رأفت المصري
New member
- إنضم
- 05/02/2009
- المشاركات
- 60
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
تفسير القرآن بالإسرائيليات..نظرة نقدية
من المسائل المهمة في أصول تفسير القرآن مسألة تفسيره بالإسرائيليات المروية عن أهل الكتاب ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، بعد اتفاقهم على حكم التفسير ببعض صور هذه الإسرائيليات ، بل وجه الدقة أن يقال : إن العلماء قد اتفقوا على ذلك في صورتين ، واختلفوا في الثالثة ، وأنا مستعرض إن شاء الله تعالى هذه المسألة ومبين فيها وجه الحق حسب الطاقة ، سائلا المولى التوفيق والهداية .
لكنني أشير إلى أن هذا الموضوع من الأهمية بمكان ، وليس هو من المسائل الترفية ولا الكمالية ، ذلك أن الإسرائيليات قد ساقت علينا خطرا عظيما ، وفتحت بابا كثر الولوج إلى الدين من خلاله ، فوجب تحقيق هذه المسألة على وجه يفصل فيه بين المختلفين .
خصوصا وأن كثيرا من المفسرين قد عثروا بهذه العقبة فأوردوا في تفاسيرهم ما لا ينبغي ؛ بل ما لا يحل روايته من القصص الباطلة عقلا أو شرعا .
أولا : الموضوع من الأهمية بمكان من الناحيتين :
1- العقدية : من حيث إن هذه الإسرائيليات قد زجت في التراث الإسلامي عموما وفي التراث التفسيري كثيرا من الدخيل العليل ، الذي يمثل كثير مما فيه تخاليط عقدية وجب التحذير منها .
2 - السياسية : من حيث إن اليهود عليهم اللعنة والغضب وظّفوا تحريفاتهم لكتاب ربهم المنزل عليهم في خدمة مصالحهم وأطماعهم السياسية .. فدسّوا أو حاولوا أن يدسوا في أديان غيرهم ما يعينهم على ذلك ، وما يُثبت لهم حقا أو يبرر لهم موقفا مخزيا اقترفته أيدي آبائهم قتلة الأنبياء ..وأئمة الجبن والكفر والرياء ..
ويظهر هذا جليا جدا في تلاعبهم بدين النصارى ..حيث إنهم خصوصا في هذا العصر قد نجحوا في تهويد النصرانية تهويدا رسميا لا مزيد عليه، فصارت جحافل النصارى بعد أن كانوا ينقمون على اليهود قتلهم المسيح - فيما يعتقدون - يتسابقون للفوز برضاهم وتحقيق مآربهم الدينية السياسية التي نجح اليهود بربطها بحبل وثيق بصميم الاعتقاد النصراني ، وتحقيق النبوآت التي ينتظرها هؤلاء !!
ومن هنا وجب التحذير من هذه الإسرائيليات التي ما يزال اليهود يبثونها في فكر ودين غيرهم ..وليست هذه الإسرائيليات بالمجمل قديمة فحسب ، بل نجد منها إسرائيليات جديدة ولدت حديثا وما زالت تولد ..لكنها على الأغلب الأكثر أخذت لونا جديدا ليس هذا هو محلّ بحثه .
وعليه فإننا نبدأ التأصيل للموضوع من جذوره الأولى ، وهي التعرض لكلام أهل الكتاب والرواية عنهم فيما يتعلق بالتفسير ، وهو أول مظاهر الأخذ والتلقي عنهم في التراث الإسلامي ..
ثانيا : لا بد من التعرض للتعريف الدقيق لكلمة الإسرائيليات ، فأقول :
الإسرائيليات : هي القصص والروايات المنقولة عن أهل الكتاب من اليهود "بني إسرائيل" أو من النصارى ، وإنما سميت بالإسرائيليات تغليبا ، لأن أكثر هذه القصص مأخوذ من بني إسرائيل .
وقد أخذ المسلمون والمفسرون هذه الروايات من كتب أهل الكتاب أو ممن أسلم منهم ، كعبد الله بن سلام ، ووهب بن منبه وكعب الأحبار ، وغيرهم .
ثالثا : وقد نص كثير من العلماء على أن الإسرائيليات عموما تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، وممن نص عليه ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن كثير ، الأول في رسالته البديعة : "مقدمة في أصول التفسير" ، والثاني في مقدمة تفسيره العظيم : "تفسير القرآن العظيم ".
ويتلخص الكلام في أن الإسرائيليات على ثلاثة أنواع من حيث علاقتها بالقرآن :
الأول : ما كان موافقا للقرآن .
الثاني : ما كان مخالفا له .
الثالث : ما لم يكن موافقا ولا مخالفا، بل سكت عنه القرآن ولم يبينه .
ولكل من هذه الأقسام حكم يختص به فيما يتعلق بالتفسير .
وقد أجمع العلماء في ضوء التقسيم الثلاثي على حكم نوعين ، واختلفوا في الثالث :
** أجمعوا على أن ما كان موافقا لما نزل في القرآن الكريم ، فإنه صواب ، لموافقته ، ولا حاجة إليه لوجوده بين أيدينا من القرآن .
**أجمعوا على أن ما كان مخالفا لكتاب الله تعالى فإنه لا يحل أخذه وروايته إلا على سبيل التحذير ، ولا يجوز بحال تفسير كتاب الله تعالى به .
واختلفوا في الأخير ، الذي لم يأت في القرآن ما يصدقه أو يكذبه ، وهو محل الخلاف إذا قلنا : اختلف في حكم تفسير القرآن بالإسرائيليات .
وهو الذي نستعرضه - إن شاء الله مبينين حكمه بعد عرض الأقوال فيه .
رابعا : ذكر الخلاف في النوع الثالث من الإسرائيليات : قلنا: قد اختلفوا فيما إذا كانت الإسرائيليات من النوع الثالث المذكور ؛ وهو ما لم يأت في القرآن ما يصدقه وما يكذبه على قولين ، بيانهما :
الأول : قول من قال : تجوز روايته والاستشهاد به ، وممن نص على ذلك الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في مقدمة تفسيره ، وأنا أسوق كلامه في المسألة فيما يأتي :
قال :
"ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بَلِّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن عبد الله ؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح .
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدّتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم. ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 22] ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس، ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب".اهـ
قلت : هذا كلامه رحمه الله ، إذ نص على جواز رواية هذه الإسرائيليات وفق الضابط الذي ذكره .
ولا شك أن كثيرا من المفسرين رأوا في رواية الإسرائيليات سعة ، ودليله : كثرة ما رواه بعضهم في تفسيره من روايات ، مثل : شيخ المفسرين : ابن جرير الطبري ، والسيوطي في تفسيره الدر المأثور في التفسير بالمأثور ، وغيرهما كثير من المفسرين .
ولكن لا بدّ في هذا المقام من بيان ملاحظة مهمة جدا ، وهو أن المفسرين هؤلاء قد كان منهم المكثر في الأخذ من الإسرائيليات ومنهم المقل ، فابن كثير مثلا من المقلين في تفسيره من التعرض للإسرائيليات ، حيث التزم بالشرط الذي اشترطه لروايتها كما في مقدمته إلى حد بعيد .
في حين أن عددا من المفسرين قد أفرط في ذلك إلى حد أفقد تفسيره كثيرا من قيمته العلمية ، مثل السيوطي ؛ الذي امتلأ تفسيره بها ، بل تجاوز الحد في كثير من الأحيان ، فروى منها ما لا يحل ذكره إلا على وجه التنبيه والتحذير ، والمشكلة أنه رواها من غير تعقيب !
خامسا : عرض أدلة الفريقين من المبيحين والمانعين :
بعد العرض الأوّليّ للموضوع بعامة ؛ وجب أن ننظر في أدلة كل من الفريقين ثم نرجح بينها ونبين ما لكل من الفريقين مما عليه .
ونبدأ بأدلة من أباح الأخذ من القسم الثالث من أنواع الإسرائيليات - وهو القسم المسكوت عنه ؛ فلم يأت في القرآن ما يصدقه أو ما يكذبه - .
فنقول :
استدل هؤلاء العلماء ببعض الأدلة على ما ذهبوا إليه ، وهذه الأدلة بالجملة هي :
1- قول الله تعالى : (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ، ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) الكهف .
حيث قد استدل الحافظ ابن كثير بهذه الآية - كما في مقدمة تفسيره على جواز رواية أقوال أهل الكتاب - إذ قال :
"ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 22]
2- الدليل الثاني :
ما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
( بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي..) الحديث .
ووجه الدلالة منه : قوله صلى الله عليه وسلم : "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" ؛ إذ إنه رفع الحرج والإثم عن الرواية عن بني إسرائيل ، والمقصود ما هو مسكوت عنه مما لم يأت ما يصدقه أو ما يكذبه في كتابنا الكريم .
3- الدليل الثالث :
فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وخصوصا حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، إذ روي عنه سؤال كعب الأحبار في مسائل عديدة ، وكذلك سؤال أبي الجلد ، وهما كتابيان أسلما ، في عهد أبي بكر وعمر .
ولو كان منهيا عنه لما أقدم مثل هذا الحبر العظيم على سؤال أهل الكتاب عما عندهم في كتبهم .
هذه الأدلة هي أدلة المبيحين كما بينت ، وقبل أن ننتقل إلى أدلة المانعين ، وجب مناقشة هذه الألة لتحقيق مدى صلاحيتها للاستدلال على ما وجهت إليه .
مناقشةً للأدلة المذكورة مما أرفقه هؤلاء - وهم جمهور العلماء - أقول :
**أما الدليل الأول ، وهو قوله تعالى : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ) الآية . إذ استدل به ابن كثير كما في مقدمة تفسيره ، وقد نقلناه بنصه ، فلا يصلح للاستدلال على التحقيق ، والسبب :
أنه وإن كان الله تبارك وتعالى قد عدد أقوالهم ونقل الخلاف بينهم فيما ذكروه ، إلا أنه في نهاية الآية نهى عن استفتائهم وسؤالهم ، فقال : ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) .
وهذه الآية ظاهرة الدلالة في المسألة ، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يجادل في شأنهم إلا بما أوحاه الله تعالى إليه ، ولا يسأل من اليهود عن قصة أهل الكهف أحدا .
وحاصله : أن الآية دليل على ابن كثير والمبيحين لا دليل لهم .
أما الدليل الثاني ، وهو حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : (..وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، فيرد على الاستدلال به ما يأتي :
أن هذا اللفظ للحديث يحتمل أكثر من معنى :
الأول : حدثوا عنهم وارووا عنهم من أخبار كتبهم ولا حرج عليكم في ذلك .
وهذا المعنى هو الذي حمله عليه أصحاب القول الأول .
لكن لا بد من الإشارة إلى أن حمل الحديث على هذا المعنى يقتضي تأويله عن ظاهره ، لأن ظاهره قاض ٍ بإباحة الرواية عن بني إسرائيل مطلقا ، وهو غير مراد قطعا ، لأن من الإسرائيليات ما هو مخالف لصريح القرآن والاعتقاد ؛ فتعين حمل المباح روايته لى نوع معين من الإسرائيليات وهي المسكوت عنه .
المعنى الثاني الذي يحتمله لفظ الحديث : حدثوا عن فسقهم وكفرهم وفظائعهم ولا تتحرجوا من ذلك ، وذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون أهل الكتاب أقرب إليهم من الوثنيين المشركين ، فكانوا يتحرجون - في البداية - من معاداتهم وقتالهم ، وجاءت الآيات الكثيرة التي تزيل هذه المشاعر من قلوب المسلمين ، كقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ..}التوبة .
فأي هذين المعنيين مقصود في الحديث ؟
أولا : لا بد من بيان أن ترجيح أحد الاحتمالين لا بد له من دليل ، وأن الترجيح بلا مرجح نوع تحكم .
ثانيا : الدليل الذي ينبغي به ترجيح أحد الاحتمالين هو النصوص الأخرى في المسألة التي تنهى عن الأخذ من الإسرائيليات ، ويأتي بيانها في موضعه إن شاء الله .
إضافة إلى ذلك أمرا مهما له دور مهم في الترجيح بين القولين وهو :
أن المعنى الثاني لا يحتاج إلى تأويل ؛ بينما الأول لا بد فيه من التأويل ، والذي لا يحتاج إلى التأويل أولى من المحتاج إليه ، والله أعلم .
أما الدليل الثالث الذي استدل به أصحاب هذا القول - وهو فعل الصحابة الكرام ، خصوصا ابن عباس رضي الله تعالى عنهم جميعا .
فأنقل في هذا المقام كلام أستاذي البحر فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور فضل عباس حفظه الله ورضي عنه وأطال بقاءه ونفع به ومتع ما حاصله المنع من قبول دعوى أن ابن عباس وأبا هريرة وغيرهما من الصحابة قد أخذوا عن الإسرائيليات ، فيقول :
"ولكننا عندما نناقش الأمر مناقشة علمية هادئة نرى أن تلك الفرية بعيدة عن الصواب والسداد .
فهل يمكن لمن تتلمذ لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام أن يتتلمذ لكعب أمثاله ؟ وهل يليق بهؤلاء وقد كانوا يتربعون على كرسي الأستاذية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجلسوا على كرسيهم هذا من هو دونهم ؟
فأبو هريرة - مثلا - يروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يزيد على خمسة آلاف وأربعمائة حديث ؛ وهي علم غزير يؤهل صاحبه لأن يقضي عمره مهما طال ليفيد الناس بهذا العلم !!
وابن عباس كذلك الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه وعلم التأويل حريٌ به أن لا ينصرف عن أسباب هذه الدعوة !
ولقد مرّ معنا نهي ابن عباس الناس عن سؤال أهل الكتاب - كما سيأتي بيانه عند ذكر أدلة المانعين - فكيف ينهى عن شيء ويُقدم عليه ؟ ذلك أمر لا يتناسب مع الخلق والدين لإنسان عادي ؛ فضلا عن ان عباس ترجمان القرآن وحبر الأمة " اهـ .
عن كتاب التفسير أساسياته واتجاهاته ، ثم يسوق الشيخ حفظه الله تعالى شيئا من الروايات المشهورة فيها رواية ابن عباس عن أهل الكتاب ، وينقل إثرها تفنيد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله لها .
نعم ، إن الناظر إلى ما رواه البخاري من نهي ابن عباس الشديد عن سؤال أهل الكتاب ليوقن أن ما روي من أنه رضي الله عنه قد أخذ شيئا عنهم أمر لا يصح بحال .
ثم لا بد من بيان أمر آخر ، وهو أنه إن قامت النصوص القرآنية والنبوية ببيان تحريم شيء أو إباحته فلا حجة دون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
إذا انتهينا من مناقشة أدلة الفريق الأول ، فإنه يجدر بنا أن نبادر إلى بيان أدلة الفريق الثاني الذي يرى في الأخذ عن الإسرائيليات المسكوت عنها محظورا شرعيا ، فأقول - وبالله التوفيق :
استدل هؤلاء بأدلة أهمها :
1- قول الله تبارك وتعالى : ( فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا )الكهف .
ووجه الدلالة : النهي عن سؤال أهل الكتاب عن شيء مما يتعلق بقصة أهل الكهف ، ولكن ما جاء في القرآن هو الفيصل الحق الذي يجب الوقوف عنده ، وإذا كان النهي واردا في أهل الكهف ، فإن القياس ولا شك يوجب دخول بقية القصص والأخبار ، إذ لا قائل بالفرق ، والله أعلم .
2- الدليل الثاني الذي استدل به المانعون من تفسير القرآن بالإسرائيليات ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ..) الآية .رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه الجامع .
ووجه الدلالة منه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجّه إلى الوجه الصحيح في التعامل مع هذه الروايات الإسرائيليات ، وهي عدم تصديقها ، وكذلك عدم تكذيبها ، فإنك إما أن تصدق كذبا ، أو تكب صدقا ..
وأي تصديق أعظم من تفسير كتاب الله تعالى بالإسرائيليات ؟ فالذي فسر القرآن بهذه الروايات صدقها ؛ وأي تصديق ؟؟
3- عن جابر بن عبد الله "أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه عليه فغضب فقال :
" أمتهوكون -يعني متحيرون- فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ..لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " .
رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار ، وحسنه الألباني رحم الله الجميع .
وله متابعات وشواهد من أحاديث أخرى عن عمر أيضا ، لكن فيها نوع ضعف ، ولما كان هذا الحديث صالحا للاحتجاج اكتفيت به عن نقلها .
4- مما يستدل به لقول هؤلاء من المانعين تفسير القرآن بالإسرائيليات : ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما :
"يا معشر المسلمين : تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله ...أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا رجلا منهم قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم" البخاري ، كناب الشهادات .
وفي الحديث :
*نهي ابن عباس عن الأخذ من الإسرائيليات وسؤال أهل الكتاب ، وابن عباس إمام المفسرين وأعلم الأمة بهذا العلم الجليل ومصادره ومآخذه .
*أن ما نقل عن ابن عباس من أخذه الإسرائيليات مما روي بتلك الأسانيد الضعيفة لا يتبت بحال ، لمخالفته الواضحة لما صح عنه من نهي عن ذلك .
5 - الدليل الخامس من هذه الأدلة : سدّ الذرائع .
وبيان ذلك أن يقال :
إن فتح باب الأخذ عن الإسرائيليات قد جرّ على التفسير خصوصا ، وعلى الأمة - إجمالا - ألوانا من الدخيل في العقيدة والتراث والتاريخ .. وصار من الصعب في مرحلة ما تمييز هذه الدخائل وتنقيتها .. وصارت الروايات الإسرائيلية المخالفة لصحيح الاعتقاد أشهر ما يذكر في تفسير القرآن ..
والأمثلة في ذلك كثيرة ، منها : قصة داود في سورة ص~ ، وذكر التسع والتسعين نعجة ، وقصة سليمان في نفس السورة "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" ، وعدد لا بأس به من الروايات "الخطيرة" التي سوّدت صفحات التفسير ..
ولما كان الأمر كذلك ، وجب إغلاق هذا الباب ، وقطع مادة هذا التخليط ..
سادسا : الترجيح : الناظر في أدلة الفريقين يرى قوّة أدلة القائلين بحرمة تفسير القرآن بالإسرائيليات ، وهو الذي حشدت له الأدلة وأطنبت في الاستدلال له ، وهو الذي به أدين لله تعالى ، وقد أجبت فيما مرّ ذكره عن أدلة أصحاب القول الأول ، والله أعلم .
كتبه : رأفت "محمد رائف" المصري
المحاضر في قسم الدراسات القرآنية، جامعة الملك خالد .
من المسائل المهمة في أصول تفسير القرآن مسألة تفسيره بالإسرائيليات المروية عن أهل الكتاب ، فقد اختلف العلماء في هذه المسألة ، بعد اتفاقهم على حكم التفسير ببعض صور هذه الإسرائيليات ، بل وجه الدقة أن يقال : إن العلماء قد اتفقوا على ذلك في صورتين ، واختلفوا في الثالثة ، وأنا مستعرض إن شاء الله تعالى هذه المسألة ومبين فيها وجه الحق حسب الطاقة ، سائلا المولى التوفيق والهداية .
لكنني أشير إلى أن هذا الموضوع من الأهمية بمكان ، وليس هو من المسائل الترفية ولا الكمالية ، ذلك أن الإسرائيليات قد ساقت علينا خطرا عظيما ، وفتحت بابا كثر الولوج إلى الدين من خلاله ، فوجب تحقيق هذه المسألة على وجه يفصل فيه بين المختلفين .
خصوصا وأن كثيرا من المفسرين قد عثروا بهذه العقبة فأوردوا في تفاسيرهم ما لا ينبغي ؛ بل ما لا يحل روايته من القصص الباطلة عقلا أو شرعا .
أولا : الموضوع من الأهمية بمكان من الناحيتين :
1- العقدية : من حيث إن هذه الإسرائيليات قد زجت في التراث الإسلامي عموما وفي التراث التفسيري كثيرا من الدخيل العليل ، الذي يمثل كثير مما فيه تخاليط عقدية وجب التحذير منها .
2 - السياسية : من حيث إن اليهود عليهم اللعنة والغضب وظّفوا تحريفاتهم لكتاب ربهم المنزل عليهم في خدمة مصالحهم وأطماعهم السياسية .. فدسّوا أو حاولوا أن يدسوا في أديان غيرهم ما يعينهم على ذلك ، وما يُثبت لهم حقا أو يبرر لهم موقفا مخزيا اقترفته أيدي آبائهم قتلة الأنبياء ..وأئمة الجبن والكفر والرياء ..
ويظهر هذا جليا جدا في تلاعبهم بدين النصارى ..حيث إنهم خصوصا في هذا العصر قد نجحوا في تهويد النصرانية تهويدا رسميا لا مزيد عليه، فصارت جحافل النصارى بعد أن كانوا ينقمون على اليهود قتلهم المسيح - فيما يعتقدون - يتسابقون للفوز برضاهم وتحقيق مآربهم الدينية السياسية التي نجح اليهود بربطها بحبل وثيق بصميم الاعتقاد النصراني ، وتحقيق النبوآت التي ينتظرها هؤلاء !!
ومن هنا وجب التحذير من هذه الإسرائيليات التي ما يزال اليهود يبثونها في فكر ودين غيرهم ..وليست هذه الإسرائيليات بالمجمل قديمة فحسب ، بل نجد منها إسرائيليات جديدة ولدت حديثا وما زالت تولد ..لكنها على الأغلب الأكثر أخذت لونا جديدا ليس هذا هو محلّ بحثه .
وعليه فإننا نبدأ التأصيل للموضوع من جذوره الأولى ، وهي التعرض لكلام أهل الكتاب والرواية عنهم فيما يتعلق بالتفسير ، وهو أول مظاهر الأخذ والتلقي عنهم في التراث الإسلامي ..
ثانيا : لا بد من التعرض للتعريف الدقيق لكلمة الإسرائيليات ، فأقول :
الإسرائيليات : هي القصص والروايات المنقولة عن أهل الكتاب من اليهود "بني إسرائيل" أو من النصارى ، وإنما سميت بالإسرائيليات تغليبا ، لأن أكثر هذه القصص مأخوذ من بني إسرائيل .
وقد أخذ المسلمون والمفسرون هذه الروايات من كتب أهل الكتاب أو ممن أسلم منهم ، كعبد الله بن سلام ، ووهب بن منبه وكعب الأحبار ، وغيرهم .
ثالثا : وقد نص كثير من العلماء على أن الإسرائيليات عموما تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، وممن نص عليه ، شيخ الإسلام ابن تيمية ، وتلميذه ابن كثير ، الأول في رسالته البديعة : "مقدمة في أصول التفسير" ، والثاني في مقدمة تفسيره العظيم : "تفسير القرآن العظيم ".
ويتلخص الكلام في أن الإسرائيليات على ثلاثة أنواع من حيث علاقتها بالقرآن :
الأول : ما كان موافقا للقرآن .
الثاني : ما كان مخالفا له .
الثالث : ما لم يكن موافقا ولا مخالفا، بل سكت عنه القرآن ولم يبينه .
ولكل من هذه الأقسام حكم يختص به فيما يتعلق بالتفسير .
وقد أجمع العلماء في ضوء التقسيم الثلاثي على حكم نوعين ، واختلفوا في الثالث :
** أجمعوا على أن ما كان موافقا لما نزل في القرآن الكريم ، فإنه صواب ، لموافقته ، ولا حاجة إليه لوجوده بين أيدينا من القرآن .
**أجمعوا على أن ما كان مخالفا لكتاب الله تعالى فإنه لا يحل أخذه وروايته إلا على سبيل التحذير ، ولا يجوز بحال تفسير كتاب الله تعالى به .
واختلفوا في الأخير ، الذي لم يأت في القرآن ما يصدقه أو يكذبه ، وهو محل الخلاف إذا قلنا : اختلف في حكم تفسير القرآن بالإسرائيليات .
وهو الذي نستعرضه - إن شاء الله مبينين حكمه بعد عرض الأقوال فيه .
رابعا : ذكر الخلاف في النوع الثالث من الإسرائيليات : قلنا: قد اختلفوا فيما إذا كانت الإسرائيليات من النوع الثالث المذكور ؛ وهو ما لم يأت في القرآن ما يصدقه وما يكذبه على قولين ، بيانهما :
الأول : قول من قال : تجوز روايته والاستشهاد به ، وممن نص على ذلك الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في مقدمة تفسيره ، وأنا أسوق كلامه في المسألة فيما يأتي :
قال :
"ولهذا غالب ما يرويه إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير في تفسيره، عن هذين الرجلين: عبد الله بن مسعود وابن عباس، ولكن في بعض الأحيان ينقل عنهم ما يحكونه من أقاويل أهل الكتاب، التي أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "بَلِّغوا عني ولو آية، وحَدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومن كذب عَلَىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار" رواه البخاري عن عبد الله ؛ ولهذا كان عبد الله بن عمرو يوم اليرموك قد أصاب زاملتين من كتب أهل الكتاب، فكان يحدث منهما بما فهمه من هذا الحديث من الإذن في ذلك.
ولكن هذه الأحاديث الإسرائيلية تذكر للاستشهاد، لا للاعتضاد، فإنها على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما علمنا صحته مما بأيدينا مما يشهد له بالصدق، فذاك صحيح .
والثاني: ما علمنا كذبه بما عندنا مما يخالفه.
والثالث: ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم، وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود إلى أمر ديني؛ ولهذا يختلف علماء أهل الكتاب في هذا كثيرًا، ويأتي عن المفسرين خلاف بسبب ذلك، كما يذكرون في مثل هذا أسماء أصحاب الكهف، ولون كلبهم، وعدّتهم، وعصا موسى من أي الشجر كانت؟ وأسماء الطيور التي أحياها الله لإبراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلَّم الله منها موسى، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن، مما لا فائدة في تعيينه تعود على المكلفين في دنياهم ولا دينهم. ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 22] ، فقد اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام وتعليم ما ينبغي في مثل هذا، فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث، فدل على صحته إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما، ثم أرشد على أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته، فقال في مثل هذا: { قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ } فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس، ممن أطلعه الله عليه؛ فلهذا قال: { فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا } أي: لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب".اهـ
قلت : هذا كلامه رحمه الله ، إذ نص على جواز رواية هذه الإسرائيليات وفق الضابط الذي ذكره .
ولا شك أن كثيرا من المفسرين رأوا في رواية الإسرائيليات سعة ، ودليله : كثرة ما رواه بعضهم في تفسيره من روايات ، مثل : شيخ المفسرين : ابن جرير الطبري ، والسيوطي في تفسيره الدر المأثور في التفسير بالمأثور ، وغيرهما كثير من المفسرين .
ولكن لا بدّ في هذا المقام من بيان ملاحظة مهمة جدا ، وهو أن المفسرين هؤلاء قد كان منهم المكثر في الأخذ من الإسرائيليات ومنهم المقل ، فابن كثير مثلا من المقلين في تفسيره من التعرض للإسرائيليات ، حيث التزم بالشرط الذي اشترطه لروايتها كما في مقدمته إلى حد بعيد .
في حين أن عددا من المفسرين قد أفرط في ذلك إلى حد أفقد تفسيره كثيرا من قيمته العلمية ، مثل السيوطي ؛ الذي امتلأ تفسيره بها ، بل تجاوز الحد في كثير من الأحيان ، فروى منها ما لا يحل ذكره إلا على وجه التنبيه والتحذير ، والمشكلة أنه رواها من غير تعقيب !
خامسا : عرض أدلة الفريقين من المبيحين والمانعين :
بعد العرض الأوّليّ للموضوع بعامة ؛ وجب أن ننظر في أدلة كل من الفريقين ثم نرجح بينها ونبين ما لكل من الفريقين مما عليه .
ونبدأ بأدلة من أباح الأخذ من القسم الثالث من أنواع الإسرائيليات - وهو القسم المسكوت عنه ؛ فلم يأت في القرآن ما يصدقه أو ما يكذبه - .
فنقول :
استدل هؤلاء العلماء ببعض الأدلة على ما ذهبوا إليه ، وهذه الأدلة بالجملة هي :
1- قول الله تعالى : (سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ، ويقولون : سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل) الكهف .
حيث قد استدل الحافظ ابن كثير بهذه الآية - كما في مقدمة تفسيره على جواز رواية أقوال أهل الكتاب - إذ قال :
"ولكن نَقْلُ الخلاف عنهم في ذلك جائز، كما قال تعالى: { سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 22]
2- الدليل الثاني :
ما رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال :
( بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ، ومن كذب علي..) الحديث .
ووجه الدلالة منه : قوله صلى الله عليه وسلم : "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج" ؛ إذ إنه رفع الحرج والإثم عن الرواية عن بني إسرائيل ، والمقصود ما هو مسكوت عنه مما لم يأت ما يصدقه أو ما يكذبه في كتابنا الكريم .
3- الدليل الثالث :
فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وخصوصا حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما ، إذ روي عنه سؤال كعب الأحبار في مسائل عديدة ، وكذلك سؤال أبي الجلد ، وهما كتابيان أسلما ، في عهد أبي بكر وعمر .
ولو كان منهيا عنه لما أقدم مثل هذا الحبر العظيم على سؤال أهل الكتاب عما عندهم في كتبهم .
هذه الأدلة هي أدلة المبيحين كما بينت ، وقبل أن ننتقل إلى أدلة المانعين ، وجب مناقشة هذه الألة لتحقيق مدى صلاحيتها للاستدلال على ما وجهت إليه .
مناقشةً للأدلة المذكورة مما أرفقه هؤلاء - وهم جمهور العلماء - أقول :
**أما الدليل الأول ، وهو قوله تعالى : ( سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ) الآية . إذ استدل به ابن كثير كما في مقدمة تفسيره ، وقد نقلناه بنصه ، فلا يصلح للاستدلال على التحقيق ، والسبب :
أنه وإن كان الله تبارك وتعالى قد عدد أقوالهم ونقل الخلاف بينهم فيما ذكروه ، إلا أنه في نهاية الآية نهى عن استفتائهم وسؤالهم ، فقال : ( فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ، ولا تستفت فيهم منهم أحدا ) .
وهذه الآية ظاهرة الدلالة في المسألة ، إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يجادل في شأنهم إلا بما أوحاه الله تعالى إليه ، ولا يسأل من اليهود عن قصة أهل الكهف أحدا .
وحاصله : أن الآية دليل على ابن كثير والمبيحين لا دليل لهم .
أما الدليل الثاني ، وهو حديث البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : (..وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ) ، فيرد على الاستدلال به ما يأتي :
أن هذا اللفظ للحديث يحتمل أكثر من معنى :
الأول : حدثوا عنهم وارووا عنهم من أخبار كتبهم ولا حرج عليكم في ذلك .
وهذا المعنى هو الذي حمله عليه أصحاب القول الأول .
لكن لا بد من الإشارة إلى أن حمل الحديث على هذا المعنى يقتضي تأويله عن ظاهره ، لأن ظاهره قاض ٍ بإباحة الرواية عن بني إسرائيل مطلقا ، وهو غير مراد قطعا ، لأن من الإسرائيليات ما هو مخالف لصريح القرآن والاعتقاد ؛ فتعين حمل المباح روايته لى نوع معين من الإسرائيليات وهي المسكوت عنه .
المعنى الثاني الذي يحتمله لفظ الحديث : حدثوا عن فسقهم وكفرهم وفظائعهم ولا تتحرجوا من ذلك ، وذلك أن المسلمين كانوا يعتبرون أهل الكتاب أقرب إليهم من الوثنيين المشركين ، فكانوا يتحرجون - في البداية - من معاداتهم وقتالهم ، وجاءت الآيات الكثيرة التي تزيل هذه المشاعر من قلوب المسلمين ، كقوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب ..}التوبة .
فأي هذين المعنيين مقصود في الحديث ؟
أولا : لا بد من بيان أن ترجيح أحد الاحتمالين لا بد له من دليل ، وأن الترجيح بلا مرجح نوع تحكم .
ثانيا : الدليل الذي ينبغي به ترجيح أحد الاحتمالين هو النصوص الأخرى في المسألة التي تنهى عن الأخذ من الإسرائيليات ، ويأتي بيانها في موضعه إن شاء الله .
إضافة إلى ذلك أمرا مهما له دور مهم في الترجيح بين القولين وهو :
أن المعنى الثاني لا يحتاج إلى تأويل ؛ بينما الأول لا بد فيه من التأويل ، والذي لا يحتاج إلى التأويل أولى من المحتاج إليه ، والله أعلم .
أما الدليل الثالث الذي استدل به أصحاب هذا القول - وهو فعل الصحابة الكرام ، خصوصا ابن عباس رضي الله تعالى عنهم جميعا .
فأنقل في هذا المقام كلام أستاذي البحر فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور فضل عباس حفظه الله ورضي عنه وأطال بقاءه ونفع به ومتع ما حاصله المنع من قبول دعوى أن ابن عباس وأبا هريرة وغيرهما من الصحابة قد أخذوا عن الإسرائيليات ، فيقول :
"ولكننا عندما نناقش الأمر مناقشة علمية هادئة نرى أن تلك الفرية بعيدة عن الصواب والسداد .
فهل يمكن لمن تتلمذ لسيد الخلق عليه الصلاة والسلام أن يتتلمذ لكعب أمثاله ؟ وهل يليق بهؤلاء وقد كانوا يتربعون على كرسي الأستاذية بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُجلسوا على كرسيهم هذا من هو دونهم ؟
فأبو هريرة - مثلا - يروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يزيد على خمسة آلاف وأربعمائة حديث ؛ وهي علم غزير يؤهل صاحبه لأن يقضي عمره مهما طال ليفيد الناس بهذا العلم !!
وابن عباس كذلك الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالفقه وعلم التأويل حريٌ به أن لا ينصرف عن أسباب هذه الدعوة !
ولقد مرّ معنا نهي ابن عباس الناس عن سؤال أهل الكتاب - كما سيأتي بيانه عند ذكر أدلة المانعين - فكيف ينهى عن شيء ويُقدم عليه ؟ ذلك أمر لا يتناسب مع الخلق والدين لإنسان عادي ؛ فضلا عن ان عباس ترجمان القرآن وحبر الأمة " اهـ .
عن كتاب التفسير أساسياته واتجاهاته ، ثم يسوق الشيخ حفظه الله تعالى شيئا من الروايات المشهورة فيها رواية ابن عباس عن أهل الكتاب ، وينقل إثرها تفنيد الشيخ أحمد شاكر رحمه الله لها .
نعم ، إن الناظر إلى ما رواه البخاري من نهي ابن عباس الشديد عن سؤال أهل الكتاب ليوقن أن ما روي من أنه رضي الله عنه قد أخذ شيئا عنهم أمر لا يصح بحال .
ثم لا بد من بيان أمر آخر ، وهو أنه إن قامت النصوص القرآنية والنبوية ببيان تحريم شيء أو إباحته فلا حجة دون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
إذا انتهينا من مناقشة أدلة الفريق الأول ، فإنه يجدر بنا أن نبادر إلى بيان أدلة الفريق الثاني الذي يرى في الأخذ عن الإسرائيليات المسكوت عنها محظورا شرعيا ، فأقول - وبالله التوفيق :
استدل هؤلاء بأدلة أهمها :
1- قول الله تبارك وتعالى : ( فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا )الكهف .
ووجه الدلالة : النهي عن سؤال أهل الكتاب عن شيء مما يتعلق بقصة أهل الكهف ، ولكن ما جاء في القرآن هو الفيصل الحق الذي يجب الوقوف عنده ، وإذا كان النهي واردا في أهل الكهف ، فإن القياس ولا شك يوجب دخول بقية القصص والأخبار ، إذ لا قائل بالفرق ، والله أعلم .
2- الدليل الثاني الذي استدل به المانعون من تفسير القرآن بالإسرائيليات ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ..) الآية .رواه البخاري في كتاب التفسير من صحيحه الجامع .
ووجه الدلالة منه :
أن النبي صلى الله عليه وسلم ، وجّه إلى الوجه الصحيح في التعامل مع هذه الروايات الإسرائيليات ، وهي عدم تصديقها ، وكذلك عدم تكذيبها ، فإنك إما أن تصدق كذبا ، أو تكب صدقا ..
وأي تصديق أعظم من تفسير كتاب الله تعالى بالإسرائيليات ؟ فالذي فسر القرآن بهذه الروايات صدقها ؛ وأي تصديق ؟؟
3- عن جابر بن عبد الله "أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه عليه فغضب فقال :
" أمتهوكون -يعني متحيرون- فيها يا ابن الخطاب ؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ..لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به ، أو بباطل فتصدقوا به ، والذي نفسي بيده لو أن موسى صلى الله عليه وسلم كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني " .
رواه أحمد وابن أبي شيبة والبزار ، وحسنه الألباني رحم الله الجميع .
وله متابعات وشواهد من أحاديث أخرى عن عمر أيضا ، لكن فيها نوع ضعف ، ولما كان هذا الحديث صالحا للاحتجاج اكتفيت به عن نقلها .
4- مما يستدل به لقول هؤلاء من المانعين تفسير القرآن بالإسرائيليات : ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما :
"يا معشر المسلمين : تسألون أهل الكتاب ، وكتابكم الذي أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله ...أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا رجلا منهم قطّ يسألكم عن الذي أنزل عليكم" البخاري ، كناب الشهادات .
وفي الحديث :
*نهي ابن عباس عن الأخذ من الإسرائيليات وسؤال أهل الكتاب ، وابن عباس إمام المفسرين وأعلم الأمة بهذا العلم الجليل ومصادره ومآخذه .
*أن ما نقل عن ابن عباس من أخذه الإسرائيليات مما روي بتلك الأسانيد الضعيفة لا يتبت بحال ، لمخالفته الواضحة لما صح عنه من نهي عن ذلك .
5 - الدليل الخامس من هذه الأدلة : سدّ الذرائع .
وبيان ذلك أن يقال :
إن فتح باب الأخذ عن الإسرائيليات قد جرّ على التفسير خصوصا ، وعلى الأمة - إجمالا - ألوانا من الدخيل في العقيدة والتراث والتاريخ .. وصار من الصعب في مرحلة ما تمييز هذه الدخائل وتنقيتها .. وصارت الروايات الإسرائيلية المخالفة لصحيح الاعتقاد أشهر ما يذكر في تفسير القرآن ..
والأمثلة في ذلك كثيرة ، منها : قصة داود في سورة ص~ ، وذكر التسع والتسعين نعجة ، وقصة سليمان في نفس السورة "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب" ، وعدد لا بأس به من الروايات "الخطيرة" التي سوّدت صفحات التفسير ..
ولما كان الأمر كذلك ، وجب إغلاق هذا الباب ، وقطع مادة هذا التخليط ..
سادسا : الترجيح : الناظر في أدلة الفريقين يرى قوّة أدلة القائلين بحرمة تفسير القرآن بالإسرائيليات ، وهو الذي حشدت له الأدلة وأطنبت في الاستدلال له ، وهو الذي به أدين لله تعالى ، وقد أجبت فيما مرّ ذكره عن أدلة أصحاب القول الأول ، والله أعلم .
كتبه : رأفت "محمد رائف" المصري
المحاضر في قسم الدراسات القرآنية، جامعة الملك خالد .