د محمد الجبالي
Well-known member
تغير السياق الإعرابي لداعي المدح أو الذم
من لطيف براعة القرآن وبلاغته أنه لا يترك أذن السامع تسترسل على سياق واحد، فتألف، وتركن، فتغفل عن بعض ما يجري به السياق من معان ذات أهمية خاصة، وإنما يعمد إلى مُنَبِّهات يطرق بها قلب القارئ أو السامع وأذنه فَيَتَنَبَّه، ويتوقف ليتساءل: لماذا؟
فينظر، ويتأمل، ويبحث، فيجد نفسه يقف على نكتة معنوية بارعة، ولفتة بلاغية بديعة، من ذلك التنبيه بالأدوات، والتنبيه بالالتفات، والتنبيه بالمقابلات، وغير ذلك من ألوان وأشكال التنبيهات في الأسلوب القرآني.
ويوجد نوع آخر لطيف، يروق لي أن أسميه التنبيه بالانعطاف الإعرابي، وفيه ينساق القارئ والسامع على نهج إعرابي واحد مدة، ثم فجأة يتغير هذا النهج فيجد القارئ والسامع نفسه على منعطف إعرابي مغاير لما أَلِفَتْهُ أُذُنُه، وتَفَاعَلَ معه قلبُه.
وإليكم أمثلة ثلاثة من كتاب الله:
المثال الأول: قول الله تعالى:
[{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا]} [النساء: 162].
تأملوا معي هذه المعطوفات: [الراسخون .. والمؤمنون .. والمقيمين .. والمؤتون .. والمؤمنون ..] إن السياق النحوي الإعرابي في الآية يسير على نهج واحد [الرفع] من أول الآية حتى آخرها باستثناء تلك الانعطافة في وسط الآية [والمقيمين]، فلماذا؟
والجواب لدى أكثر المفسرين: أن نصب [المقيمين] ورد على المدح، بإضمار فعل [أعني أو أَخُصُّ] بغرض تعظيم شأن مقيمي الصلاة. قال الزمخشري: "{ وَالمقيمين } نصب على المدح لبيان فضل الصلاة".
وقال ابن عطية: "وإنما هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب بأعني ، والرفع بعد ذلك بهم ، وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة ، وحكي عن سيبويه : أنه قطع على المدح".
وقال الشوكاني رحمه الله: "واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال : الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح ، أي : وأعني المقيمين . قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم"
المثال الثاني: قول الله تعالى:
{[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}] [البقرة: 177]
تأملوا معي السياق النحوي الإعرابي في الآية، فقد جرى على الرفع مِن اسم الموصول [مَنْ] أول الآية: [لكن البر من ... والموفون .... والصابرين ...] فلماذا نصبت [الصابرين] وهي معطوفة على مرفوع؟!
والجواب لدى أكثر المفسرين: أنه لمدح الصابرين في هذه الأحوال والثناء عليهم، قال ابن كثير رحمه الله: "وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته". وقال الثعلبي: "وقال الخليل بن أحمد والفرّاء: نصب على المدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذّم كانّهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه بأول الكلام فينصبونه".
وللشيخ الشعراوي كلام أكثر وضوحا، قال رحمه الله: "ولنا أن نلحظ أن الحق جاء ب {والموفون بِعَهْدِهِمْ} مرفوعة لأنها معطوفة على خبر لكن البر، فلماذا جاء {والصابرين} منصوبة؟ فماذا يعني كسر الإعراب؟ إن الأذن العربية اعتادت على النطق السليم الفصيح فإذا كان الكلام من بليغ نقول: لم يكسر الإعراب هنا إلا لينبهني إلى أن شيئاً يجب أن يفهم، لأن الذي يتكلم بليغ ومادام بليغاً وقال قبلها : {والموفون} ثم قال: {والصابرين} فلابد أن يكون هناك سبب ، ما هو السبب؟
إن كل ما سبق مطيةُ الوصول إليه هو الصبر ، إيتاء المال على حبه ذوي القربى و .. و .. ولذلك أراد الله أن ينبه إلى مزية الصبر فكسر عنده الإعراب ، وكسر الإعراب يقتضي أن نأتي له بفعل يناسبه فجاء قوله تعالى : والصابرين} وكأن معناها: وأخص الصابرين، ومدح الصابرين".
المثال الثالث: قول الله تعالى في سورة الأحزاب:
{[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)}
تأمل المحل الإعرابي الذي نزلت فيه كلمة [ملعونين]،
إن السياق يقتضي الرفع [ملعونون]، فيكون التقدير: هم ملعونون، إلا أن السياق القرآني عدل عن الرفع إلى النصب ذما لهم وشتما وتقبيحا. قال الزمخشري غفر الله له ورحمه: "{مَلْعُونِينَ} نصب على الشتم أو الحال، أي: لا يجاورونك إلاّ ملعونين، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً"
والله أعلم
د. محمد الجبالي
من لطيف براعة القرآن وبلاغته أنه لا يترك أذن السامع تسترسل على سياق واحد، فتألف، وتركن، فتغفل عن بعض ما يجري به السياق من معان ذات أهمية خاصة، وإنما يعمد إلى مُنَبِّهات يطرق بها قلب القارئ أو السامع وأذنه فَيَتَنَبَّه، ويتوقف ليتساءل: لماذا؟
فينظر، ويتأمل، ويبحث، فيجد نفسه يقف على نكتة معنوية بارعة، ولفتة بلاغية بديعة، من ذلك التنبيه بالأدوات، والتنبيه بالالتفات، والتنبيه بالمقابلات، وغير ذلك من ألوان وأشكال التنبيهات في الأسلوب القرآني.
ويوجد نوع آخر لطيف، يروق لي أن أسميه التنبيه بالانعطاف الإعرابي، وفيه ينساق القارئ والسامع على نهج إعرابي واحد مدة، ثم فجأة يتغير هذا النهج فيجد القارئ والسامع نفسه على منعطف إعرابي مغاير لما أَلِفَتْهُ أُذُنُه، وتَفَاعَلَ معه قلبُه.
وإليكم أمثلة ثلاثة من كتاب الله:
المثال الأول: قول الله تعالى:
[{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا]} [النساء: 162].
تأملوا معي هذه المعطوفات: [الراسخون .. والمؤمنون .. والمقيمين .. والمؤتون .. والمؤمنون ..] إن السياق النحوي الإعرابي في الآية يسير على نهج واحد [الرفع] من أول الآية حتى آخرها باستثناء تلك الانعطافة في وسط الآية [والمقيمين]، فلماذا؟
والجواب لدى أكثر المفسرين: أن نصب [المقيمين] ورد على المدح، بإضمار فعل [أعني أو أَخُصُّ] بغرض تعظيم شأن مقيمي الصلاة. قال الزمخشري: "{ وَالمقيمين } نصب على المدح لبيان فضل الصلاة".
وقال ابن عطية: "وإنما هذا من قطع النعوت إذا كثرت على النصب بأعني ، والرفع بعد ذلك بهم ، وذهب إلى هذا المعنى بعض نحويي الكوفة والبصرة ، وحكي عن سيبويه : أنه قطع على المدح".
وقال الشوكاني رحمه الله: "واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال : الأوّل قول سيبويه أنه نصب على المدح ، أي : وأعني المقيمين . قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم"
المثال الثاني: قول الله تعالى:
{[وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}] [البقرة: 177]
تأملوا معي السياق النحوي الإعرابي في الآية، فقد جرى على الرفع مِن اسم الموصول [مَنْ] أول الآية: [لكن البر من ... والموفون .... والصابرين ...] فلماذا نصبت [الصابرين] وهي معطوفة على مرفوع؟!
والجواب لدى أكثر المفسرين: أنه لمدح الصابرين في هذه الأحوال والثناء عليهم، قال ابن كثير رحمه الله: "وإنما نُصِبَ { وَالصَّابِرِينَ } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته". وقال الثعلبي: "وقال الخليل بن أحمد والفرّاء: نصب على المدح والعرب تنصب على المدح وعلى الذّم كانّهم يريدون بذلك إفراد الممدوح والمذموم ولا يتبعونه بأول الكلام فينصبونه".
وللشيخ الشعراوي كلام أكثر وضوحا، قال رحمه الله: "ولنا أن نلحظ أن الحق جاء ب {والموفون بِعَهْدِهِمْ} مرفوعة لأنها معطوفة على خبر لكن البر، فلماذا جاء {والصابرين} منصوبة؟ فماذا يعني كسر الإعراب؟ إن الأذن العربية اعتادت على النطق السليم الفصيح فإذا كان الكلام من بليغ نقول: لم يكسر الإعراب هنا إلا لينبهني إلى أن شيئاً يجب أن يفهم، لأن الذي يتكلم بليغ ومادام بليغاً وقال قبلها : {والموفون} ثم قال: {والصابرين} فلابد أن يكون هناك سبب ، ما هو السبب؟
إن كل ما سبق مطيةُ الوصول إليه هو الصبر ، إيتاء المال على حبه ذوي القربى و .. و .. ولذلك أراد الله أن ينبه إلى مزية الصبر فكسر عنده الإعراب ، وكسر الإعراب يقتضي أن نأتي له بفعل يناسبه فجاء قوله تعالى : والصابرين} وكأن معناها: وأخص الصابرين، ومدح الصابرين".
المثال الثالث: قول الله تعالى في سورة الأحزاب:
{[لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)}
تأمل المحل الإعرابي الذي نزلت فيه كلمة [ملعونين]،
إن السياق يقتضي الرفع [ملعونون]، فيكون التقدير: هم ملعونون، إلا أن السياق القرآني عدل عن الرفع إلى النصب ذما لهم وشتما وتقبيحا. قال الزمخشري غفر الله له ورحمه: "{مَلْعُونِينَ} نصب على الشتم أو الحال، أي: لا يجاورونك إلاّ ملعونين، دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً"
والله أعلم
د. محمد الجبالي