تفسير آية { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } سورة البقرة تفسيرا استقصائيا

إنضم
09/01/2008
المشاركات
81
مستوى التفاعل
2
النقاط
8
تفسير آية {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) } من سورة البقرة ملخصا أقوال معظم العلماء في هذه الآية :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيها عدة مسائل :

1)المناسبة 2) العطف في {وإذ قلنا ـ ـ} 3) السر في إعادة (إذ) 4) إظهار الملائكة في موضع الإضمار 5) السر في الجمع في (قلنا) ولم يقل (قلت) 6) السر في الالتفات من الغيبة للتكلم 7)السر في تغير الأسلوب بين { وإذ قال ربك } وبين { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } 8) نوع اللام في للملائكة وسر تقديم المجرور ونوع اللام في لآدم وسر التعبير بالفاء وتقدير المحذوف 9) هل سجد الملائكة كلهم أم بعضهم 10) معنى السجود لغة وشرعا والمراد به هنا 11) هل السجود كان قبل تعليم الأسماء أم بعده ؟ 12) هل كان إبليس مأمورا بالسجود ؟13 ) واختلف العلماء فيه هل هو من الجن أم من الملائكة ؟ 14 ) هل كان على الأرض جن قبل آدم وإبليس كان منهم أم لا ؟ 15)هل هو أبو الجن 16 )هل الشياطين جنس مستقل غير الجن أم هم نوع من الجن ، والجن جنس لهم ؟ 17) هل تأكل الملائكة والجن 18 ) مآل الجن هل هو الجنة أم مكان آخر 19)هل الجن مكلفون ؟ 20)هل الاستثناء متصل أم منقطع ؟) 21) هل هو مأمور بالسجود بأمر جديد أم بنفس الأمر الذي أمرت به الملائكة ؟ 22) في اسم إبليس هل هو عربي مشتق أم أعجمي غير مشتق .23)تفسير {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } وفيها ست عشرة مسألة 24) ست مسائل وإحدى عشرة فائدة متعلقة بالآية

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
المسألة الأولى :المناسبة :

1. المناسبة الأول :
أ‌- أن هذه هي النعمة الرابعة على جميع البشر فلما أخبرنا سبحانه بهذه النعم على أبينا التي هي في الحقيقة نعم عامة على جميع البشر ضم إليها الإنعام بإسجاد الملائكة له فجعل أبانا مسجودا للملائكة ، وفي هذا فضيلة و كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم عليه السلام ولذريته امتن بها على ذريته وهذه النعم هي :
1) تخصيص آدم بالخلافة أولاً.
2) ثم تخصيصه وتشريفه بالعلم الكثير وجعله معلماً للملائكة وهم مستفيدون منه ثانياً
3) ثم بلوغه في العلم إلى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم
· وذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة
2. المناسبة الثانية :
لما أنبأهم بأسمائهم وعلمهم ما لم يعلموا وهم مستفيدون منه وسلموا الأمر أمرهم بالسجود له ، اعترافا بفضله ، وأداء لحقه واعتذارا عما قالوا فيه{ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء }ففي الإنباء وما بعده تحقيق للفضل وفي السجود اعتراف بهواعتذار .
3. المناسبة الثالثة [1]:وأيضا فيه تحذير لمن ماثل إبليس ممن كفر بالله وكفر نعمة الله تعالى كاليهود وكمشركي العرب وأمثالهم الذي جمعوا الكفر والاستكبار والحسد والاستنكاف عن الخضوع لله تعالى فلذلك ذكرت قصة بني إسرائيل بعد قصة إبليس .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المسألة الثانية : [ العطف في { وإذ قلنا} ] :
1. القول الأول : و قوله: "وإذ قلنا" معطوف على الظرف الأول في قوله: {وإذقال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } منصوبٌ بما نصبه من الفعل المُضمَر وهو (اذكر) لهم كأنه قال سبحانه للنبي عليه السلام مذكرا للناس لا سيما للمشركين واليهودمعددًا عليهم نعَم الله تعالى ومذكِّرا لهم آلاءه:
ذكِّرهم فعلي بهم إذ أنعمت عليهم بخلقهم بعد أن كانوا أمواتا ثم أميتهم ثم أحييهم ثم إلي يرجعون وأني خلقت ما في الأرض جميعا لأجلهم وخلق السماء كذلك واذكُرْ لهم هذه النعمةَ وهي جعلي آدم وذريته خليفة ، وكرمت أباهم آدمَ بما آتيته من عِلمي وفضْلي وكرَامتي، وإذْ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له إكراما له وتعظيما وعبودية لله تعالى بطاعة أمره فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود إلا إبليس ذكرهم ذلك ليتنبهوا بذلك لبُطلان ما هم عليه وينتهوا عنه عن ضلالهم ويشكروا الله سبحانه[2]
الطوسي واطفيش وابن عطية والخراط وقدمه أبو السعود
2. القول الثاني : أو منصوب بناصب مستقلٍ [واذكر] معطوف على ناصب [إذ ] الأولى معطوف عطفَ القصة على القصة أي واذكر وقت قولنا لهم
الطبرسي والقرطبي [3]ودرويش والعكبري والطبري والخازن والبغويوالصابوني
3.القول الثالث :العاملُ في " إذ " محذوفٌ دلَّ عليه قولُه : " فَسَجَدوا " تقديرُه : " فَسَجَدوا " تقديرُه : أطاعوا وانقادُوا وقت قولنا للملائكة ـ ـ فسجدوا ، لأنَّ السجودَ ناشئٌ عن الانقيادِ
وهذا تكلف لا يحتاج له
السمين الحلبي والآلوسيوأجازه أبو حيان
القول الرابع : إذ " زائدة قاله أبو عبيدة وانشد :
حتى اذا أسلكوهم في قتائدة *** شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وهذا ليس بجائز ؛ لأن إذ اسم ظرف والأسماء لا تزاد.
4.القول الخامس :" إذ " بدلٌ من " إذ " الأولى ، ولا يَصِحُّ لاختلاف الوقتين ولتوسُّطِ حرفِ العطفِ
· المسألة الثالثة :السر في إعادة { إذ } :
إعادة ذكر { إذ } مرة ثانية في {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا }بعد ذكرها {وإذ قال ربك للملائكة } معنى أنها لم تذكر في الأقوال السابقة { قالوا أتجعل ـ ـ قال إني أعلم ـ ـ وعلم آدم ـ ـ قالوا سبحانك ـ ـ }وما بعدها :
· للإيذان بأن ما بعدها نعمة جليلةٌ مستقلة مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا حقيقة بالذكر والتذكيرِ على حِيالهالِأَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ الْعَجِيبَةِ فَجَاءَتْ عَلَى أُسْلُوبٍ يُؤْذِنُ بِالِاسْتِقْلَالِ وَالِاهْتِمَامِ ، فكأنه سبحانه قال اذكر لهم فعلي بهم إذ أنعمت عليهم ، فخلقت لهم ما في الأرض جميعا ، وإذ قلت للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، فكرّمت أباكم آدم بما آتيته من علمي وفضلي وكرامتي ، وإذ أسجدت له ملائكتي فسجدوا له
· ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْمُرَاعَاةِ لَمْ يُؤْتَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ مَعْطُوفَةً بِفَاءِ التَّفْرِيع فَيَقُول: (فإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وَإِنْ كَانَ مَضْمُونُهَا فِي الْوَاقِعِ مُتَفَرِّعًا عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا فَإِنَّ أَمْرَهُمْ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ مَا كَانَ إِلَّا لِأَجْلِ ظُهُورِ مَزِيَّتِهِ عَلَيْهِمْ إِذْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ
·
[FONT=ae_AlMothnna]ـــــــــــــــــــــــــــــــــ[/FONT]

المسألة الرابعة :إظهار الملائكة في موضع الإضمار :
إِظْهَارُ لَفْظِ (الْمَلَائِكَةِ) وَلَفْظِ (آدَمَ) هُنَا { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرَيْهِمَا كَمَا فِي قَوْلِهِ:{ قالُوا سُبْحانَكَ }وَقَوْلِهِ: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ }:
·لأجل أن تَكُونَ الْقِصَّةُ الْمَعْطُوفَةُ قصَّة مَقْصُودة غَيْرَ مُنْدَمِجَةٍ فِي الْقِصَّةِ الَّتِي قَبْلَهَا إِشَارَةً إِلَى جَدَارَتها وأهميتها
·ولبيان أن الذين سجدوا هم الملائكة الذين أكرمناهم بقربنا ، سجدوا لأبيكم آدم
المسألة الخامسة : السر في الجمع في (قلنا) ولم يقل (قلت) : قال : " قلنا " ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بصيغة الجمع تفخيما وإشادة بذكرهأي قلنا بما لنا من العظمة.[4]
المسألة السادسة : السر في الالتفات من الغيبة للتكلم بأن قال سبحانه{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا} بعد أن قال { قال ألملكم إني أعلم غيب ـ ـ}أي أنه انتقل عن الغيبة إلى ضمير المتكلم ] :

1. لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابة إعلاماً بأنه أمر فصل لا فسحة في المراجعة فيه، فأشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم بالأمر للملائكة بالسجود ، ووجب عليهم الامتثال ، فناسب أن يكون الأمر في غاية من التعظيم ، لأنه متى كان كذلك كان أدعى لامتثال المأمور فعل ما أمر به من غير بطء ولا تأول لشغل خاطره بورود ما صدر من المعظم وهذا يناسبه التعظيم بـ{قلنا}.
· وقد جاء في القرآن نظائر لهذا ، منها : { وقلنا يا آدم اسكن } { وقلنا اهبطوا } { قلنا يا نار كوني برداً } ، {وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض } { وقلنا لهم ادخلوا الباب } { وقلنا لهم لا تعدوا } فأنت ترى هذا الأمر وهذا النهي كيف تقدّمهما الفعل المسند إلى المتكلم المعظم نفسه ، لأن المقام اقتضى الاستعلاء على المأمور ، فظهر للمأمور بصفة العظمة .
2. وَلِأَنَّ الْقَوْلَ هُنَا تَضَمَّنَ أَمْرًا بِفِعْلٍ فِيهِ غَضَاضَةٌ عَلَى الْمَأْمُورِينَ فَنَاسَبَهُ إِظْهَارُ عَظَمَةِ الْآمِرِ.
3. مع ما فيه من تأكيد الاستقلال أي استقلال قصة السجود زيادة بالعناية بها كما تقدم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة السابعة : السر في تغير الأسلوب بين { وإذ قال ربك } وبين { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } :

غير سبحانه الأسلوب حيث قال أولاً : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ }الربوبية مضافة لضمير الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء ثم لبقية المؤمنين وهنا { وَإِذْ قُلْنَا } بضمير العظمة
· لأنه ذكر في الأول خلق آدم واستخلافه ؛ فناسب ذكر الربوبية الْمُؤْذِنَةِ بِتَدْبِيرِ شَأْنِ الْمَرْبُوبَيْنِ وَأُضِيفَ إِلَى ضَمِيرِ أحب و أَشْرَفِ خلفائه إليه وَهُوَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
· وهنا في {قلنا للملائكة } المقام مقام أمر يناسبه العظمة ، و لإظهار الجلالةِ وتربيةِ المهابة إعلاماً بأنه أمر فصل لا فسحة ، وأيضا السجود للتعظيم فلما أمر بفعله لغيره أشار إلى كبريائه الغنية عن التعظيم، ولما تقدم ذكره في المسألة السابقة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثامنة : نوع اللام في للملائكة وسر تقديم المجرور ونوع اللام في لآدم وسر التعبير بالفاء وتقدير المحذوف

· نوع اللام في للملائكة :واللام في { قلنا للملائكة } للتبليغ كنظائِرها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· تقديمِ اللام مع مجرورها على الأمر (اسجدوا) { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } :

· للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· واللامُ في " لآدمَ " الظاهرُ أنها متعلقةٌ باسجُدُوا ، ومعناها التعليلُ أي لأجلِه وقيل : بمعنى إلى ، أي : إلى جهته لأنه جُعِل قِبْلةً لهم ، والسجودُ لله . وقيل : بمعنى مع لأنه كان إمامَهم كذا نُقِلَ ، وقيل : اللامُ للبيانِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ ولا حاجةَ إلى ذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

· (فسجدوا ):عطف على {قلنا} بالفاء يدل على تعقيب القول بالفعل من غير مهلة ، فالملائكة بادروا وسارعوا إلى الامتثال ولم يتأخروا ولم يتلعثموا ولم يتباطؤوا .
هنا محذوف دل تقديره { فسجدوا له }حذفه للعلم به و لأن التركيز على عملية السجود وإطاعتهم للأمر
· ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة التاسعة :هل سجد كل الملائكة أم بعضهم ؟

قد تقدم مثل هذا البحث في تفسير { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } وقلنا هناك إن الأصح أن المراد جميع الملائكة بلا استثناء فيشمل كل الملائكة حتى المقربين منهم كجبريل وميكائيل وكذلك هنا في هذه المسألة والمسألة
قولان:
القول الأول : أنهم جميع الملائكة بلا استثناء
قاله الأكثرون : منهم السدي و أشياخه والرازي وابن الجوزي والخازن والسمعاني والطبرسي والطوسي
القول الثاني : أنهم طائفة من الملائكة كانوا مع ابليس طهر الله بهم الارض من الجنوكانوا يحكمون في الأرض ،قاله جماعة واستعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك ،
والأول أصح والدليل عليه وجهان :
الأول : أن لفظ الملائكة صيغة جمع وهي تفيد العموم لا سيما وقد وردت هذه اللفظة مقرونة بأكمل وجوه التأكيد في قوله : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } [ الحجر : 30 ] ، قال اطفيش :"{ لِلْمَلَائِكَةِ } كلهم ، كما قال فسجد الملائكة كلهم أجمعون ، وتخصيص الآية بالمأمورين بالنزول إلى قتال الجن فى الأرض خروج عن الظاهر بلا دليل"
الثاني : هو أنه تعالى استثنى إبليس منهم واستثناء الشخص الواحد منهم يدل على أن من عدا ذلك الشخص كان داخلاً في ذلك الحكمقال ابن كثير : وظاهر الآية الكريمة العموم : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلا إِبْلِيسَ } فهذه أربعة أوجه مقوية للعموم ، والله أعلم يقصد الجمع المحلى بال ولفظة (كل) ولفظة (أجمع) والاستثناء
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة العاشرة :معنى السجود لغة وشرعا والمراد به هنا :

والسجودُ في اللغة : الخضوعُ والتذلل والتطامُنسواء كان بانخفاض بانحناء بطَأْطَأَة الْجَسَدِ أَوْ إِيقَاعه عَلَى الْأَرْضِ بوضع جبهته بِقَصْدِ التَّعْظِيمِ[5]
وفي الشرع : وضعُ الجبهة على الأرض على قصد العبادة [6]
وفي المراد بالسجود هنا ، رأيان وفي كل من الرأيين أقوال:
1)الرأي الأول :قالوا المراد هنا بالسجود وضعُ الجبهة على الأرض على صفة سجود الصلاة وهو الظاهر لقوله : { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين }[7]،ثم اختلفوا على أقوال على أي وجه هو :
أ‌- القول الأول :على وجه التكرمة والتحية له والاحترام والتعظيم والتسليم والخضوع له كسجود إخوة يوسف عليه السلام بَعْدَمَا عرفوا بِمَكَانَةِ آدَمَ إِذْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وظهرت قدرته على الخلافة دونهم[8]وعبودية لله تعالى بإطاعة أمره سبحانه لا سجود عبادة فاللام عليه باقية على ظاهرها [9]وهذا يدخل في السجود اللغوي كما يظهر من التعريف السابق .[10]
وهو قول الجمهور وهو الحق: علي وابن مسعود و قتادة وابن عباس وزاد المسيرو ابن الجوزيوالرماني وأبو السعود وابن كثير وأبو حيان و البقاعي والزمخشري والجلال والشوكاني وسيد طنطاوي والرازي والنيسابوري وزكريا الأنصاري والأعقموالطباطبائي والشعراوي وكذا أبو حيان والشوكاني وقالا هذا رأي الجمهور [11]

ب‌- القول الثاني :المراد السجود الشرعيكان سجوداً على الحقيقة على وجه عبادة لله جُعل آدم قبلة لهم والسجود لله ، كما جُعلت الكعبة قبلة لصلاة المؤمنين والصلاة لله تعالى . ، وآدم قبلة لسجودهم كالكعبة وفيه ضرب من التعظيم وهذا هو السجود الشرعي فاللام عليه إما بمعنى (إلى) مثلها في قول حسان رضي الله عنه :
أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن[12]
أو تكون اللام مثلها في { أقم الصلاة لدلوك الشمس }واللام فيها :
· إما للتأقيت (التوقيت) بمعنى عند أي عند دلوك الشمس فالمراد هنا اسجدوا عند آدماسجدوا عند آدم،
· أو للتعليل جعل الوقت سببا لوجوب الصلاة، وهنا جعل آدم سببا لوجوب السجود كما جعل الوقت سببا لوجوب الصلاة أي لأجل آدم [13]
قاله الشعبي وزيد بن علي والجبائي والبلخي[14] وابن العربي وجماعة وفيه تكلف [15]
القول الثالث :أن آدم عليه السلام سجدلله تعالى وسجدوا مؤتمين به سجدوا لله تعالى ، فسجد وسجدوا مؤتمين به ، وشرفه بأن جعله إماماً يقتدون به واللام بمعنى (مع)فمعنى
{ لآدم } أي مع آدم .. قال ابن مسعود : أمرهم الله تعالى أنْ يأتموابآدم فسجدت الملائكة وآدم لله ربّ العالمين
وهذا القول لا دليل عليه
2) الرأي الثاني : قالوا لم يكن بوضع الجبهة على الأرض فهو داخل في السجود اللغوي وهؤلاء اختلفوا على قولين :
القول الأول :المراد بالسجود : الانحناء والميل المساوي للركوع على وجه التعظيم والتحية فالمفعول إيماء وانحناء وطأطأة وخضوع وهذا داخل في السجود اللغوي
الواحدي والثعلبي و الخازن وحسنين مخلوف وأبو حيان ، ونسبه أبو حيان للجمهور وليس كذلك
القول الثاني : قالوا المراد مجرد تذلل وانقياد وإقرار بالفضل واعتراف بالمزية فإن من أقر لك بالفضل فقد خضع لك فالمراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ولا وضع الجبهة على الأرض قال أُبيّ بن كعب : معناه : أقروا لآدم أنّه خير وأكرم عليّ منكم فأقروا بذلك [16]
وهذا الرأي بكلا قوليه ضعيف لأن السجود لا شك أنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض فالأصل أن يحمل عليه
· قال بعض المحققين :ويدل على إرادة هذه المعنى الشرعي ما رواه أحمد ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود اعتزل الشيطان يبكي ويقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار »



وأما كون السجود لله تعالى وآدم كالقبلة ضعيف مردود بعدة أمور :
  • الأمر الأول :أنه لو كان كذلك ما امتنع إبليس من السجود ، ولكن لما أراد الله تعالى ذلك تعظيما له على وجه ليس بثابت لهم ، امتنع ابليس وتكبر .
  • الأمر الثاني :لو كان آدم كالقبلة والسجود لله تعالى لما دل على تفضيله عليه السلام عليهم ، ولما دل على التكرمة والتفضيل ؛ لأنه يوجب أن لا يكون لآدم في ذلك حظ من التفضيل والتكرمة ، في حين أن إبليس لما قال { أرأيتك هذا الذي كرمت }دل على أن الأمر بالسجود قد كان أراد به تكرمة آدم عليه السلام وتفضيله ، فأخبر إبليس أن امتناعَهُ كان من السجود لأجل ما كان من تفضيل الله وتكرمته بأمره إياه بالسجود له ، ولو كان المراد أنه نُصِبَ قِبْلَةً للساجدين من غير تكرمة له ولا فضيلة لما كان لآدم في ذلك حظّ ولا فضيلة تُحسد ، كالكعبة المنصوبة للقِبْلة .
وأيضا دل قوله { كرمت علي} على أنه أعظم حالاً من الساجد ، ولو كان قبلة لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام كان يصلي إلى الكعبة ولم يلزم أن تكون الكعبة أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ألا ترى أن الكعبة ليست بأكرم ممن سجد إليها ، . وظاهر الأمر بالسجود يقتضي أن يكون آدم مفضلاً مكرماً

3. الأمر الثالث :أنه لا يقال صليت للقبلة بل يقال صليت إلى القبلة ، وكل حرف له معنى . وفرق بين " سجدت له " " سجدت إليه " قال تعالى : { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن }{ ولله يسجدمن في السماوات والأرض } وأما الكعبة ، فيقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى بيت المقدس ، ثم صلى إلى الكعبة ، ولا يقال صلى لبيت المقدس ، ولا للكعبة . فلو كان آدم عليه السلام قبلة لذلك السجود لوجب أن يقال : " اسجدوا إلى آدم " ، فلما لم يرد الأمر هكذا بل قيل اسجدوا لآدم علمنا أن آدم عليه السلام لم يكن قبلة .
4. الأمر الرابع :أن السجود لغير الله لا يجوز .
وأجيب عن هذه الاعتراضات الأربعة بإجابات :
جواب الأول : أجيب بالتباس الأمر على إبليس
وجواب الثاني : بأن التكريم حاصل بجعله جهة وقبلة لهذه العبادة دونهم ، ولا يخفى ما فيه من الدلالة على عظمة الشأن كما في جعل الكعبة قبلة من بين سائر الأماكن
وأيضا أن إبليس شكا تكريمه وذلك التكريم لا نسلم أنه حصل بمجرد تلك المسجودية بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر .
وجواب الثالث : أنه كما يجوز أن يقال صليت إلى القبلة يجوز أن يقال صليت للقبلة والدليل عليه القرآن والشعر :
أما القرآن فقوله تعالى : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } والصلاة لله لا للدلوك ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال صليت للقبلة مع أن الصلاة تكون لله تعالى لا للقبلة .
وأما الشعر فقول حسان :
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف ... عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم ... وأعرف الناس بالقرآن والسنن
فقوله صلى لقبلتكم نص على المقصود ، أنه يقال صليت للقبلة
جواب الرابع : بأنه لا ملجئ لهذا فإن السجود للبشر تحية وتكريما قد كان جائزاً في الشرائع السابقة ، فلا يستلزم تحريمه لغير الله في شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون كذلك في سائر الشرائع .
والمتأمل في أدلة كل من القولين يجد القول الأول هو الراجح وهو أنهم سجدوا لآدم لذلكقال الإمام الرازي :واعلم أن هذا القول {وهو أنه كان كالقبلة ] : ضعيف لأن المقصود من هذه القصة شرح تعظيم آدم عليه السلام ، وجعله مجرد القبلة لا يفيد تعظيم حاله وقال الشوكاني : وفي هذه الآية فضيلة لآدم عليه السلام عظيمة حيث أسجد الله له ملائكته. وقيل : إن السجود كان لله ولم يكن لآدم ، وإنما كانوا مستقبلين له عند السجود ، ولا ملجئ لهذا ، فإن السجود للبشر قد يكون جائزاً في بعض الشرائع بحسب ما تقتضيه المصالح . وقد دلت هذه الآية على أن السجود لآدم ، وكذلك الآية الأخرى أعني قوله : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين } [ الحجر : 29 ]وقال ابن كثير : وفي هذا التنظير[أي جعل السجود لآدم نظير السجود لجهة القبلة ] نظر، وقد قوى الرازي في تفسيره كون السجود له وضعف ما عداه من القولين الآخرين وهما كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف وكون المراد بالسجود الانقياد والخضوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تنبيه : من المعلوم من أصول الدين أن هذا السجود لم يكن سُجُودَ عِبَادَةٍ إِذْ لَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى قال الرازي وابن العربي والقرطبي :
"أجمع المسلمون على أن ذلك السجود ليس سجود عبادة لأن سجود العبادة لغير الله كفر والأمر لا يرد بالكفر "وقال ابن حزم : لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن سجود الملائكة لله تعالى سجود عبادة ولآدم سجود تحية وإكرام ، ومن قال : إن الملائكة عبدت آدم كما عبدت الله عز وجل فقد أشرك .
قال الآلوسي : السجود الشرعي عبادة ، وعبادة غيره سبحانه شرك محرم في جميع الأديان والأزمان ولا أراها حلت في عصر[17] من الأعصار[18]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الحادية عشرة : هل السجود كان قبل تعليم الأسماء أم بعده ؟ في المسألة ثلاثة أقوال :

القول الأول : وهو قول الجمهور أن السجود كان بعد تعليم الأسماء وترتب على الأمر التنجيزيّ[19] الذي كان بعد خلق آدم وتصويره بعد ظهور فضلِه عليه السلام بالمحاورة السابقة ولم يكن السجود بالأمر التعليقي الذي في قوله تعالى { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين }وهذا القول رجحه البيضاوي وأبو السعود والآلوسي وأبو حيان وابن عطية [20]وابن عاشور والشوكاني والمنار والمصطفوي
القول الثاني :

أن الأمر بالسجود لآدم عليه السلام كان قبل إتمام خلقه ، وأن السجود كان عقب النفخ بالأمر التعليقي في قوله تعالى { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } لا بأمر تنجيزي بعد ظهور فضل آدم عليه السلام
وهذا القول : رجحه البغوي البقاعي [21]والرازي و ابن كثير والشربيني والأمثل والقاسمي
القول الثالث : سجود الملائكة كان مرتين [22]والإجماع يرد هذا كما قال ابن عطية وسبب هذا القول أن قائله لما رأي أن القول بالقول الثاني القائل إن السجود قبل التعليم وما يتبعه يخالف النقل حاول الجمع قال الآلوسي : ولما رأى بعضهم أن هذا مؤد إلى أن ما جرى في شأن الخلافة وما قالوا وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوق بمعرفة جلالة قدره عليه السلام وخروج إبليس من البين باللعن وبعد مشاهدتهم لكل ذلك وهو خرق لقضية النقل بل خرق في العقل أضطر إلى القول بأن السجود كان مرتين وهيهات
أدلة القول الأول القائل إن السجود كان بعد تعليم الأسماء وترتب على الأمر التنجيزيّ

الدليل الأول :أن الآيات المذكورة في سورة البقرة في قصة آدم اقتضت أَنَّ فَضِيلَةَ آدَمَ لَمْ تَظْهَرْ لِلْمَلَائِكَةِ إِلَّا :
· بَعْدَ تَعْلِيمِهِ الْأَسْمَاءَ وَعَرْضِهَا عَلَيْهِمْ
· وَعَجْزِهِمْ عَنِ الْإِنْبَاءِ بِهَا

وَأَنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتَرَقِّبِينَ بَيَانَ مَا يَكْشِفُ ظَنَّهُمْ بالخليفة أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ أن قَالَ اللَّهُ لَهُمْ:{ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فَكَانَ إِنْبَاءُ آدَمَ بِالْأَسْمَاءِ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنِ الْإِنْبَاءِ بِهَا بَيَانًا لِكَشْفِ شُبْهَتِهِمْ ، فجاء السجود لآدم عليه السلام تكريما له وبيانا لمنزلته على وجه التكرمة والتحية له والاحترام والتعظيم والتسليم والخضوع له بَعْدَمَا عرفوا بِمَكَانَةِ آدَمَ إِذْ عَلِمَ مَا لَمْ يَعْلَمُوهُ وظهرت قدرته على الخلافة دونهم ،فكيف لا يكون السجود بعد ما سبق[23]

أما لو كان الإنباء متأخرا عن سجودهم فحينئذ لا يظهر حسن الإنباء المظهر لفضل آدم عليه السلام على الملائكة ، إذ بالسجود يظهر لهم أنه أفضل منهم وأنه يستحق الخلافة ، فبعد الظهور لا يحسن الإظهار لفضله ، فإذا لم يظهر حسن الإنباء لا يظهر أيضا حسن قوله {أنبئوني بأسماء هؤلاء} الآية فدل هذا الأمر بالإنباء والإنباء بعده على أن الأمر بالسجود بعد الإنباء ووحين الإعلام[24]
الدليل الثاني : قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ }[25] إذ الراجح في (ثم) الأولى أنها تفيد التراخي الزمني والرتبي مع معنى (وفوق ذلك) وأما (ثم) الثانية ففيها الزمني ومعنى (وفوق ذلك) فهي للترقي المعنوي في الإنعام وليس فيها الرتبي ، فكلتاهما فيها التراخي الزمني وهو يدل على أن الأمر بالسجود كان متأخرا على الخلق والتصوير ، وهذا ما سميناه بالأمر التنجيزي .

الدليل الثالث :
أنه الظاهر المتبادر وهو الذي يشهد له النقل والعقل و الذي تقتضيه هذه الآية الكريمة وكذا التي في الأعراف ، والإسراء ، والكهف، وطه أن سجود الملائكة ترتب على الأمر التنجيزي الوارد بعد خلقه ونفخ الروح فيه
آية الأعراف : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)}
آية الإسراء { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)}
آية الكهف { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50}
آية طه { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) }
ويستثنى من ذلك آية ص والحجر فظاهرهما أنه كان بالأمر التعليقي وسيأتي تأويلهما .[26]
قال الشوكاني : ظاهر السياق أنه وقع التعليم ، وتعقبه الأمر بالسجود ، وتعقبه إسكانه الجنة ، ثم إخراجه منها ، وإسكانه الأرض .
تصوير ما حدث على رأي الجمهور :

القول الأول : أفضل تصوير لما حدث هو أنه قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقف عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعل إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبين لكم شأنُه فقعوا له ساجدين ، فقالوا عند ذلك { أتجعل فيها من يفسد فيها ويفسك الدماء ـ ـ قال إني أعلم ما لا تعلمون } فأجابهم إجمالا ثم خلقه فسواه ونفخ فيه الروح وعلمه الأسماء كلها { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) فشاهدوا منه ما شاهدوا ، فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناءً بشأن المأمور به وتعييناً لوقته فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ
وقد حكى القرآن بعض المواطنِ بعض القصة وفي بعض المواضع البعض الآخر اكتفاءً بما ذكر في كل موطنٍ عما تُرك في موطن آخرَ ، وذكرا لما هو الأنسب في كل موضع
وقريب من هذا التصوير قول أبي السعود : فلعله قد أُلقي إليهم ابتداءً جميعُ ما يتوقف عليه الأمرُ التنجيزيُّ إجمالاً بأن قيل مثلاً إني خالقٌ بشراً من كذا وكذا وجاعل إياه خليفةً في الأرض فإذا سويتُه ونفختُ فيه من روحي وتبين لكم شأنُه فقعوا له ساجدين ، فخلقه فسواه ونفخ فيه الروح ، فقالوا عند ذلك ما قالوا
القول الثاني أجازه أبو السعود :
أنه ألقي إليهم خبرُ الخلافة بعد تحقق الشرائطِ المعدودة بأن قيل إثرَ نفخِ الروح فيه إني جاعلٌ هذا خليفة في الأرض فهناك ذكروا في حقه عليه السلام ما ذكروا ، فأيده الله عز وجل بتعليم الأسماءِ فشاهدوا منه ما شاهدوا ، فعند ذلك ورد الأمرُ التنجيزيّ اعتناءً بشأن المأمور به وتعييناً لوقته

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدلة القول الثاني :

أن الأمر بالسجود له كان قبل إتمام خلقه ، وأن السجود كان عقب النفخ بالأمر التعليقي في قوله تعالى { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين } لا بأمر تنجيزي بعد ظهور فضل آدم عليه السلام
الدليل الأول : ظاهر قوله تعالى في سورة الحجر { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) }
وكذلك في سورة ص { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)}
فهي ظاهرة أن الأمر كان بالسجود عقيب الخلق بدليل فاء التعقيب
قال الإمام الرازي قدس سره : إن الآية كما تدل على تقدم الأمر بالسجود على التسوية تفيد أن التعليم والانباء كان بعد السجود لأنها تدل على أن آدم عليه السلام كما صار حياً صار مسجوداً للملائكة لأن الفاء في { فَقَعُواْ } للتعقيب
الدليل الثاني :أن الأخذ بهذا الرأي أولى من جهة المعنى ، لأن سجود الملائكة عليهم السلام قبل بيان فضل آدم بتعليمه الأسماء وإنباء الملائكة ، يكون إيماناً بالغيب على قاعدة التكاليف ، وأما بعد إظهار فضيلة العلم فقد كُشِف الغطاء وصار وجه الفضل من باب عين اليقين
إجابتهم عن أدلة القول الأول :
الجواب الأول :أماما في سورة البقرة من الترتيب فأجابوا عنه بأجوبة منها :
أ‌- أنّ الواو في قوله : {وإذ قلنا} لا تقتضي الترتيب
ب‌- وبأن مخالفة الترتيب كانت لنكتة بلاغية وهي نكتة بديعة هي أنه تعالى لما كان في بيان النعم التي أوجبت شكره باختصاصه بالعبادة لكونه منعماً فبين:
1. أولاً نعمته على كل نفس في خاصتها بخلقها وإفاضة الرزق عليها { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ـ ـ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا }
2. ثم ذكر الكل بنعمة تشملهم وهي محاجّته لأقرب خلقه إذ ذاك إليه عن أبينا آدم قبل إيجاده { قالوا أتجعل فيها من يفسد ـ ـ قال إني أعلم غيب السماوات }
3. اقتضى الأسلوب الحكيم أن يوضح لهم الحجة في فضيلة هذا الخليفة فذكر ما آتاه من العلم { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم }
فلما فرغ من محاجتهم بما أوجب إذعانهم ذكر بنيه بنعمة السجود له ، فما كان تقديم إظهار فضيلة العلم إلا محافظة على حسن السياق في ترتيب الدليل على أقوم منهاج وأوضح سبيل .
ت‌- وبأن ما ورد في سورة البقرة وغيرها كسورة الإسراء وطه من قوله تعالى { اسجدوا لآدم } من الأمر فهو في الحقيقة حكاية للأمر التعليقي السابق الذي تقدم بعد تحقق المعلق به إجمالاً فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز
ث‌- أو يقال : إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه ، فحكى على صورة التنجيز



الجواب الثاني :
وأجابوا عن قوله تعالى في سورة الأعراف{ ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم 445}بجوابين :
أ‌- الأول : أن ( ثم ) بمعنى الواو ليست للترتيب
ب‌- الثاني : { ثُمَّ } للتراخي الرتبي أو التراخي في الأخبار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إجابة القول الأول على أدلة القول الثاني :

الإجابة الأولى : قولكم ظاهر قوله تعالى في سورة الحجر { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) }
وكذلك في سورة ص { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)} أن الأمر كان بالسجود عقيب الخلق بدليل فاء التعقيب
يجاب عليه :
· بأنه لا ينتهض دليلاً : لأن قوله تعالى { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا } شرط والفاء في فقعوا واقعة في جواب الشرط فهي فاء الجزاء الواقعة في جواب الشرط لا العاطفة ، والفاء الجزائية ليست بنص في وجوب وقوع مضمون الجزاء عقيب وجود الشرط من غير تراخ [27] أي لا تقتضي التعقيب ومثال عدم وجوب "وقوع مضمون الجزاء عقيب وجود الشرط من غير تراخ "
· قوله تعالى : { يا أيها الذين ءامَنُواْ { إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله } فكما لا يجب السعي حين تحقق النداء ما لم يكن شرط وقت الصلاة داخلا كذلك لا يجب سجود الملائكة حين تحقق تسوية آدم ونفخ الروح فيه ما لم يوجد الإنباء المذكور
وكذلك قوله تعالى{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا }فلا يجب الصلاة بعد الاطمئنانِ مباشرة بل إنما الوجوبُ عند دخول الوقتفقوله سبحانه : { فقعوا له ساجدين } محمول على أن الأمر التعليقي يتوجه إلى وقته ويصير منجزا حينئذ ، ووقته إخبار الأسماء إياهم على ما دلت عليه هذه الآية في سورة البقرة وهي {وإذ قلنا للملائكة ـ ـ } ، لا حصول الشرط فقط ، ويكون مدلول فقعوا له ساجدين طلبا استقباليا لا حاليا ما لم تقم قرينة عليه فلا يلزم تحقق الأمر بالسجود قبل التسوية حتى يلزم وجوب السجود حين التسوية ونفخ الروح
بخلاف الفاء التعقيبية التي في قوله تعالى { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا } فـ(فسجدوا) فهي تدل على أن سجودهم كان بعد الأمر بلا تراخ فيكون الإنباء مقدما على الأمر بالسجود وإلا كان متأخرا عن سجودهم
· فسُورَةِ الْحِجْرِ وصحكَتِ الْقِصَّةَ بِإِجْمَالٍ فَطَوَتْ أَنْبَاءَهَا طَيًّا { فَإِذا سَوَّيْتُه ونَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ } جَاءَ تَبْيِينُهُ فِي مَا تَكَرَّرَ مِنْهَا فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَأَوْضَحُهَا أَيَّةُ الْبَقَرَةِ وهو أن السجود كان بعد بيان الفضل وتعليم الأسماء
الإجابة الثانية : واما قولكم إنّ الواو في قوله : {وإذ قلنا للملائكة } في سورة البقرة لا تقتضي الترتيب ولا يدل على أن الأمر كان بعد التعليم للأسماء وما يتبعه لأنه لم يعطف ونحوها مما دل على الترتيب ؟
الجواب : أن عدم ذكر الأمر التنجيزي بأسلوب يدل على العطف والتعقيب والتسبب على ما سبق بأن يقال مثلا (فقلنا للملائكة اسجدوا ) لا يدل على أنه لم يكن بعدما سبق كما أن عدم ذكر الأمر التعليقي في هذه السورة لا يدل على أنه غير واقع من قبل ، لأن حكاية كلام واحد وقصة واحدة بأساليب مختلفة تناسب السياق الذي سيقت فيه والمقام الذي ألقيت إليه هي البلاغة ، بحيث يختلف الأسلوب على حسب اختلاف المقام والسياق والهدف الذي ألقي إليه وهذا ليس بقليل في القرآن وفي الأدب العالي
فعدم ذكر الأمر التنجيزي بالعطف والتسبب لا يدل على عدم وجود ولتأخذ لذلك مثالا قوله تعالى { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) } أي انساناً فليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب لعدم سبقِ معرفةِ الملائكةِ عليهم السلام بذلك بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم اني خالق خلقاً من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم ، فما ظنك بما قد وقع التصريحُ به في مواضعَ عديدةٍ وهو السجود .
الإجابة الثالثة :
أن قولكم إن ما ورد في سورة البقرة وغيرها كسورة الإسراء وطه من قوله تعالى { اسجدوا لآدم } من الأمر فهو في الحقيقة حكاية للأمر التعليقيالسابق الذي تقدم بعد تحقق المعلق به إجمالاً فإنه حينئذ يكون في حكم التنجيز
رده بأنه يأباه ما في سورة الأعراف من كلمة ثم المناديةِ بتأخر ورودِ الأمرِ عن التصوير المتأخرِ عن الخلق المتأخر عن الأمر التعليقي"
الإجابة الرابعة :
أن قولكم :" أو يقال : إن الأمر التعليقي لما كان قبل تحقق المعلق به بمنزلة العدم في عدم إيجاب المأمور به جعل كأنه إنما حدث بعد تحققه ، فحكى على صورة التنجيز" يؤدي إلى أن ما جرى بين آدم عليه السلام وبين الملائكة عليهم السلام في شأن الخلافة وما قالوا فيه وما سمعوا إنما جرى بعد السجود المسبوقِ بمعرفة جلالة منزلتِه عليه السلام وخروجِ إبليسَ من البَيْن باللعن المؤبد لعِناده ، وبعد مشاهدتهم لذلك كله عياناً وهل هو إلا خرقٌ لقضية العقل والنقل ، والالتجاءُ في التفصّي عنه إلى تأويل نفخِ الروحِ بحمله على ما يعُمُّ إفاضةَ ما به حياةُ النفوس التي من جملتها تعليمُ الأسماء تعسّفٌ يُنبىء عن ضيق المجال .
ومثل هذا الجواب يقال في رد قولهم إن في { ثم قلنا للملائكة اسجدوا } تراخ رُتبيّ أو تراخي في الإخبار
الإجابة الخامسة :
إن قولكم وبأن مخالفة الترتيب كانت لنكتة بلاغية وهي نكتة بديعة فنقول ما هي هذه الحكمة من السجود قبل التعليم والإنباء وبيان الفضل ؟
فجوابهم أنه سبحانه أمرهم به قبل أن يسوي خلقه امتحانا لهم وإظهارا لفضله، فنقول لهم هذا القول عليكم لأنه إذا أظهر فضله فكيف يسوغ لهم بعده أن يقولوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } فإذا ظهر فضله بالسجود له يكون تعليم الأسماء والإنباء لإظهار الفضل تحصل للحاصل
وقوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } :

المسألة الثانية عشرة :

هل كان إبليس مأمورا بالسجود ؟

اتفق العلماء على أن إبليس أمر بالسجود مع الملائكة وأنه لم يسجد فالله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم لكنه كفر وعصى واستكبر على الأمر الإلهي بدليل[28]فأخرجه سبحانه من الصفة التي وصفهم بها من الطاعة لأمرهونفى عنه ما أثبته لملائكته من السجود لعبده آدموطرده الله عن باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه ويدل على أنه أمر بالسجود أمور :
1) قوله - تعالى - { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ . }فقال سبحانه أمرتك وإبليس لم يقل لم تأمرني
2) وأيضا استثناه سبحانه بأنه لم يكن من الساجدين وهذا دليل على أنه دخل في الأمر بالسجود
3) وأيضا الحكم عليه بالكفر والإباء والاستكبار وتوبيخه كل هذا يدل دلالة صريحة على أن الله - تعالى - قد أمر إبليس بالسجود لآدم .
· ولو كان إبليس لم يؤمر بالسجود لكان أولى من يحتج بهذا إبليس ، وهو لم يفعل ، بل علل عدم سجوده بكونه أفضل من آدم ـ بزعمه ـ ولم يقل : إنما أمرت الملائكة ولم تأمرني .وهذا متفق عليه بين العلماء وهل هو مأمور بأمر جديد أم بنفس الأمر الذي أمرت به الملائكة هذا ما سنوضحه بعد بيان هل هو من الجن أم من الملائكة وهل الاستثناء متصل أم منقطع فتلك المسألة مبنية على هذه المسألة .
· وأيضا استغني بذكر الملائكة عن ذكر إبليس فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به
·

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الثالثة عشرة :

اختلف العلماء فيه هل هو من الجن أم من الملائكة على ثلاثة أقوال ؟


القول الأول : أنه من الجن لا من الملائكة والاسثتناء في { إلا إبليس } على هذا يحتمل أمرين : الأول : أنه منقطع الثاني : أنه متصل باعتبار أنه جني واحد مغمور في آلالاف الملائكة[29]فكان كأنه منهم فلما أمروا شمله الأمر [30]فاستثني استثناء متصلا​

وإلى كونه من الجن ذهب : الحسن البصري وقتادة وابن زيد وشَهر بن حَوْشب والزهري [31] والبلخي و الزمخشري وابن كثير وأبو البقاء العكبريّ والكواشيّوالشنقيطي و الصابوني وسيد طنطاوي وسيد قطب وأبو بكر بن العربي والزركشي في البرهان والقاضي عياض والرماني و ابن عاشور وأبو زهرة والمراغي والشعراوي والأمثل وعبد الرحمن حبنكةوهميان الزاد والمتكلمون لا سيما المعتزلة وبعض الأصوليين والإماميةوالشوكاني في الكهف دون البقرة والآلوسي في الكهف وقال وهو قول كثير من العلماء حتى قال الحسن فيما أخرجه عنه ابن المنذر وابن أبي حاتم :" قاتل الله تعالى أقواماً زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول : { كَانَ مِنَ الجن } "
وأخرج عنه ابن جرير وابن الأنبياري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة أنه أي الحسن قال : "ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس"
ـــــــــــ

القول الثاني :

قالوا كان من الملائكة ثم عصى وكفر فغضب عليه ولعن فصار شيطانا فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية والاستثناء على في { إلا إبليس} متصل
روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب وقتادة وابن جريج واختاره الطبري وابن عطية والثعالبي وأبو حيان والبيضاويوالبغوي والخازن والقرطبي والطوسي والمنار والشربيني وأبو الحسن الأشعري واختاره الشيخ موفق الدين ، والقاسمي والسمعانيوالأعقم وكذا الشوكاني في البقرة دون الكهف و كثير من الفقهاء منهم أئمة المالكية والرملي الشافعي ونسبه أبو حيان والقرطبي وعدة علماء إلى جمهور الصحابة والتابعين والمفسرين
القول الثالث : الجمع بين القولين : قاله ابن القيم وابن تيمية في الفتاوي المصرية ووافقهما الخليلي الأباضي
حاول ابن القيمأن يجمع بين الرأيين فقال :
والصواب التفصيل في هذه المسألة ، وأن القولين في الحقيقة قول واحد ، فإن إبليس كان من الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله ، كان من نار وأصل الملائكة من نور ، فالنافي كونه من الملائكة . والمثبت لم يتواردا على محل واحد ".
وهذا القول غير ظاهر فالخلاف حقيقي وليس القولان قولا واحدا لأن الظاهر من النصوص أنه إما أن يكون ملكا أو جنيا وكأنهما لما رأيا قوة من يقول إنه من الجن ورأيا أن معظم السلف يقولون إنه من الملائكة حاولا أن يجمعا بين القولين
ثم رأيت أن الإمام البيضاوي سلك مسلكا قريبا مما قالا في الجمع وهو مروي عن بعض الصحابة حيث قال ولعل ضربا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس ، والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف كما قاله ابن عباس [32]ـ ـ وهذا أشبه بالصواب وأوفق للجمع بين النصوص " [33] ومن يتأمل هذا الكلام لا يجده مقنعا ويجده تكلفا غير محتاج إليه .
أدلة القول الأول :
الدليل الأول: النص الصريح الواضح فى سورة الكهف على أنه من الجن وهو قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ }

وكفى به حجة وبرهانا أنه كان من الجن ، فوجب أن لا يكون من الملائكة وغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه وهذه َأَظْهَرُ الْحُجَجِ فِي الْمَسْأَلَةِ[34]
· والملائكة غير الجنبدليل قوله تعالى : { ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } فهذه الآية صريحة في الفرق بين الجن والملك فلما ثبت أن إبليس كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة
· فإن قيل الجن يطلق على الملائكة لاجنانهم أي اختفائهم لأن لفظ الجن أطلق على الجن لاختفائهم والملائكة كذلك فيجوز تسميته جنا بهذا الاعتبار نقول له :
أ‌- من تتبع كلمة الجن في كل القرآن وجدها أطلقت على الصنف الذي خلق من مارج من نار ولا نراه يطلق في أي موضع على الملائكة فجعله من الاجتننان بمعنى الإختفاء بعيد ويجعل القرآن أِشبه بالإلغاز ، فالمتبادر لكل من قرأ {كان من الجن} هو هذا الصنف لا الملائكة
ب‌- وأيضا إن قلنا إن الملك يسمى جناً بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف لا سيما في عرف القرآن اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على العرف لأنه المتبادر

· ويزاد عليه أن جملة { كان من الجن } جاءت تعليلا لإبائه وكفره فسبب فسقه كونه من الجن فهذا الفسوق أمر يجوز منه فالجن مختار يمكنه أن يعصي ويمكنه أن يطيع ، فالآية جاءت لتعلل عصيانه لكونه من الجن وهم مختارون و يكثر منهم المخالفة ، وشأنهم التمرد لكدورة مادتهم وخباثة ذاتهم وإن كان منهم من أطاع وآمن ؛ لكن الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون
· فلو قلنا المراد بالجن نوع من الملائكة لما صح التعليل ، لأن التعليل يدل على أن تركه للسجود لكونه جنياً ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه نوعا من الملائكة [35]
ثم يقال إذا تعارض النص مع دلالة الالتزام قدم النص
قال الشيخ الشعراوي رحمه الله :
وقد أخذتْ هذه المسألة جدلاً طويلاً بين العلماء وكان من الواجب أن يحكمَ هذا الجدلَ أمران :
الأمر الأول : أن النصَّ سيد الأحكام .
والأمر الثاني : إذا وجد شيء لا نصَّ فيه؛ فنحن نأخذه بالقياس والالتزام . وإذا تعارض نصٌّ مع التزام؛ فنحن نُؤول الالتزام إلى ما يُؤول النص أي إذا وجدت نصَّا في القرآن يدل بالالتزام ، ونصَّا يدل بالمطابقة والقطع فاحمل نص الالتزام على النص المحكم الذي يقطع بالحكم .
وقد قال الله تعالى في ذلك : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . . } وفي هذا إخراج لإبليس من جنس الملائكية نصا ، وتقرير أنه من الجن
وإذا كان إبليس قد عُوقِب؛ فذلك لأنه استثنى من السجود امتناعاً وإباءً واستكباراً؛ فهل هذا يعني أن إبليس من الملائكة؟
لا . ذلك أن هناك نصاً صريحاً يقول في الحق سبحانه : { فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . . . }
فقد حسم الحق سبحانه الأمر بأن إبليس ليس من الملائكة؛ بل هو من الجنّ؛ ـ ــ والأمر الذي ينبغي الاتفاق عليه أنه لم يكُنْ ملكاً بنصِّ القرآن ، وسواء أكان أعلى أم أَدْنى ، فقد كان عليه الالتزام بما يصدر من الحق سبحانه "

الدليل الثاني : الملائكة منزهون عن المعصية معصومون ، وإبليس قد عصى أمر ربه ، والملائكة لا يستكبرون وإبليس قد استكبر والملائكة لا يكفرون معصمون من الكفر وإبليس قد كفر ..قال تعالى { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وقال تعالى { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }[36] وقال سبحانه { وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) } فلو كان إبليس من الملائكة ما عصى وكفر واستكبر لأن الملائكة لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وأيضا الفعل المضارع { لا يعصون} في الآية وإعادة {ويفعلون ما يؤمرون} بعد لا يعصون كله يدل على أن هذا في كل وقت [37]
ثالثا : الملائكة لا ذرية لهم لا يتناسلون ولا يتوالدون وإبليس له ذرية فطبيعتهما مختلفة ،
· و إنما قلنا إن إبليس له ذرية لقوله تعالى في صفته { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني } وهذا صريح في إثبات الذرية له
· وإنما قلنا إن الملائكة لا ذرية لهم ، لأن الذرية إنما تحصل من الذكر والأنثى ، والملائكة لا أنثى فيهم لقوله تعالى : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم } أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة ، فإذا انتفت الأنوثة انتفى التوالد لا محالة فانتفت الذرية، قال التفتازاني في شرح العقائد النسفية "إذ لم يرد باتصافهم بالذكورة والأنوثة نقل ولا دل عليه عقل "
رابعا : الملائكة خلقت من نور ، وإبليس خلق من نار فالله جل ثناؤه أخبرَ في كتابه أنه خلق إبليس من نار السَّموم، ومن مارج من نار كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه : { أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } } والجن مخلوقون من النار وهو واحد منهم لقوله تعالى :{ كان من الجن} {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} وقال : { خلق الإِنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار } وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الملائكة خلقت من النور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "خُلِقت الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، وخُلق آدم مما وصف لكم"
خامسا : قول الحسن البصري وهو من كبار التابعين : "ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين "

وقال أيضا : قاتل الله تعالى أقواماً زعموا أن إبليس من الملائكة والله تعالى يقول : { كَانَ مِنَ الجن } "[38]

سادسا : وأما استثناؤه من الملائكة مع أنه لم يذكر في اسجدوا صراحة

فلأنه كان بينهم داخلا فيهم يَتَعَبَّدُ مَعَهُمْ ونشأ معهم وطالت مخالطته بهم والتصق بهم ، فلا جرم يتناوله ذلك الخطاب ، فقد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله : { اسجدوا لآدم } فأطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُهُمْ أي شمله لفظ الملائكة لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُمْ ، كَالْحَلِيفِ فِي الْقَبِيلَةِ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا[39] أو نقول أمر بأمر مستقل والقرآن دل عليه بأدلة كثيرة وقد بحثنا هذه المسألة من قبل ثم استثنى استثناء متصلا أو نقول الاستثناء منقطع وسيأتي تفصيل
هذه المسألة في مبحث "هل الاستثناء متصل أم منقطع؟ "
ويدل على أنه مأمور بالسجود :
· قوله - تعالى - { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْأَمَرْتُكَ . . . }
· وأيضا استثناء الله تعالى له بأنه لم يكن من الساجدين وهذا دليل على أنه دخل في الأمر بالسجود .
· وأيضا الحكم عليه بالكفر والإباء والاستكبار وتوبيخه في نحو { «قالَ : يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ أَسْتَكْبَرْتَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟» ..}
· وأيضا استغني بذكر الملائكة عن ذكر إبليس فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به
سابعا :
أن ما يستدل به الخصم على كونه من الملائكة و يَذْكُرُهُ جماعة من الْمُفَسِّرُينَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصحابة والتابعين كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الملائكة من أَشْرَافهم أو من الملائكة الذين هم خزان الجنة ، وَأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلُ ـ كُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا أو من الروايات التي لا يصح سندها كما سيأتي .
أجاب القائلون بأنه من الملائكة عن هذه الأدلة :

1. الإجابة عن الدليل الأول :
وهو النص الصريح الواضحفى سورة الكهف على أنه من الجن وهو قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أجابوا بعدة أجوبة :
أ‌- بأنه لا حجة في هذا لأن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارهم واجتنانهم عن أعين الناس فأنتم ظننتم أنه لما ثبت أنه كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ولهذا سمي الجنين جنيناً لاجتنانه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه ، ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود
·وقَالُوا : وَمِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا }[40] ، وذلك لأن قريشاً قالت : الملائكة بنات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا ! فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جناً؟
ب‌- والْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ :
َسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ[41]
ت‌- أو يقال إنه كان من الجن فعلاً أي من حيث العمل والفعل، ومن الملائكة نوعاً ،وباعتبار الفعل قال تعالى: {كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} فسمي بما كان من فعله وقوله تعالى : { فَفَسَقَ } كالبيان له [42]
ث‌- أو نقول َ الْجِنَّ قَبِيلَةٌ أو صنف مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ بعض الصحابة والتابعين منهم ابن عباس و قتادة قال قتادة :" هم صنف من الملائكة يقال لهم الجنة "
ج‌- أو نقول معنى { كان من الجن } صار من الجن كما أن قوله و{كان من الكافرين }ي صار من الكافرين [43] كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية فصار جنياً كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير ، لأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس عن جملة الملائكة ، لما سبق في علم الله من شقائه عدلاً منه { لا يُسْألُ عَمَّا يَفْعَلُ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2. الإجابة عن الدليل الثاني :
وأجابوا عن الثاني :وهو أن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر بعدة أجوبة :
1. أولا:أن هذه النصوص أعني {لا يعصون الله ما أمرهم ونحوها من العام المخصوص ، فمن الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا وفي «عقيدة أبي المعين النسفي »[44]ما يؤيد ذلك ، فإبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية فعصى عند ذلك إذ عصمتهم ليست لذاتهم ، إنما هي بجعل الله لهم ذلك ، والملك ما دام ملكاً لا يعصي .ومن ذا الذي يا مِيّ لا يتغير ،غاية ما في الباب أن لا تكون العصمة لازمة لكل فرد من أفراد الملائكة بأن يصدر عن بعض أفرادهم العصيان لله تعالى والكفر به كما صدر ذلك عن إبليس اللعين مع كونه واحدا منهم ويكون قوله تعالى في حقهم { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } بيانا لحال الأكثر .
2. ثانيا :بأن قوله : " لا يعصون الله ما أمرهم " صفة لخزنة النيران ، لا جميع الملائكة يدل على ذلك قوله : " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم واهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويقعلون ما يؤمرون " وليس إذا كان هؤلاء معصومين وجب ذلك في جميعهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3. الإجابة عن الدليل الثالث : وهو أن له ذرية .
بأنه جعل له ذرية بعد أن طرد قال الطبري : وكذلك غيرُ مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأنْ كان له نسل وذرية، لِمَا ركَّب فيه من الشهوة واللذة التي نُزعت من سائر الملائكة .
4. الإجابة عنالدليل الرابع : "وهو أنه مخلوق من نار وهم مخلوقون من نور".
بأن هذا غير ضار أيضاً ولا قادح في ملكيته:
3. لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس ، وهى الجوهر المضىء ، واختلافهما بالعوارض ،فضوء النار مكدور بالدخان مستور به ، فإذا كانت النار مصفاة عن الدخان كانت محض نور
4. على أن ما في أثر السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار، إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه ، وورد أن تحت العرش نهراً إذا اغتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك ،
5. ويمكن أن يقال إن إبليس كان من قبيلة من الملائكة خلقوا من النار.
6. الإجابة عن الدليل الخامس : بأن قول التابعي ليس بحجة ملزمة .
7. الإجابة عن السادس :"وهو أن الاستثناء إما منقطع أو متصل تغليبا كما سبق بيانه "
أ‌- بأن الظاهر أنه استثناء متصل لتوجه الأمر على الملائكة ، فلو لم يكن منهم لما توجه الأمر عليه ، فلم يقع عليه ذم لتركه فعل ما لم يؤمر به.
· وتصحيح الاستثناء بأنه منقطع أو متصل لأنه جني مغمور بينهم ــ تكلف وخلاف الأصل ولا يصار إليه إلا عند الضرورة ؛ لأن المخالطة لا توجب ما ذكرتموه ، ولهذا قلنا في أصول الفقه إن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين
· وأيضا فشدة المخالطة بين الملائكة وبين إبليس لما لم تمنع اقتصار اللعن على إبليس فكيف تمنع اقتصار ذلك التكليف على الملائكة
· وأيضا قولكم : إنه جني واحد بين الملائكة فنقول : إنما يجوز إجراء حكم الكثير على القليل إذا كان ذلك القليل ساقط العبرة غير ملتفت إليه وأما إذا كان معظم الحديث لا يكون إلا عن ذلك الواحد لم يجز إجراء حكم غيره عليه .
· و لأنه وإن كان واحداً منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم كما نطقت به الآثار فلم يكن مغموراً بينهم
· ولا يقال : "إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر ، ولكن الله تعالى أمره بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله { ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك } ""لا يقال هذا :لأن إثبات أنه مأمور بأمر جديد، الآية غير صريحة فيه ودون إثباته خرط القتاد واقتضاءً ، وأيضا ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية ، فلما ذكر قوله أبى واستكبر عقيب قوله { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مخالفة هذا الأمر لا بسبب مخالفة أمر آخر .
ب‌- وأيضا الدلائل التي ذكرتموها ، ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات ، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ، ولو قلنا إنه ليس من الملائكة ، لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى
القول الثاني :
قالوا كان من الملائكة ثم عصى وكفر فغضب عليه ولعن فصار شيطانا فسلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية.
روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيبوقتادة وابن جريج والطبريوابن عطيةوأبو حيانوالبغوي والخازن والمنار وأبو الحسن الأشعري واختاره الشيخ موفق الدين ، والقاسمي والشوكاني في البقرة دون الكهف و كثير من الفقهاء منهم أئمة المالكية والرملي الشافعي ونسبه أبو حيان والقرطبي وعدة علماء إلى جمهور الصحابة والتابعين والمفسرين
أدلة القول الثاني[45]:
الدليل الأول : أن الاستثناء يفيد إخراج شيء لولا الاستثناء لدخل أو لصح دخول ذلك الشيء ، وذلك يوجب كونه من الملائكة ؛ لأن الظاهر أنه استثناء متصل والْأَصْلَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الِاتِّصَالُ لا الِانْقِطَاعُ ، وقد تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ : {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ } فَإِخْرَاجُهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ مِنْ لَفْظِ الْمَلَائِكَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْهُمْ ، وَالظَّوَاهِرُ إِذَا كَثُرَتْ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ
· وَمِنَ الْمَعْلُومِ أيضا أَنَّ الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه ـ فلا يقال الاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب كما في قال تعالى وقال تعالى : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيماً إلا قيلا سلاماً سلاماً }وقال تعالى : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ } [
الدليل الثاني : لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان قوله : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } متناولاً له ، ولو لم يكن متناولاً له لاستحال أن يكون تركه للسجود إباء واستكباراً ومعصية ولما استحق الذم والعقاب والخزي والنكال، وحيث حصلت هذه الأمور علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله ، ولا يتناوله ذلك الخطاب إلا إذا كان من الملائكة لتوجه الأمر على الملائكة [46].
الدليل الثالث : أن قولنا أولى ، لأن الأدلة التي ذكرها الفريق الأول في نفي كونه من الملائكة ، ليس فيها إلا الاعتماد على العمومات ، فلو جعلناه من الملائكة لزم تخصيص ما عولتم عليه من العمومات ، ولو قلنا إنه ليس من الملائكة ، لزمنا حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع ، ومعلوم أن تخصيص العمومات أكثر في كتاب الله تعالى من حمل الاستثناء على الاستثناء المنقطع فكان قولنا أولى
الدليل الرابع :
ورود كثير من الروايات عن كثير من الصحابة والتابعين أنه من الملائكة بل هو قول جمهور المفسرين ومنهم شيخ المفسرين الطبري ، وأبو حيان والقرطبي وغيرهم من جهابذة التفسير ، ويضاف إلى ذلك الأدلة التي ذكرت في الرد على القول الأول
وإليك بعض الروايات في هذا :
· روي عن ابن عباس عدة روايات منها :
·أن إبليس كان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أبلس بعد.
· كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانا.
· " كان من الملائكة والجن قبيلة منهم"
· وكان خازناً على الجنان وكان له سلطان السماء الدنيا وكان له مجمع البحرين بحر الروم وبحر فارس وسلطان الأرض فرأى أن له بذلك عظمة وشرفاً على أهل السماء فوقع في نفسه كبر لم يعلم به أحد إلا الله تعالى فلما أمر بالسجود ظهر كبره الذي في نفسه فلعنه الله تعالى إلى يوم القيامة ، وكان على ما رواه عنه قتادة يقول : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود .
·أن إبليس كان من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم ، وخلقت الملائكة من نور ، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ،
·لو لم يكن من الملائكة لم يُؤمر بالسجود، وكان على خِزانة سماء الدنيا
·وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: جعل إبليس على مُلك سماء الدنيا
·عن قتادة : أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجنة.
·وقال سعيد بن جبير : إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نار وإبليس منهم ، وخلق سائر الملائكة من نور
·وقال أيضا : من الذين يعملون في الجنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الراجح :
الراجح هو القول الأول وهو أنه من الجن لعدة مرجحات تظهر وإليك تفصيل الرد على أدلتهم :
المرجح الأول :
أن فيه نصا صريحا واضحا فى سورة الكهف على أنه من الجن وهو قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } وكفى به حجة وبرهانا أنه كان من الجن ، فوجب أن لا يكون من الملائكة وغيرُ جائز أن يُنسب إلى غير ما نسبه الله إليه.
قال الشنقيطي : وَأَظْهَرُ الْحُجَجِ فِي الْمَسْأَلَةِ حُجَّةُ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ غَيْرُ مَلَكٍ . لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ } هُوَ أَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الْمَوْضُوعِ مِنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ .
قال الآلوسي : وهذا ظاهر في أنه ليس من الملائكة "
وما أجابوا به من الإجابات عن الآية وأنه من الملائكة فهو ضعيف بعيد لا يعدو أن يكون احتمالات عقلية فيها اجتهاد مع وجود النص ، و الروايات التي اعتمدوا عليها بعضها لا يصح سنده وبعضها إسرائليات
قال الخليلي [47]:"وتكلف أصحاب القول الأول رد هذه الأدلة بضروب من التأويل ـ ــ ــ ـ ـ ـوما أوهى هذه الردود وأخفى حجتها فإن الأدلة ظاهرة في كون الجن جنسا موازيا للإِنس وليس من الملائكة"
أ‌- فمما قالوه في تأويل الآية :
"أن الملائكة قد تسمى جناً لاستتارهم واجتنانهم عن أعين الناس فأنتم ظننتم أنه لما ثبت أنه كان من الجن وجب أن لا يكون من الملائكة لأن الجن جنس مخالف للملك وهذا ضعيف لأن الجن مأخوذ من الاجتنان وهو الستر ولهذا سمي الجنين جنيناً لاجتنانه ومنه الجنة لكونها ساترة والجنة لكونها مستترة بالأغصان ومنه الجنون لاستتار العقل فيه ، ولما ثبت هذا والملائكة مستورون عن العيون وجب إطلاق لفظ الجن عليهم بحسب اللغة فثبت أن هذا القدر لا يفيد المقصود والْعَرَبُ تَعْرِفُ فِي لُغَتِهَا إِطْلَاقَ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى فِي سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ :
َسُخِّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلَائِكِ تِسْعَةٌ ... قِيَامًا لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلَا أَجْرِ" هذا قولهم
ويرد عليه :
· أن من تتبع كلمة الجن في كل القرآن وجدها أطلقت على الصنف الذي خلق من مارج من نار ولا نراه يطلق في أي موضع على الملائكة فجعله من الاجتننان بمعنى الإختفاء بعيد ويجعل القرآن أِشبه بالألغاز فالمتبادر لكل من قرأ كان من الجن هو هذا الصنف لا الملائكة
· وأيضا إن قلنا إن الملك يسمى جناً بحسب أصل اللغة لكن لفظ الجن بحسب العرف لا سيما في عرف القرآن اختص بغيرهم كما أن لفظ الدابة وإن كان بحسب اللغة الأصلية يتناول كل ما يدب لكنه بحسب العرف اختص ببعض ما يدب فتحمل هذه الآية على العرف لأنه المتبادر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ب‌- ومما قالوه : مِنْ إِطْلَاقِ الْجِنِّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :{ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا }[48] ، وذلك لأن قريشاً قالت : الملائكة بنات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ عُلُوًّا كَبِيرًا ! فهذه الآية تدل على أن الملك يسمى جناً؟
والجواب على هذا :
أن هذا تفسير للآية غير دقيق والأصح في الآية أن المراد بالجنة الجن قال التحرير : 152] ، فَجَعَلُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْجِنِّ نَسَبًا بِتِلْكَ الْوِلَادَةِ، أَيْ بَيَّنُوا كَيْفَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَادَةُ بِأَنْ جَعَلُوهَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا. والْجِنَّةِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْجِنِّ، فَتَأْنِيثُ اللَّفْظِ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ مِثْلُ تَأْنِيثِ رَجْلَةَ، الطَّائِفَةُ مِنَ الرِّجَالِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ مِنْ فَرِيقِ نِسَاءٍ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَشْرَافِ الْجِنِّ
ت‌- ومما قالوه " أنه من الملائكة من خزنة الجنة أو صاغة حليهم أو أنهم صنف لا تراهم الملائكة أو ضرب من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات"
وكل هذا لا يعتمد على سند صحيحوقد رده المحققون من العلماء
قال ابن كثير في الكهف :وقد رُوي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غُنْيَةٌ عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة، وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين يَنْفُون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه [الأمة من] الأئمة والعلماء، والسادة الأتقياء والأبرار والنجباء من الجهابذة النقاد، والحفاظالجياد . الذين دونوا الحديث وحرروه ، وبينوا صحيحه ، من حسنه ، من ضعيفه ، من منكره وموضوعه ، ومتروكه ومكذوبه . وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين ، وغير ذلك من أصناف الرجال . كل ذلك صيانة للجناب النبوي ، والمقام المحمدي ، خاتم الرسل ، وسيد البشر ، صلى الله عليه وسلم- : أن ينسب إليه كذب ، أو يحدث عنه بما ليس منه . فرضى الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم . وقد فعل" .
قال الشنقيطي : . وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُفَسِّرُونَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ : مِنْ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَشْرَافِ الْمَلَائِكَةِ ، وَمِنْ خُزَّانِ الْجَنَّةِ ، وَأَنَّهُ كَانَ يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَأَنَّهُ كَانَ اسْمُهُ عَزَازِيلُ كُلُّهُ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا مُعَوَّلَ عَلَيْهَا .
قال الصابوني بعد ترجيح أنه من الجن : ( هذا هو الرأي الصحيح أن إبليس من الجن وليس من الملائكة ، وقد تقدم قول الحسن البصرى " لم يكن إبليس من الملائكة طرفة عين " وهذا هو الذي تطمئن إليه النفس وترتاح وتدل عليه النصوص الكريمة كقوله تعالى {كان من الجن ففسق عن أمر ربه } )) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما قالوه : " الْجِنَّ قَبِيلَةٌ أو صنف مِنَ الْمَلَائِكَةِ ، خُلِقُوا مِنْ بَيْنِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ نَارِ السَّمُومِ كَمَا رُوِيَ عَنِ بعض الصحابة والتابعين فخلق أصنافَ ملائكته من أصنافٍ من خلقه شَتَّى ، فخلق بعضًا من نُور، وبعضًا من نار، وبعضًا مما شاء من غير ذلك
الجواب عنه :
أن الحديث الذي في مسلم واضح جدا فقد حصر النبي صلى عليه وسلم مادة خلق الملائكة من نور كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "خُلِقت الملائكة من نور، وخُلق إبليس من مارج من نار، خُلق آدم مما وصف لكم"قال القونوي : و(الملائكة) في الحديث جمع محلى باللام ولا قرينة للعهد فيتعين الاستغراق وهذه قاعدة مقررة في الأصول فيستدل بها على أن الملائكة لم يخلقوا إلا من النور كما استدل سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم (الأئمة من قريش ) على أن الخلافة لا تتجاوز قريشا فتلقته الأمة بالقبول بناء على أن اللام في الأئمة تفيد الاستغراق وتسليم هذا دون ذاك مكابرة صريحة ورافعة للأمان مع أن أكثر المؤلفين من السلف والخلف عرفوا الملائكة بأنها أجسام نورانية فقرب الإجماع على ذلك وسند ذلك الخبر الصحيح المذكور
ث‌- وقالوا "أو نقول معنى { كان من الجن } صار من الجن كما أن قوله و{كان من الكافرين }ي صار من الكافرين كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية فصار جنياً كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير
الجواب عنه : أن يقال هذا في غاية التكلف لأن هذه الجملة جاءت لتعليل عصيان إبليس كما تقدم شرح هذا في أدلة القول الأول .
ج‌- وقالوا "انه تعالىاستثناه منهم وهذا يدل على كونه منهم ".
والجواب عليه :أن استثناء الله تعالى إياه منهم ، لا يدل على كونه من جملتهم ، وإنما استثناه منهم ، لأنه كان مأمورا بالسجود معهم ، فلما دخل معهم في الأمر ، جاز إخراجه بالاستثناء منهم سواء قلنا هو استثناء منقطع أو متصل لكونه جنيا مغمورا في آلالاف الملائكة ، ويزيده بيانا قوله تعالى : ( ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك ) فعلمنا أنه من جملة المأمورين بالسجود ، وإن لم يكن من جملتهم وقد تقدم تفصيل هذه المسألة
8. ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجح الثاني:
يرجحه أيضا أن الملائكة منزهون عن المعصية معصومون وإبليس قد عصى أمر ربه والملائكة لا يستكبرون وإبليس قد استكبر والملائكة معصومون من ارتكاب الكفر وإبليس قد كفر
قال الآلوسي :
" وأنت تعلم أنه يشق الجواب على من ادعى أن إبليس من الملائكة مع دعواه عصمتهم ، ولا بد أن يرتكب خلاف الظاهر في هذه الآية" [49]
· والأدلة التي اعتمد عليها أبو المعين النسفي وغيره ممن قال بقوله في اثبات العصمة لمعظم الملائكة لا لكلهم ـ هي قصة إبليس وقصة هاروت وماروت وقد رد عليه القونوي قائلا : وأنت تعلم أن قصة هاروت محكية عن اليهود كما سيصرح به البيضاوي وأرباب العقائد فلا دلالة على مدعاه ، واما كون إبليس من الملائكة فقد عرفت أيضا أنه على احتمال واحد مرجوح فأين الدلالة على ما ذكره مع أن النصوص القاطعة دلت على عصمة عموم الملائكة " وقال أيضا " استوعبتني الحيرة ثم الدهشة في أن عظماء العلماء كيف يتجاسرون على هفوة صدرت من أرذل قوم وأردئهم وهم اليهود حتى وقعوا فيما وقعوا في قصة إبليس وهاروت وماروت " وقال القونوي أيضا : "والآيات الدالة على عصمتهم ظاهرة في العموم ولا قرينة قوية على التخصيص "وأيضا الذي عليه جماهير العلماء أن الملائكة معصومون"
وإليك تفصيل مسألة عصمة الملائكة حتى يتضح الأمر :
اتفق أئمة المسلمين على أن حكم الرسل من الملائكة كجبريل حكم النبيين ، في العصمة في باب البلاغ عن الله عز وجل ، وفي كل شيء ثبتت فيه عصمة الأنبياء فكذلك الملائكة ، وأنهم مع الأنبياء في التبليغ إليهم كالأنبياء مع أممهم ، ثم اختلفوا في غير المرسلين من الملائكة على قولين :
القول الأول :جمهور العلماء على عصمة الملائكة مطلقا وهو قول طائفة من المحققين وجميع المعتزلة :
قال أبو حيان : وكان من القواعد الشرعية والعقائد الإسلامية عصمة الملائكة من المعاصي والاعتراض ، لم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحشوية.
وقال الباجوري : واعلم أن المشهور عصمة جميع الملائكة وقولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } ليس غيبة ولا اعتراضا على الله تعالى بل مجرد استفهام
وما نقل في قصة هاروت وماروت مما يذكره المؤرخون لم يصح فيه شيء من الأخبار بل هو من افتراء اليهود وكذبهم وتبعهم المؤرخون في ذكر ذلك
وقال الإمام الرازي عند قوله تعالى { { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }:
المقصود من هذه الآية شرح صفات الملائكة وهي دلالة قاهرة قاطعة على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب ، لأن قوله : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يدل على أنهم منقادون لصانعهم وخالقهم وأنهم ما خالفوه في أمر من الأمور ، ونظيره قوله تعالى : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } وقوله : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } وأما قوله : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } فهذا أيضاً يدل على أنهم فعلوا كل ما كانوا مأمورين به ، وذلك يدل على عصمتهم عن كل الذنوب [50].

القول الثاني :
أن غير المرسلين من الملائكة غير معصومين ،وذهبت إليه طائفة واحتجوا على ذلك بوجوه سمعية وعقلية منها قصة هاروت وماروت عن سيدنا علي وما نقله أهل الأخبار والسير . ونقله ابن جرير الطبري في تفسيره عن جماعة من الصحابة والتابعين فنقل قصة هاروت وماروت بألفاظ متقاربة . عن علي بن أبي طالب وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي والربيع ومجاهد "
وأجاب من ذهب إلى عصمة جميع الملائكة عن قصة هاروت وماروت ، بأن ما نقله المفسرون وأهل الأخبار في ذلك لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيء وهذه الأخبار إنما أخذت من اليهود ، وقد علم افتراؤهم على الملائكة والأنبياء[51]كما تقدم .
قال الآلوسي :
نعم مسألة عصمتهم عليهم السلام خلافية ولا قاطع في العصمة كما قال العلامة التفتازاني[52]وقد ذكر القاضي عياض أن طائفة ذهبوا إلى عصمة الرسل منهم والمقربين عليهم السلام ولم يقولوا بعصمة غيرهم ، وإذا ذهب مدعي كون إبليس من الملائكة إلى هذا لم يتخلص من الاعتراض إلا بزعم أنه لم يكن من المقربين ولا تساعده الآثار على ذلك ، ويبقى عليه أيضاً أن الآية تأبى مدعاه، وكذا لو ذهب إلى ما نقل عن بعض الصوفية من أن ملائكة الأرض لم يكونوا معصومين وكان إبليس عليه اللعنة منهم" .
أقول : ولا شك أن من تأمل أدلة الفريقين يرى ضعف من قال بعدم العصمة ووجد أن أدلته لا تقوى على مدعاه ، بل يرى أن مسألة عصمتهم قطعية .

وبعد شرح مسألة مسألة عصمة الملائكة نقول :هناك أدلة أخرى ذكرتها من قبل وفيها الرد على بقية أدلة من يقول إن إبليس من الملائكة ، فالقول الأول هو القول الصواب الذي لا مرية الذي نص عليه القرآن نصا واضحا
قال سيد طنطاوي : والذى نميل إليه فى هذه المسألة أن إبليس لم يكن من الملائكة ، بدليل الحديث الصحيح الذى يقول فيه النبى صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور . وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق بنو آدم مما وصف لكم " والآية الكريمة - وهى قوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } صريحة فى أنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة . ومع هذا فإن الأمر بالسجود يشمله ، بدليل قوله - تعالى - { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ . . . } فهذه الآية تدل دلالة صريحة على أن الله - تعالى - قد أمر إبليس بالسجود لآدم . .
قال عبد الرحمن حبنكة : كون إبليس من عنصر الجن لا من الملائكة أمر محقق بصريح النص الذي لا يحتمل التأويل .
ويؤكد هذه الحقيقة ظهور المعصية منه بعد الامتحان ، وذلك لأن الملائكة من خصائصهم التكوينية أنهم لا يعصون لله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وقد دلت على هذه الحقيقة نصوص قرآنية كثيرة ، منها قول الله تعالى في سورة (الأنبياء/21 مصحف/73 نزول):
{وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ}وظاهر أن إبليس قد استكبر على طاعة الله إذ أمره الله بالسجود لآدم ، ولم يعمل بأمره تعالى ، فهو عنصر مغاير لعنصر الملائكة ، له إرادة حرة ، ودوافع نفسية تدفعه إلى المعصية ، ولديه شروط التكليف كاملة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة الرابعة عشرة :اتفق القائلون إن إبليس من الجن أنه كان معدوداً في عداد الجن ، واختلفوا بعد ذلك هل كان على الأرض جن قبل آدم وإبليس كان منهم أم لا ؟:
القول الأول :
قال كثير من العلماء إنه كان من الجن الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيرا وتعبد مع الملائكة وخوطب قاله شهر بن حوشب وبعض الأصوليين وحكاه الطبري عن ابن مسعود وروي عن ابن عباس وقتادة وسعيد بن جبير .
قال شَهْر بن حَوْشَب: كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة، فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، رواه ابن جرير.
وعن سعد بن مسعود، قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسبي إبليس وكان صغيرا، فكان مع الملائكة، فتعبد معها، فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا، فأبى إبليس. فلذلك قال تعالى: { إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ } [الكهف: 50 ].
وروي في ذلك آثار عن ابن عباس وقتادة وابن جبير ،
قال القرطبي : وقول من قال : إنه كان من جن الأرض فسبي فقد روي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجن في الأرض مع جند من الملائكة ، حكاه المهدوي وغيره.
القول الثاني : أنه من الجن ، والجن لم يكونوا في الأرض قبل الإنس وإن سبق خلق الله لهم على الإنس
ودليل ذلك ان الله تعالى أخبرنا أنه خلق الأرض للإنس بقوله { خلق لكم ما في الارض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات ـ ـ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } [53]
وأنه لم يثبت في آية ولا حديث صحيح أنه كان على الأرض جن قبل آدم ، نعم القرآن يشير إلى تقدم خلق الإنس على الجن بتقديم الجن على الإنس في قوله تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } وبوجود إبليس قبل خلق آدم { كان من الجن ففسق عن أمر ربه } [54]
قال البقاعي : وما يقال من أنه كان قبل آدم عليه السلام في الأرض خلق يعصون قاس عليهم الملائكة عليهم السلام حال آدم عليه السلام ، كلام لا أصل له ، والذي يدل عليه حديث مسلم هذا كما ترى أنه أول ساكني الأرض ـ ــ أنه أول ساكنيها بنفسه ، كما أنه خاتمهم بأولاده ، عليهم تقوم الساعة"
المسألة الخامسة عشرة : هل هو أبو الجن [55] :

القول الأول :قالوا إبليس من الجن ، وهو أولهم ، كآدم من الإنس فولده منهم مؤمنون ومنهم كافرون ومن كان منهم كافرا فهو شيطان
· قاله الحسن وابن زيد بن أسلم ورجحه ابن عاشور [56] والبقاعي و الزحيلي والجلال وهميان الزاد وروي نحوه عن ابن عباس
· قال الحسن، قال:" ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قَط، وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس." وهذا إسناد صحيح عن الحسن .
القول الثاني :
لم يكن أول جني لكن قبيلة إبليس انقرضت ولم يبق منها غيره فهو أصل الجن والشياطين فهو كنوح عليه السلام في الإنس فجميع الشياطين اليوم من ذريته ، واحتجوا بآية { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو }
الآلوسي وملا حويش وسليمان الأشقر
قال الآلوسي:
"وأخرج عن الحسن ابن جرير ، وابن الأنبياري في كتاب الأضداد . وأبو الشيخ في العظمة أنه قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين وإنه لأصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس ، وفيه دلالة على أنه لم يكن قبله جن كما لم يكن قبل آدم عليه السلام انس ، وفي القلب من صحته ما فيه ، وأقرب منه إلى الصحة ما قاله جماعة من أنه كان قبله جن إلا أنهم هلكوا ولم يكن لهم عقب سواه فالجن والشياطين اليوم كلهم من ذريته فهو في الجن كنوح عليه السلام في الإنس على ما هو المشهورنعم كان معهم ومعدوداً في عدادهم"
ليس لدينا نصوص صريحة تدلنا على أن الشيطان أصل الجن ، أو واحد منهم ، وإن كان هذا الأخير أظهر لقوله : ( إلاَّ إبليس كان من الجن ) [57]
القول الثالث : قالوا أبو الجن هو الجان الوارد في قوله تعالى في سورة الحجر {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) و{ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) في سورة الرحمن
الترجيح :
أما القول الثالث وهو أن أبا الجن هو الجان فظاهر الضعف وليظهر لك ذلك نأخذ الأقوال في تفسير آية الحجر والرحمن وهي {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) و{ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) في سورة الرحمن
ففي تفسيرهما أقوال أقواها ثلاثة أقوال :
القول الأول : أن الجان هو أبو الجن وأصل الجن { والجآن } هو أبو الجن وليس هو إبليس بل إبليس من ذريته
روى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ومؤمنهم يدخل الجنة ، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس.
رواه الضحاك عن ابن عباس والزمخشري وحبنكة ورجحه الطبراني و ابو السعود والآلوسي والبقاعي والبيضاوي والشنقيطي وسيد ط في الحجر والشوكاني ومختار الصحاح والصاحب بن عباد والواحدي والثعلبي والبغوي والشنقيطي

القول الثاني :أن الجان هو أبو الجن والمراد به إبليس
الطبري وابن عطية والسعدي والحسن ومقاتل وقتادة وعطاء والجلال والسمعاني والسعدي والهواري والسمرقندي وابن أبي زمنين والطوسي و الطبرسي وابن جزي[58] والهواري والقرطبي وكذا أبو حيان والشربيني وهميان الزاد في سورة الرحمن
القول الثالث : أن الجان اسم جنس للجن وهو الصحيح
بدليل قوله تعالى في سورة الرحمن }{فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)} و{ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } بعد قوله في السورة نفسها { وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
· فليس المراد لم يطمثهن أبو الجن الذي هو الجن وليس المراد لا يسأل عن ذنبه أبو الجن فالمراد به في المواضع الثلاثة جنس الجن المستتر عن العيون
· وأيضا قوله تعالى في سورة الحجر { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)} فلاحظ المقابلة بين الإنسان والجان ، فكما أنه لا يراد بالإنسان آدم فقط بل المراد هذا الجنس فكذلك في الجا
وهذا ما رجحه أبو السعود والبقاعي والبيضاوي وابن عطية وسيد طنطاوي والمظهري في سورة الرحمن والمراغي وأبو زهرة والميزان [59]وحسنين مخلوف ودرويش والقطان
وبعد أن بينا ضعف القول الثالث أن أبا الجن هو الجان يبقى عندنا قولان قول يقول إنه أبو الجن كآدم للبشر وقول إنه أبو الجن بعد انقراض الجن فهو ليس أبا للجن ولكنه من الجن لكن بعد أن انقرض الجن صار أبا لهم بهذا الاعتبار كسيدنا نوح للبشر ، ونحن ليس عندنا دليل يقطع بأحد الأمرين لكن قوله تعا لى { كان من الجن} قد يرجح أنه لم يكن أول جني وسيأتي المزيد في السور الأخرى عن هذا الموضوع إن شاء الله تعالى .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة السادسة عشرة : هل الشياطين جنس مستقل غير الجن أم هم نوع من الجن ، والجن جنس لهم ؟

اختلفوا في الشياطين على أقوال :
القول الأول : إنهم جنس غير الجن، فالشياطين جنس والجن جنس آخر كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر
وهو قول مقاتل وجماعة
القول الثاني : أن الشياطين ومنهم إبليس نوع من الجن ، فالجن صنفان كافر وهم الشياطين ومؤمن وهم الجن المؤمنون ، فكل من كان من الجن مؤمناً فإنه لا يسمى شيطانا بل جنا ، وكل من كان منهم كافراً سمي شيطانا وأن الشياطين والجن جنس واحد ، وإنما صارا صنفين باعتبار الكفر والإيمان ، فلا يقال لمن آمن منهم إنه شيطان ، و إبليس كفره ظاهر لقوله تعالى : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } وأما سائر الشياطين فهم أيضاً كفرة بدليل قوله تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } ومن خواص الشياطين أنهم كلهم أعداء للبشر قال تعالى : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ }وقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً شياطين الإنس والجن }
والقول الثاني هوالأصح الذي عليه الجمهور: فعندنا إنس وملائكة وجن ، والجن صنفان كافر شيطان ومؤمن ، والشياطين لم يخلقوا شياطين ابتداء بل صاروا شياطين باختيارهم ، ولكل صنف من هذه المخلوقات خصائص وسمات ، فالملائكة خلقهم الله من نور ، والجن خلقهم الله من مارج من نار والإنس خلقهم الله من طين كما هو معلوم…وقد دل على هذه الفوارق في عناصر التكوين ما رواه مسلم عن عائشة ، عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "خُلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم" ، والجن منه
قال المنار :وَلَا نَعْرِفُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَلْقِ مَفْطُورًا عَلَى الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ ، مَجْبُورًا عَلَى الْفِسْقِ وَالْكُفْرِ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ لَمَا صَحَّ أَنْ يَعْتَرِضَ بِهِ الْعَبْدُ الْمَرْبُوبُ عَلَى الرَّبِّ الْمَعْبُودِ وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمُبَيِّنَةُ لِمَعْصِيَةِ إِبْلِيسَ - وَهُوَ شَرُّ أَفْرَادِ هَذَا النَّوْعِ الْمُسَمَّى بِالْجِنِّ - تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُخْتَارًا فِي عِصْيَانِهِ بَانِيًا إِيَّاهُ عَلَى شُبْهَةٍ احْتَجَّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ خَلَقَ اللهُ نَوْعَهُ فَكَانُوا كَالْبَشَرِ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، كَمَا يُعْلَمُ مِنَ السُّورَةِ الَّتِي سُمِّيَتْ بِاسْمِهِمْ (الْجِنِّ) وَقَالَ تَعَالَى : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الْفِسْقُ الْخُرُوجُ مِنَ الشَّيْءِ ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُطِيعُهُ وَيَعْبُدُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَجُودُهُ مَعَ الْمَلَائِكَةِ ، وَعُقُوبَتُهُ بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ . وَقَدْ عَصَى آدَمُ رَبَّهُ بَعْدَ عِصْيَانِ إِبْلِيسَ
قال ابن رجب في شرح البخاري :
، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قالَ : انطلق النبي ( في طائفة من أصحابه ، عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، ـ ـ ـ ـ فانظروا ما الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانصرف الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي ( - وهو بنخلة - عامدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القران [ استمعوا لهُ ، فقالوا : هذا - - والله - الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : يا قومنا إنا سمعنا قرانا عجبا ، يهدي إلى الرشد فامنا به ، ولن نشرك بربنا أحداً ، فأنزل الله على نبيه : ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ ( ، وإنما أوحي إليه قول الجن . وقد قالَ السدي وغيره : إن السماء لم تحرس إلا حيث كانَ في الأرض نبي أو دين لله ظاهر .
والمقصود من هذا الحديث هاهنا : أن الشياطين لما مروا بالنبي ( وهو يصلي بأصحابه صلاة الصبح ، وقفوا واستمعوا القرآن . وهذا يدل على أنه ( كانَ يجهر بالقراءة في صلاة الصبح ، فلما سمعوا عرفوا أنه هوَ الذي حال بينهم وبين خبر السماء .
وظاهر هذا السياق : يقتضي أن الشياطين آمنوا بالقرآن ، وكذا قالَ السدي وغيره
المسألة السابعة عشرة : هل تأكل الملائكة والجن :

· اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون
· وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون ويشربون ، قال عليه السلام في الروث والعظم " إنه زاد إخوانكم من الجن " وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى }
المسألة الثامنة عشرة : مآل الجن :

القول الأول :

جماهير العلماء على أن الجن يدخل المؤمنون منهم الجنة كما يدخل الكافرين منهم النار يعاقبون في الإساءة ويجازون في الإحسان ويدخلون الجنة كالإنس
الأدلة :
· الدليل الأول : لقوله تعالى في سورة الأنعام {ولكل درجات مما عملوا} بعد قوله { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)}أي لكل من الجن والإنس درجات مما عملوا
· الدليل الثاني :قوله تعالى { ولمن خاف مقام ربه جنتان } فمؤمنو الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع ، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن أجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به ففيها دلالة من عدة وجوه أ- أن (من) من صيغ العموم، فتتناول كل خائف.
· ب- أنه رتب الجزاء المذكور على خوف مقامه تعالى، فدل على استحقاقه به.
· ج- قوله عقيب هذا الوعد: فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 47].
· أنه ذكر في وصف نسائهم أنهن: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ وهذا والله أعلم معناه: أنه لم يطمث نساء الإنس إنس قبلهم ولا نساء الجن جن قبلهم (6)قال الشوكاني: (وفي هذه الآية - بل في كثير من آيات هذه السورة دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا بالله سبحانه وعملوا بفرائضه وانتهوا عن مناهيه)
· الدليل الثالث : قوله تعالى في سورة الرحمن: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 56].
· الدليل الرابع : - قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا.
· قال ابن القيم: (وبهذه الحجة احتج البخاري، ووجه الاحتجاج بها: أن البخس المنفي هو نقصان الثواب، والرهق: الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته، ولا يزداد في سيئاته) (9).
· الدليل الرابع :قوله تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن: 15].
· قال سيد قطب: (ودل هذا على أن الجن يعذبون بالنار، ومفهومه أنهم كذلك ينعمون بالجنة، هكذا يوحي النص القرآني، وهو الذي نستمد منه تصورنا، فليس لقائل بعد هذا أن يقول شيئاً يستند فيه إلى تصور غير قرآني عن طبيعة الجن وطبيعة النار أو الجنة، فسيكون ما قاله الله حقاً بلا جدال)
· وإليه ذهب ابن عباس مالك والشافعي وأحمد, وابن أبي ليلى والحسن و والأوزاعي وضمرة بن جندبوالضحاك وابن كثير والقرطبي وسيد طنطاوي وهميان الزاد والشنقيطي [60]وابن جزي والخازن والنووي وابنحجر الهيتمي والشوكاني والآلوسي والرازيوالزحيليوهو قول أكثر المفسرين والفقهاء .
· قال ابن كثير :{ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }وهذه الآية عامة في الإنس والجن، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا؛ ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ . فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } .
· وقال جرير عن الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون.

· قال هميان الزاد : والمؤمنون من الجن يدخلون الجنة ، ولو قلنا إِن إِباهم إِبليس

القول الثاني :لا يدخلونها وليس لمؤمني الجن غير نجاتهم من النار
اختاره مجاهد وليث بن أبي سليم وأبو الزناد وأبو حنيفة والحسن وزاد مجاهد وأبو الزناد أنهم يكونون ترابا كالبهائم
· وعن مجاهد والليث:لا يدخلونها و ليس لمؤمني الجن غير نجاتهم من النار ويقال لهم كالبهائم كونوا ترابا [61]

· وقال الحسن: (ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار)
· وقال ابن نجيم: (فقال قوم: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار، وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله)
قال البغوي :واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن فقال قوم: ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار، وتأولوا قوله: "يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم" ، وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه.
أدلتهم :استدل هذا الفريق بقوله تعالى إخباراً عن النفر من الجن الذين استمعوا القرآن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }ووجه استدلالهم بها: أن المغفرة للذنوب لا تستلزم الإثابة لأنه ستر، والإثابة بالوعد فضل. فجعل غاية ثوابهم إجارتهم من العذاب الأليم) والآية قد دلت على إجارتهم من النار ولم تذكر دخولهم الجنة، أو الثواب على أعمالهم.
· وقالوا أيضا : لا يدخلون الجنة ؛ وذلك أن الله أخرج أباهم من الجنة فلا يعيده ولا يعيد ولده .

· القول الثالث : إن مؤمني الجن حول الجنة، في ربض ورحاب، وليسوا فيها وروي في حديث رواه الطبراني: أنهم يكونون في ربض الجنة، يراهم الإنس من حيث لا يرونهم)قال السيوطي في معترك الأقران :وقد قدمنا أنهم في رَبض الجنة لا يسكنون مع الإنسان
· اختاره عمر بن عبد العزيز والسيوطي
· قال محمد رشيد رضا في هذه الأقوال: (وشذ من قال أن مسلمي الجن لا يدخلون الجنة، إذ ليس لهم ثواب، وأشد منه شذوذاً من زعم أنهم لا يدخلون الجنة ولا النار، نقل ذلك السيوطي عن ليث بن أبي سليم، وهو مخالف لنصوص القرآن، وليث هذا مضطرب الحديث وإن روى عنه مسلم، وقد اختلط عقله في آخر عمره، ولعله قال هذا القول وغيره مما أنكر عليه بعد اختلاطه) (
· القول الرابع : التوقف . قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.
· الترجيح : من الواضح أن الراجح هو القول الأول لأنه الذي تدل عليه عمومات وظواهر القرآن وهو قول جماهير العلماء قال الفخر الرازي: (والصحيح أنهم في حكم بني آدم، فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية، وهذا القول قول ابن أبي ليلى ومالك، وجرت بينه وبين أبي حنيفة في هذا الباب مناظرة) ، وقال الألوسي: (وعموميات الآيات تدل على الثواب)وقال النووي في شرح صحيح مسلم: (والصحيح أنهم يدخلونها ويتنعمون فيها بالأكل والشرب وغيرها، وهذا قول الحسن البصري, والضحاك, ومالك بن أنس, وابن أبي ليلى وغيرهم) (5). وقال ابن القيم: (وأما الجمهور فقالوا: مؤمنهم في الجنة كما أن كافرهم في النار) [62].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة التاسعة عشرة :هل الجن مكلفون ؟
وقال الرازي في تفسيره: " أطبق الكل على أن الجن كلهم مكلفون ".
ونقل الشبلي عن القاضي عبد الجبار قوله: " لا نعلم خلافاً بين أهل النظر في أنّ الجن مكلفون، وقد حكى عن بعض المؤلفين في المقالات أن الحشوية قالوا: إنهم مضطرون إلى أفعالهم، وأنهم ليسوا مكلفين ".قال: " والدليل على أنهم مكلفون ما في القرآن من ذمّ الشياطين ولعنهم، والتحرز من غوائلهم وشرهم، وذكر ما أعد الله لهم من العذاب، وهذه الخصال لا يفعلها الله تعالى إلا لمن خالف الأمر والنهي، وارتكب الكبائر، وهتك المحارم، مع تمكنه من أن لا يفعل ذلك، وقدرته على فعل خلافه، ويدل على ذلك أيضاً أنه كان من دين النبي صلى الله عليه وسلم لعن الشياطين، والبيان عن حالهم، وأنهم يدعون إلى الشر والمعاصي، ويوسوسون بذلك. وهذا كله يدل على أنهم مكلفون، وقوله تعالى: (قل أوحي إليَّ أنَّه استمع نفرٌ من الجن) [الجن: 1] إلى قوله: (فَآمَنَّا به ولن نشرك بربنا أحداً) [الجن: 2] (
تكليفهم بحسبهم:يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " الجن مأمورون بالأصول والفروع بحسبهم، فإنهم ليسوا مماثلين للإنس في الحدّ والحقيقة؛ فلا يكون ما أمروا به ونهوا عنه مساوياً لما على الإنس في الحدّ، لكنهم مشاركون الإنس في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، وهذا ما لم أعلم فيه نزاعاً بين المسلمين " (3) .
المسألة العشرون :هل الاستثناء متصل أم منقطع ؟
قوله تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ إلا ] حرفُ استثناءٍ ، و " إبليس " نصبٌ على الاستثناء وهو مستثنى على كل الأقوال لكن هل الاستثناء متصل أم منقطع ؟
الأقوال في الاستثناء :
القول الأول :أنه استثناءٌ متصل على أحد وجهين :

1. الوجه الأول :أننا إن قلنا بالقول المرجوح وهو أنه كان ملكا فواضح أنه استثناء متصل لأنه ملك من الملائكة المأمورين بالسجود فخالف ولم يسجد فهو استثناء متصل على هذا فكل من قال إنه ملك يقول الاستثناء متصل .
2. الوجه الثاني :إن قلنا بالراجح وهو أنه كان جنيا فعندنا قولان : القول الأول قال هو استثناء متصل أيضا ؛ لما أنه كان جنّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بصفاتهم عاملا بأعمالهم فكان كأنه منهم فتناوله أمر الملائكة بالسجود فَغُلِّبوا عليه وصح استثناؤه منهم فاستثني استثناءَ واحدٍ منهم ، فهو من تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغمور فيما بينهم ، بأن يطلق اسم الجنس على الجميع فقد كان مختلطا بهم فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل.
اختاره الكشاف وأبو السعود واطفيش وأجازه الشوكاني ودرويش
· قال الكشاف في سورة الحجر: " واستثنى إبليس من الملائكة ، لأنه كان بينهم مأموراً معهم بالسجود ، فغلب اسم الملائكة ، ثم استثنى بعد التغليب كقولك : رأيتهم إلا هنداً".
· قال الكشاف في سورة البقرة : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } استثناء متصل ، لأنه كان جنّيّاً واحداً بين أظهر الألوف من الملائكة مغموراً بهم ، فغلبوا عليه في قوله : { فَسَجَدُواْ } ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعاً
· قال الكشاف في سورة الحجر : فإن قلت : كيف استثنى إبليس من الملائكة وهو من الجنّ؟ قلت : قد أمر بالسجود معهم فغلبوا عليه في قوله : { فَسَجَدَ الملائكة } ثم استثنى كما يستثنى الواحد منهم استثناء متصلاً

القول الثاني :إنه استثناء منقطع لأنه استثناء من غير الجنس فإبليس من الجن والملائكة غير الجن فهو منقطع

وهذا قول الجمهور في تخريج الاستثناء على كونه جنيا [63]
قال الآلوسي : " ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة ، ومنقطع إن لم يكن منهم ، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني "
الحادية والعشرون :هل هو مأمور بالسجود بأمر جديد أم بنفس الأمر الذي أمرت به الملائكة ؟ في المسألة أراء :
·الرأي الأول : قول الذين يقولون إنه كان ملكا قالوا هو ملك فهو مأمور بنفس الأمر الذي أمرت به الملائكة
· الرأي الثاني : الذين قالوا إنه من الجن وهو الصحيح انقسموا على قولين :
1. القول الأول : قول الزمخشري ومن أيده بأنه كان جنيا مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بصفاتهم عاملا بأعمالهم مأموراً معهم بالسجود فكان كأنه منهم فَغُلِّبوا عليه في {فسجدوا }، ثم استثني استثناءَ واحدٍ منهم فهو من تغليب الجنس الكثير الأفراد على فرد من غير هذا الجنس مغمور فيما بينهم بأن يطلق اسم الجنس على الجميع فقد كان مختلطا بهم فحينئذ عمته الدعوة بالخلطة لا بالجن ولأن حمل الاستثناء على الاتصال هو الأصل.
· قال الكشاف في سورة الحجر: " واستثنى إبليس من الملائكة ، ، فغلب اسم الملائكة ، ثم استثنى بعد التغليب كقولك : رأيتهم إلا هنداً".
فعلى قول الزمخشري هو مأمور بنفس الأمر
الزمخشري وأبو السعود وابن كثير [64]
2. القول الثاني : الذين قالوا الاستثناء منقطع لأنه من غير الجنس
· فيكون أمر بأمر آخر لكنه استغني بذكر أنه استكبر وكان من الكافرين وأبى وأنه عاتبه الله وبأنه قال إذ أمرتك عن أن يذكر أنه أمره ، إيجازا واستغناء بذكر الملائكة عن ذكر إبليس ، فإنه إذا علم أن الأكابر مأمورون بالتذلل لأحد علم أن الأصاغر أيضا مأمورون به
و إهمالا لشأنه واحتقارا له بسبب ما كان من عصيانه.
قال الظلال :" ولكنه كان مع الملائكة وكان مأمورا بالسجود. ولم يخص بالذكر الصريح عند الأمر إهمالا لشأنه بسبب ما كان من عصيانه ، إنما عرفنا أن الأمر كان قد وجه إليه من توجيه التوبيخ إليه :«قالَ : يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ؟ أَسْتَكْبَرْتَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ؟"
قال الآلوسي ملخصا ما سبق : "[فعلى من قال هو من الجن] عد تركه السجود إباءاً واستكباراً حينئذٍ :
· إما لأنه كان ناشئاً بين الملائكة مغموراً بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل ،
· أو لأن الجن أيضاً كانوا مأمورين مع الملائكة ، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن ،
· أو لأنه عليه اللعنة كان مأموراً صريحاً لا ضمناً كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى : { إِذْ أَمَرْتُكَ } [ الأعراف : 2 1 ]
المسألة الثانية والعشرون :في اسم "إبليس" هل هو عربي مشتق أم أعجمي غير مشتق .

القول الأول : قالوا هو اسمٌ أعجميٌ وزنه "فعليل" فلم ينصرِف للعلمية والعجمة.[65]

قال التحرير :وَإِبْلِيسُ اسْمٌ مُعَرَّبٌ مِنْ لُغَةٍ غَيْرِ عَرَبِيَّةٍ لَمْ يُعَيِّنْهَا أَهْلُ اللُّغَةِ، وَلَكِنْ يَدُلُّ لِكَوْنِهِ مُعَرَّبًا أَنَّ الْعَرَبَ مَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ وَلَا سَبَبَ فِيهِ سِوَى الْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ وَلِهَذَا جَعَلَ الزَّجَّاجُ هَمْزَتَهُ أَصْلِيَّةً، وَقَالَ وَزْنُهُ عَلَى فِعْلِيلَ.
اختاره الزجاج وابن عاشور وابن عطية والثعالبي وأبو حيان وابن الأنباري والرمانيأبو عبيدة والسمين الحلبي والسمرقندي والنيسابوري و نسبه ابن حجر العسقلاني للأكثرين
القول الثاني : عربي مشتق من الإبلاس : وهواليأس الشديد مع الحزن والسكوت والتحير [66]لأن الله أبلسه من الخير كله أي : آيسه منه ومنه قوله تعالى : { فإذا هم مبلسون } ، ووزنه على هذا [إِفْعِيلَ] لِأَنَّ هَمْزَتَهُ مَزِيدَةٌ وأجروه مجرى إسحاق من أسحقه الله ، وأيوب من آب يؤوب[67]

اختاره ابن عباس والسّدي وأبو عبيدة وابن أبي حاتم والبقاعي والحرالي والطبري والخازن ومكي وابن عثيمينغيرهم[68]

· فهو ممنوع من الصرف لأنه مُشبَّهٌ بالعجمة حيث لم يُسمَّ به أحدٌ فكان كالاسم الأعجميّ لكونه لا نظير له في الأسماء إذ لم يسم به أحد من العرب فتُرك صرفه استثقالا[69]
رده الفريق الأول بعدة ردود:
1. الرد الأول : أنه ممنوع من الصرف لا علة لمنعه إلا العجمة فإذا قلتم إنه عربي فلم منع من الصرف
قال ابن عاشور : هَذَا اشْتِقَاقٌ حَسَنٌ لَوْلَا أَنَّهُ يُنَاكِدُ مَنْعَهُ مِنَ الصَّرْفِ " لأنه لا توجد فيه علة لمنع الصرفوقالأبو منصور اللغوي : كونه أعجميا غير مشتق أصح ، لأنه لو كان من الإِبلاس لصرف ، أَلا ترى أنك لو سميت رجلاً : بإِخريط وإِجفيل؛ لصرف في المعرفة .
وأجيب بأنه صرف لأنه لا نظير له " ورد بأن له نظائر في العربية كما سيأتي أنه له نظير في الأسماء العربية نحو : كـ(إزميل) للشفرة ، و(إخريض) لصبغ أحمر ، و(إصليت) لسيف ماض ، ، و(الاغريض ): الطلع ، ، وثوب (اضريج) : مشبع الصبغ و(إجفيل) الجبان والقوس البعيدة السهم ،و(إبريز) الخالص من الذهب وإعليط ، وإحليل ، وإكليلوبأن فيه بُعْدا[70]،

الرد الثاني : أنه يلزم على قولكم أن لا يسمى إبليس إلا بعد طرده وهو قد سمي بذلك قبل المعصية [71]
وأجاب ابن حجر عن هذا بقوله : واستبعد كونه مشتقا أيضا بأنه لو كان كذلك لكان إنما سمي إبليس بعد يأسه من رحمة الله بطرده ولعنه وظاهر القرآن أنه كان يسمى بذلك قبل ذلك كذا قيل ، ولا دلالة فيه لجواز أن يسمى بذلك باعتبار ما سيقع له " [72]
قال عبد الكريم الخطيب : ثالثا : لم يظل « إبليس » فى جماعة الجنّ ، بل أخرجه اللّه من بينهم ، حين أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين ، فلعنه اللّه ، وطرده ، وجعل له اسم « إبليس » سمة يعرف بها ، فى هذا الموقف الذي حلّت عليه فيه اللعنة والإبلاس.
رابعا : بدأ إبليس منذ اللعنة التي حلّت به يتحول خلقا آخر ، فإذا هو « شيطان » مريد ، وشيطان رجيم ، وإذا هو قوة شر منطلقة ، يتطاير منها شرر ، يصيب من يتعامل معه ، ويتبع خطاه ، وتلك الشرارات المنطلقة منه هى ذريته التي يتحدث عنها القرآن فى قوله تعالى : « أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ؟ »فإبليس كان من عالم الجنّ ، ثم نزل إلى « إبليس » ثم تحول من إبليس إلى شيطان ..!.وقال السمرقندي { إِلاَّ إِبْلِيسَ } وكان اسمه عزازيل ، فلمّا عصى غيّرت صورته
الرد الثالث : أنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية قال أبو حيان : وأبعد أبو عبيدة وغيره في زعمه أنه مشتق من الإبلاس ، وهو الإبعاد من الخير ، لأنه قد تقرر في علم التصريف أن الاشتقاق العربي لا يدخل في الأسماء الأعجمية
ويجاب بأن اسمه من اللغات القديمة والأرجح أنها من اللغات السامية القديمة التي هي أم اللغة العربية فالعربية لم تنعدم الصلة بينها وبين القديمة فهناك اشتراك كبير بينهما في الاشتقاق ، فكون الكلمة من اللغات القديمة التي يسميها العلماء أعجمية لا يمنع الاشتقاق بينهما كما تبين في بحث اللغات القديمة الذي ألحقته بقصة آدم[73]بل ما يسمونه لغات سامية هي عبارة عن اللغات العربية القديمة ، وقد أثبت الدكتور عبد الرحيم في تحقيقه لمعرب الجواليقي أن للكلمة صيغة سريانية غير مبدوءة بحرف(د) وهو نفس الحال في العربية في حين أن ما يُدَّعى أنه الأصل اليوناني مبدوء بالدال ، وكذلك الحال في أربع لغات أوربية فهذا وجه جديد لإضعاف ادعاء تعريب الكلمة ثم إذا كانت سريانية فهي من المشترك السامي والعربية أصل الساميات " [74]
والذي أرجحه اشتقاق إبليس وهو القول الثاني ومن تأمل أصل الكلمات التي هي من اللغات العربية القديمة والتي يسميها النحاة أعجمية يجد اشتقاقها واضحا كما في اسم آدم وإسرائيل وجبريل وإسماعيل وإبراهيم ويعقوب وهذا سيتبين بقراءة بحث اللغات الملحق بقصة آدم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومما له اتصال بهذا الموضوع كلام جميل للشيخ عبد الكريم الخطيب قال :
ويذكر « إبليس » وحده فى مقام دعوة الملائكة للسجود لآدم وامتناعه هو عن السجود ، استكبارا لذاته ، وعلوا على آدم الذي خلق من طين ، على حين أنه خلق من نار.
وفى هذا يقول اللّه تعالى فى الآية السابقة : « وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ، أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ».
ـ ـ ــ ويلاحظ أنه لم يذكر فى هذا الموقف « الشيطان » أو « الجن ». التزم القرآن ذكر إبليس فى هذه الصور المتعددة لموقف واحد ، الأمر الذي لا يلتزمه القرآن إلا حيث لم يكن من التزامه بد.
وننظر من جهة أخرى فنجد القرآن الكريم يتحدث عن « إبليس » بأنه كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه .. كما جاء ذلك فى الآية الواردة فى سورة الكهف .. فإبليس ـ على هذا ـ من عالم الجن ، وأنه وحده الذي خرج عن أمر ربه ، وأعلن هذا العصيان الوقاح!.
ويتحدث القرآن فى ثمانية وستين موضعا عن الشيطان ، بلفظ المفرد « الشيطان » وفى أحد عشر موضعا بلفظ الجمع : « الشياطين ».
وفى جميع هذه المواضع يجىء الحديث عن الشيطان أو الشياطين فى مقام التحذير من الضلال والغواية للإنسان من كيد الشيطان ..
« إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً » (53 : الإسراء).
« إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا » (6 : فاطر) وهذه العداوة التي بين الشيطان وآدم ، وذرية آدم ، هى امتداد لتلك العداوة التي حملها إبليس لآدم ، حين امتنع عن السجود له مع الملائكة ، كما أمره اللّه ، وكان ذلك سببا فى أن لعنه اللّه وطرده من الجنة.
وفى هذا يقول اللّه تعالى : « يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ » (27 : الأعراف) ، ويقول سبحانه عن الشيطان وهو يوسوس لآدم ويغريه بالخروج عن أمر ربه : « فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى ». « فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ »
ثم قال : ثالثا : لم يظل « إبليس » فى جماعة الجنّ ، بل أخرجه اللّه من بينهم ، حين أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين ، فلعنه اللّه ، وطرده ، وجعل له اسم « إبليس » سمة يعرف بها ، فى هذا الموقف الذي حلّت عليه فيه اللعنة والإبلاس.
رابعا : بدأ إبليس منذ اللعنة التي حلّت به يتحول خلقا آخر ، فإذا هو « شيطان » مريد ، وشيطان رجيم ، وإذا هو قوة شر منطلقة ، يتطاير منها شرر ، يصيب من يتعامل معه ، ويتبع خطاه ، وتلك الشرارات المنطلقة منه هى ذريته التي يتحدث عنها القرآن فى قوله تعالى : « أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ، وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ؟ ».
المسألة الثالثة والعشرون تفسير {إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } :
1. {أبى} امتنع عن السجود المأمور به امتناعا تاما كراهة له مع الأنفة والاختيار والتمكن من الفعل في مقابل الأمر الذي وجه إليه .
قال الراغب : الإباء شدة الامتناع فكل امتناع إباء وليس كل إباء امتناعا " . ونقيض أبى : أجاب
قال المعجم الاشتقاقي : المعنى المحوري للمادة هو : الامتناع عن الشيء امتناعا تاما كراهة له أو إحساسا بالاستغناء عنه وعدم الحاجة إليه [75]ومنه الآبية من الإبل التي تعاف شرب الماء ، والأبي من الإبل الممتنعة من الفحل لقلة اشتهائها أن تضرب ، وأخذه أُباء (بضم الهمزة) من الطعام أي كراهية له فعلى هذا {أبى واستكبر} عرفنا من آيات أخرى أن ذلك كان إباء ما ظنه ضيما في حقه
قال التحقيق : المادة تدل على الامتناع في قبال أمر مواجه ، والمنع حدوث العائق {أبى واستكبر } { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } { وتأبى قلوبهم} { فأبين أن يحملنها } { فأبوا أن يضيفوهما } يراد الامتناع في قبال هذه الأمور "
امتنع عما أمر به ، استكبارا من أن يعظمه ويتلقاه بالتحية
وليس الاباء بمعنى الكراهة ، لان العرب تتمدح بأنها تأبى الضيم ولا تتمدح في كراهة الضيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2. الفرق بين أبى إبليس السجود ولم يسجد :

قال أبو حيان: وأبى زيد الظلم : أبلغ من لم يظلم ، لأن نفي الشيء عن الشخص قد يكون لعجز أو غيره ، فإذا قلت : أبى زيد كذا ، دل على نفي ذلك عنه على طريق الامتناع والأنفة منه ، فلذلك جاء قوله تعالى : { أبى }

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3. الفعل {أبى} منزل منزلة اللازم وهناك رأي آخر أن المفعول هنا محذوف أي السجودقال أبو حيان : ومفعول أبي محذوف لأنه يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد والتقدير : أبى السجود "انتهى والسر في حذفه بيان قوة امتناعه وأنه امتنع عن جميع ما أمر به .

4. {الاستكبار} : التكبر: أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره و الرفع للنفس إلى منزلة لا تستحق و مِنْ آثَارِهَا التَّرَفُّعُ عَنِ الْحَقِّ و استحقار الغير واستكمال النفس ، وهو مذموم وإن كان أكبر في الواقع ؛ لأن العبد الفقير المحدود الضعيف لا ينبغي له أن يتكبر وفي التكبر تفعل وتكلف عظمة القدر وادعاؤها ، والاستكبار: طلب ذلك بالتشبع والمبالغة فيها و شِدَّةُ الْكِبْرِ وَ التَّزَايُدُ فِي الْكِبْرِ فالسِّينَ وَالتَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وفيها شيء من الطلب كأنه يبالغ في الكبر ويطلب المزيد ، وضد التكبير : التواضع.
· يعني بذلك أنه تعظَّم وتكبَّر عن أمر الله وطاعته وعلى آدم، واستكبر من أن يعظِّمه أو يتخذه وصلةً في عبادة ربِّه فلذلك لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْحَقِّ تَرَفُّعًا عَنْهُ ، وَزَعْمًا بِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنَ الْخَلِيفَةِ عُنْصُرًا ، وَأَزْكَى جَوْهَرًا ، كَمَا حَكَى اللهُ - تَعَالَى - عَنْهُ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ : (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلْقَتَهُ مِنْ طِينٍ)
· وَمِنْ لَطَائِفِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ مَادَّةَ الِاتِّصَافِ بِالْكبرِ لم تجىء مِنْهَا إِلَّا بِصِيغَةِ الِاسْتِفْعَالِ أَوِ التَّفَعُّلِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ صَاحِبَ صِفَةِ الْكِبْرِ لَا يَكُونُ إِلَّا مُتَطَلِّبًا الْكِبْرَ أَوْ مُتَكَلِّفًا لَهُ وَمَا هُوَ بِكَبِيرٍ حَقًّا[76]
وفي السين والتاء أقوال غير متعارضة :[77]

أ‌- القول الأول :السِّينَ وَالتَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ
ب‌- القول الثاني :للطلب
ت‌- القول الثالث :وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْعَدِّ أَيْ عَدَّ نَفْسَهُ كَبِيرًا مِثْلَ اسْتَعْظَمَ وَاسْتَعْذَبَ الشَّرَابَ
ث‌- القول الرابع :واستكبر بمعنى تكبَّر ، وهذا القول ظاهر الضعف
المختار القول الأول والثاني كما تقدم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
5. موقع { أبى واستكبر } فيه أقوال :

القول الأول : وهو قول الجمهور : استئنافٌ بياني مبين :

· لكيفية عدمِ السجود المفهوم من الاستثناء
· وأنه لم يكن للتردد أو للتأمل ولا لعجز بعذر بل استكبارا وعنادا لعنه الله
· فكأنه قيل : ما فعل؟ فقيل : { أبى واستكبر } والوقفُ على قولِه : { إِلاَّ إِبْلِيسَ } تامٌّ ، فالله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذورا في ترك السجود ، فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله (أبى) لأن الإباء الامتناع التام كراهة للأمر مع الأنفة والاختيار والتمكن من الفعل ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر، وفيه زيادة توضيح للاستثناء .
القول الثاني :قول أبي البقاء : " في موضع نصبٍ على الحالِ من إبليسِ تقديرُه : تَرَك السجودَ كارهاً ومستكبراً عنه فالوقفُ عنده على " واستكبر
القول الثالث : أنه خبر (إلا) التي بمعنى (لكن)؛ لأن الأصح عندهم أن الاستثناء منقطع ، و(إلا) التي بمعنى لكن كـ(لكن) في العمل ، يكون لها اسم وخبر ،
نقله الطيبي عن ابن الحاجب ، ونقله الهمع عن ابن يسعون، واختاره القونوي في تفسير الآية
ورده الشهاب في موضع آخر بقوله :" وفيه أن إعمال (إلا) بمعنى(لكن) عمل (لكن) لم يقله أهل العربية [78] " اه والحقيقة أن جماعة من العلماء قالوا به .[79]
الترجيح : الراجح هو القول الأول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
6. ترتيب { أبى واستكبر وكان من الكافرين}
· وتقديمُ الإباء على الاستكبار مع كون الإباء مسبّبَاً عن الاستكبار؛لأنه من الأفعال الظاهرة أي لظهور الإباء عليه ووضوحِ أثرِه ، والاستكبار مقدم في معتقده ، ثم ذكر الكفر لأنه نتيجة للإباء والاستكبار وبهما صار كافرا
· قال ابن عاشور : وَقَدْ رُتِّبَتِ الْأَخْبَارُ الثَّلَاثَةُ فِي الذِّكْرِ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِ مَفْهُومَاتِهَا فِي الْوُجُودِ وَذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْإِنْشَاءِ أَنْ يَكُونَ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ مُطَابِقًا لِتَرْتِيبِ مَدْلُولَاتِ جُمَلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ }

· قال الآلوسي : وقدم الإباء عليه وإن كان متأخراً عنه في الرتبة :
1. لأنه من الأحوال الظاهرة بخلاف الاستكبار فإنه نفساني .
2. أو لأن المقصود الإخبار عنه بأنه خالف حاله حال الملائكة فناسب أن يبدأ أولاً بتأكيد ما حكم به عليه في الاستثناء أو بإنشاء الإخبار عنه بالمخالفة فبدأ بذلك على أبلغ وجه
لطيفة :قال السامرائي : في سورة البقرة جمع تعالى لإبليس ثلاث صفات (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ {34}) (أبى، استكبر، وكان من الكافرين) وهذه الصفات لم تأت مجتمعة إلا في سورة البقرة لبيان شناعة معصية إبليس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7. العطف في { وكان من الكافرين} :

جُمْلَةُ {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} مَعْطُوف عَلَى الْجُمَلِ الْمُسْتَأْنَفَةِ {أبى واستكبر} مقرِّرةٌ لما سبق من الإباء والاستكبار
8. سبب اختيار الواو :

وإيثارُ الواو على الفاء في {وكان من الكافرين } فلم يقل فكان من الكافرين مع أن الكفر مسبب عن الإباء والاستكبار ، للدلالة على أن محضَ الإباءِ والاستكبارِ كفرٌ لا لأنهما سببان له كما تفيده الفاء، وأيضا لتكون جريمة مستقلة حقيقة بالاستقلال.
9. معنى (كان) في { كان من الكافرين }فيه آراء :

الرأي الأول :أن إبليس كان كافرا من قبل واختلفوا على قولين :

القول الأول :كان من الكافرين على ظاهره ، وأنه حين اشتغاله بالعبادة كان منافقا كافرا ، وأنه كان كافرا منافقا منذ كان .

القول الثاني :قول أصحاب الموافاة[80]ومعناها أن العبرة بالإيمان الذي يوافي العبد عليه أي يأتي متصفا به في آخر حياته وأول منازل آخرتهإذ العبرة بالخواتموإن كان بحكم الحال مؤمنا ، فإذا صدر الإيمان من المكلف في وقت ثم صدر عنه والعياذ بالله بعد ذلك كفر علمنا أن الذي صدر عنه أولاً ما كان إيماناً ، لأن شرط حصول الإيمان أن لا يصدر الكفر عنه في وقت قط ، فإذا كانت الخاتمة على الكفر علمنا أنه كافر، إذا ثبت هذا فنقول : لما كان ختم إبليس على الكفر علمنا أنه ما كان مؤمناً قط ، فالله تعالى لما علم من حال إبليس أنه يختم له على الكفر قال في حقه {وكان من الكافرين } أي أنه كان كافراً في الأصل ، فكل كافر أسلم ظهر أنه كان مسلماً في الأصل ، وكل مسلم كفر ظهر أنه كان كافراً في الأصل ، ألا ترى أن الله تعالى قال في قصة بلقيس { وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كافرين } [ النمل : 43 ] ولم يقل إنها كانت كافرة ، وقال في قصة ، ، وهذه مسألة الموافاة المنسوبة إلى أبي الحسن الأشعري أي اعتبار تمام العمر الذى هو وقت الوفاة ،

يرد الرأي الأول بقوليه أنه لا خلاف أنه كان عالماً بالله قبل كفره مطيعا له ، وأن المختار عند عامة أهل السنة وجمهور المحققين ـ كما قال زاده ـــــ أن إبليس لم يكن كافرا من أول حدوث الأمر بل كان مؤمنا ثم صار كافرا برده أمر الله تعالى واستقباحه إياه واستكباره عن التعظيم لآدم ، و الكافر إذا أسلم كان كافراً إلى وقت إسلامه ، وإنما صار مسلماً بإسلامه إلا أنه غفر له ما قد سلف ، والمسلم إذا كفر كان مسلماً إلى ذلك الوقت ، إلا أنه حبط عمله .
الرأي الثاني :أن إبليس كان مؤمنا ثم كفر بعد ذلك وهؤلاء اختلفوا في تفسير قوله تعالى { وكان من الكافرين } على أقوال:

القول الأول :أنه كان في علم الله من الكافرين وكان بمعنى الماضي على بابها

أي أنه كان في علم الله تعالى في الأزل أنه سيكفر وأنه من الذين وجبت لهم الشقاوة لم يتجدد له بذلك علم فصيغة (كان) متعلقة بالعلم لا بالمعلوم ، بدليل أن إبليس كان عالماً بالله قبل كفره.
اختاره : البقاعي وأبو السعود و مقاتل وابن الأنباري والواحدي والجلال والخازن وابن فورك وكذا القرطبي وابن عطية والبغوي ونسبوه للجمهور وقدمه البيضاوي و ضعفه الماتريدي وابن عاشور

وزاد بعض العلماء بعد قولهم (كان في علم الله ) فمن ثَمَّ لم يسجد .
مقاتل ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي [81]
القول الثاني : (كان) بمعنى صار ، أي وصار من الكافرين .

فَإِنَّهُ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالِ فِعْلِ (كَانَ) قَالَ تَعَالَى: {وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} ، وَقَالَ: {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا}
5، 6] وَقَال ابْنُ أَحْمَرَ:
بِتَيْهَاءَ قَفْرِ وَالْمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخًا بُيُوضُهَا
أي صارت فراخا
أَيْ صَارَ بِعَدَمِ السُّجُودِ من الكافرين لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ نَشَأَ عَنِ اسْتِكْبَارِهِ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى حَقِّ الْحِكْمَةِ واسْتِخْفَافه بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ كَافِرًا صَرَاحًا.
قتادة والسمرقندي والماتريدي والطوسي والنيسابوري والبغوي والنسفي والصابوني وسيد ط والطوسي وقدمه الشوكاني
رد هذا القول :

قال ابن فورك : وترده الأصول ولأنه كان الظاهر حينئذ فكان بالفاء
القول الثالث : أن المضي في (كان) بالنسبة لنزول الآية مع الدلالة على رسوخ صفة الكفر

قال ابن عاشور : فـ(كَانَ) لَا تُفِيدُ إِلَّا أَنَّهُ اتَّصَفَ بِالْكُفْرِ فِي زَمَنٍ مَضَى قَبْلَ زَمَنِ نُزُولِ الْآيَةِ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ اتَّصَفَ بِهِ قَبْلَ امْتِنَاعِهِ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، وَقَدْ تَحَيَّرَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ جِهَةِ حَمْلِهِمْ فِعْلَ (كَانَ) عَلَى الدِّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ بِالْكُفْرِ فِيمَا مَضَى عَنْ وَقْتِ الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ، وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ فَرِيقٌ يُوصَفُ بِالْكَافِرِينَ فَاحْتَاجُوا أَنْ يَتَمَحَّلُوا بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ، وَتَمَحَّلَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مُظْهِرًا الطَّاعَةَ مُبْطِنًا الْكُفْرَ نِفَاقًا، وَاللَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى بَاطِنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ الْمَلَائِكَةَ وَكُلُّ ذَلِكَ تَمَحُّلٌ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ فِعْلَ الْمُضِيِّ يُفِيدُ مُضِيَّ الْفِعْلِ قَبْلَ وَقْتِ التَّكَلُّمِ، وَأَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً الَّذِينَ جَعَلُوا كَانَ بِمَعْنَى صَارَ
أَيْ صَارَ كَافِرًا بِعَدَمِ السُّجُودِ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ نَشَأَ عَنِ اسْتِكْبَارِهِ عَلَى اللَّهِ وَاعْتِقَادِ أَنَّ مَا أُمِرَ بِهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى حَقِّ الْحِكْمَةِ فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ كَافِرًا صَرَاحًا قاله ابن عاشور ثم قال وَالَّذِي أَرَاهُ أَحْسَنَ الْوُجُوهِ فِي مَعْنَى {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} أَنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَكَفَرَ كَمَا قَالَ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ }لِدَلَالَةِ (كَانَ) فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَلَى رُسُوخِ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي اسْمِهَا، وَالْمَعْنَى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَفَرَ كُفْرًا عَمِيقًا فِي نَفْسِهِ وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ }، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} دُونَ أَن يَقُول أم لَا تَهْتَدِيَ لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْ آيَةَ تَنْكِيرِ عَرْشِهَا وَلَمْ تَهْتَدِ كَانَتْ رَاسِخَةً فِي الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ"
· وكما تقول : كان آدم من الإنس ، وليس قبله إنسيٌّ ،فلا يدل على أنه كان قبله قوم كفار من الجن
· ابن عاشور وابن عثيمين[82]والخليلي مفتي سلطنة عمان [83]
قال الطبري : ومعنى قوله:" وكان من الكافرين" أنه كان - حين أبَى عن السجود - من الكافرين حينئذ.
القول الرابع :
معنى من الكافرين : من العاصين ، وفي هذا نظر

أبو العالية
الراجح:
يتضح أن أرجح الأقوال القول الأخير، وهو يتضمن قول من قال بمعنى(صار) ، لكن قول العلماء في إن كان بمعنى (صار ) تقريب للمعنى
قال السامرائي : جعلوا كان بمعنى صار في قوله تعالى { وفتحت السماء فكانت أبوابا وسيرت الجبال فكانت سرا } ، وقوله تعالى { وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا وكنتم أزواجا ثلاثة } قال: والذي أراه أنه ليست كان بمعنى صار، وإنما لها معنى آخر ، فإنك لو أبدلت (صار) بـ(كان) ما سدت مسدها ، فإذا قلت بدل قوله تعالى { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } فصارت وردة أو بدل قوله تعالى { وفتحت السماء فكانت أبوابا ـ ـ } فصارت أبوابا وسرابا لم تجد المعنى كما كان ثم ؛ فإن المقصود بصار هو التحول والصيرورة وقد يكون هذا التحول بعد مدة كأن تقول صار الطين حجرا وصار محمد شيخا ، فالصيرورة قد تقتضي الزمن الطويل بخلاف (كان) فإنها تطوي الزمن ، فقوله تعالى { فكانت أبوابا } أي كان هذا شأنها منذ الماضي وكأن هذا هو وجودها ، ونحوه { وبست الجبال بساء فكانت هباء منبثا } كأن حالتها الجديدة حاصلة قبل النظر والمشاهدة وكأنها هي هكذا منذ القدم "
أقول: وهذا يفيد قوة الاتصاف بالصفة الجديدة، وكأنها قديمة راسخة وليست مجرد تحول جديد بل هو تحول تام كأنه من قديم ،
فهي تدل على أنه بإبائه واستكباره صار من الكافرين مع الدلالة على رسوخ الصفة وكونه كفرا شديدا قويا في بابه، ويضاف إلى هذا أنه قال كان من الكافرين ولم يقل كان كافرا ، والأول أبلغ وأدل على أنه من جملة المعروفين المتصفين بهذه الصفة كما سيأتي .
ـ
10. تقدم في قول ابن عاشور سر استعمال كان من الكافرين دون كفر ، ونوضح هنا الفرق البلاغي بين (كان كافرا ) و(كان من الكافرين ) :

أَمَّا الْإِتْيَانُ بِخَبَرِ {كانَ مِنَ الْكافِرِينَ} دُونَ أَنْ يَقُولَ وَ(كَانَ كَافِرًا) فَلِأَنَّ إِثْبَاتَ الْوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوَانِ كَوْنِ الْمَوْصُوفِ وَاحِدًا من جمَاعَة تثبت لَهُمْ ذَلِكَ الْوَصْفُ أَدَلُّ عَلَى شِدَّةِ تَمَكُّنِ الْوَصْفِ مِنْهُ مِمَّا لَوْ أَثْبَتَ لَهُ الْوَصْفَ وَحْدَهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ يَزْدَادُ تَمَسُّكًا بِفِعْلِهِ إِذَا كَانَ قَدْ شَارَكَهُ فِيهِ جَمَاعَةٌ لِأَنَّهُ بِمِقْدَارِ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْمُتَلَبِّسِينَ بِمِثْلِ فِعْلِهِ تَبْعُدُ نَفْسُهُ عَنِ التَّرَدُّدِ فِي سَدَادِ عَمَلِهَا وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ }، وَقَوْلُهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ وَهُوَ دَلِيلٌ كَنَائِيٌّ وَاسْتِعْمَالٌ بَلَاغِيٌّ جَرَى عَلَيْهِ نَظْمُ الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ بَلْ كَانَ إِبْلِيسُ وَحِيدًا فِي الْكُفْرِ. وَهَذَا منزع انتزعه مِنْ تَتَبُّعِ مَوَارِدِ مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي هَاتَيْنِ الْخُصُوصِيَّتَيْنِ خُصُوصِيَّةِ زِيَادَةِ (كَانَ) وَخُصُوصِيَّةِإِثْبَاتِ الْوَصْفِ لِمَوْصُوفٍ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ جَمَاعَةٍ مَوْصُوفِينَ بِهِ ومثله
{وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }[الْبَقَرَة: 43] . وَإِذْ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِ امْتِنَاعِ إِبْلِيسَ مِنَ السُّجُودِ جَمْعٌ مِنَ الْكَافِرِينَ كَانَ قَوْلُهُ: {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} جَارِيًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْإِخْبَارِ الْكِنَائِيِّ ، وَفِي هَذَا الْعُدُولِ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ مُرَاعَاةٌ لِمَا تَقْتَضِيهِ حُرُوفُ الْفَاصِلَةِ أَيْضًا .

11. اختلفوا في أن قوله تعالى { وكان من الكافرين }

هل يدل على أنه وجد قبله جمع من الكافرين حتى يصدق القول بأنه من الكافرين :

الرأي الأول :قال قوم إنه يدل على أن قبله كافرين لأن كلمة (من) للتبعيض ، فالحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكافرين حتى يكون هو بعضا لهم وهؤلاء هم الجن الذين كانوا قبله فكفروا فشبهه الله بهم وجعله منهم ، لما فعل في الكفر فعلهم .

قال أبو حيان : وصلة (أل) هنا ظاهرها الماضي ، فيكون قد سبق إبليس كفار ، وهم الجن الذين كانوا في الأرض
الرأي الثاني :

قالوا هذه الآية لا تدل على أن قبله كفارا ثم اختلفوا على قولين :
القول الأول : وهو الراجح

· أن هذا إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية ، وصحة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك الماهية ، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تعالى أولا يصح أن يقال إنه فرد من أفراد الحيوان لا بمعنى أنه واحد من الحيوانات الموجودة خارج الذهن بل بمعنى أنه فرد من أفراد هذه الماهية وواحد من آحاد هذه الحقيقة ، فكونه مؤمناً ثم كفر لا يدل على أنه يوجد قبله كفار فلذلك قال ابن عاشور : إنَّ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ وَكَفَرَ كَمَا قَالَ: أَبى وَاسْتَكْبَرَ فَعَدَلَ عَنْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ إِلَى {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ }لِدَلَالَةِ (كَانَ) فِي مِثْلِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ عَلَى رُسُوخِ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي اسْمِهَا، وَالْمَعْنَى أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَفَرَ كُفْرًا قويا في بابه راسخا وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ }، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ} دُونَ أَن يَقُول أم لَا تَهْتَدِيَ لِأَنَّهَا إِذَا رَأَتْ آيَةَ تَنْكِيرِ عَرْشِهَا وَلَمْ تَهْتَدِ كَانَتْ رَاسِخَةً فِي الِاتِّصَافِ بِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ،

الطبري وابن عاشور والسدي والحسن
القول الثاني :
معنى الآية أنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك من الكفار الذين سيأتون بعد حدوث الإباء ، وذكر في مثاله قوله تعالى { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب الموافقة في الدين فكذا ههنا لما كان الكفر ظاهرا من أهل العالم عند نزول هذه الآية صح قوله (وكان من الكافرين) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
12. في سبب كفر إبليس أقوال :
أ‌- القول الأول :وهو الأظهر أنه كفر باعتراضه على الله تعالى واستقباحه وتسفيهه له سبحانه و اسْتِخْفَافه بِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى في أمره بالسجود لآدم وعاند وطعن كما يدل عليه الإباء والاستكبار وإباء السجود ، فَلِذَلِكَ صَارَ بِهِ كَافِرًا صَرَاحًا ، وليس كفره كفر جحود لاعترافه بالربوبية [84]
[FONT=ae_AlMothnna]قال البيضاوي :[/FONT]
{كان من الكافرين } منهم باستقباحه أمر الله تعالى إياه بالسجود لآدم اعتقادا بأنه أفضل منه ، والأفضل لا يحسن أن يؤمر بالتخضع للمفضول والتوسل به كما أشعر به قوله : { أنا خير منه }جوابا لقوله : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالين } ، لا بترك الواجب وحده . [85]
اختاره : ابن جزي وابن عاشور والبيضاوي والرازي والنسفي و الطبرسي وغيرهم
ب‌- القول الثاني : الكفر لترك الواجب بناء على أن المعصية كفر قاله الخوارج متمسكين بهذه الآية فقالوا إنما كفر بمعصية الله ، وكل معصية كفر . وهذا قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الأمة [86].
ت‌- القول الثالث : كفر لأنه خالف الأمر الشفاهي من الله ، فإن الله خاطب الملائكة وأمرهم بالسجود ، ومخالفة الأمر الشفاهي أشد قبحاً .[87]
ـــــــــــــــــــــــــــ
13. اختلف أهل السنة : هل كفر إبليس جهلا أم عنادا ، بعد اتفاقهم أنه كان عالما بالله تعالى قبل كفره:

القول الأول : كفر عناد ولم يسلب العلم بل كان الكبر مانعه من السجود ، بأن كفر ومعه علمه ، وهذا هو القول الصحيح الذي تؤيده ظواهر القرآن
رجحه أبو حيان وأجازه ابن الفرس والقرطبي
القول الثاني : كفر جهل فقد سلبه الله ما كان وهبه من العلم ، فخالف الأمر ونزع يده من الطاعة ، لأن الكفر عناداً مع بقاء العلم مستبعد ورجحه الآلوسي قائلا :

"ثم الظاهر أن كفره كان عن جهل بأن استرد سبحانه منه ما أعاره من العلم الذين كان مرتديا به حين كان طاووس الملائكة وأظافير القضاء إذا حكت أدمت ، وقِسِىِّ القدر إذا رمت أصمت
وكان سراح الوصل أزهر بيننا ... فهبت به ريح من البين فانطفي" اه
رجحه الآلوسي
وهذا القول ضعيف فهذا فرعون كان عالماً بوحدانية الله وربوبيته ، ومع ذلك حمله حب الرئاسة والإعجاب بما أوتي من الملك ، فادعى الألوهية مع علمه
وأبو جهل ، كان يتحقق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ويعلم أن ما جاء به حق ، ومع ذلك أنكر نبوته ، وأقام على الكفر وكذلك الأخنس ، وأمية بن أبي الصلت ، وغيرهما ممن كفر عناداً ، مع علمهم بصدق الرسل
وقد قسم العلماء الكفار :
أ‌- إلى كافر بقلبه ولسانه ، كالدهرية والمنكرين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
ب‌- وكافر بقلبه مؤمن بلسانه وهم المنافقون ،
ت‌- ومؤمن بقلبه كافر بلسانه ، كفرعون ومن ذكر معه فلا ينكر الكفر مع وجود
العلم [88].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
14. هل إبليس هو أول كافر بالله تعالى :
القول الأول : أن إبليس أول كافر بالله ، وليس قبله كافر ، كما كان من الجنِّ ، وليس قبله جِنٌّ
· قال السدي: { وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ } الذين لم يخلقهم الله يومئذ يكونون بعد.
السدي والطبري والحسن والذي عليه الأكثرون كما قال الإمام الرازي
القول الثاني : قال السمين : " والأظهر أنها على بابها ، والمعنى : وكانَ من القومِ الكافرين الذين كانوا في الأرض قبل خَلْقِ آدمَ ما رُوي
· قال أبو حيان : وصلة أل هنا ظاهرها الماضي ، فيكون قد سبق إبليس كفار ، وهم الجن الذين كانوا في الأرض ، أو يكون إبليس أول من كفر مطلقاً ، إن لم يصح أنه كان كفار قبله }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
15. الفرق بين قول الملائكة { أتجعل فيها } واستكبار إبليس :
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ اسْتَكْبَرَ عَلَى اللَّهِ بِإِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ آدَمُ مُسْتَحِقًّا لِأَنْ يَسْجُدَ هُوَ لَهُ إِنْكَارًا عَنْ تَصْمِيمٍ لَا عَنْ مُرَاجَعَةٍ أَوِ اسْتِشَارَةٍ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتٌ أُخْرَى مِثْلُ قَوْلِهِ: {قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } ، وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ خَالَفَ فِعْلُ إِبْلِيسَ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ حِينَ قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ } [الْبَقَرَة: 30] ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ عَلَى وَجْهِ التَّوَقُّفِ فِي الْحِكْمَةِ وَلِذَلِكَ قَالُوا:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]وهي مناسبة لما سيأتي بعد هذه القصة مع مناسبتها للحال التي نزلت هيه

[2]رده أبو حيان والسمين الحلبي بقوله ولا يصح لاختلاف الوقتين أي لاختلاف الزمانين فيستحيل وقوع العامل الذي اخترناه في (إذ) الأولى في (إذ) هذه "وفي كلامهما نظر لأن اختلاف الزمانين لا يمنع من العطف لأن المعنى اذكر هذا واذكر هذا فما المانع منه لكن لو تأملنا كلام أبي حيان نجد أنه قال في عبارته : (الذي اخترناه ) وإذا رجعنا لما اختاره أبو حيان في ناصب (وإذ قال ربك للملائكة ) لوجدنا أنه [قالوا أتجعل ] وعبارته : "والذي تقتضيه العربية نصبه [أي نصب وإذ قال ربك للملائكة ] بقوله: {قالوا أتجعل} ، أي وقت قول الله للملائكة: {إني جاعل في الأرض} ، {قالوا: أتجعل} ، كما تقول في الكلام: إذ جئتني أكرمتك"انتهى فعلى هذا لا يصح أن نعطف { وإذ قلنا للملائكة ـ ـ} على وإذ { قال ربك } لأنه لا يصح { أتجعل إذ قلنا للملائكة } ويكون كلام ابي حيان واضحا لكن على ما اخترناه وهو الأصح أن العامل [اذكر ] فلا مانع من العطف

[3]ضعفه أبو حيان بقوله يرده أنها لازم ظرفيتها " وهذا مبني على رأي الجمهور القائلين إنها لا تتصرف فلا تكون مفعولا به والتحقيق خلافه كما تقدم في قوله تعالى { وإذ قال ربك }
[4]أشار أبو حيان إلى السر في كون الجمع يدل على التعظيم بقوله { وأتى بـ{ نا } التي تدل على التعظيم وعلوّ القدرة وتنزيله منزلة الجمع ، لتعدد صفاته الحميدة ومواهبه الجزيلة " ، وقال ابن الهائم :" قلنا " مذهب العرب إذا أخبر الرئيس منها عن نفسه قال: (قلنا ، صنعنا) لعلمه بأن أتباعه يفعلون بأمره كفعله ويجرون على مثل أمره ثم كثر الاستعمال لذلك ـ ـ ـــ ـ والأصل ما ذكرت لك ، وقيل لما كانت تصاريف أقضيته تعالى تجري على أيدي خلقه فنزلت أفعالهم منزلة فعله فلذلك ورد الكلام موارد الجمع
[5]ومنه شجرة ساجدة إذا مالت من كثرة حملها ، والعرب تقول : سجدت النخلة إذا مالت ، وسجدت الناقة: إذا طأطأت رأسها ومالت. وعين ساجدة : أي فاترة عن النظر، ونساء سجد : إذا كن فاترات الأعين. وغاية السجود : وضع الوجه بالأرض وقال ابن فارس : سجد إذا تطامن ، وكل ما سجد فقد ذل ،
[6]فلو وضعها ولم يقصد العبادة ،أو قصد عدم العبادة ولم يضعها لا يكون سجودا شرعيا بل يكون لغويا فاللغوي يشمل أمرين : وضع الجبهة على الأرض لا للعبادة بل للتكريم مثلا ، ويشمل الانحناء والطأطأة والتذلل وبعضهم أدخل التذلل والتواضع والانقياد .

[8]وزاد أبو السعود والآلوسي : وأداءً لحق التعليم واعتذاراً عما وقع منهم في شأنه
قال الآلوسي : وحكمة الأمر بالسجود إظهار الاعتراف بفضله عليه السلام ، والاعتذار عما قالوا فيه مع الإشارة إلى أن حق الأستاذ على من علمه حق عظيم
[9]قال ابن عاشور : وَتَعْدِيَةُ اسْجُدُوا لِاسْمِ آدَمَ بِاللَّامِ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ كُلِّفُوا بِالسُّجُودِ لِذَاتِهِ وَهُوَ أَصْلُ دَلَالَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ إِذَا عُلِّقَ بِمَادَّةِ السُّجُودِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا } وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّكَلُّفِ بِجَعْلِ اللَّامِ بِمَعْنَى إِلَى مِثْلَهَا فِي قَوْلِ حَسَّانَ: أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ " وقال أبو حيان : واللام في لآدم للتبيين .
[13]وإذا كانت بمعنى (إلى) فآدم قبلة قطعاً نصت عليه (إلى) ، وأما إذا كانت بمعنى عند فكونه قبلة متبادر
[14]قال هميان الزاد : إن الذي دفع الجبائي ومن معه من المعتزلة لهذا القول أنهم يقولون الملائكة أفضل من البشر ، فكيف يسجدون لآدم فقالوا إن سجود الملائكة لم يكن لآدم وإنما كان آدم كالقبلة ؛هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، بخلاف أهل السنة قالوا صالحو البشر أفضل من الملائكة ، ومن جملة أدلتهم سجود الملائكة لآدم .

[15].[16]وهناك توجيه آخر للخضوع والتذلل ذكره البيضاوي قال :"أو التذلل والانقياد بالسعي في تحصيل ما ينوط به معاشهم ويتم به كمالهم"أي بأن تسعى الملائكة في تحصيل ما ينوط به معاش بني آدم قال الشهاب : وضمير معاشهم وكمالهم راجع إلى آدم عليه الصلاة والسلام وبنيه المفهوم من الكلام لا إلى الملائكة كما يتوهم إذ لا يصح إضافة المعاش إليهم ، والمراد منه حينئذ أمر الملائكة بالسعي في أمورهم فإنّ بعض الملائكة حفظة وبعضهم موكل بالرزق ونحو ذلك.انتهى وهذا القول ظاهر التكلف .
[17]وبهذا يظهر جهل أو تجاهل بعض الغربيّين ومنهم : " بابيني " الإيطالي صاحب كتاب " الشيطان " حيث قال: " إنه يستغرب أن يؤْمر إبليس بالسجود لآدم مع غلوّ القرآن في تحريم الشِرك وتنزيه الوحدانية الإلَهية "

[18]كان السجود لغير الله تعالى على وجه التحية لا العبادة جائزاً إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أكثر العلماء

[19]قال في اصطلاحات الفنون : التنجيز : خلاف التعليق فإن قوله أنت طالق مثلا تنجيز ، وأنت طالق إن دخلت الدار تعليق ." وهنا { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } تعليق وأما { اسجدوا لآدم فسجدوا } المتبادر منه كما هو رأي الجمهور أنه بعد ظهور فضل آدم اسجدوا الآن فهو تنجيزي .


[25]الآية تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليه السلام ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم كافةً وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه عليه السلام كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه ، أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً

[29]إن كان من الجن فلم كان مع الملائكة ؟أجاب ابن عاشور بقوله : "وَقَدْ أَقَامَ اللَّهُ إِبْلِيسَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ إِقَامَةَ ارْتِيَاضٍ وَتَخَلُّقٍ ، وَسَخَّرَهُ لِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِمْ فَجَرَى عَلَى ذَلِكَ السَّنَنِ أَمَدًا طَوِيلًا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ ظَهَرَ مَا فِي نَوْعِهِ مِنَ الْخَبَثِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [50] فَعَصَى رَبَّهُ حِينَ أَمَرَهْ "بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، " وقال ابن عاشور أيضا : "فاللَّهَ سبحانه جَعَلَ أَحْوَالَ إبليس كَأَحْوَالِ النُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ بِتَوْفِيقٍ غَلَبَ عَلَى جِبِلَّتِهِ لِتَتَأَتَّى مُعَاشَرَتُهُ بِهِمْ وَسَيْرُهُ عَلَى سِيرَتِهِمْ فكان معهم ومعدوداً في عدادهم ، وذلك أنه كان قد ترسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك ولهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة فَسَاغَ اسْتِثْنَاءُ حَالِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ" .قال الشعراوي : وإن تساءل أحد : لماذا جاء الحديث عن إبليس ضمن الحديث عن الملائكة؟ . نقول : هب أن فرداً مختاراً من الإِنس أو من الجن التزم بمنهج الله كما يريده الله ، فأطاع الله كما يجب ولم يعص . . أليست منزلته مثل الملك بل أكثر من الملك ، لأنه يملك الاختيار . فإبليس ألزم نفسه بمنهج الله ، وترك اختياره ، وأخذ مرادات الله فنفذها ، فصار لا يعصي الله ما أمره ويفعل ما يؤمر ،، لكنه كان قادرا على أن يطيع ، وقادرا – أيضاً على أن يعصي ، ومع ذلك التزم ، فأخذ منزلة متميزة من بين الملائكة ، وبلغ من تميزه أنه يحضر حضور الملائكة . فلما حضر مع الملائكة جاءه الأمر بالسجود معهم حين قال تعالى للملائكة : { اسجدوا لأَدَمَ } .






[32]وتوضيح هذا القول : أن المختار عند البيضاوي : أن الجن نوع من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات والماهية والحقيقة ، لأن كلا من الملائكة وإبليس جسم لطيف مستتر عن الأعين ، وإنما يخالفهم بالعوارض والأوصاف الخارجية عن ماهيتها كالبررة والفسقة من الإنس ، واسم الجن يشملهما ، فالملك اسم للصنف المعصوم من الجن بالمعنى المذكور والشيطان اسم للصنف الآخر منه وهو ما لا يكون معصوما بل يكون خبيثا مفسدا وكان إبليس من هذا الصنف
  • فمن صدق عليه مفهوم الجن إن فعل خيرا وطهر عن الشرور والخبائث يقال له ملك ، وإن خبث وكان شأنه الإغواء والإفساد يقال له شيطان
  • فصح ان يقال لإبليس مع كونه من أفراد الصنف الخبيث للجن أنه من الملائكة لكونه من أفراد ماهية الضرب المذكور من الملائكة المتحد مع الشيطان في الماهية وصح أن يقال لفرد من فسقة الإنس إنه من أبرار الإنس بمعنى أنه فرد من أفراد حقيقة الإنس وأنه لا يباين الأبرار بالماهية وإنما يخالف بالأوصاف والعوارض كما يصح أن يقال له إنه من الجن لصدق مفهوم الجسم اللطيف المستتر عن أعين البشر عليه


[35]
قال البيضاوي : "دليل على أن الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنيا في أصله " } فقوله تعالى {كان من الجن } يشعر بتعليل تركه للسجود لكونه جنياً ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه ملكا أو خازناً للجنة
[36]قال أبو السعود في معنى الآية : وقوله تعالى : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } صفةٌ أخرى لعباد منبئة عن كمال طاعتهم وانقيادِهم لأمره تعالى ، أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله تعالى أو يأمرهم به ، وأصلُه لا يسبق قولُهم قولَه تعالى ، فأسند السبقُ إليه منسوباً إليه تعالى تنزيلاً لسبق قولِهم قولَه تعالى منزلةَ سبقهم إياه تعالى لمزيد تنزيههم عن ذلك وللتنبيه على غاية استهجان السبقِ المعرَّضِ به للذين يقولون ما لا يقوله الله تعالى

[38]قال القاضي عِيَاضٌ : ومما يذكرونه قصَّةُ إبليس ، وأنه كان من الملائكة ، ورئيساً فيهم ، ومن خُزَّان الجَنَّة ، إلى ما حكَوْه ، وهذا لم يتفقْ عليه ، بل الأكثر ينفون ذلك ، وأنه أبو الجن " من «الشِّفا »


[40]هذا تفسير للآية غير دقيق والأصح في الآية أن المراد بالجنة الجن قال التحرير : 152] ، فَجَعَلُوا بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْجِنِّ نَسَبًا بِتِلْكَ الْوِلَادَةِ، أَيْ بَيَّنُوا كَيْفَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَادَةُ بِأَنْ جَعَلُوهَا بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا. والْجِنَّةِ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْجِنِّ، فَتَأْنِيثُ اللَّفْظِ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ مِثْلُ تَأْنِيثِ رَجْلَةَ، الطَّائِفَةُ مِنَ الرِّجَالِ، ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، أَيْ مِنْ فَرِيقِ نِسَاءٍ مِنَ الْجِنِّ مِنْ أَشْرَافِ الْجِنِّ،

[43]يرد هذا القول أنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا عند الضرورة .









[59]قال أبو زهرة والمراغي والطباطبائي وابن عطية : {والجان }: جنس الجن الذي منه إبليس اللعين .
[63]قال الشهاب الخفاجي على البيضاوي : لما تعارضت النصوص فاقتضى بعضها كون إبليس من الجن وبعضها كونه من الملائكة احتاجوا إلى التأويل في أحد الطرفين فاختار المصنف البيضاوي أنه من الملائكة والزمخشري أنه من الجن فأشار البيضاوي إلى ضعفه بالتعبير بالزعم وهم يقولون إنه جني سبته الملائكة فأقام معهم فغلبوا عليه لكثرتهم وشرفهم فالاستثناء متصل أيضاً قيل : لأنّ العبرة بالدخول في الحكم لا في حقيقة اللفظ فمن قال "إنّ الاستثناء متصل إن كان من الملائكة ومنقطع إن لم يكن منهم" لم يصب ، وهذا ردّ على السعد وغيره وليس بوارد ؛قال القرافي في العقد المنظوم النحاة وأهل الأصول يقولون المنقطع المستثنى من غير جنسه والمتصل المستثنى من جنسه وهو غلط فيهما فإنّ قوله تعالى : { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ } [ سورة البقرة ، الآية : 188 ] من جنس ما قبله وكذا قوله : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى } [ سورة الدخان ، الآية : 56 ] وهو منقطع فبطل الحدّان وكذا { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا } والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أوّلاً بنقيض ما حكمت به ولا بذ من هذين القيدين فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أو لا، نحو رأيت القوم إلا فرساً فالمنقطع نوعان والمتصل نوع واحد ويكون المنقطع كنقيض المتصل فان نقيض المركب بعدم أجزائه ، فقوله تعالى : { لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ } [ سورة الدخان ، الآية : 56 ] منقطع بسبب الحكم بغير النقيض لأنّ نقيضه ذا قوة فيها وليس " كذلك وكذلك إلا أن تكون تجارة لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك إلا خطأ لأنه ليس له القتل مطلقاً والا لكان مباحا فتنوع المنقطع إلى ثلاثة أنواع الحكم على الجنس بغير النقيض والحكم على غيره به أو بغيره والمتصل نوع واحد فهذا هو الضابط فما نحن فيه منقطع إن لم يكن منهم فتأمّل.


[67]وقال ابن كثير : " فلما أبى إبليس أن يسجد أبلسه الله : أي أيسه من الخير كله وجعله شيطاناً رجيماً عقوبة لمعصيته ، ترك السجود فلهذا أبلس من الرحمة : أي أويس من الرحمة فأبعده الله جل وعلا وأرغم أنفه وطرد من باب رحمته ومحل أنسه وحضرة قدسه وسماه إبليس إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً .
[68]قال أبو حيان : وقد روي اشتقاقه من الإبلاس عن ابن عباس والسدي ، وما إخاله يصح .
[69]ومثله في ذلك (نار إجبيرَ) بمنع الصرف وهي نار الحُباب

[70]قال المعجم الاشتقاقي : قولهم أنه لا علة له لمنع الصرف إلا العجمة مردود بأن العلمية تكفي وحدها لمع الصرف عند كثيرين لأن للعلمية من القوة ما ليس لغيرها ولورود سماع منع الصرف لعلة العلمية وحدها دون غيرها قال الأشموني : تنبيه: فصل بعض المتأخرين بين ما فيه علمية، فأجاز منعه لوجود إحدى العلتين، وبين ما ليس كذلك فصرفه، ويؤيده أن ذلك لم يسمع إلا في العلم ، وأجاز قوم منهم ثعلب وأحمد بن يحيى منع صرف المنصرف اختيارًا ، قال الصبان تعليقا عليه : قوله: "بين ما فيه علمية" اقتصاره على العلمية يقتضي أن غيرها كالوصفية في نحو: قائم ليس مثلها لمزية العلمية على غيرها؛ لأن لها من القوة ما ليس لغيرها ولورود السماع فيها دون غيرها, كذا في حاشية شيخنا وعليه كان المناسب للشارح أن يعلل بما ذكر لا بوجود إحدى العلتين؛ لأنه يقتضي أن غير العلمية من العلل مثلها فليتأمل. قوله: "فأجاز منعه" أي: في الضرورة فهذا التفصيل خاص بالضرورة كما هو ظاهر كلام الشارح لكن ظاهر صنيع التصريح عدم اختصاصه بالضرورة وعبارته في منع المصروف أربعة مذاهب: أحدها الجواز مطلقًا الثاني المنع مطلقًا الثالث وهو الصحيح الجواز في الشعر والمنع في الاختيار الرابع يجوز في العلم خاصة
وأيضا يجاب بأنه ترك صرفه استثقالا إذ كان اسما نادر قليل النظير لا أنه منقطع النظير له فشبه بأسماء العجم وفي هميان الزاد ما يقاربه حيث قال : اللهم إلا أن يقال : إنه عربى منع صرفه لشذوذه وقلته

[73]قال المعجم الاشتقاقي ثم إذا كانت في السريانية فهي من المشترك السامي والعربية أصل الساميات وقريب مما قلنا قول الراغب في تفسيره : وأيضاً قد تتطابق لغة العرب والعجم في لفظة نحو: " أيوب وإسحف "، فإنهمت قد يكونان فيعولاً، وإفعالاً من أب وسحق، ويكونان أعجمين،" ونحن نقول هنا لم تتطابق العربية والأعجمية بل تطابقت العربية الفصيحة مع العربية القديمة في أصل واحد
[74]لو قال والسريانية من اللغات العربية القديمة وكل الساميات هي لغات عربية كما سيأتي في ملحق اللغات لكان أدق كما سيبينه محمد محفل

[77]اما قول من قال "وهو مما جاء فيه استفعل بمعنى تفعل " فغير دقيق.
[79]قال ابن الحاجب : " وأما المنقطع فإن العامل فيه إلا وعملها فيه عمل لكن ولها خبر يقدر بحسب المعنى، ومنهم من يجيز إظهاره، ومنهم من يقول إنه حينئذٍ كلام مستأنف. ا. هـ " قال الرضي : أما المنقطع، فمذهب سيبويه، أنه، أيضا، ينتصب بما قبل (إلا)، من الكلام، كما انتصب المتصل به، وذلك قوله في الكتاب: (فحمل على معنى (لكن) وعمل فيه ما قبله كعمل العشرين في الدرهم 4)، وما بعد (الا) عنده، مفرد، سواء كان متصلا أو منقطعا، فهي، وإن لم تكن حرف عطف، إلا أنها ك (لكن) العاطفة للمفرد على المفرد، في وقوع المفرد بعدها، فلهذا وجب فتح (أن) الواقعة بعدها في نحوقولك: زيد غني، إلا أنه شقي، والمتأخرون، لما رأوها بمعنى (لكن)، قالوا: انها الناصبة بنفسها، نصب (لكن) للأسماء، وخبرها محذوف، نحو: قولك: جاءني القوم إلا حمارا، أي: لكن حمارا لم يجيئ، قالوا وقد يجيئ خبرها ظاهرا، نحو قوله تعالى: (إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم) ونقله الدماميني وأقره
__________
 
عودة
أعلى