نور القزيري
New member
الحمد لله، والصَّلاة والسَّلامُ على رسول الله، وبعدُ:
هذا تفريغٌ لمحاضرة فتن الشَّهوات (25-رمضان-1432)، من برنامج الشيخ الجليل/ مُحمَّد حسَّان (خاطرة الفجر)، ولم أُخصِّص هذه المحاضرة بالتَّفريغ إلا لأنَّها المُحاضرة الوحيدة التي أملك؛ حيث يحول بيني وبين تنزيل البقية ما قدّره الله، ولعلَّ الله سبحانه يُكرمني بما أرجو مِنْ مُحاضرات المشايخ الفضلاء؛ فالقلبُ ظمآن لما يُزيل عنه الغشاوة ومقدمات الرَّان، والله المستعان ..
(الملف في المرفقات مُنسق، وقمتُ بتحويل العامّي من كلمات الشيخ إلى الفصحى، علمًا بأنَّه ـ حفظه الله ـ أكثرَ منها؛ نظرًا لتحدُّثه إلى الإخوة في المسجد وليسَ الاستديو) ..
وإليكم المحاضرة :
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ مُحمّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأحبابه وأتباعه، وعلى كُلِّ مَن اهتدى بهديه، واستنَّ بسنّتِه، واقتفَى أثره إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فحياكم الله جميعًا أيُّها الإخوةُ الفُضلاء الأعزاء، وأيَّتُها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوَّأتم جميعًا من الجنّة منزلاً، وأسألُ الله جلَّ وعلا الذي جمعنا في هذا البيت العامرِ على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيِّد الدُّعاة، وإمام النَّبيين، في جنّتِه ودارِ مُقامته، إنَّه وليُّ ذلك ومولاه.
أحبّتي في الله، لازلنا نتحدَّث عن الفتن، أسألُ الله أن يُنجّيني وإياكم وجميعَ أمّة محمدٍ من الفتن، والفتنُ كما ذكرتُ نوعان لا ثالثَ لهما:
· فتن الشَّهوات.
· فتن الشُّبهات.
فلو سألتَ عن أيِّ فتنةٍ تخطر لك على بالٍ، ستندرجُ هذه الفتنة تحت نوعٍ من هذين النوعين، إمَّا أن تكون الفتنة: شهوةً، وإمَّا أن تكون الفتنة: شبهة.
ومكمنُ الخطرِ في الفتن سببان أو أمران :
· الأمر الأوَّل : كثرةُ الفتن ـ وقد بيّنا ذلك بالدليل ـ
· الأمر الثَّاني : تعلُّق الفتن بالقلب.
فما سُمِّيّ القلب قلبًا إلا من تقلبه .. فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويلِ
انتبهوا يا شباب!، الشبابُ المُنشغل بالانترنت ـ أسأل الله أن يعصمكم وأن يحفظكم ـ .. انتبه!، ما سُمِّيَ القلبُ قلبًا إلا من تقلّبه، فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويلِ، اللهم ثبّت قلوبنا وإياكم على الحقِّ.
ولأجل ذلك كان النَّبي ـ ـ يكثر في دعائه ويقول: (يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك).
الله أكبر! ، السيدة أم سلمة ـ ـ تسمع النبي ـ ـ يدعو بهذا الدعاء فتقول: (يا رسول الله أو إنَّ القلوب لتتقلب؟)، فيقول: (ما من قلبٍ من قلوب بنيِّ آدم إلا وهو بين أُصبعين من أصابع الرحمن ـ ّ ـ كقلب واحدٍ، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه).
ويُؤكِّد هذا أيضا حديث عبد الله بن عمر في [صحيح مسلم] : (إن قلوب بنيِّ آدم كُلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُصرّفها حيثُ شاء) ثمَّ قال: (اللهم مُصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك)، اللهم صرِّف قلوبنا على طاعتك.
وقلنا إنَّ القلوب تُعرض الفتن عليها كعرض الحصير، يعني تُعرض الفتن: فتنة فتنةً، تترك الفتنة نكتة سوادٍ في القلب إن لم يتبْ صاحب هذا القلب إلى الله، وتعرض عليه فتنة أخرى فيتشرَّبها، فتزيد بقعة السَّواد في القلب، حتى يعلو الرَّان القلوبَ، وحينئذٍ تُحجب القلوب عن علام الغيوب .
حقيقةً أنا وعدتكم أمس أن نأخذ اليوم الدَّواء لهذه الفتن، لكن الشيخ عبد الخالق ـ أسأل الله أن يفتح عليه ـ حرك فيَّ مشاعرَ أخرى وهو يقرأ سورةَ (المنافقون) ـ سورةَ (المنافقون) هكذا .. بالاسم أولى ـ، قال تعالى : "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون".
لن أفسر، ولكن تذكرتُ ـ وأنا أتكلم أمس عن القلوب وعَرْض الفتن على القلوب ـ أنَّ النَّبي تكلّم عن القلب الأوَّل، القلب المنافق، الذي لا يُنكر منكرًا إلا ما أقرَّهُ هواه، ولا يعرف معروفًا إلا إذا اتفق مع هواه.
وسيدنا حذيفة يقول: (القلوب أربعة: قلبٌ أجرد فيه سِرَاجٌ يُزهر؛ فذلك قلبُ المؤمن) ، الله يجعلني وإياكم من أصحاب هذه القلوب المنيرة بنور الإيمان، (وقلبٌ أغلف؛ فذلك قلبُ الكافر)، اليهود، قال الله عزَّ وجلَّ حكايةً عنهم: "وقالوا قلوبنا غُلف" ، يعني : مُتغلِّفة بأغلفة الكفر والعناد.
(وقلبٌ منكوس) هذا هو، (قلبٌ منكوسٌ، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي؛ فذلك قلب المنافق)، المنافقُ منكوس القلب، هو عرف الحقّ لكنه أنكره، وعرف الهدى لكنه حاد عنه، آمن بلسانه لكنّه أنكر وكفر بقلبه، مخادعٌ متلوّن، وأنا أتكلم في "أزمة الأخلاق" ولازلت أتكلم في النِّفاق، قلتُ:
النِّفاق ـ يا إخواننا ـ مُشتّقٌ في لغة العرب من: النَّفق ـ والنَّفقُ معروفٌ لنا جميعًا ـ مَسْلَكٌ بين الطريقين، تخرج من طريقٍ لتخرج منه إلى طريقٍ آخر، كذلك النِّفاق.
النَّافقة في لغة العرب: جحر الضبّ أو يربوع، وسُمّيَ المُنافق مُنافقًا لأنَّ ظاهره إيمانٌ وباطنه كفرٌ، وكذلك جحر الضَّب أو يربوع، جحر الضب أو يربوع ظاهرهُ ترابٌ وباطنه حَفْرٌ، خِداعٌ وتضليلٌ؛ فالمنافق: مُتلوِّن، مُخادِع، مُضلِّل، ومن غبائه أنه متصورٌ أنه يخادع الله، لا أهل الإيمان فقط، بل يتصور المُنافق الغبي أنَّه يخادع الربَّ العلي، "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون".
لن أطيلَ في المسألة، لكني أودّ القول بأنَّ القلب المُنافق: قلبٌ منكوسٌ، حتى الفطرة عنده منكوسة!، ولا حول ولا قوة إلا بالله!، عرف الحقّ وأنكره، وأبصر الهدى وحاد عنه، وأبصر الطريق المستقيم وأعرض عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومكمنُ الخطر في الفتن أنها تُؤثّر على القلوب!..
(والقلب الرَّابع: قلبٌ تمدّه مادّتان: مادة إيمان، ومادة نفاق) ولعلّ قلوب معظم الخلق من النوع الرابع، لكن أنا أرجو الله أن نكون من أصحاب القلب الأوّل، إن شاء الله أهل الصيام وأهل المحافظة على صلاة الفجر، وأهل المحافظة على صلاة التراويح، إن شاء الله أسأل الله أن نكون جميعًا من أصحاب القلوب المتجرِّدة، التي أشرق فيها نور الإيمان، أي نعم، بفضل الله ، "أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون" ، "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار".
(والقلب الرَّابع: قلبٌ تمدّه مادّتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما)؛ لذلك سأذكر لك في الدَّواء والعِلاج مِنْ هذه الفتن : أن تبتعد ـ بقدر المُستطاع ـ عن بيئة الفتن، قدرَ المُستطاع ابتعِد عن بيئة الفتن، لماذا؟!؛ لأنك لا تضمن حال قلبك إذا عُرضتْ عليك الفتنة.
ممكن يخرج أخ يقول : "إن شاء الله أنا واثقٌ من نفسي، وأنا مُطمئن، للتو كنتُ حاضرًا مع الشيخ درس الفجر، وباكٍ من خشية الله، والقلب ـ ما شاء الله ـ مُتجدِّد فيه الإيمان" ..
فيخرج يُعرِّض نفسه لفتنة ـ فتنة شهوة مثلاً، أو فتنة شُبهة ـ وهو لا يدري! .. قد يتشرَّب قلبُه الفتنةَ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ويتحوَّل قلبه؛ ولذلك النَّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: (فمَن وجدَ ملجأ أو مَعاذًا فليعذ به) ؛ لماذا؟؛ لأنَّ الذي يتعرض للفتن تنقطعُ رقبته، النَّبي قال: (ومَن تشرّف لها تستشرفه)، تشرّف يعني: تعرَّض لها، مأخوذة من الشُّرفة، يعني مكانٌ مُرتفعٌ، مكانٌ بارزٌ، (مَن تشرف لها تستشرفه)، يعني: ومَن تعرَّض لها (تستشرفه) ، يعني: تقطع رقبته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فابتعد عن الفتن، لا تُعرِّض نفسك للفتن، وأعظم من كُلّ هذا عندي ـ إذا أردتَ النَّجاة من الفتن ـ :
أن تصدقَ في طلب العون من الله أن يُنجّيك وأن يعصمك؛ فإن صدقتَ الله صدقك، واعلم بأنَّ المُصطفى وهو صاحب القلب الموصول بالله جلّ وعلا احتاج إلى تثبيتٍ من الله ـ عزَّ وجل ـ ، فقال له ربه : "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنُ إليهم شيئًا قليلاً"، غير معقول! .. أعلمُ أنك قرأتَ الآية، فلولا أنَّ الله ـ ـ ثبّت مَنْ؟ ، تبّث حبيبه ـ ـ ، "لقد كدت تركن إليهم" أي: إلى الكفار والمشركين، "شيئًا قليلاً".
إذن قلبُ النَّبي وهو القلب الموصول بالله، وهو القلب المفطور على التوحيد وعلى النّور وعلى الإيمان، يحتاجُ إلى تثبيت، فإذن أنا وأنت نحتاج إلى ماذا؟!، أنا أحتاج إلى تثبيت، وأنت تحتاج إلى تثبيت.
طيب، لأجل أن يُثبتك الله في هذه الفتن ماذا تعمل؟
الجواب:تُقبل عليه بالإفلاس، ماذا يعني بالإفلاس؟، يعني: تُقبل عليه وأنتَ لا ترى نفسك قط، أنت مُفلسٌ من كُلِّ شيءٍ، أنت مُنكسرٌ بين يديه، لا أرى فيَّ الـ(أنا)، ولا ترى فيكَ الـ (أنا)، أنا لا شيء، وأنت لا شيء.
تقبل على الله بالتجرّد الكامل، وبالتبرّؤ الكامل مِن كُلّ حولٍ، وطولٍ، فأنا لا أملك أيَّ شيء، ولا أستطيع ـ ورب الكعبة ـ أن أثبت أمام أيِّ فتنة ـ ولو قلَّتْ ـ إلا إذا ثبتني الله جلّ جلاله؛ فإذن أنت محتاجٌ إلى تثبيتٍ، وأنا مُحتاجٌ إلى تثبيت.
وكيف يأتي هذا التثبيت؟
يأتي من تبرّئك من حولك وطولك، إيّاك أن تغتر وتُخدع بعلمٍ، إيّاك أن تُخدع بعبادةٍ، إياك أن تُخدع بمكانةٍ بين النَّاس؛ فكم من مستدرجٍ بنعم الله وهو لا يدري، وكم من مفتونٍ بثناء النَّاس عليه وهو لا يدري.
إذن أول شيء: تنكسر بين يديه، وتقبل عليه وأنت تستشعر الإفلاس من كلّ شيء إلا من ستره وفضله ورحمته وكرمه وجوده وودِّه وحبّه وعطائه، يجب أن تتبرّء من الـ (أنا)، لا ترَ نفسك أبدًا، والأنف ضعها تحت النّعل، وقف لنفسك بالمرصاد، والله ـ الذي لا إله غيره ـ لو وجد الله عزَّ وجلَّ منك الافتقار له، والانكسار بين يديه، والذل له ، والله لثبّتك وعصمك، اسمع لقول ربك جلَّ وعلا : "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
وانتبه، فأبواب الملوك لا تقرع بالأظافر!، فكيف إذا أردت! أن تقرع باب ملك الملوك جلَّ جلاله، اعلم أنَّ بابه لا يقرع إلا بالقلوب، أين قلبك؟!.
اسمع إلى ما سأقوله: "القلوب جوَّالة، إما أن تجول حول السماء، وإما أن تجول حول الخلاء" إمَّا أن يبقى القلب مُعلقًا بالعرش، وإمَّا أن يبقى القلب مُعلقًا بدورة المياه بالشَّهوات بالشُّبهات، إمَّا أن يبقى في أعلى عليين، وإما أن يبقى في أسفل سافلين في درك الشياطين.
القلبُ: رأسُ الحياةِ، وحقيقةُ الإنسان؛ فهو في الدُّنيا جمالُه وفخرُه، وفي الآخرة عُدَّته وذخره، له في جسم الإنسان المكانة الأولى، وله على جميع الجوارح اليدُ الطولى؛ فهو القائدُ، والأعضاءُ جندٌ له وخدم، وهو الملك، والجوارحُ تَبَعٌ له وحشم، إذا صحَّ صحَّ البدن كله، وإذا فسدَ فسد البدنُ كلُّه، اتحدَّ شكله في كل البشر، واختلفتْ حقيقته بعدد البشر، فقلبٌ أصفى من الدُّرر، وقلبٌ أقسى من الحجر، قلبٌ يجول حول السماء، وقلبٌ يجول حول الخلاء، قلب مُعلق بأعلى عليين، وقلبٌ مٌعلّق بدرك الشياطين في أسفل سافلين.
إذن تتبرّأ وتقبل على الله ـ ـ وأنت مفلس من كل شيء إلا من فضله وحوله ووده وحبه ومدده.
الخطوة الثانية :
على طريق الدَّواء وعلى طريق العلاج في زمان الفتن الذي نعيشه:
أن تحرص على تحقيق الإيمان وتجديده.
فثمَّ: تحقيقٌ للإيمان، وثمَّ: تجديدٌ للإيمان؛ فالصَّحابي يوم يلقى أخاه ويقول له هيَّا نؤمن ساعة، هو لا يقصد تحقيق الإيمان، وإنَّما يقصد تجديد الإيمان، هيا بنا نجلس ونتذاكر ونذكر ربنا ونبينا؛ لنجدد الإيمان في قلوبنا؛ لأنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأنت طوال جلوسك في المسجد، في المعتكف، مع كتاب الله، أو في مجلس علم تسمع عن الله، تسمع عن رسول الله، الإيمان في زيادة ما شاء الله، "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم"، والآيات كثيرة جدا في قضية زيادة الإيمان.
إذن فالمطلوب: تحقيق الإيمان، وليس هذا فحسب، بل مطلوب أن نُجدد الإيمان.
كيف نُجدِّد الإيمان؟
بالإعمال الصالحة، أعمال الطاعات، والبعد ما استطعنا عن بيئة المعاصي؛ لأنَّها تُضعف الإيمان في القلب، وربما تقضي على الإيمان في القلب، اسمع ماذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإيمان ليَخْلَقُ في جوفِ أحدكم كما يخلق الثَّوب)، يا الله!، (إنَّ الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثَّوب)، أي: كما يبلى الثوب، (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، النَّبي يقول هذا ولستُ أنا، (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، اللهم جدِّد الإيمان في قلوبنا ياربَّ العالمين.
طيب لماذا أقول الإيمان؟!
لأنَّ الإيمان هو صمام الأمان لنا من الفتن، من فتن الشهوات والشبهات، ما الدليل على ذلك؟، اقرأ قول الله ـ جلَّ وعلا ـ : "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه" ، آية جميلةٌ جدًّا، "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه"، إذن ثمرة الإيمان ـ إن حققته ـ هي: هداية القلب، فالإيمان ثمرةٌ للهداية، الهداية ثمرة للإيمان، والإيمان سبب للهداية، والهداية سببٌ للإيمان، "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه"، أتدري ما المقصود بالهداية هنا؟؛ لأنَّ الهداية أربعة أنواع، ليس موضوعنا الآن، لكن المراد بالهداية في الآية: هداية التوفيق، الله أكبر، أتعلم أنَّ هداية التوفيق هذه التي أنت تدعو ربنا في كل ركعة من ركعات الصلاة الفرض والنافلة أن يرزقك إياها وأنت تقرأ قوله تعالى : "اهدنا الصراط المستقيم"، هذه هي هداية التوفيق.
ما هداية التوفيق؟
يقول شيخ الإسلام: (هداية التوفيق هي جَعْلُ الهدى في القلب)، يعني: الله جلّ وعلا يجعل الهدى في قلبك جَعْلاً، يعني في كُلّ لحظةً تتكلم فيها أو تعمل فيها رب العزة يهديك إلى ما يُرضيه، هل أنتم معي يا أخواني!، والله العظيم هذا كلامٌ خطيرٌ جدًّا!، والله كلامٌ لو انتبهت إليه في منتهى الخطورة.
هداية التوفيق معناها: أن يرزقك الله في كُلّ نفسٍ من أنفاس حياتك ما ترضيه به، في قولك وفعلك وحالك.
هذا مقامٍ عالٍ جدًّا، بل هو أعلى مقام، بل إنِّها الغاية، فهذه أشرف نعمةٍ، وأجلُّ نعمة، أن يهديك الله صراطه المستقيم، صراط النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسنَ أولئك رفيقًا.
هذه هي الغاية؛ فليس ثمّة عبدٌ وحَّد وصلى وزكى وصام واعتمر وحج إلا لأجل أن يرزقه ربه هذه الغاية، هذه الهداية، إذن نعمة الهداية تتحقق بتحقيق الإيمان، فيهدي الله قلبك، ويثبّت قلبك على ما يُرضيه ، "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه".
فالهداية ـ سبحان الله ـ تأتي، لكن يجب عليك أن تطرق الباب، وتخطو الخطوة الأولى على طريق الإيمان.
شبابنا وأحبابنا ـ كثيرًا ما تأتيني أوراقٌ، وسامحوني فإني لا أستطيع قراءة كُلَّ الأوراق التي تأتيني فهي كثيرةٌ جدًّا، وربنا يعلم لا يوجد وقتٌ حتى للنَّوم؛ فسامحوني إذا جاءتني أوراقٌ ولم أقرأها حتى هذا الحين، لكن ـ بقدر الله ـ أقرأ ما تيسّر، شابٌ يشربُ المخدرات، ويزني، ويشرب خمر، وذكرناه، ولا فائدة.
انتبه فهاهنا العلاج، أنت حبيبي في الله لم تخطُ خطوةً واحدة على طريق الإيمان، أنت تسأل عن النتيجة ولم تحقق بعد المقدمات ولا حققت الشَّرط، وهل حققت الشرط حتى يُعطيك ربنا النتيجة؟!
وهل جاهدت في الله ، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، هل جاهدت ؟.
أنت لم تجاهد، لم تجاهد نفسك، ولم تجاهد هواك، ولم تجاهد شيطانك، ولم تجاهد صُحبة سوء، بل لازلت غارقًا، "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم"، "بل طبع الله عليها بكفرهم"، " وأمَّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون"، الجزاءُ من جنس العمل، أنت ستخطو إلى الله، انظر ماذا يقول لك ربك: (أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا، تقربتُ منه ذراعًا، وإن تقرّب مني ذراعًا، تقرّبت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
فلتبدأ إذن؛ فإنَّك لم تخطُ الخطوة الأولى على الطَّريق، اخطُ الخطوة الأولى على طريق الإيمان، وسترى النُّور والهداية والتثبيت والتَّوفيق وانشراحَ الصَّدر، وخشية القلبِ، وبكاءَ العين، ولذَّة الطَّاعة، وحلاوةَ الأنسِ به، وحلاوة الأنس به في الخلوة، سترى كل ما تشتاق إليه، لكن اخطُ الخطوة الأولى على الطَّريق، واعلم بأنَّ الملك سيمنحك من فضله، وإذا جاءتْ الهدية من الملك جاءتْ مُضمخة بطيبه؛ فكيف إذا كان العطاء لك مِنْ مالك الملك، وملكِ الملوك، كيف يكون عطاؤه؟، كيف يكون فضله عليك؟، سُبحانه وتعالى، ليس عليك إلا أن تخطو فقط.
(قصة مُؤثِّرة):
ابنٌ من أبنائنا، يقسم لي بالله، وهو طالبٌ من طلابي الآن، كان عندنا محاضرة في قرية في المنصورة عندنا اسمها (بيت الكرماء)، بعضكم يعرفها أكيد، قرية (بيت الكرماء)، عندي محاضرة، فالشباب استحلفوني بالله أن يكون موضوع المحاضرة في (وفاة النبي )، موضوعٌ مُؤثرٌ، ورقيقٌ وجميلٌ، ومبكٍ للعيون والقلوب؛ فقلتُ لهم: خلاص، على بركة الله، اعملوا إعلانات المحاضرة عن وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وذهبتُ ما شاء الله الزحام شديدٌ، ما شاء الله أهل مصر أهل خيرٍ وبركةٍ، ما نذهب إلا مكانٍ إلا ونجدُ الآلاف، بل ولا أبالغ إن قلتُ عشرات الآلاف، ولا أبالغ إن قلت مئات الآلاف بفضل الله، أسأل الله أن يحفظنا وأن يثبتنا وإياكم على الحقّ، المهم ألقيتُ المحاضرة، وبعد إلقائي للمحاضرة وجدتُ شابًا مُصرًّا بكل الطُّرق أن يكلمني، وبطريقة عنيفة جدًّا، فقلتُ لهم: اتركوه يا إخواني، وقلت له: تعال تفضل، تفضل يا أخي، فبدأ في الكلام معي، ويقول: يامولانا، ويبكي بكاءً شديدًا جدا جدا، يُقسم لي بالله ويقول: أنا كنتُ خارجًا أنا واثنين من زملائي الآن قبل المغرب بساعة ونصف، وأنا في جيبي نصف كيلوا من الحشيش (الأفيون)، وخرجنا نحن الثلاثة نقطعه قطعا صغيرة ونبيعه على أماكن معروفة لدينا، قال: ونحن طلعنا كل ما نمشي نجد الذقون تملأ البلد ـ يعني أصحاب اللِّحى ـ فقلتُ: ماذا هناك؟، ما الذي أخرج الذقون من جحورها هكذا؟
هم كالنمل يملؤون الشَّوارع ، فماذا هناك؟
قال: ووجدنا شيخًا فقلنا: ماذا هناك يا مولانا؟ إلى أين هم ذاهبون؟
فقال الشيخ: ألا تعلم أن هناك محاضرةً.
قال الرّجل: ما تقصد بالمحاضرة؟
قال الشيخ: يعني درسٌ.
فقال الرجل: أين هو؟ قال الشيخ: في المسجد الفلاني.
قال الرجل: لمن الدرس؟ قال الشيخ: للشيخ محمد حسان.
فقال الرجل: وماذا يبيع هذا؟!
(ضحك هنا الشيخ محمد حسان وقال: أبيعُ علمًا)
يقول الرَّجل: مشينا، ثم وقفنا على الطريق الرَّئيسي لنستأجر حافلة إلى المنصورة، وقال سبحان الله يا مولانا، ولأول مرة تحصل، نقف عشر دقائق، ربع ساعة، ثلث ساعة، نصف ساعة، كل الحافلات مليئة بالركاب، فقلتُ للأخوين اللذين معي ما رأيكم أن نرجع إلى البلد نرى ما الذي يحصل عندنا اليوم، وبعد العشاء عندما تظلم المنطقة ننزل مرة أخرى لنرى مصالحنا، (قال الشيخ محمد حسان وهو يبتسم: مصالح ماذا يا رجل، هداك الله).
يقول الرجل: جلستُ أنا والاثنين اللذين معي خارج المسجد في الخيمة نستمع. قال الشيخ محمد حسان: وقال لي الرجل عبارةً ـ والله لن أنساها أبدًا ـ: قال والله يا شيخ كنت تتكلم عن موت النبي، والله يا شيخ شعرت أنني بداخل الغرفة التي فيها النبي وأنا أراه أمامي، وبكيتُ كأني لم أبكِ في حياتي من قبل.
قال الشيخ محمد: الموضوع مُزلزلٌ حقيقةً، والذي يعيشه سيرتج قلبه، فبكى الرجل وقال: سمعتُ أذان العشاء، فدخلت الخلاء ورفعتُ جنابة الزنى، وميت نصف كيلوا الأفيون في الخلاء ـ في الحمامات القديمة الواسعة في عين الحمام ـ، وطلعتُ أصلي العشاء، لأول مرة في حياتي أصلي!
قال الشيخ حسان: الرجل هذا على ما أظنّ خريج كلية تجارة، لا أذكر جيدًا والله، رزقنا الله الصدق، المهم أنه يقسم لي بالله أنه أوّل مرة يصلي، لا يعرف الصلاة، وشرح الله صدره، هذا الأخ الآن من طلاب العلم، صاحب لحية وزوجته مُنتقبة، وخذ الأعجب من هذا: عنده طفلان يحفظان القرآن كاملاً.
من تجار أفيون ومخدرات، ربنا شرح صدره.
لماذا لا نسمع؟
يا أخي تعال اسمع، الشاب المُعرض هذا اقترب واسمع، اسمع فقط، اجلس في هذه البيئة الجميلة، بيئة العلم، بيئة الإيمان، بيئة الطهر، بيئة السنة، اسمع كلمة، لو رجعتَ إلى سبب التزامك وهدايتك ستجده كلمةسمعتها من عالم أو من أب أو أم، رأيتها بعينك؛ فالكلمة مرئية ومسموعة.
بين الجوانح في الأعماق سُكناها .. فكيف تُنسى ومَن في الناس ينساها
الأذن سامعة والعين دامعة .. والروح خاشعة والقلب يهواها
فقط تعال وصلِّ معنا مرة، اجلب ابنك، اجلب زميلك، قل له تعال يا ابني صلِّ معنا الفجر مرة، تعال يا ابني اسمع معنا عن الله ورسوله، تعال وارفع أكفَّ الضراعة وقل: يارب! ، يارب أنا ضعيف قوّني، يارب أنا منكسر بين يديك،
يا رب اعترف لك بذنوبي وعجزي وفقري وتقصيري، يارب خذ بناصيتي إليك!، يارب حول قلبي بالرضا والحب إليك.
والله العظيم، والله لو صدقتَ الله صدقك، مَنْ توكَّل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومَن فوّض إليه الأمر هداه، قال جلا علاه : "أليس الله بكاف عبده"، بلي والله!.
فيا أحبابي، الجرعة الثَّانية من جرعات الدَّواء، ولن أثقل عليكم لأنَّ الدَّواء إذا زاد أتعب، تكفي هاتان الجرعتان:
· الجرعة الأولى: صدق الاستعانة بالله، والتبرّؤ من الحول والطول، واطرح قلبك بين يديه بذلٍّ وانكسار.
· الجرعة الثَّانية: تحقيق الإيمان، وتجديد الإيمان؛ لأنَّ الله يقول: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه".
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا وإياكم.
نريد أن ندعو الله لأهلنا في ليبيا أن يتم الله عليهم الخير والبركة، اللهم أتمم عليهم نصرهم، وأتمم عليهم بركتك، وأتمم عليهم فضلك، وأتمم عليهم نعمك، واحقن دماءهم يا رب العالمين، اللهم احقن دماء المسلمين الليبيين في طرابلس وفي كل أرجاء ليبيا، واحقن دماءهم في سوريا، واحقن دماءهم في اليمن، وفي مصر، وفي كل مكان، وأسأل الله لأولادنا الذين قتلوا على أرض سيناء، أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء، أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء، أسأل الله أن يخزي اليهود، وأن يرينا فيهم يومًا كيوم بني قريظة، وبني النضير، ويوم خيبر، إنَّه ولي ذلك والقادرُ عليه، وأسأل الله أن يتقبل مني ومنكم جميعًا صالح الأعمال.
ولا أنسى أن أدعو الله لمرضانا أن يشفيهم، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واستر نساءنا وبناتنا، وأصلح شبابنا، ورب أولادنا، يا أرحم الرَّاحمين.
تمّ التفريغ في :
4-9-21011
والحمد لله ربِّ العالمين ..
هذا تفريغٌ لمحاضرة فتن الشَّهوات (25-رمضان-1432)، من برنامج الشيخ الجليل/ مُحمَّد حسَّان (خاطرة الفجر)، ولم أُخصِّص هذه المحاضرة بالتَّفريغ إلا لأنَّها المُحاضرة الوحيدة التي أملك؛ حيث يحول بيني وبين تنزيل البقية ما قدّره الله، ولعلَّ الله سبحانه يُكرمني بما أرجو مِنْ مُحاضرات المشايخ الفضلاء؛ فالقلبُ ظمآن لما يُزيل عنه الغشاوة ومقدمات الرَّان، والله المستعان ..
(الملف في المرفقات مُنسق، وقمتُ بتحويل العامّي من كلمات الشيخ إلى الفصحى، علمًا بأنَّه ـ حفظه الله ـ أكثرَ منها؛ نظرًا لتحدُّثه إلى الإخوة في المسجد وليسَ الاستديو) ..
وإليكم المحاضرة :
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ مُحمّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، اللَّهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، وأحبابه وأتباعه، وعلى كُلِّ مَن اهتدى بهديه، واستنَّ بسنّتِه، واقتفَى أثره إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ:
فحياكم الله جميعًا أيُّها الإخوةُ الفُضلاء الأعزاء، وأيَّتُها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوَّأتم جميعًا من الجنّة منزلاً، وأسألُ الله جلَّ وعلا الذي جمعنا في هذا البيت العامرِ على طاعته، أن يجمعنا في الآخرة مع سيِّد الدُّعاة، وإمام النَّبيين، في جنّتِه ودارِ مُقامته، إنَّه وليُّ ذلك ومولاه.
أحبّتي في الله، لازلنا نتحدَّث عن الفتن، أسألُ الله أن يُنجّيني وإياكم وجميعَ أمّة محمدٍ من الفتن، والفتنُ كما ذكرتُ نوعان لا ثالثَ لهما:
· فتن الشَّهوات.
· فتن الشُّبهات.
فلو سألتَ عن أيِّ فتنةٍ تخطر لك على بالٍ، ستندرجُ هذه الفتنة تحت نوعٍ من هذين النوعين، إمَّا أن تكون الفتنة: شهوةً، وإمَّا أن تكون الفتنة: شبهة.
ومكمنُ الخطرِ في الفتن سببان أو أمران :
· الأمر الأوَّل : كثرةُ الفتن ـ وقد بيّنا ذلك بالدليل ـ
· الأمر الثَّاني : تعلُّق الفتن بالقلب.
فما سُمِّيّ القلب قلبًا إلا من تقلبه .. فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويلِ
انتبهوا يا شباب!، الشبابُ المُنشغل بالانترنت ـ أسأل الله أن يعصمكم وأن يحفظكم ـ .. انتبه!، ما سُمِّيَ القلبُ قلبًا إلا من تقلّبه، فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويلِ، اللهم ثبّت قلوبنا وإياكم على الحقِّ.
ولأجل ذلك كان النَّبي ـ ـ يكثر في دعائه ويقول: (يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك).
الله أكبر! ، السيدة أم سلمة ـ ـ تسمع النبي ـ ـ يدعو بهذا الدعاء فتقول: (يا رسول الله أو إنَّ القلوب لتتقلب؟)، فيقول: (ما من قلبٍ من قلوب بنيِّ آدم إلا وهو بين أُصبعين من أصابع الرحمن ـ ّ ـ كقلب واحدٍ، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه).
ويُؤكِّد هذا أيضا حديث عبد الله بن عمر في [صحيح مسلم] : (إن قلوب بنيِّ آدم كُلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، يُصرّفها حيثُ شاء) ثمَّ قال: (اللهم مُصرّف القلوب صرّف قلوبنا على طاعتك)، اللهم صرِّف قلوبنا على طاعتك.
وقلنا إنَّ القلوب تُعرض الفتن عليها كعرض الحصير، يعني تُعرض الفتن: فتنة فتنةً، تترك الفتنة نكتة سوادٍ في القلب إن لم يتبْ صاحب هذا القلب إلى الله، وتعرض عليه فتنة أخرى فيتشرَّبها، فتزيد بقعة السَّواد في القلب، حتى يعلو الرَّان القلوبَ، وحينئذٍ تُحجب القلوب عن علام الغيوب .
حقيقةً أنا وعدتكم أمس أن نأخذ اليوم الدَّواء لهذه الفتن، لكن الشيخ عبد الخالق ـ أسأل الله أن يفتح عليه ـ حرك فيَّ مشاعرَ أخرى وهو يقرأ سورةَ (المنافقون) ـ سورةَ (المنافقون) هكذا .. بالاسم أولى ـ، قال تعالى : "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون".
لن أفسر، ولكن تذكرتُ ـ وأنا أتكلم أمس عن القلوب وعَرْض الفتن على القلوب ـ أنَّ النَّبي تكلّم عن القلب الأوَّل، القلب المنافق، الذي لا يُنكر منكرًا إلا ما أقرَّهُ هواه، ولا يعرف معروفًا إلا إذا اتفق مع هواه.
وسيدنا حذيفة يقول: (القلوب أربعة: قلبٌ أجرد فيه سِرَاجٌ يُزهر؛ فذلك قلبُ المؤمن) ، الله يجعلني وإياكم من أصحاب هذه القلوب المنيرة بنور الإيمان، (وقلبٌ أغلف؛ فذلك قلبُ الكافر)، اليهود، قال الله عزَّ وجلَّ حكايةً عنهم: "وقالوا قلوبنا غُلف" ، يعني : مُتغلِّفة بأغلفة الكفر والعناد.
(وقلبٌ منكوس) هذا هو، (قلبٌ منكوسٌ، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي؛ فذلك قلب المنافق)، المنافقُ منكوس القلب، هو عرف الحقّ لكنه أنكره، وعرف الهدى لكنه حاد عنه، آمن بلسانه لكنّه أنكر وكفر بقلبه، مخادعٌ متلوّن، وأنا أتكلم في "أزمة الأخلاق" ولازلت أتكلم في النِّفاق، قلتُ:
النِّفاق ـ يا إخواننا ـ مُشتّقٌ في لغة العرب من: النَّفق ـ والنَّفقُ معروفٌ لنا جميعًا ـ مَسْلَكٌ بين الطريقين، تخرج من طريقٍ لتخرج منه إلى طريقٍ آخر، كذلك النِّفاق.
النَّافقة في لغة العرب: جحر الضبّ أو يربوع، وسُمّيَ المُنافق مُنافقًا لأنَّ ظاهره إيمانٌ وباطنه كفرٌ، وكذلك جحر الضَّب أو يربوع، جحر الضب أو يربوع ظاهرهُ ترابٌ وباطنه حَفْرٌ، خِداعٌ وتضليلٌ؛ فالمنافق: مُتلوِّن، مُخادِع، مُضلِّل، ومن غبائه أنه متصورٌ أنه يخادع الله، لا أهل الإيمان فقط، بل يتصور المُنافق الغبي أنَّه يخادع الربَّ العلي، "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون".
لن أطيلَ في المسألة، لكني أودّ القول بأنَّ القلب المُنافق: قلبٌ منكوسٌ، حتى الفطرة عنده منكوسة!، ولا حول ولا قوة إلا بالله!، عرف الحقّ وأنكره، وأبصر الهدى وحاد عنه، وأبصر الطريق المستقيم وأعرض عنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومكمنُ الخطر في الفتن أنها تُؤثّر على القلوب!..
(والقلب الرَّابع: قلبٌ تمدّه مادّتان: مادة إيمان، ومادة نفاق) ولعلّ قلوب معظم الخلق من النوع الرابع، لكن أنا أرجو الله أن نكون من أصحاب القلب الأوّل، إن شاء الله أهل الصيام وأهل المحافظة على صلاة الفجر، وأهل المحافظة على صلاة التراويح، إن شاء الله أسأل الله أن نكون جميعًا من أصحاب القلوب المتجرِّدة، التي أشرق فيها نور الإيمان، أي نعم، بفضل الله ، "أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون" ، "أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار".
(والقلب الرَّابع: قلبٌ تمدّه مادّتان: مادة إيمان، ومادة نفاق، وهو لما غلب عليه منهما)؛ لذلك سأذكر لك في الدَّواء والعِلاج مِنْ هذه الفتن : أن تبتعد ـ بقدر المُستطاع ـ عن بيئة الفتن، قدرَ المُستطاع ابتعِد عن بيئة الفتن، لماذا؟!؛ لأنك لا تضمن حال قلبك إذا عُرضتْ عليك الفتنة.
ممكن يخرج أخ يقول : "إن شاء الله أنا واثقٌ من نفسي، وأنا مُطمئن، للتو كنتُ حاضرًا مع الشيخ درس الفجر، وباكٍ من خشية الله، والقلب ـ ما شاء الله ـ مُتجدِّد فيه الإيمان" ..
فيخرج يُعرِّض نفسه لفتنة ـ فتنة شهوة مثلاً، أو فتنة شُبهة ـ وهو لا يدري! .. قد يتشرَّب قلبُه الفتنةَ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ويتحوَّل قلبه؛ ولذلك النَّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: (فمَن وجدَ ملجأ أو مَعاذًا فليعذ به) ؛ لماذا؟؛ لأنَّ الذي يتعرض للفتن تنقطعُ رقبته، النَّبي قال: (ومَن تشرّف لها تستشرفه)، تشرّف يعني: تعرَّض لها، مأخوذة من الشُّرفة، يعني مكانٌ مُرتفعٌ، مكانٌ بارزٌ، (مَن تشرف لها تستشرفه)، يعني: ومَن تعرَّض لها (تستشرفه) ، يعني: تقطع رقبته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فابتعد عن الفتن، لا تُعرِّض نفسك للفتن، وأعظم من كُلّ هذا عندي ـ إذا أردتَ النَّجاة من الفتن ـ :
أن تصدقَ في طلب العون من الله أن يُنجّيك وأن يعصمك؛ فإن صدقتَ الله صدقك، واعلم بأنَّ المُصطفى وهو صاحب القلب الموصول بالله جلّ وعلا احتاج إلى تثبيتٍ من الله ـ عزَّ وجل ـ ، فقال له ربه : "ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركنُ إليهم شيئًا قليلاً"، غير معقول! .. أعلمُ أنك قرأتَ الآية، فلولا أنَّ الله ـ ـ ثبّت مَنْ؟ ، تبّث حبيبه ـ ـ ، "لقد كدت تركن إليهم" أي: إلى الكفار والمشركين، "شيئًا قليلاً".
إذن قلبُ النَّبي وهو القلب الموصول بالله، وهو القلب المفطور على التوحيد وعلى النّور وعلى الإيمان، يحتاجُ إلى تثبيت، فإذن أنا وأنت نحتاج إلى ماذا؟!، أنا أحتاج إلى تثبيت، وأنت تحتاج إلى تثبيت.
طيب، لأجل أن يُثبتك الله في هذه الفتن ماذا تعمل؟
الجواب:تُقبل عليه بالإفلاس، ماذا يعني بالإفلاس؟، يعني: تُقبل عليه وأنتَ لا ترى نفسك قط، أنت مُفلسٌ من كُلِّ شيءٍ، أنت مُنكسرٌ بين يديه، لا أرى فيَّ الـ(أنا)، ولا ترى فيكَ الـ (أنا)، أنا لا شيء، وأنت لا شيء.
تقبل على الله بالتجرّد الكامل، وبالتبرّؤ الكامل مِن كُلّ حولٍ، وطولٍ، فأنا لا أملك أيَّ شيء، ولا أستطيع ـ ورب الكعبة ـ أن أثبت أمام أيِّ فتنة ـ ولو قلَّتْ ـ إلا إذا ثبتني الله جلّ جلاله؛ فإذن أنت محتاجٌ إلى تثبيتٍ، وأنا مُحتاجٌ إلى تثبيت.
وكيف يأتي هذا التثبيت؟
يأتي من تبرّئك من حولك وطولك، إيّاك أن تغتر وتُخدع بعلمٍ، إيّاك أن تُخدع بعبادةٍ، إياك أن تُخدع بمكانةٍ بين النَّاس؛ فكم من مستدرجٍ بنعم الله وهو لا يدري، وكم من مفتونٍ بثناء النَّاس عليه وهو لا يدري.
إذن أول شيء: تنكسر بين يديه، وتقبل عليه وأنت تستشعر الإفلاس من كلّ شيء إلا من ستره وفضله ورحمته وكرمه وجوده وودِّه وحبّه وعطائه، يجب أن تتبرّء من الـ (أنا)، لا ترَ نفسك أبدًا، والأنف ضعها تحت النّعل، وقف لنفسك بالمرصاد، والله ـ الذي لا إله غيره ـ لو وجد الله عزَّ وجلَّ منك الافتقار له، والانكسار بين يديه، والذل له ، والله لثبّتك وعصمك، اسمع لقول ربك جلَّ وعلا : "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين".
وانتبه، فأبواب الملوك لا تقرع بالأظافر!، فكيف إذا أردت! أن تقرع باب ملك الملوك جلَّ جلاله، اعلم أنَّ بابه لا يقرع إلا بالقلوب، أين قلبك؟!.
اسمع إلى ما سأقوله: "القلوب جوَّالة، إما أن تجول حول السماء، وإما أن تجول حول الخلاء" إمَّا أن يبقى القلب مُعلقًا بالعرش، وإمَّا أن يبقى القلب مُعلقًا بدورة المياه بالشَّهوات بالشُّبهات، إمَّا أن يبقى في أعلى عليين، وإما أن يبقى في أسفل سافلين في درك الشياطين.
القلبُ: رأسُ الحياةِ، وحقيقةُ الإنسان؛ فهو في الدُّنيا جمالُه وفخرُه، وفي الآخرة عُدَّته وذخره، له في جسم الإنسان المكانة الأولى، وله على جميع الجوارح اليدُ الطولى؛ فهو القائدُ، والأعضاءُ جندٌ له وخدم، وهو الملك، والجوارحُ تَبَعٌ له وحشم، إذا صحَّ صحَّ البدن كله، وإذا فسدَ فسد البدنُ كلُّه، اتحدَّ شكله في كل البشر، واختلفتْ حقيقته بعدد البشر، فقلبٌ أصفى من الدُّرر، وقلبٌ أقسى من الحجر، قلبٌ يجول حول السماء، وقلبٌ يجول حول الخلاء، قلب مُعلق بأعلى عليين، وقلبٌ مٌعلّق بدرك الشياطين في أسفل سافلين.
إذن تتبرّأ وتقبل على الله ـ ـ وأنت مفلس من كل شيء إلا من فضله وحوله ووده وحبه ومدده.
الخطوة الثانية :
على طريق الدَّواء وعلى طريق العلاج في زمان الفتن الذي نعيشه:
أن تحرص على تحقيق الإيمان وتجديده.
فثمَّ: تحقيقٌ للإيمان، وثمَّ: تجديدٌ للإيمان؛ فالصَّحابي يوم يلقى أخاه ويقول له هيَّا نؤمن ساعة، هو لا يقصد تحقيق الإيمان، وإنَّما يقصد تجديد الإيمان، هيا بنا نجلس ونتذاكر ونذكر ربنا ونبينا؛ لنجدد الإيمان في قلوبنا؛ لأنَّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأنت طوال جلوسك في المسجد، في المعتكف، مع كتاب الله، أو في مجلس علم تسمع عن الله، تسمع عن رسول الله، الإيمان في زيادة ما شاء الله، "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم"، والآيات كثيرة جدا في قضية زيادة الإيمان.
إذن فالمطلوب: تحقيق الإيمان، وليس هذا فحسب، بل مطلوب أن نُجدد الإيمان.
كيف نُجدِّد الإيمان؟
بالإعمال الصالحة، أعمال الطاعات، والبعد ما استطعنا عن بيئة المعاصي؛ لأنَّها تُضعف الإيمان في القلب، وربما تقضي على الإيمان في القلب، اسمع ماذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الإيمان ليَخْلَقُ في جوفِ أحدكم كما يخلق الثَّوب)، يا الله!، (إنَّ الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثَّوب)، أي: كما يبلى الثوب، (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، النَّبي يقول هذا ولستُ أنا، (فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم)، اللهم جدِّد الإيمان في قلوبنا ياربَّ العالمين.
طيب لماذا أقول الإيمان؟!
لأنَّ الإيمان هو صمام الأمان لنا من الفتن، من فتن الشهوات والشبهات، ما الدليل على ذلك؟، اقرأ قول الله ـ جلَّ وعلا ـ : "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه" ، آية جميلةٌ جدًّا، "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه"، إذن ثمرة الإيمان ـ إن حققته ـ هي: هداية القلب، فالإيمان ثمرةٌ للهداية، الهداية ثمرة للإيمان، والإيمان سبب للهداية، والهداية سببٌ للإيمان، "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه"، أتدري ما المقصود بالهداية هنا؟؛ لأنَّ الهداية أربعة أنواع، ليس موضوعنا الآن، لكن المراد بالهداية في الآية: هداية التوفيق، الله أكبر، أتعلم أنَّ هداية التوفيق هذه التي أنت تدعو ربنا في كل ركعة من ركعات الصلاة الفرض والنافلة أن يرزقك إياها وأنت تقرأ قوله تعالى : "اهدنا الصراط المستقيم"، هذه هي هداية التوفيق.
ما هداية التوفيق؟
يقول شيخ الإسلام: (هداية التوفيق هي جَعْلُ الهدى في القلب)، يعني: الله جلّ وعلا يجعل الهدى في قلبك جَعْلاً، يعني في كُلّ لحظةً تتكلم فيها أو تعمل فيها رب العزة يهديك إلى ما يُرضيه، هل أنتم معي يا أخواني!، والله العظيم هذا كلامٌ خطيرٌ جدًّا!، والله كلامٌ لو انتبهت إليه في منتهى الخطورة.
هداية التوفيق معناها: أن يرزقك الله في كُلّ نفسٍ من أنفاس حياتك ما ترضيه به، في قولك وفعلك وحالك.
هذا مقامٍ عالٍ جدًّا، بل هو أعلى مقام، بل إنِّها الغاية، فهذه أشرف نعمةٍ، وأجلُّ نعمة، أن يهديك الله صراطه المستقيم، صراط النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسنَ أولئك رفيقًا.
هذه هي الغاية؛ فليس ثمّة عبدٌ وحَّد وصلى وزكى وصام واعتمر وحج إلا لأجل أن يرزقه ربه هذه الغاية، هذه الهداية، إذن نعمة الهداية تتحقق بتحقيق الإيمان، فيهدي الله قلبك، ويثبّت قلبك على ما يُرضيه ، "ومن يؤمن بالله يهدِ قلبه".
فالهداية ـ سبحان الله ـ تأتي، لكن يجب عليك أن تطرق الباب، وتخطو الخطوة الأولى على طريق الإيمان.
شبابنا وأحبابنا ـ كثيرًا ما تأتيني أوراقٌ، وسامحوني فإني لا أستطيع قراءة كُلَّ الأوراق التي تأتيني فهي كثيرةٌ جدًّا، وربنا يعلم لا يوجد وقتٌ حتى للنَّوم؛ فسامحوني إذا جاءتني أوراقٌ ولم أقرأها حتى هذا الحين، لكن ـ بقدر الله ـ أقرأ ما تيسّر، شابٌ يشربُ المخدرات، ويزني، ويشرب خمر، وذكرناه، ولا فائدة.
انتبه فهاهنا العلاج، أنت حبيبي في الله لم تخطُ خطوةً واحدة على طريق الإيمان، أنت تسأل عن النتيجة ولم تحقق بعد المقدمات ولا حققت الشَّرط، وهل حققت الشرط حتى يُعطيك ربنا النتيجة؟!
وهل جاهدت في الله ، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"، هل جاهدت ؟.
أنت لم تجاهد، لم تجاهد نفسك، ولم تجاهد هواك، ولم تجاهد شيطانك، ولم تجاهد صُحبة سوء، بل لازلت غارقًا، "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم"، "بل طبع الله عليها بكفرهم"، " وأمَّا ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون"، الجزاءُ من جنس العمل، أنت ستخطو إلى الله، انظر ماذا يقول لك ربك: (أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبرًا، تقربتُ منه ذراعًا، وإن تقرّب مني ذراعًا، تقرّبت منه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).
فلتبدأ إذن؛ فإنَّك لم تخطُ الخطوة الأولى على الطَّريق، اخطُ الخطوة الأولى على طريق الإيمان، وسترى النُّور والهداية والتثبيت والتَّوفيق وانشراحَ الصَّدر، وخشية القلبِ، وبكاءَ العين، ولذَّة الطَّاعة، وحلاوةَ الأنسِ به، وحلاوة الأنس به في الخلوة، سترى كل ما تشتاق إليه، لكن اخطُ الخطوة الأولى على الطَّريق، واعلم بأنَّ الملك سيمنحك من فضله، وإذا جاءتْ الهدية من الملك جاءتْ مُضمخة بطيبه؛ فكيف إذا كان العطاء لك مِنْ مالك الملك، وملكِ الملوك، كيف يكون عطاؤه؟، كيف يكون فضله عليك؟، سُبحانه وتعالى، ليس عليك إلا أن تخطو فقط.
(قصة مُؤثِّرة):
ابنٌ من أبنائنا، يقسم لي بالله، وهو طالبٌ من طلابي الآن، كان عندنا محاضرة في قرية في المنصورة عندنا اسمها (بيت الكرماء)، بعضكم يعرفها أكيد، قرية (بيت الكرماء)، عندي محاضرة، فالشباب استحلفوني بالله أن يكون موضوع المحاضرة في (وفاة النبي )، موضوعٌ مُؤثرٌ، ورقيقٌ وجميلٌ، ومبكٍ للعيون والقلوب؛ فقلتُ لهم: خلاص، على بركة الله، اعملوا إعلانات المحاضرة عن وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وذهبتُ ما شاء الله الزحام شديدٌ، ما شاء الله أهل مصر أهل خيرٍ وبركةٍ، ما نذهب إلا مكانٍ إلا ونجدُ الآلاف، بل ولا أبالغ إن قلتُ عشرات الآلاف، ولا أبالغ إن قلت مئات الآلاف بفضل الله، أسأل الله أن يحفظنا وأن يثبتنا وإياكم على الحقّ، المهم ألقيتُ المحاضرة، وبعد إلقائي للمحاضرة وجدتُ شابًا مُصرًّا بكل الطُّرق أن يكلمني، وبطريقة عنيفة جدًّا، فقلتُ لهم: اتركوه يا إخواني، وقلت له: تعال تفضل، تفضل يا أخي، فبدأ في الكلام معي، ويقول: يامولانا، ويبكي بكاءً شديدًا جدا جدا، يُقسم لي بالله ويقول: أنا كنتُ خارجًا أنا واثنين من زملائي الآن قبل المغرب بساعة ونصف، وأنا في جيبي نصف كيلوا من الحشيش (الأفيون)، وخرجنا نحن الثلاثة نقطعه قطعا صغيرة ونبيعه على أماكن معروفة لدينا، قال: ونحن طلعنا كل ما نمشي نجد الذقون تملأ البلد ـ يعني أصحاب اللِّحى ـ فقلتُ: ماذا هناك؟، ما الذي أخرج الذقون من جحورها هكذا؟
هم كالنمل يملؤون الشَّوارع ، فماذا هناك؟
قال: ووجدنا شيخًا فقلنا: ماذا هناك يا مولانا؟ إلى أين هم ذاهبون؟
فقال الشيخ: ألا تعلم أن هناك محاضرةً.
قال الرّجل: ما تقصد بالمحاضرة؟
قال الشيخ: يعني درسٌ.
فقال الرجل: أين هو؟ قال الشيخ: في المسجد الفلاني.
قال الرجل: لمن الدرس؟ قال الشيخ: للشيخ محمد حسان.
فقال الرجل: وماذا يبيع هذا؟!
(ضحك هنا الشيخ محمد حسان وقال: أبيعُ علمًا)
يقول الرَّجل: مشينا، ثم وقفنا على الطريق الرَّئيسي لنستأجر حافلة إلى المنصورة، وقال سبحان الله يا مولانا، ولأول مرة تحصل، نقف عشر دقائق، ربع ساعة، ثلث ساعة، نصف ساعة، كل الحافلات مليئة بالركاب، فقلتُ للأخوين اللذين معي ما رأيكم أن نرجع إلى البلد نرى ما الذي يحصل عندنا اليوم، وبعد العشاء عندما تظلم المنطقة ننزل مرة أخرى لنرى مصالحنا، (قال الشيخ محمد حسان وهو يبتسم: مصالح ماذا يا رجل، هداك الله).
يقول الرجل: جلستُ أنا والاثنين اللذين معي خارج المسجد في الخيمة نستمع. قال الشيخ محمد حسان: وقال لي الرجل عبارةً ـ والله لن أنساها أبدًا ـ: قال والله يا شيخ كنت تتكلم عن موت النبي، والله يا شيخ شعرت أنني بداخل الغرفة التي فيها النبي وأنا أراه أمامي، وبكيتُ كأني لم أبكِ في حياتي من قبل.
قال الشيخ محمد: الموضوع مُزلزلٌ حقيقةً، والذي يعيشه سيرتج قلبه، فبكى الرجل وقال: سمعتُ أذان العشاء، فدخلت الخلاء ورفعتُ جنابة الزنى، وميت نصف كيلوا الأفيون في الخلاء ـ في الحمامات القديمة الواسعة في عين الحمام ـ، وطلعتُ أصلي العشاء، لأول مرة في حياتي أصلي!
قال الشيخ حسان: الرجل هذا على ما أظنّ خريج كلية تجارة، لا أذكر جيدًا والله، رزقنا الله الصدق، المهم أنه يقسم لي بالله أنه أوّل مرة يصلي، لا يعرف الصلاة، وشرح الله صدره، هذا الأخ الآن من طلاب العلم، صاحب لحية وزوجته مُنتقبة، وخذ الأعجب من هذا: عنده طفلان يحفظان القرآن كاملاً.
من تجار أفيون ومخدرات، ربنا شرح صدره.
لماذا لا نسمع؟
يا أخي تعال اسمع، الشاب المُعرض هذا اقترب واسمع، اسمع فقط، اجلس في هذه البيئة الجميلة، بيئة العلم، بيئة الإيمان، بيئة الطهر، بيئة السنة، اسمع كلمة، لو رجعتَ إلى سبب التزامك وهدايتك ستجده كلمةسمعتها من عالم أو من أب أو أم، رأيتها بعينك؛ فالكلمة مرئية ومسموعة.
بين الجوانح في الأعماق سُكناها .. فكيف تُنسى ومَن في الناس ينساها
الأذن سامعة والعين دامعة .. والروح خاشعة والقلب يهواها
فقط تعال وصلِّ معنا مرة، اجلب ابنك، اجلب زميلك، قل له تعال يا ابني صلِّ معنا الفجر مرة، تعال يا ابني اسمع معنا عن الله ورسوله، تعال وارفع أكفَّ الضراعة وقل: يارب! ، يارب أنا ضعيف قوّني، يارب أنا منكسر بين يديك،
يا رب اعترف لك بذنوبي وعجزي وفقري وتقصيري، يارب خذ بناصيتي إليك!، يارب حول قلبي بالرضا والحب إليك.
والله العظيم، والله لو صدقتَ الله صدقك، مَنْ توكَّل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومَن فوّض إليه الأمر هداه، قال جلا علاه : "أليس الله بكاف عبده"، بلي والله!.
فيا أحبابي، الجرعة الثَّانية من جرعات الدَّواء، ولن أثقل عليكم لأنَّ الدَّواء إذا زاد أتعب، تكفي هاتان الجرعتان:
· الجرعة الأولى: صدق الاستعانة بالله، والتبرّؤ من الحول والطول، واطرح قلبك بين يديه بذلٍّ وانكسار.
· الجرعة الثَّانية: تحقيق الإيمان، وتجديد الإيمان؛ لأنَّ الله يقول: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه".
ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يثبتنا وإياكم.
نريد أن ندعو الله لأهلنا في ليبيا أن يتم الله عليهم الخير والبركة، اللهم أتمم عليهم نصرهم، وأتمم عليهم بركتك، وأتمم عليهم فضلك، وأتمم عليهم نعمك، واحقن دماءهم يا رب العالمين، اللهم احقن دماء المسلمين الليبيين في طرابلس وفي كل أرجاء ليبيا، واحقن دماءهم في سوريا، واحقن دماءهم في اليمن، وفي مصر، وفي كل مكان، وأسأل الله لأولادنا الذين قتلوا على أرض سيناء، أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء، أسأل الله أن يتقبلهم عنده في الشهداء، أسأل الله أن يخزي اليهود، وأن يرينا فيهم يومًا كيوم بني قريظة، وبني النضير، ويوم خيبر، إنَّه ولي ذلك والقادرُ عليه، وأسأل الله أن يتقبل مني ومنكم جميعًا صالح الأعمال.
ولا أنسى أن أدعو الله لمرضانا أن يشفيهم، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم موتانا وموتى المسلمين، واستر نساءنا وبناتنا، وأصلح شبابنا، ورب أولادنا، يا أرحم الرَّاحمين.
تمّ التفريغ في :
4-9-21011
والحمد لله ربِّ العالمين ..