البيان الذي يجمعهما، وهو إما:

- بيان المجمل: وله حالات متعددة بتعدد أسباب الإجمال، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الإجمال بسبب الاشتراك: وهو ثلاثة أنواع، اشتراك في الاسم أو الفعل أو الحرف. ونمثل هنا بالاشتراك في الحرف؛ إذ يقول الشنقيطي في تفسير قوله تعالى: ﴿ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة﴾ (البقرة:7) "الواو في ﴿وعلى سمعهم،﴾ وقوله ﴿وعلى أبصارهم﴾ محتملة للعطف على ما قبلها وللاستئناف، ولكنه تعالى بين في سورة الجاثية أن قوله هنا ﴿وعلى سمعهم﴾ معطوف على ﴿قلوبهم﴾ وأن قوله: ﴿وعلى أبصارهم غشاوة﴾ جملة مستأنفة، مبتدأ وخبر، فيكون الختم على القلوب والأسماع، والغشاوة على خصوص الأبصار؛" الإجمال بسبب الإبهام: وله حالات متعددة، منها الإبهام في صلة الموصول كقوله تعالى: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم﴾ (المائدة:1) فأبهم المتلو هنا، وهو صلة الموصول، وبيّنه بقوله: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير﴾ (المائدة:3) .

- تقييد المطلق: ومثاله قوله تعالى: ﴿إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم﴾ (آل عمران:90) فأطلق هنا عدم قبول التوبة منهم، ويمكن تفسيرها، بمن أخروا التوبة إلى حضور الموت فتابوا حينئذ، ويشهد لهذا التفسير قوله تعالى: ﴿وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار﴾ (النساء:18) .

- تخصيص العام: كقوله تعالى: ﴿وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا﴾ (النساء:20) فقد خصصته آية ﴿ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به﴾ (البقرة:229).

- البيان بالمنطوق أو المفهوم: وينقسم إلى أربعة أقسام: بيان المنطوق بالمنطوق: في آية: ﴿أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم﴾ (المائدة:1) فقد بينتها آية ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير؛﴾ (المائدة:3) وبيان المفهوم بالمنطوق: في قوله تعالى: ﴿هدى للمتقين﴾ (البقرة:2) فمفهوم هذه الآية أنه ليس بهدى لغيرهم. وقد جاء هذا المفهوم صريحا بقوله: ﴿قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذنهم وقر وهو عليهم عمى؛﴾ (فصلت:44) وبيان المنطوق بالمفهوم كبيان قوله تعالى: ﴿والزاني﴾ (النور:2) بمفهوم الموافقة في آية: ﴿فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب﴾ (النساء:25)؛ إذ يفهم منه أن العبد الذكر كالأمة يجلد خمسين، فبين هذا المفهوم أن المراد بالزاني في آية النور خصوص الحر؛ وبيان المفهوم بالمفهوم: في قوله تعالى: ﴿والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب﴾ (المائدة:5)؛ إذ إن تفسير المحصنات هنا بالحرائر، يدل بمفهومه على عدم جواز نكاح الأمة الكتابية. ويدل على هذا المعنى كذلك مفهوم قوله تعالى: ﴿ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات.﴾ (النساء:25)

خاتمة

حاولت هذه الدراسة ضبط مفهوم "تفسير القرآن بالقرآن" من خلال تحليل ألفاظه إفراداً وتركيباً، مستثمرةً معطيات الدرس اللغوي، وموظفةً لها في استخلاص خصائص القرآن، وخصائص تفسيره وخصائص التفسير به. وحاولت الدراسة مقاربة إشكالات جوهرية مرتبطة بالتفسير عموماً، وبتفسير القرآن بالقرآن على وجه الخصوص، من قبيل مناقشة مدى حاجة الكتاب الفعلية إلى ما يُبَيِّنُه، ومدى حاجة المتلقي إلى وساطة تقرِّب إليه مدلولات كلام الله، ومن قبيل تحديد الجهة التي يَصْدُر عنها تفسير القرآن بالقرآن، ومستوى حجيته، والمقدار الذي يدخل في مسماه. كما حاولت الدراسة، تأصيل منهج هذا النوع من التفسير، مع بيان سبل استقاء أدواته الإجرائية وسبل توظيفها.

ويمكن إجمال أهم النتائج التي توصلت إليها الدراسة، في فكرة أساس مفادها، أن تفسير القرآن بالقرآن ليس هو أقوى التفاسير على الإطلاق، فكونه مستمداً من القرآن الكريم نفسه، لا يكفي لتحديد مستوى حجيته، لأن ذلك المستوى تابع لمستوى مؤهلات المفسِّر؛ إذ هو المسؤول عن الربط بين آيات القرآن الكريم. فالتفسير بطبيعته، عملية مركبة تتدخل في تشكيل نتيجتها أمورٌ منها: تصورُ المفسر لحدود عمله، وتصورُه للنص القرآني وطبيعته، وتصورُه للتفسير ووظيفته.

ومن هذا المنطلق فإن أصح ربط تفسيري بين آيات القرآن الكريم، هو الربط الصادر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يمكن أن نسميه "البيان النبوي للقرآن بالقرآن"، أما ما عداه من ربط، فإن تقييمه يكون بناء على ملاحظة مدى قربه أو بعده المنهجي من ذلك البيان النبوي.

أما الجوانب التي تدعو هذه الدراسة إلى الإقبال عليها، بمزيد من تعميق النظر والبحث، لتكوين صورة متكاملة عن حقيقة هذا النوع من التفسير فتتمثل فيما يلي:

- إنجاز دراسة تاريخية ترصد تطور تفسير القرآن بالقرآن منذ نشأته في عهد النبوة، إلى حاله في واقع الدراسات القرآنية المعاصرة، ويقتضي ذلك البحث عن مظان تفسير القرآن بالقرآن، واستخراج مادته العلمية منها.

- التأصيل لسائر الأدوات الإجرائية المعتمدة في منهج تفسير القرآن بالقرآن، بردها إلى أصولها النظرية التي تستمد منها مشروعيتها.

- إنجاز دراسات نقدية تنظر في التفاسير التي ترفع شعار تفسير القرآن بالقرآن، للكشف عن مدى تمثلها لمفهومه والتزامها بضوابط منهجه.

وإضافة إلى هذه الجوانب فإن مجال التفكير يبقى مفتوحاً لمعالجة قضية ذات طبيعة جوهرية، تثيرها النهايات المعرفية لمفهوم تفسير القرآن بالقرآن ومنهجه. ذلك أن حصر الصحيح المعتبر من هذا التفسير في البيان النبوي للقرآن بالقرآن، وفي التفاسير التي تستقي منه ضوابط المنهج، ثم تُوظفها في الربط بين الآيات، يفرض معالجة الأسئلة الآتية:

- هل يفضي اعتماد البيان النبوي واستصحاب منهجه، إلى حصول اليقين من إدراك القصد الإلهي الثاوي في القرآن الكريم، ومن ثم الاطمئنان إلى أن ما توصل إليه المفسر هو عين مراد الله تعالى؟

- وهل يُمَكِّن البيان النبوي ومنهجه من الوصول إلى المعنى الأول المقصود في أصل النظم؟ أم أن المعنى الذي تقترحه المعادلة التفسيرية، يبقى محتمِلاً لأن يصيب القصد أو يخطئه، مهما كانت العدة المنهجية التي يعتمد عليها المفسر؟

ولعل التناول المنهجي الأنسب، لحسم النقاش الذي تثيره هذه الأسئلة، هو النظر في روافد احتمال انفتاح الدلالة وعدم إدراك القصد؛ إذ بحسب حال الروافد وجوداً أو عدماً وقوةً أو ضعفاً يتم الحكم على الاحتمال بالاعتبار أو الإلغاء. ولعل المداخل الأنسب للنظر في تلك الروافد، هما مدخلا اللغة و المقاصد؛ فمن جهة اللغة يتجاذب قضية القصد طرفان: أحدهما هو ما تفرضه الطبيعة التواصلية للغة، من أن الأصل هو إدراك المعنى ما لم يوجد ما يحول دون ذلك، والثاني هو ما تفرضه العلاقة الجدلية بين إطلاقيّة الكلام الإلهي، ونِسْبِيِّة التعقل البشري، من أن الأصل هو تعذر الإحاطة بمراد الله. ومن جهة المقاصد يتجاذب قضية القصد طرفان آخران: أحدهما هو ما يقتضيه أصل وضع الشريعة للإفهام من إمكان الوصول إلى المعنى المقصود، المتضمن في الخطاب الشرعي، والثاني ما يقتضيه النظر في مقدار الفهم المجزِئ، الذي يحصل به التكليف من أن الشارع لم يطالب المجتهدين بإدراك عين مراده، وإنما طالبهم بما ترجح لديهم أنه المراد، ومعلوم أن ذلك محكوم بمتغيرين نسبيين هما: السقف المعرفي وتأثير الواقع.
 
مرحبا بك أستاذة سعاد بين أهلك في ملتقى أهل التفسير، وننتظر بكل تقدير مشاركاتك القيمة كعادتنا بك، ولقد اطلعت على بعض عروضك المقدمة لوحدة الدرس القرآني، وكتاباتك في بعض الصحف كصحيفة المحجة، ودائما أخرج بفائدة، فبارك الله فيك، وزادك من فيض علمه، ووفقنا وإياك لخدمة كتابه الكريم.
 
الأخت سعاد ، يظهر أنك من محبي العلم لذك

سأبدي وجهة نظري في بعض الأمور التي حواها بحثك:


قلت:
". فإذا علمنا أن أحد طرفي المعادلة في تفسير القرآن الكريم هو كلام الله تعالى، تبين لنا مدى الحرج المعرفي الذي يقع فيه المفسر؛ إذ ما من مقولة تفسيرية، ترتقي إلى درجة التقارب مع النص القرآني، والوفاء بأداء معناه، إلا إذا كانت من نفس جنسه ومادته. ولعل المدخل الأقدر في هذه الحالة على إيجاد معادلة متكافئة الأطراف، هو تفسير القرآن بالقرآن"

هذا النص فيه دور.

وكما قلت زبدة الموضوع:

"وبناء على كل ما سبق نقول، إن التفسير عمل بياني بشري، يُقرّب معاني المفسَّر إلى المتلقين، باعتماد متواليات منهجية، توصل إلى كشف المراد، وتكسبه قوة ومسؤولية، تمكنان من ترسيخ نتائجه والإقناع بها."

لكن مؤكد لا تعنين تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن وفهم الصحابة الكرام للنص القرآني الذي يأخذ حكم الرفع.

وقلت:
"لأن مكونات الكلمة تُنتقى على سَمْت الأحداث المعبر بها عنها،"

ويظهر ذلك أكثر عند التأمل في الوضع الذي وضعت فيه في سياق النص مما يخدم الوحدة الموضوعية .

وقلت:
" فهل يعني ذلك أن فهم القرآن رهين شرح النبي، القادر وحده على حل رموز النص الإلهي وفك (شفرته)؟ أوليس هذا مؤشرا على وجود "عوز بياني" في النص القرآني أحوجه منذ نزوله إلى التفسير؟

للإجابة ينبغي النظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، وذلك من خلال تسليط الضوء على واحدة من أهم الحقائق المرتبطة بملكات النبي صلى الله عليه وسلم، التي تجعله أعلم الناس بالقرآن، وتجعل العودة إليه لا تستلزم الطعن في البيان القرآني، بقدر ما تترجم الرغبة في تمثل أمثل مناهج التعامل مع الوحي على الإطلاق"

لماذا تفترضين مشكلة لا وجود لها ، الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(النحل:43).

وقال تعالى:
{وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }(النساء:83).


وقلت:
" وعلى هذا الأساس تتأكد مرجعية النبي عليه السلام، وتبرز أهمية تمثل كلامه، بصفته مرشداً للمعنى المراد، ما دام متعذراً على من دونه أن يجمعوا علم اللسان، فلا يذهب عليهم شيء منه. والحاجة إلى البيان النبوي، ليست من جهة ضعف بيان القرآن، أو استحالة إدراك معناه، وإنما هي من جهة عجز الأفراد عن الإحاطة بعلم اللسان. فالعجز، عجز الفرد المستقل، الذي لا قدرة له بمعزل عن جماعته اللغوية - آنية كانت أو تاريخية- على تحصيل سائر مخزون ما تدل عليه الصيغ في أصل وضعها على الإطلاق، وكذا ما تدل عليه بحسب المقاصد الاستعمالية، التي تقضي العوائد بالقصد إليها"

سبحان الله،وماذا تفهمين من قوله تعالى:

{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى } {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }(النجم
إن تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم وحي من الله تعالى.
 
قلت:
"من يفسر القرآن في تفسير القرآن بالقرآن؟ يتبادر إلى الذهن عند إطلاق عبارة "تفسير القرآن بالقرآن" أن القرآن مفسر لنفسه بنفسه، وأن ليس للمفسر البشري دور، سوى جمع ما يراد تفسيره من نصوص بما يفسره منها، وكأن عملية التفسير عملية مغلقة، تنم عن وجود علاقات ثابتة محددة سلفا،ً لا دخل فيها للعنصر البشري بنسبيته ومتغيراته. إننا هنا أمام انغلاق للمتن، وانغلاق للعلاقات الدلالية في الوقت نفسه، غير أن لهذا التصور أسبابه المعرفية التي تدعمه، فمن دليل العقل، وجوب التماس تفسير القرآن منه أولاً؛ إذ لا يعلم مراد الله على الحقيقة والقطع إلا هو، وذلك نظراً لكون المتكلم أولى من يوضّح مراده بكلامه، فإذا تبيّن مراده به منه، فلا يُعدل عنه إلى غيره. ونظراً لأن التفسير رواية عن الله تعالى، و(ترجمة) لحكمه وحكمته، وشهادة عليه بما أراد من كلامه، فإذا لم يكن من كلامه دليل على ذلك المراد، فهو محض تَقَوُّل، والتقول محظور بنص قوله تعالى: ﴿قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.﴾ (الأعراف: 33) ومن دليل النقل آيات عديدة، لكن قصارى ما يستفاد من مجموع المنقول والمعقول، هو ضرورة العودة إلى القرآن لاستقاء التفسير، بمعنى أنها أدلة متجهة في المقام الأول إلى بيان المصدرية، لا تحديد الجهة العاملة على استثمارها وتوظيفها، والفرق دقيق بينهما".


لابد أن يدلنا العقل على أننا لابد أن نتأمل النصوص الشرعية لنعرف الطريقة المثلى لتفسير كتاب الله تعالى القرآن الكريم،وهذا ما حاول ابن كثير بيانه فيما يلي:
فإن قال قائل: فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن. قال الله تعالى: { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } [ النساء: 105] ، وقال تعالى: { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل: 44] ، وقال تعالى: { وَمَا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [النحل: 64] .
ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" (1) يعني: السنة. والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل (2) القرآن؛ إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن، وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله (3) وغيره من الأئمة على ذلك بأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذلك.
والغرض أنك تطلب تفسيرَ القرآن منه، فإن لم تجدْه فمن السنة، كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "بم تحكم؟ ". قال: بكتاب الله. قال: "فإن لم تجد؟". قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد؟ ". قال: أجتهد برأيى. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفَّق رَسُولَ رسولِ الله لما يرضى رسول الله" (4) وهذا الحديث في المساند (5) والسنن بإسناد جيد، كما هو مقرر في موضعه.
وحينئذ، إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه (6) .
وبين المسألة أيضا ابن السعدي فقال:

"قرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى { كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } فهو مشتمل على غاية الإتقان والإحكام والعدل والإحسان { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } وكله متشابه في الحسن والبلاغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى، وأما الإحكام والتشابه المذكور في هذه الآية فإن القرآن كما ذكره الله { منه آيات محكمات } أي: واضحات الدلالة، ليس فيها شبهة ولا إشكال { هن أم الكتاب } أي: أصله الذي يرجع إليه كل متشابه، وهي معظمه وأكثره، { و } منه آيات { أخر متشابهات } أي: يلتبس معناها على كثير من الأذهان: لكون دلالتها مجملة، أو يتبادر إلى بعض الأفهام غير المراد منها، فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد، وهي الأكثر التي يرجع إليها، ومنه آيات تشكل على بعض الناس، فالواجب في هذا أن يرد المتشابه إلى المحكم والخفي إلى الجلي، فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ولا يحصل فيه مناقضة ولا معارضة، ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين { فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي: ميل عن الاستقامة بأن فسدت مقاصدهم، وصار قصدهم الغي والضلال وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد { فيتبعون ما تشابه منه } أي: يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، ويعكسون الأمر فيحملون المحكم على المتشابه { ابتغاء الفتنة } لمن يدعونهم لقولهم، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه، وقوله { وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله } للمفسرين في الوقوف على { الله } من قوله { وما يعلم تأويله إلا الله } قولان، جمهورهم يقفون عندها، وبعضهم يعطف عليها { والراسخون في العلم } وذلك كله محتمل، فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان الصواب الوقوف على { إلا الله } لأن المتشابه الذي استأثر الله بعلم كنهه وحقيقته، نحو حقائق صفات الله وكيفيتها، وحقائق أوصاف ما يكون في اليوم الآخر ونحو ذلك، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولا يجوز التعرض للوقوف عليها، لأنه تعرض لما لا يمكن معرفته، كما سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله { الرحمن على العرش [استوى ] } (1) فقال السائل: كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهكذا يقال في سائر الصفات لمن سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال الإمام مالك، تلك الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة، وقد أخبرنا الله بها ولم يخبرنا بكيفيتها، فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا، فأهل الزيغ يتبعون هذه الأمور المشتبهات تعرضا لما لا يعني، وتكلفا لما لا سبيل لهم إلى علمه، لأنه لا يعلمها إلا الله، وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون، وإن أريد بالتأويل التفسير والكشف والإيضاح، كان الصواب عطف { الراسخون } على { الله } فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه من الشبهة لا يعلمها إلا هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا، فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون { كل } من المحكم والمتشابه { من عند ربنا } وما كان من عنده فليس فيه تعارض ولا تناقض بل هو متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض (2) وفيه تنبيه على الأصل الكبير، وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله، وأشكل عليهم مجمل المتشابه، علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم، وإن لم يفهموا وجه ذلك. ولما رغب تعالى في التسليم والإيمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه قال { وما يذكر } أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا { أولوا الألباب } أي: أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة." أهــــ

وقلت:
"ولقائل أن يقول إن هذا الحكم غير صالح للتعميم على سائر الأدلة؛ إذ يستثنى منها قوله تعالى: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة: 19)، والذي يظهر من خلاله، أن الله عز وجل لم يحدد المصدر التفسيري فحسب، وإنما حدد الجهة المفسرة أيضاً بأن أوكل إلى نفسه مهمة البيان. غير أن هذا الاعتراض لا يلبث أن يتلاشى، عند استحضار السياق النصي والتاريخي الذي وردت فيه هذه الآية. وممن اعتمد السياقين لاستخراج الدلالة عبد الله بن عباس رضي الله عنه، فعن موسى بن أبي عائشة عن سعيد ابن جبير عن عبد الله بن عباس في قوله: ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به﴾ (القيامة: 16) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل بالوحي وكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فيشتد عليه، وكان يعرف منه، فأنزل الله الآية التي في ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾ (القيامة: 1): ﴿لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه﴾ (القيامة:17) قال: علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه، ﴿فإذا قرأناه فاتبع قرآنه﴾ (القيامة:18) فإذا أنزلناه فاستمع، ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة:19) علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله." ومنه يتضح أن الآيات تدل على مصاحبة العناية الإلهية للرسول صلى الله عليه وسلم في سائر مراحل تلقي القرآن الكريم وأدائه، من التنزيل إلى الجمع في الصدر، فالتلفظ والتبليغ، لتطمئنه بذلك، فلا يحتاج بعدُ إلى تحريك لسانه، استعجالا لتبليغه مخافة نسيانه.

ومن هذا المنطلق فلا تكون لقوله تعالى: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة:19) علاقة تذكر بالتفسير عموماً، ولا بتفسير القرآن بالقرآن على وجه الخصوص، إنْ تحديدا لمصدره، أو بياناً، لجهته، لأن غاية ما سيقت له، هو الدلالة على أن القرآن نص إلهي في قمة الحفظ، منذ أن تكلم الله به، إلى حين تكلم به رسوله. وبذلك يكون معنى قوله تعالى: ﴿ثم إن علينا بيانه﴾ (القيامة: 19) أي علينا أن تبلغه وتتلفظ به تماماً، كما أنزلناه عليك، وجعلنا صدرك يعيه، فالمراد بالبيان هنا الأداء والتلفظ والقراءة، أما ﴿علينا﴾ ففيها وعد من الله بحصول ذلك البيان. ويؤكد ذلك، الربطُ بين ترتيب الجمل داخل الآية، وترتيب وجود مدلولاتها في واقعي الغيب والشهادة؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حرك لسانه عجلة بالقرآن، أنبأه الله عز وجل بأنه قد تعهد بحفظه جمعاً وقراءة، ثم طلب منه الاستماع والإنصات إلى تلاوة جبريل بدقة وتركيز شديدين، عبرت عنهما الآية باتباع القراءة، وعقِب ذلك نصَّ على اتساع دائرة الحفظ، لتشمل ما لأجله تحرك اللسان عجلة بالقرآن، وهو هاجس التبليغ، فطمأنه بأنه قد تكفل بالبيان، أي بإبراز النص وإخراجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة من خلال تأمين تلفظ النبي به. وبذلك تكون غاية الآية هي تسليط الضوء على مطابقة الملفوظ للمحفوظ، وهو ما فطن إليه ابن عباس رضي الله عنه فربط بينها وبين مآلها ومصداقها الخارجي فقال: "فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله."

ثم إن دلالة البيان على التفسير في هذا المقام أمر مستبعد لسببين؛ أحدهما انعدام المناسبة بينه وبين القضية التي جاءت الآية لعلاجها كما تبين قبل، والثاني أن صرفه إلى ذلك المعنى، يفضي إلى التلويح بانخرام واحدة من أهم حلقات التلقي وانفراطها عن عقد الحفظ، ومن ثم التشكيك في صحة النقل النبوي للنص القرآني، واحتمال تطرق النسبية البشرية إليه، هذا في حين لا يعقل أن يتم النص على حفظ التفسير وتعهد الله به، دون أن يكون سياق الآية محله، ويُسكت عن بيان حظ الأداء والتبليغ من الحفظ في موضع الحاجة إلى بيانه؟"


لا بل لقوله سبحانه: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} بالتفسير، والمؤمنين سيردون المتشابه الذي لم يفسر إلى المحكم،وما لن يعلموه سيؤمنون به:
ورد في تفسير الطبري:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) يقول: حلاله وحرامه، فذلك بيانه.
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) بيان حلاله، واجتناب حرامه، ومعصيته وطاعته.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم إن علينا تبيانه بلسانك.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس( ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) قال: تبيانه بلسانك.


وقال القرطبي:
وقوله: (ثم إن علينا بيانه) أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام، قاله قتادة.
وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما.
وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك.

وقال الماوردي:
{ ثم إنْ علينا بَيانَه } فيه ثلاثة أقاويل :
أحدها : بيان ما فيه من أحكام وحلال وحرام ، قاله قتادة .
الثاني : علينا بيانه بلسانك إذا نزل به جبريل حتى تقرأه كما أقرأك ، قاله ابن عباس .
الثالث : علينا أن نجزي يوم القيامة بما فيه من وعد أو وعيد ، قاله الحسن .

وهذه التفاسير للآية الكريمة لا تعارض بينها ، لذلك قال ابن كثير:
"هذا تعليم من الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك، فإنه كان يبادر إلى أخذه، ويسابق الملك في قراءته، فأمره الله عز وجل إذا جاءه الملك بالوحي أن يستمع له، وتكفل له أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبينه له ويفسره ويوضحه. فالحالة الأولى جمعه في صدره، والثانية تلاوته، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه؛ ولهذا قال: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي: بالقرآن، كما قال: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } [ طه : 114 ] .
ثم قال: { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي: في صدرك، { وَقُرْآنَهُ } أي: أن تقرأه، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي: إذا تلاه عليك الملك عن الله عز وجل ، { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: فاستمع له، ثم اقرأه كما أقرأك، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه، ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا."
 
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الكريم أبا الأشبال
زادك الله حرصا على الحق وغيرة عليه وانتفاعا به

أود –زيادة في البيان- التنبيه على ما يلي:
1- أن الغرض من التنويه بأي بحث هو تنبيه الباحثين على قيمته، وتحفيز صاحبه على مزيد من العطاء.
2- أن التنويه ببحث ما لا يعني التسليم بكل ما فيه، وإنما القصد هو استحسانه في الجملة، وإلا فإن كل كلام بشري قابل لأن تَرِدَ عليه اعتراضات وإشكالات تقل أو تكثر.
وقد استوقفتني –وأنا أتصفح البحث- قضايا ومفاهيم قد تحتاج إلى تحقيق وتدقيق، ولكني فضلت التأنّي، ومن أجل ذلك طلبت من الباحثة تزويدنا بالهوامش، لنتمكن من فرز مكونات مادة البحث، ونعرف ما لها وما لغيرها؛ فإن هذا من أهم ما يكشف عن شخصية الباحث ومدى اجتهاده وإبداعه.
3- أن التنويه بالبحث لا يدل بالضرورة على الاعتراض عليك أخي أبا الأشبال، وقد تعجّبتُ كثيرا من قولك وأنت تخاطبني: "فلا تحمل كلامي ما لا يحمل" فليس في كلامي –وهو ما زال معروضا أمام القراء- ما يشير -لا من قريب ولا من بعيد- إليك ولا إلى كلامك. وإنما هو تعبير عن شعور تلقائي شعرتُ به وأنا أتصفح البحث. وقد انتابني هذا الشعور قبل أن أقرأ كلامك، بل قبل أن أعرف الباحثة إن كانت من المغرب أو من المشرق.
وأما كلامك فصاحبة البحث أولى بمناقشته والرد عليه إن رأت ذلك.
وأما شعورك الكريم تجاه أهل المغرب فهو واجب شرعي عليك، كما أنه واجب علينا أن نحب إخواننا المشارقة ونقدرهم على ما لهم من السبق في كثير من القضايا، وكذلك الشأن بالنسبة لإخواننا في الشمال وفي الجنوب وفي كل أقطار الأرض. فالتَّحَابُّ بين المسلمين واجب مؤكد.
لكني في الحقيقة لم أفهم العلاقة بين هذه المسألة وبين التنويه بالبحث؛ فقد اجتهدت في خاصة نفسي ألا يكون لهذا التنويه أي دافع عصبي أو جغرافي، ونسأل الله تعالى أن يحفظنا من كل هوى مضل أو مزل.
ودمت في رعاية الله تعالى وحفظه.
 
عودة
أعلى