تفسير الألفاظ الشرعية كيف يكون ومصادره .. (عند أهل الظاهر)

إنضم
04/02/2006
المشاركات
389
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
العمر
57
الإقامة
مصر
الموقع الالكتروني
www.aldahereyah.net
تفسير الألفاظ الشرعية كيف يكون ومصادره .. مقال للشيخ ابن تميم الظاهرى...
قال حفظه الله :
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد ..

فمقال اليوم بحول الله وقوته عن تفسير الألفاظ الشرعية الواردة بالكتاب والسنة، وكيف يكون ذلك، ومصادر التفسير، وذلك استجابة لبعض الأصحاب من أهل الظاهر، فسيكون بحول الله وقوته مختصراً على قدر الحاجة، فأقول وبالله التوفيق.

المسألة الأولى: مصادر تفسير الألفاظ الشرعية.

مصادر تفسير الألفاظ الشرعية لا يكون إلا من خلال ما يلي:
1- القرآن.
2- السنة.
3- الإجماع.
4- اللغة العربية ومقتضيات دلالة اللفظ ولوازمه.

فهذه االمصادر لأربعة هي التي نفسر بها اللفظ الشرعي الوارد في القرآن، أو في السنة، وهذه المصادر أجمع العلماء الذين يعتد بخلافهم على القول بها، ثم اختلفوا في الزيادة على ذلك، كتفسير الصحابي، والتابعي، وتابع التابعي، والأئمة الأربعة، وكلها راجعة في الأعم الغالب إلى الرأي والظن، ولسنا في مقام بحث هذه المصادر، إذ المقال لأصحابنا أهل الحديث العاملين بالظاهر، والنابذين لكل رأي وظن.

فإن كان النص أو الإجماع أو اللغة جاءت بتفسير هذا اللفظ، فإما أن يرد القرآن بتفسير لفظة واردة فيه، وإما أن يأتي نص حديث صحيح بذلك، وإما أجماع متيقن، وإما من اللغة العربية، ويدخل من ضمنها دلالات اللفظ في اللغة من المقتضى واللازم، كما مر معنا في المسألة الأولى من مصادر تفسير الألفاظ الشرعية.

وأن الألفاظ الوارد بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة إما أن يأتي تفسيرها في النصوص، وإما أن لا يأتي التفسير في النصوص.

والألفاظ التي فسرها نص قرآن، أو نص سنة، أو إجماع فتفسيرها حق على ما هو عليه، يجب العمل به واعتقاده كما جاء.

وأما الألفاظ التي لم يرد تفسيرها من نص أو إجماع، فإنها تكون مفسرة باللغة العربية التي خوطبنا بها، وقد ترد بعض الألفاظ ولا تكون مفسرة، لا من نص، ولا من إجماع، ولا من لغة، وحق هذا النوع الإيمان به كما جاء، وتفسيره هو الإيمان به فقط بمعنى التصديق بما جاء به، – وسيأتي وسيأتي الكلام عليه بعد قليل إن شاء الله – ، ولا تفسير للنصوص الشرعية من غير هذه الطرق ألبتة.

ويجب أن تلاحظ أن التفسير اللغوي إذا جاء من عن الصحابة رضي الله عنهم، أو بعضهم، أو أحدهم، أو جاء عن طريق التابعين، وكان كما قلنا تفسيراً لغوياً بحتاً: فهو واجب القبول بعد النظر في كتب أهل اللغة ومعرفة وجه تفسير الصحابي، فإن الصحابة والتابعين هم أهل العربية، وأولى الناس ببيان معنى استعمل في النصوص الشرعية، وليس هذا من قبيل قبول قول الصحابي؛ لأن قول الصحابي واعتباره مصدراً تشريعياً ليس هو تفسيره اللغوي باعتباره من أئمة اللغة، وهذا معلوم لا يخفى على طالب العلم، كتفسير بعض الصحابة لبيع المنابذة، والملامسة، وغيرها من الألفاظ الواردة في الكتاب أو السنة، حيث بينوا ماذا يراد من هذا اللفظ عندهم، فهذا من الحق الواجب قبوله إن لم يعارضه نص أو بيان من لغة متيقن، ومن رده وقَبِلَ قول من تأخر من أهل اللغة فقد تحكم وتلاعب، حيث أخذ من المتأخر ما يعلمه المتقدم يقيناً، وقد يكون المتأخر قد خالط غير العرب، وتأثر بلغتهم، واستعمالهم لكلام العرب.

أما تفسيرهم الذي لا يعد تفسيراً لغوياً بحتاً: فقبوله موقوف على دليل من نص، أو من إجماع، أو من لغة، إذ يكون حينها من الرأي، كتفسير لفظ ( لامستم النساء ) بأن الملامسة الجماع، وأن الله تعالى كنى عن ذلك بالملامسة، فهذا صرف عن المعنى الحقيقي، إلى معنى آخر مجازي ليس هو ظاهر اللفظ، أو إلى تخصيص بعض اللفظ الوارد، إذ الجماع بعض الملامسة.

فهنا نتوقف عن قبوله حتى يرد نص يؤيد ما فسره به الصحابي، أو إجماع؛ لأن التفسير منهم رضي الله عنهم ليس من قبيل التفسير اللغوي؛ لأن الملامسة تشمل كل مس وجس بيد أو بغيره، والجماع من بعضها، فإخراج مس اليد والرجل وغير ذلك، وقصر المعنى على الجماع تخصيص لا دليل عليه، لذلك كان هذا من قبيل تفسير بالرأي والاجتهاد، لا من التفسير اللغوي البحت، فلو قال: الملامسة كل لمس أو جس، لصح أن هذا تفسير لغوي بحت، كما فسره بذلك بعض الصحابة وخالف من فسره بأنه الجماع وحده، أي إما أن يكون تفسيراً للمعنى الحقيقي من اللفظ في الاستعمال، وإما أن يكون التفسير لبيان أن المعنى الحقيقي غير مراد عند العرب من هذه اللفظة، وبالله تعالى التوفيق.

المسألة الثانية: أقسام الألفاظ الشرعية الواردة.

الألفاظ الشرعية منقسمة إلى قسمين، وذلك راجع إلى الاعتبار الذي تنظر إليه، وسأتحدث عن هذه المسألة من خلال التقسيم ليتضح مرادي من هذا المقال، وسأجعل التقسيم مبني على قسمين:

القسم الأول: الألفاظ الشرعية باعتبار تعلقها بذات الله تعالى وعدمه.
القسم الثاني: الألفاظ الشرعية باعتبار تعلقها بأمر غيبي، أو مشاهد أو محسوس.

فعلى هذه القسمة يتضح لك ما أريد بيانه من مسألة تفسير الألفاظ.

فأما القسم الأول وهو: الألفاظ الشرعية باعتبار تعلقها بذات الله تعالى وعدمه.

وهو على ضربين:
فالضرب الأول: ألفاظ شرعية لا تتعلق بذات الله تعالى.

وهذا الضرب من الألفاظ: فإما أن يكون متعلقاً بأحكام عملية مطلوبة، وإما أن يتعلق بأخبار غيبية، إما عن الأمم قبلنا، وإما عن ما يجري في الآخرة، وفي البرزخ، وهذه حقها: أن نطلب تفسير الحكم الشرعي بالمصادر السابقة، ليتحقق الامتثال بما جاء بها، وهذه الألفاظ يمتنع أن يكون تفسيرها غير موجود، إذ ما كلفنا الله تعالى بها إلا ولها تفسير نعرفه لنتمكن من العمل.

وأما الأخبار الغيبية التي عن الأمم الماضية، أو أحوال الآخرة، والبرزخ ونشأة الخلق ونحوها: فالإيمان بها كما جاءت، والتصديق بما سيكون، على الوجه الذي أخبر الله تعالى به، وإن جاء تفسير بعض هذه الألفاظ بالنص: أخذنا به، واعتقدناه كما هو، سواء كان التفسير مخبر عن حقيقة وماهية ذلك الشيء، أو لم يخبر بذلك، فحق هذه الألفاظ الإيمان والتصديق بها والاعتبار والاتعاظ.

والضرب الثاني: ألفاظ شرعية تتعلق بذات الله تعالى.

فالنصوص الشرعية إما أن يرد اللفظ فيها عن شيء متعلق بذات الله تعالى، وإما أن يرد ولا متعلق له بذات الله تعالى كما قدمنا آنفاً، فإن كان متعلقاً بذاته سبحانه وتعالى: فكما قلنا آنفاً من قبول تفسيره الوارد من خلال النصوص الشرعية، أو الإجماع الراجع إلى النص الشرعي، أما اللغة فلا يجوز أن يكون تفسير شيء متعلق بذات الله تعالى باللغة العربية ألبتة، ومن هنا وقع الكثير من طلبة العلم وحتى العلماء بخطأ جسيم.

فقد أجمع العلماء على أن ذات الله تعالى غير معروفة وغير مدركة، وأنه لا أحد من البشر يعرف كنه وحقيقة ذات الله تعالى، ومن زعم أنه يعرف ذلك فقد كذب وقد يكفر إن كان عالماً بما يؤول إليه قوله الكاذب.

ولذلك قال السلف عن بعض آيات تعلقت بذات الله تعالى: ( نمرها كما جاءت ولا نفسرها ) ؛ لأنهم يعلمون أن ذات الله تعالى ليست كذوات المخلوقين، وليس عندهم نص من قرآن أو سنة يبيّن لهم ذات الله وحقيقتها، فتوقفوا عن الخوض في هذا؛ لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لم يطلعهم على ذلك ألبتة، ولن يجد المشغب هنا أثراً صحيحاً عن أئمة الناس كلهم، وهم الصحابة والتابعين وتابعيهم فيه تفسير لشيء متعلق بذات الله تعالى، فالحمد لله كثيراً على موافقة الحق وسلف الأمة حقاً.

واعلم أن التفسير للفظ فهو متعلق بكيفية الشيء وكذلك حقيقته وماهيته، فنحن على يقين أن الله تعالى لم يبين لنا لا كيفية ما تعلق بذاته، ولا حقيقة وماهية ذلك الشيء ألبتة، فمن زعم أنه يعرف الكيفية، أو الماهية فقد كذب، ومن زعم أنه يعرف الماهية ولا يعرف الكيفية فقد كذب، ومن زعم أنه يعرف الكيفية ولا يعرف الماهية فقد كذب أيضاً.

وزعم بعض من يجهل الحقائق أنه يعلم معنى ما تعلق بذات الله تعالى ! وأن هذا مدرك معروف من لغة العرب !

وما علم هذا القائل أن لغة العرب لم توضع أصلاً إلا لما شاهدوه وأحسوا به وعاينوه، وأما ما لم يروه فليس لهم تفسير له، ولا بيان معنى، فلغات الدنيا كلها ما وضعت إلا لتفسير وبيان اسم شيء يعرفونه ويميزونه باسمه الذي أطلقوه عليه، فإن قالوا الاسم: عرفوا المعنى منه، من كيفية، ومن ماهية وحقيقة.

فمن زعم أن له مثل هذا البيان والتفسير فيما يتعلق بالله تعالى: فليبينه ببرهان لا شك فيه، لا أن يستروح بنقل المتأخرين في كتب الاعتقاد أن المعنى معلوم، ثم إذا سألهم سائل: ما هو هذا المعلوم ؟ هل الكيفية أو الحقيقة ؟ لم يجيبوا لا بمعرفة هذا ولا ذاك؛ لأنهم يعلمون أنهم إذا زعموا أن الكيفية معلومة فقد كذبوا جهاراً، وإن زعموا أيضاً بأنهم يعرفون المعنى فقد كذبوا كذلك، إذ المعنى ما هو إلا كيفية الشيء وماهيته، وذات الله تعالى وما تعلق به لم يطلعنا لا على كيفية، ولا على ماهية وحقيقة، ولا فسره لنا، ولا فسره رسوله صلى الله عليه وسلم، بل أمرنا بالإيمان به كما هو، كما أمرنا أن نؤمن بالملائكة والكتب والأنبياء ونحن في هذا الزمان لم نر أحداً منهم، فكذلك ما تعلق بذات الله تعالى، فهو من جملة ما أمرنا بالإيمان به، وأن لا نتكلف بحثه والخوض فيه والادعاء بأننا نعرفه زوراً.

فما تجرأ الصحابة ولا التابعين من بعدهم على الخوض في كيفية ما تعلق بذات الله تعالى، ولا حقيقة ذاته، وإنما كان هذا من فعل أصحاب البدع من بعد هذه القرون الفاضلة وأضرابهم الذين أخذوا يخوضون في هذا الأمر لبيان ما فيه كذباً منهم وإفكاً، نسأل الله السلامة من ذلك، أو تكلم به عالم من علماء السنة من غير تحقيق لما يؤول إليه كلامه، فهذا نسأل الله يغفر له وأن يتجاوز عنه؛ لأنه مخطئ قد قال كلمة لم يحقق ما فيها من معنى.

فإذا قال تعالى أن له وجهاً سبحانه، وأن له يداً، وأن له قدماً، أو رجلاً، وأن له عيناً، فكل ذلك حق وواجب الإيمان به، نقول كما قال ربنا تعالى، ولا نزيد من عند أنفسنا، ولا نقول أن اليد هنا كما يفهم العربي في لغته؛ لأن هذا كذب على اللغة، إذ اللغة لا تعرف اليد إلا اليد من المخلوق، التي هي جسم وعضو من لحم ودم له فائدة في الاستناد والكتاب والرفع والحمل وغير ذلك، ولا تعرف اليد من الخالق، لا نعرف حقيقتها، ولا كيفيتها؛ لأن أهل اللغة لم يروها، ولم يخبرهم النص بذلك حتى يقولوا به، فمن زعم أنه يعرف المعنى فليذكر ما هو هذا المعنى ؟ فالاتفاق بين أهل الحق قائم على أن الكيفية مجهولة، فبقي المعنى الذي يظهر الماهية والحقيقة من الشيء، فهل عندهم برهان من نص، أو إجماع، أو لغة تشهد بما يقولون ؟ فإن أظهروه: صدقوا، وإن احتجوا بقول شيخ الزمان وأعجوبة الأيام ونصير الإسلام كعادتهم: فقد أظهروا كذب ما يدعون، فهم في أمرين لا يخرجون عنهما: فأولهما: التناقض، إذ دعواهم أنهم يعرفون المعنى دون الكيفية بلا دليل يوجب هذه المعرفة للمعنى، وثانيهما: التجسيم، إذ يقولون اليد معناها معروف في لغة العرب، فيد الله معروفة ! وهذا الزعم أداهم إلى الوقوع في التجسيم من حيث لا يشعرون، إذ لغة العرب تعرف اليد التي هي للمخلوق، ولا تعرف اليد التي هي للخالق سبحانه وتعالى.

فإن كذبوا وقالوا: يد الله تعرفها لغة العرب، فقد ركبوا التجسيم بلا شك؛ لأنهم إذا قالوا: يد الله معروفة كما هي يدنا، فقد وصفوا يد الله تعالى بما يعرفونه من وصف اليد المخلوقة.

فإن قالوا كعادتهم: الكيفية مجهولة !
قلنا: ما خالفناكم أصلاً في جهلنا بالكيفية، وإنما خالفناكم بالماهية والحقيقة، إذ كل شيء فإنما معناه من كيفياته وماهيته من جسم أو عرض، فقد لبّستم على الناس في قولكم ( المعنى معلوم ) فإن كنتم تعنون العلم بالماهية والحقيقة: فقد نسبتم إلى الله تعالى ما لا يحل، وكنتم من المجسمة بانشراح صدر، وأوجب قولكم التناقض ولا بد، فالحمد لله الذي قال ولا يحيطون به علماً، فأمنا من الإحاطة والعلم ما دمنا في الدنيا، ولا ندري أندري حقيقته وماهيته وكيفية ما تعلق به يوم القيامة أو لا، فذلك راجع إلى الله تعالى وما يتفضل به على خلقه الذين دخلوا الجنة، نسأل الله أن نكون من هؤلاء.

واعلم أن كثيراً منهم يخبط هنا في هذا المحل، إذ لا تسمع منهم إلا اللجاج والعويل والتصنيف والنسبة للفرق دون تمييز حقيقة أقوال هذه الفرق، وترديد القول: أننا نعرف هذا المعنى من اللغة، ثم لا يعرفون هذا المعنى إذا سئلوا، فنسأل الله السلامة من هذا التناقض والقول المؤدي إلى الكذب على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

فنقول عن كل ما ذكر الله تعالى عن ذاته: أن لله تعالى يد، وله وجه، وله قدم، وله أصبع، وله عين، وأن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يأتي يوم القيامة كما قال في كتابه، وغير ذلك مما نسبه الله تعالى إليه، ولا نتكلم في تفسير الكيفية، أو الماهية ألبتة؛ لأننا لا نعرفه أصلاً لا من لغة، ولا من نص.

وكذلك نقول أن كل ما تعلق بذات الله تعالى فهو حق كما هو لا شيء منه من المجاز، ومن زعم أنه مجاز فقد كذب؛ لأن التقسيم بالحقيقة والمجاز إنما اصطلح عليه البشر، وهو تقسيم باعتبار استعمالهم للفظ في معناه، فإما أن يستعملوه في معناه الذي وضع له: فهو حقيقة، وإما أن يستعملوه في معنى آخر غير الذي وضع له لفائدة، كتشبيه، أو كناية، أو استعارة، ونحوها من طرق صرف اللفظ عن معناه الحقيقي في الاستعمال، وهو المجاز.

أما كلام الله تعالى: فهو سبحانه وتعالى واضع اللغات، فكل ما تكلم فيه فلا ينصرف إلى تقسيم البشر؛ لأنه لا يخضع لقانون البشر في استعمال اللفظ في معناه وعدمه، فله أن يتكلم باللفظ ويريد منه ما عرفناه وأسميناه معنى حقيقي، أو يتكلم به ويريد منه معنى غير الذي استعملناه في الحقيقة، فإن استعمله هكذا: كان حقيقة أيضاً؛ لأن كلامه كله حقيقة، بمعنى أنه يضع اللفظ على المعنى الذي يريد، فاستعمال اللفظ في معناه الحقيقي عندنا: هو استعماله فيما وضع له، ولسنا من وضعه أصلاً إلا ما استحدثنا من اصطلاحات حادثة لم ترد بلسان الشرع، فهي فقط ما تواضعناه لا غيره.

فمن زعم أن الله تعالى يتكلم مجازاً فقد كذب، وأدخل ربه تعالى تحت قانون البشر، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فإنه يزعم أن غيره هو الذي وضع اللغة، وأن الله تعالى إما أن يسير وفق ما وضعه هذا الواضع من أن كذا هو استعمال حقيقي، وإما أن يخالف الاستعمال الحقيقي إلى غيره، وهذا فيه من الخطأ ما فيه، بل الكذب الصريح إذ يقول: إن هناك من وضع اللغة التي تكلم الله تعالى بها في كتابه، وأدخل ربه تحت قانون هذا الواضع، فسبحان الله عما يصفون.

ولا بد أن تعلم: إننا إنما نفهم أن هذا اللفظ يستعمل عندنا على معناه الحقيقي، أو يستعمل على معناه المجازي، إن كان المتلفظ به مخلوق تلقى اللغة من واضعها سبحانه وتعالى.

فكل ما تعلق بذات الله تعالى تحكمنا فيه قاعدة: ليس كمثله شيء، وأننا لا نحيط به علماً سبحانه وتعالى.

فإن كان ليس كمثله شيء، وأننا لا نحيط به علماً، وأننا لم نرى ربنا تعالى، وأنه لم يخبرنا عن ماهيته وحقيقته: فمن ادعى أنه يعلم حقيقة وماهية خالقه سبحانه فليستغفر الله ربه، ويترك هذه القولة الفاسدة الباطلة من كل وجه، والتي لا برهان عليها إلا قول الرجال الذين لم نؤمر باتباعهم.

وإن اعترض معترض وزعم أن هذا قول المفوضة، قلنا: كذبت، وأبنت عن جهلك فيما تتكلم فيه، وأنه يجب عليك أن تتعلم ما تتكلم فيه، وإلا تعرضت لعذاب الله دون أن تدري.

أما مذهب المفوضة والذي اختلط على منهج الصحابة والتابعين في عدم التفسير فقد اختلط على طلبة العلم وكذلك بعض العلماء، فقد جاء المفوضة إلى جملة ( نمرها ولا نفسرها ) وتعلقوا بها، وجعلوها حجة لهم في تفويضهم، ثم موهوا بأن قالوا: أن مذهبنا هو مذهب السلف !

فالمفوضة يخالفون السلف من الصحابة والتابعين، فلا يمكن بحال أن يكون هؤلاء الأخيار سلف المفوضة المبتدعة، وبيان ذلك:

أن السلف لم يثبتوا ما أثبتوه من مسائل الاعتقاد بالعقل، وإنما اكتفوا بما ورد بالنص ولم يتزيدوا من عند أنفسهم شيئا، ولا ورد عنهم تفسير لشيء متعلق بذات الله تعالى ألبتة من طريق فيها خيرً.

أما المفوضة فهم خليط من الماتريدية والأشعرية الذي أثبتوا الصفات السبع بالعقل، لا بالنص، ثم أتوا إلى بقية الصفات فتعللوا بأننا لا نعرف المعنى ويجب تفويضه كما كان السلف يفعلون، وخالفوا بقية الأشعرية الذي صرفوا بقية الصفات وقالوا هي مجاز !

وهذا بضد مذهب السلف في إثبات العقائد، وهذا أهم أصل نتبين منه مخالفتهم للسلف الصالح، فاحفظ هذه ولا يغرنك بها أحد، فقد أرادوا الفرار من تشنيع خصوم الأشعرية، فمتسكوا بجملة قالها السلف لتحقيق مقصدهم من نفي الصفات الذي حاربهم فيه غيرهم.

وكذلك فإن السلف لم يتكلموا في مسائل الاعتقاد إلا رواية للحديث الوارد، أو النص القرآني لمن سأل عن ذلك، دون تأويل ولا تفسير ولا غيره، وما خاضوا في علم الكلام على طريقة المعتزلة أسياد الأشعرية الذين فسقت منهم المفوضة.

أما المفوضة فقد قلنا أنهم تكلموا بذلك، واعتمدوا العقل في إثبات السبع صفات، ثم تحيلوا بهذه الحيلة الباردة، فحمّلوا مذهب الصحابة والتابعين مذهبهم الغث زوراً وإفكاً، وكذلك خاضوا في غير مسائل الصفات ولم يمنعهم مذهب الصحابة والتابعين الذين لم يتكلموا في شيء إلا على سبيل بيان دليل ما تكلموا به من الكتاب والسنة.

وأن سلف الأمة اعتبرت حديث الآحاد حجة في العلم ( العقائد ) والعمل ( الأحكام الشريعة ) ولم يفرقوا بين ذلك ألبتة، فكل حديث صح وإن كان من طريق الآحاد فهو مقبول يوجب أن نعتقد ما فيه، وأن نعمل بما أمر به من أحكام شرعية، وتلك السيرة الفاضلة.

بخلاف المفوضة الذي قالوا بأن خبر الآحاد لا يوجب علماً، أي لا تؤخذ منه العقائد، فكيف نزعم أن المفوضة كمذهب السلف لمجرد أنهم وافقوا السلف في حكاية أن المعنى غير معلوم ! فشتان بينهما، فكيف يجتمع المغربي بالشامي ! أو بعد هذا يكون سلفهم الصحابة والتابعين ! لا والله حتى يلجوا سم الخياط.

فلا بد حين تذكر المفوضة أن تذكر أنهم موافقون للسلف الصالح في عدم تفسير بعض الألفاظ الواردة بالنص والمتعلقة بذات الله تعالى، وأن أصلهم في هذه الموافقة، أو المخالفة ليست هي أصل السلف الصالح، وأنهم تكلموا في أشياء خالفوا فيها السلف الصالح، وبهذا يفترقان ولا يجتمعان أصلاً، ولا يكون السلف هم سلف المفوضة المدعين على سلف الأمة كذباً، فتنبه لهذا الأمر وهذه النسبة حتى لا تقع في الخطأ والخلط.

فحقيقة المفوضة أنهم أشعرية تحيلوا بحيلة باردة وقالوا أن المعنى في بعض الألفاظ الواردة بالنص لا يعلم معناها فراراً من تشنيع خصومهم في باب الأسماء والصفات، فمن عدم التحقيق وركوب الخطأ أن تنسب المفوضة إلى مذهب السلف من الصحابة والتابعين، وفي هذا جور، وعقوق لخيار الأمة.

أما القسم الثاني فهو: الألفاظ الشرعية باعتبار تعلقها بأمر غيبي، أو مشاهد أو محسوس.

وهذا القسم على ضربين:
الضرب الأول: اللفظ الشرعي المتعلق بأمر غيبي.

وهذا يدخل تحته ما ذكرنا من الألفاظ المتعلقة بذات الله تعالى، وكذلك ما تعلق بأمر غيبي لم نشاهده أو نحسه، ومن ذلك ما يجري في الآخرة من أمور نعيم، أو عذاب، فكل ذلك لا ندري حقيقته أصلاً، ومن زعم أنه يعلم هذه الحقيقة فقد كذب؛ لأننا لم نر من ذلك شيئاً، وإنما رأينا بعض ما يشبه ما علمنا أنه يكون في الآخرة، كالجنة، وهي البستان عندنا، وهي بخلاف ذلك، على قاعدة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فنؤمن بها كما جاءت ولا نفسر حقيقيتها وماهيتها ألبتة، وهي من جملة ما يجب الإيمان به، أي التصديق به وإن لم نشاهده أو نحسه.

وبهذا التقسيم تتحصل على بيان ما يرد في النصوص الشرعية من ألفاظ، وكيف نفسرها، ومتى نقبل التفسير، ومتى نرده، ومتى ندعي معرفتنا تفسير اللفظ، ومتى ندعي عدم معرفتنا للمعنى، أما ما عدا ذلك فهو إما خطأ، وقد وقع في هذا الخطأ كبار، نسأل الله لهم المغفرة والرحمة، وإما أن يقع ذلك جهلاً من قائله، وتقليداً لمن أخطأ، وهذا لا يعتد بقوله، وهو آثم لأنه يقلد غيره فيما لا يحققه، وينسب لله تعالى ما لم يأمره به، فجزاؤه من الله تعالى ما يستحق.

فمن زعم بعد هذا أن الألفاظ المتعلقة بذات الله تعالى معلوم معناها فليذكر برهان ذلك، ولا يردد قول بعض من لم يحقق ما يتكلم فيه ويقول: القرآن نزل بلسان عربي مبين ! فقد بيّنا أن اللغة لا تعرف شيء لم تره ولم تحسه، وأن مدعي ذلك كاذب على اللغة العربية وعلى كل لغة يدعي فيها ذلك، وهذا حقه أن يتعلم ثم يتكلم.

وكذلك لا تردد قول من يقول: كيف يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بشيء لم يعرفوا معناه ؟! مستنكراً للوهم الذي دخل عقلك .

فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم قد خاطبهم الله تعالى بشيء لم يروه، ولم يعرفوه، وكذلك قبلتموه، كما قلنا من أمور الغيب التي تكون يوم القيامة، كالنار، والجنة، والحساب، والصراط، والميزان، وغيرها مما ورد ولا يعرف أحد حقيقته وماهيته، أو كيفيته، فإن كنت تقر بأن هذا لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يعرفه أصحابه رضي الله عنهم، فأنت متلاعب متناقض، حين تثبت أن هناك ألفاظ وردت لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه حقيقتها وماهيتها وكيفياتها، ثم تنكر ههنا ما تقر به تحكماً بالباطل، وكذلك نزيدك من الحروف المقطعة، ونزيدك الملائكة الذين لم نرهم، فكيف تؤمن ببعض الكتاب وتستنكر بعضه لتقرير ما تلقيته من شيوخك وهو خطأ ظاهر البيان ؟! نسأل الله السلامة من ذلك .

الضرب الثاني: اللفظ الشرعي المتعلق بأمر محسوس مدرك بالعقل.

فهذه الألفاظ إن طلبنا منا العمل أو الإيمان: فهو كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والأمر المحسوس هو ما تعتمد معرفته على أداوت الحس، كالنظر، والشم، والذوق، واللمس، والسمع، وكذلك ما يدرك من بديهية العقل، فكل ذلك يجب العمل به إن جاء به نص، وكذلك الإيمان والتصديق بها إن كان ما يخبر به النص قد حصل في زمن ليس هو زماننا، وإنما حصل في زمن الصحابة، أو التابعين، أو كل زمن لم ندرك أهله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

هذا آخر ما حررناه باختصار شديد غير مخل إن شاء الله تعالى، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.

كتبه
محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن جاسم التميمي
ابن تميم الظاهري
باحث إسلامي في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية - دولة الكويت -
*** المصدر ***http://www.aldahereyah.net/forums/showthread.php?t=906
 
عودة
أعلى