علي المالكي
New member
من النصوص المشكِلة المنقولةِ عن أبي حيان الأندلسي قولُه: «وزعَم ابنُ مالك ... على عادته في إثبات القواعد النحوية بما روي في الحديث وفي الآثار مما نقلَه الأعاجم الذين يلحنون، ومما لم يتعيَّن مِن لفظِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا مِن لفظِ الصحابي، فيكون حجةً إذا جاوزوا النقلَ بالمعنى».
هكذا هو نصُّ كلامِه في عدد من المصادر، منها: «موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث» (ص240) ، و«موقف أبي إسحاق الشاطبي من الاحتجاج بالحديث» (ص40)، وقد نقلوه عن مخطوط (التذييل والتكميل) المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 1968.
وبناءً على هذا النقل فهِمَ فريقٌ من الباحثين من كلام أبي حيان أنهم لو جاوزوا النقل بالمعنى لكان حجة عنده.
وقد استوقفتني هذه العبارةُ وأنا أكتب رسالةَ الماجستير؛ لأن تركيبها غريب، وغيرُ متناسق مع السياق؛ فأخذتُ أبحث في نسخ الكتاب الأخرى، وفي الكتب الناقلة لهذا النص، وتبيَّن لي صدقُ ظني، وأنّ صواب العبارة: «...مما نقلَه الأعاجم الذين يلحنون، ومما لم يتعيَّن مِن لفظِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا مِن لفظِ الصحابي فيكون حجةً؛ إذْ أجازوا النقلَ بالمعنى».
وهذا ما أثبته محقق طبعة مكتبة الخانجي لـ(ارتشاف الضرَب)، غيرَ أنه وضع الفَاصلَةَ في غيرِ محلِّها، فوضَعَها بعد كلمة: (الصحابي)، وحقُّها أن توضع بعد كلمة: (حجة)؛ لأن الكلام قبلها متصل بعضه ببعض، فكلامه ليس تعليقًا بشرط، وإنما هو تعليل، فجملة (إذ أجازوا النقل بالمعنى) تعليلٌ لما يراه مِن أن الحديثَ لَم يتعيَّن مِن لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الأثرَ لم يتعين من لفظ الصحابي، ومِن ثَمَّ جعله علة لمنع الاستدلال بالحديث.
وقد أثبتها مصطفى النماس في النسخة التي حققها: (إذا أجازوا)، والمعنى معها غير مستقيم، لكن نستفيد منها تقوية الرواية التي في طبعة الخانجي؛ لأنها أقرب ما يكون إلى ما أثبتَه، فالواو في كلتا الطبعتين غير موجودة، وهذا يُضْعِفُ ما ورد في المخطوطة التي اعتمدت عليها الدكتورة خديجة الحديثي وغيرُها. وعلى فرض ثبوتها هي أيضا فيكون النَّصُّ محتملًا، ومع دخول الاحتمال يسقط به الاستدلال.
وإنّ الذي يترجح من مجموع النقول عن أبي حيان في هذه المسألة أنه مِن المانعين من الاستشهاد بالحديث في النحو، لا من المتوسطين، لكن بالتأمل في منهجه العملي نجده يستشهد بالحديث، وقد يبني عليه بعض القواعد، بل قد يبني بعض الأحكام على الحديث فقط.
فالذي يبدو -والله أعلم- أن صنيعه ذلك ما هو إلا ردَّةُ فعلٍ نظريةٌ لتوسُّعِ ابن خروفٍ وابنِ مالكٍ في الاستشهاد بالحديث على المسائل النحوية وبناء القواعد عليه، واستدراكهما به على متقدمي النحاة.
وقد اختُلِفَ في تعليلِ موقفِ أبي حيان ذاك:
- فقيل: إن سببَه مجردُ تحامُلِ أبي حيان على ابنِ مالك، وأنه لم يكن سوى ثمرةِ نزاعٍ شخصيٍّ اندَفع من أجله أبو حيان إلى هذا الجدل الطويل، بدليل أنه إنما وَجَّهَ سِهامَ نقدِه إلى ابن مالكٍ وحدَه، وقَصَرَ سلوكَ هذه الطريقةِ عليه وحدَه، مع أن ابنَ مالكٍ سُبِقَ إلى ذلك من بلديِّه ابنِ خروفٍ الذي اعتُبِر زعيمَ فريق المجوزين، ولم يكن أمرُ ابنِ خروفٍ خافيًا على أبي حيان، وكذلك السهيليُّ كان يُكثر من الاستشهاد بالحديث ويعتمد عليه في وضع قواعد جديدة تخالف ما ذهب إليه النحاة أو في تجويز ما منعوه من هذه القواعد.
وممن ذهب إلى هذا الاستنتاج: ناظرُ الجيش تلميذُ أبي حيان. ومما يؤيد ذلك: ما ذكره هو نفسه (أي ناظر الجيش) مِن عباراتٍ وإطلاقاتٍ لأبي حيان فيها غضٌّ مِن ابن مالكٍ وانتقاصٌ له تدلُّ على التحامُل عليه، وما وَقع مِنه من مواقف أخرى مشابِهةٍ يُلمَسُ فيها تحاملُه على بعضِ العلماء، ويُلحَظُ فيها إطلاقاتٌ في حقهم ليست صحيحةً، كما فعل مع ابن دقيق العيد، ومع ابن تيمية.
- وقيل: إن أبا حيان موقفُه متذبذبٌ في هذه القضية، وأنه في كل مرةٍ في اجتهاد.
- وقيل: المراد من كلام ابن الضائع وأبي حيان نفيُ اعتمادهم على الحديث وحده في تقرير القواعد، أو أنهم عدوا قلة استشهادهم بالحديث عزوفاً عنه، ثم عبروا عن العزوف والقلة بالترك.
ويمكن أن يكون انتقاد أبي حيان منصبًّا على كثرة احتجاج ابن مالك بالروايات التي ظاهرها مخالف للقواعد ليعترض بها على القواعد ويقرِّر من خلالها قواعدَ جديدةً دون الْتِفاتٍ إلى احتمالِ كونها من تصرف الرواة.
وأقرب هذه الاحتمالات الأولُ والأخيرُ. والله أعلم بواقع الحالِ.
علي المالكي
أستاذ اللغويات بجامعة بنغازي
هكذا هو نصُّ كلامِه في عدد من المصادر، منها: «موقف النحاة من الاحتجاج بالحديث» (ص240) ، و«موقف أبي إسحاق الشاطبي من الاحتجاج بالحديث» (ص40)، وقد نقلوه عن مخطوط (التذييل والتكميل) المحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم 1968.
وبناءً على هذا النقل فهِمَ فريقٌ من الباحثين من كلام أبي حيان أنهم لو جاوزوا النقل بالمعنى لكان حجة عنده.
وقد استوقفتني هذه العبارةُ وأنا أكتب رسالةَ الماجستير؛ لأن تركيبها غريب، وغيرُ متناسق مع السياق؛ فأخذتُ أبحث في نسخ الكتاب الأخرى، وفي الكتب الناقلة لهذا النص، وتبيَّن لي صدقُ ظني، وأنّ صواب العبارة: «...مما نقلَه الأعاجم الذين يلحنون، ومما لم يتعيَّن مِن لفظِ الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا مِن لفظِ الصحابي فيكون حجةً؛ إذْ أجازوا النقلَ بالمعنى».
وهذا ما أثبته محقق طبعة مكتبة الخانجي لـ(ارتشاف الضرَب)، غيرَ أنه وضع الفَاصلَةَ في غيرِ محلِّها، فوضَعَها بعد كلمة: (الصحابي)، وحقُّها أن توضع بعد كلمة: (حجة)؛ لأن الكلام قبلها متصل بعضه ببعض، فكلامه ليس تعليقًا بشرط، وإنما هو تعليل، فجملة (إذ أجازوا النقل بالمعنى) تعليلٌ لما يراه مِن أن الحديثَ لَم يتعيَّن مِن لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأن الأثرَ لم يتعين من لفظ الصحابي، ومِن ثَمَّ جعله علة لمنع الاستدلال بالحديث.
وقد أثبتها مصطفى النماس في النسخة التي حققها: (إذا أجازوا)، والمعنى معها غير مستقيم، لكن نستفيد منها تقوية الرواية التي في طبعة الخانجي؛ لأنها أقرب ما يكون إلى ما أثبتَه، فالواو في كلتا الطبعتين غير موجودة، وهذا يُضْعِفُ ما ورد في المخطوطة التي اعتمدت عليها الدكتورة خديجة الحديثي وغيرُها. وعلى فرض ثبوتها هي أيضا فيكون النَّصُّ محتملًا، ومع دخول الاحتمال يسقط به الاستدلال.
وإنّ الذي يترجح من مجموع النقول عن أبي حيان في هذه المسألة أنه مِن المانعين من الاستشهاد بالحديث في النحو، لا من المتوسطين، لكن بالتأمل في منهجه العملي نجده يستشهد بالحديث، وقد يبني عليه بعض القواعد، بل قد يبني بعض الأحكام على الحديث فقط.
فالذي يبدو -والله أعلم- أن صنيعه ذلك ما هو إلا ردَّةُ فعلٍ نظريةٌ لتوسُّعِ ابن خروفٍ وابنِ مالكٍ في الاستشهاد بالحديث على المسائل النحوية وبناء القواعد عليه، واستدراكهما به على متقدمي النحاة.
وقد اختُلِفَ في تعليلِ موقفِ أبي حيان ذاك:
- فقيل: إن سببَه مجردُ تحامُلِ أبي حيان على ابنِ مالك، وأنه لم يكن سوى ثمرةِ نزاعٍ شخصيٍّ اندَفع من أجله أبو حيان إلى هذا الجدل الطويل، بدليل أنه إنما وَجَّهَ سِهامَ نقدِه إلى ابن مالكٍ وحدَه، وقَصَرَ سلوكَ هذه الطريقةِ عليه وحدَه، مع أن ابنَ مالكٍ سُبِقَ إلى ذلك من بلديِّه ابنِ خروفٍ الذي اعتُبِر زعيمَ فريق المجوزين، ولم يكن أمرُ ابنِ خروفٍ خافيًا على أبي حيان، وكذلك السهيليُّ كان يُكثر من الاستشهاد بالحديث ويعتمد عليه في وضع قواعد جديدة تخالف ما ذهب إليه النحاة أو في تجويز ما منعوه من هذه القواعد.
وممن ذهب إلى هذا الاستنتاج: ناظرُ الجيش تلميذُ أبي حيان. ومما يؤيد ذلك: ما ذكره هو نفسه (أي ناظر الجيش) مِن عباراتٍ وإطلاقاتٍ لأبي حيان فيها غضٌّ مِن ابن مالكٍ وانتقاصٌ له تدلُّ على التحامُل عليه، وما وَقع مِنه من مواقف أخرى مشابِهةٍ يُلمَسُ فيها تحاملُه على بعضِ العلماء، ويُلحَظُ فيها إطلاقاتٌ في حقهم ليست صحيحةً، كما فعل مع ابن دقيق العيد، ومع ابن تيمية.
- وقيل: إن أبا حيان موقفُه متذبذبٌ في هذه القضية، وأنه في كل مرةٍ في اجتهاد.
- وقيل: المراد من كلام ابن الضائع وأبي حيان نفيُ اعتمادهم على الحديث وحده في تقرير القواعد، أو أنهم عدوا قلة استشهادهم بالحديث عزوفاً عنه، ثم عبروا عن العزوف والقلة بالترك.
ويمكن أن يكون انتقاد أبي حيان منصبًّا على كثرة احتجاج ابن مالك بالروايات التي ظاهرها مخالف للقواعد ليعترض بها على القواعد ويقرِّر من خلالها قواعدَ جديدةً دون الْتِفاتٍ إلى احتمالِ كونها من تصرف الرواة.
وأقرب هذه الاحتمالات الأولُ والأخيرُ. والله أعلم بواقع الحالِ.
أستاذ اللغويات بجامعة بنغازي