تفسير الإمام أبي عمرو بن الصلاح من فتاويه

إنضم
23/10/2007
المشاركات
49
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد ..
يُعد الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله ( ت 643 ) واحدًا من أئمة الإسلام العظام الذين كان لهم باع كبير في خدمة الإسلام والمسلمين ؛ لا سيما في علوم مصطلح الحديث ؛ فكل من أتى بعده قد استفاد من مقدمته في المصطلح إما بالإضافة أو الشرح أو الاختصار أو النظم ... إلخ
وذاعت مقدمته هذه ذيوعًا منقطع النظير ولله الحمد والمنة ، إلا أن ذيوع علم ابن الصلاح في العلوم الأخرى لم يكن على القدر المطلوب ؛ لذلك أردتُ أن أجمع طائفة من تفسيره للقراّن الكريم من خلال فتاواه في التفسير والحديث والأصول والفقه ، والتي جمعها تلميذه كمال الدين إسحاق بن أحمد بن عثمان المغربي ( ت 650 ) ..
وقد اعتمدت على طبعة دار الوعى بحلب بتحقيق الدكتور عبد المعطي أمين قلعجي .
وسوف أقسم التفسيرات على حلقات ؛ حتى يسهل المتابعة ، ووضعت لكل حلقة عنونًا من عندي فالله الموفق ...
الحلقة الأولى :
تفسير الاّية الثانية والأربعين من سورة الزمر و الاّية الرابعة والأربعين من سورة يوسف وكلام حول الروح وقبضها في المنام وعن الرويا الصالحة والرؤيا الفاسدة وأمارة كل واحدة منهما :

مسألة في قوله تبارك وتعالى : ( الله يتوفى الأنفس في موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ...إلى اّخر الاّية .
قال المستفتي يريد تفسيرها على الوجه الصحيح بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحاح ، أو بما أجمع أهل الحق على صحته ، وقوله تتبارك وتعالى : ( قالوا أضغاث أحلام ) وما معنى أضغاث أحلام ؟ ومن أين يفهم المنام الصالح من المنام الفاسد ؟
* أجاب - رضي الله عنه - أما قوله تبارك وتعالى : ( الله يتوفى الأنفس ... الاّية ) فتفسيره :
الله يقبض الأنفس حين انقضاء أجلها بموت أجسادها ، والتي يقبضها أيضًا عند نومها ، فيمسك التي قضى عليها الموت بموت أجسادها فلا يردها إلى أجسادها ، ويرسل الأخرى التي لم تقبض بموت أجسادها حتى تعود إلى أجسادها إلى أن يأتي أجلها المسمى لموتها ..
* قوله تعالى - هذه مني للتوضيح- : ( إن في ذلك لاّيات لقوم يتفكرون ) لدلالات المتفكرين على عظيم قدرة الله سبحانه ، وعلى أمر البعث فإن الاستيقاظ بعد النوم شبيه له ودليل عليه ..
نُقل أن في التوراة : ( يا ابن اّدم كلما تنام تموت ، وكلما تستيقظ تبعث ) ...
* فهذا واضح والذي يُشكل في ذلك أن النفس المتوفاة في المنام أهي الروح المتوفاة عند الموت أم هي غيرها ؟ فإن كانت هي الروح فتوفيها في النوم يكون بمفارقتها الجسد أم لا ؟
وقد أعوز الحديث الصحيح والنص الصريح والإجماع أيضًا لوقوع الخلاف فيه بين العلماء ..
* فمنهم من يرى أن للإنسا نفسًا تتوفى عند منامه غير النفس التي هي الروح ، والروح لا تفارق الجسد عند النوم ، وتلك النفس الموتفاة في النوم هي التي يكون بها التمييز والفهم ، وأما الروح فبها تكون الحياة و لا تقبض إلا عند الموت ، ويُروى معنى هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما ..
* ومنهم من ذهب إلى أن النفس التي تتوفى عند النوم هي الروح نفسها ، واختلف هؤلاء في توفيها :
*فمنهم من يذهب إلى أن معنى وفاة الروح بالنوم قبضها عن التصرفات مع بقائها في الجسد ، وهذا موافق للأول من وجه وخالف من وجه وهو قول بعض أهل النظر من المعتزلة ..
*ومنهم من ذهب إلى أن الروح تتوفى عند النوم بقبضها من الجسد ومفارقتها له ، وهذا الذي نجيب به وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنة .
* وقد أخبرنا الشيخ أبو الحسن بن أبي الفرج النيسابوري بها قال :
أنا جدي أبو محمد العباس بن محمد الطوسي عن القاضي أبي سعيد الفرخزاذي عن الإمام أبي إسحق أحمد بن محمد الثعلبي - رحمه الله تعالى - قال : قال المفسرون : ( إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله ، فإذا أرادت جميعها الرجوع إلى أجسادها أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وحبسها ، وأرسل أرواح الأحياء حتى ترجع إلى أجسادها ) ..
* ولفظ هذا الإمام في هذا الشأن يعطي أن قول أكثر أهل العلم بهذا الفن ، وعند هذا ، فيكون الفرق بين القبضتين والوفاتين أن الروح في حالة النوم تفارق الجسد على أ،ها تعود إليه فلا تخرج خروجًا ينقطع به العلاقة بينها وبين الجسد ، بل يبقى أثرها الذي هو حياة الجسد باقيًا فيه ، فأما في حالة الموت فالروح تخرج من الجسد مفارقة له بالكلية فى تخلف فيه شيئًا من أثرها ، فلذلك تذهب الحياة معها عند الموت دون النوم ، ثم إن إدراك كيفية ذلك والوقوف على حقيقته متعذرفإنه من أمر الروح ، وقد استأثر بعلمه الجليل - تبارك وتعالى - فقال سبحانه : ( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا ) ..
* وأما قوله تبارك وتعالى : ( قالوا أضغاث أحلام ) فإن الأضغاث جمع ضِغْث وهو الحزمة التي تقبض بالكف من الحشيش ونحوه ، والأحلام جمع حُلم وهي للرؤيا مطلقًا ، وقد تختص بالرؤيا التي تكون من الشيطان ، ولما روي في حديث : ( الرؤيا من الله والحلم من الشيطان ) فمعنى الاّية أنهم قالوا للملك : إن الذي رأيته أحلام مختلطة و لا يصح تأويلها ..
* وقد أفرد بعض أهل التعبير اصطلاحًا لأضغاث أحلام فذكر أن من شأنها أنها :
1 - ( الترقيم من عندي ) لا تدل على الأمور المستقبلية وإنما تدل على الأمور الحاضرة والماضية.
2 - ونجد معها أن يكون الراوي خائفًا من شيء ، أو راجيًا لشيء ، وفي معنى الخوف والرجاء الحزن على شيء والسرور بشيء ، فإذا نام من اتصف بذلك رأى في نومه ذلك الشيء بعينه ..
3 - أن يكون خاليًا من شيء هو محتاج إليه الجائع والعطشان يرى في نومه كأنه يأكل ويشرب .
4 - أو يكون ممتلئًا من شيء فيرى كأنه يتجنبه ، كالممتلىء من الطعام يرى كأنه يقذف .
وذكر أن هذه الأمور الأربعة مهما سلم الرائي منها في رؤياه لا تكون من أضغاث الأحلام التي لا تعبير لها ، وهذا الذي ذكره ضابط حسن لو سلم في طرفيه ، لكن الحصر شديد وما ذكره فعنده من المنامات الفاسدة شاركته في الاندراج في قبيل الأضغاث ..
* وأما سؤاله : من أين يفهم المنام الصالح من المنام الفاسد ؟
فإن للرؤيا الفاسدة أمارات يستدل بها عليها ، وما تقدم حكايته في شرح أضغاث أحلام طرف منها ..
1 - (الترقيم من عندي أيضًا ) فمنها أن يرى ما لا يكون كالمحالات وغيرها مما يعلم أنه لا يوجد ، بأن الله - سبحانه وتعالى - على صفة مستحيلة عليه ، أو يرى نبيًا يعمل عمل الفراعنة ، أو يرى قولًا لا يحل التفوه به ، ومن هذا القبيل ما جاء في الحديث الصحيح من أن رجلًا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني رأيت رأسي قطع وأنا أتبعه ) الحديث المعروف ، وهذه هي الرؤيا الشيطانية التي ورد الحديث بأنه تحزين من الشيطان أو تلعب منه بالإنسان ..
2 - ومن هذا النوع الاحتلام فإنه من الشيطان ؛ ولذلك لا تحتلم الأنبياء عليهم السلام ..
3 - ومن أمارات الرؤيا الفاسدة أن يكون ما راّه في النوم قد راّه في اليقظة وأدركه حسه بعهد قريب قبل نومه وصورته باقية في خياله فيراه بعينها في نومه ..
ومنها أن يرى ما قد حدثته به نفسه في اليقظة ويكون مما قد تفكر فيه قبل النوم بمدة قريبة : إما مما قد مضى ، أو من الحالي ، أو مما ينتظر في المستقبل ..
ومنها أن يكون ما راّه مناسبًا لما هو عليه من تغيير المزاج بأن تغلب عليه الحرارة من الصفراء فيرى في نومه النيران والشمس المحرقة ، أو يغلب عليه البرودة فيرى الثلوج ، أو يغلب عليه الرطوبة فيرى الأمطار والمياه ، أو يغلب عليه اليبوسة والسوداء فيرى الأشياء المظلمة والأهوال ، فالرؤيا السوداوية ، فجميع هذه الأنواع فاسدة لا تعبير لها ..
* فإذا سلم الإنسان في رؤياه من هذه الأمور وغلب على الظن سلامة رؤياه من الفساد ، ووقعت العناية بتعبيرها ، وإذا انضم إلى ذلك كونه من أهل الصدق والصلاح قوى الظن بكونها صادقة صالحة ، وفي الحديث الثابت عنه صلى الله عليه وسلم : ( أصدقهم رؤيا أصدقهم حديثًا ) ..
* ومن أمارات صدقها من حيث الزمان كونها في الأسحار لحديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : ( أصدق الرؤيا بالأسحار ) ( الحديث ضعيف ) - التنبيه مني -..
وكونها عند اقتراب الزمان لقوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه : ( إذا اقترب الزمان لم تكد رويا المسلم تكذب ) ..
واقتراب الزمان قيل :
* هو اعتداله وقت استواء الليل والنهار ، ويزعم المعبرون أن أصدق الرؤيا ما كان أيام الربيع ..
* وقيل : اقتراب الزمان وقت قيام الساعة ..
* ومن أمارات صلاحها أن يكون تبشير بالثواب على الطاعة ، أو تحذير من المعصية ...
* ثم إن القطع على الرؤيا بكونها صالحة لا سبيل إليه إنما هو غلبة الظن ، ونظير ذلك من حال اليقظة الخواطر ، ومعلوم أن إدراك ما هو حق منها مما هو باطل وعر الطريق ، إن نظن إلا ظنًا وما نحن بمستيقنين ...
 
الحلقة الثانية
بين الاّية الثانية بعد المئة من سورة اّل عمران والاّية السادسة عشرة من سورة التغابن وحديث عن التقوى

قول الله عزو وجل : " اتقوا الله حق تقاته " ما هي الخصال التي إذا فعلها الإنسان كان متقيًا لله عز وجل حق تقاته ؟ وهل نسخت هذه الاّية بقول الله - عز وجل - : " فاتقوا الله ما استطعتم " أم لا ؟
أجاب - رضي الله عنه - لم تنسخها بل فسرتها ، وحقُّ تقاته أن يُطاعَ فلا يُعصى ، غير أنه إذا تجنب الكبائر ولم يصر على صغيرة ، وإذا عمل صغيرة يعقبها بالاستغفار كان من جملة المتقين والله أعلم ..
 
الحلقة الثالثة :
حول الاّية الحادية والثلاثين من سورة النساء وكلام عن تعريف الكبيرة

قوله - عز وجل - : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " إلى اّخر الاّية .
ما الكبائر وما الصغائر ؟ وكم المتفق عليه من الكبائر وما الفرق بين الصغائر والكبائر ؟ وهل تحتاج الصغائر إلى توبة أم لا ؟ وهل تذهب الصغائر بالصلوات كما جاء في الحديث ؟ أم لا بد من ذلك من التوبة وإن احتاجت فما الفرق بينها وبين الكبائر ؟ وبماذا يعد المصر على الصغيرة مصرًا ؟ بفعل الصغيرة مرة واحدة أم مرارًا أم بالعزم والنية ؟ فإن قلنا بالفعل مرارًا فما عدد تلك المرات ؟
أجاب - رضي الله عنه - : قد اختلف الناس في الصغائر والكبائر في وجوه .
( والذين أثبتوا الفرق وهم الجماهير ) اضطربت أقوالهم في تحديد الكبائر وتعديدها .
وقد قلت في ذلك قولًا رجوت أنه صواب وهو أن الكبيرة ذنب كبير وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ، ووصف بكونه عظيمًا يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير ووصف بكونه عظيمًا على الإطلاق ..
فهذا فاصل لها عن الصغيرة التي وإن كانت كبيرة بالإضافة إلى ما دونها فليست كبيرة يطلق عليها الوصف بالكبر والعظم إطلاقًا ، ثم إن لكبر الكبيرة وعظمها أمارات معروفة بها منها :
1 - ( الترقيم من عندي ) إيجاب الحد .
2 - ومنها ألا يعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب والسنة .
3 - ومنها وصف فاعلها بالفسق نصًا .
4 - ومنها اللعن كما في قوله : ( لعن الله من غير منار الأرض ) .
في أشباه لذلك لا نحصيها ، وعند هذا يعلم أن عدد الكبائر غير محصور والله أعلم .
والصغائر قد تمحى من غير توبة بالصلوات وغيرها كما جاء به الكتاب والسنة ، وذلك أن فاعل الصغيرة لو أتبعها حسنة أو حسنات وهو غافل عن التندم والعزم على عدم العود المشترطين في صحة التوبة لكان ذلك ماحيًا لصغيرته ومكفرًا لها كما ورد به النص وإن لم توجد منه التوبة لعدم ركنها لا لتلبسه بأضدادها ، والمصر على الصغيرة من تلبس من أضداد التوبة باستمرار العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرًا وعظيمًا ، وليس لزمان ذلك وعدده حصر ، والله أعلم .
 
((الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى))
لعل مناسبة الآية الكريمة للآية الكريمة التي قبلها : ((إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق ، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل * الله يتوفى الأنفس...)) .
هو ما رواه مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال : حَدَّثَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَنَّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِى جِذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ ». ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ ، قَالَ : « يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا وَلَيْسَ فِيهِ شَىْءٌ - ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ - فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّى الأَمَانَةَ حَتَّى يُقَالَ إِنَّ فِى بَنِى فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا. حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ».
 
عودة
أعلى