محمود عبد الصمد الجيار
New member
بسم الله الرحمن الرحيم
تعليم العربية.. إلى أين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
فما أظن موضوع هذا المؤتمر في حاجة إلى شىء من تقديم، ذلك أن ثمة حقائق راسخة لا يجادل فيها أحد؛ منها أن العربية لغة طبيعية كغيرها من اللغات الطبيعية في العالم، لكنها في الوقت نفسه تكاد تمثل حالة «فريدة» لا يشركها فيها غيرها من اللغات؛ فهي اللغة المعاصرة الوحيدة التي اتصل تاريخها اتصالا كاملا دون انقطاع منذ وصلت إلينا نصوصها الأولى قبل ستة عشر قرنا من الزمان. ومنها أن العربية تحتل الآن مكانة بارزة في العالم المعاصر لأسباب موضوعية معروفة، ومع ذلك فإن «تعليم» العربية لا يرتقي إلى هذه المكانة، بل لا يصل إلى الحد الأدنى منها، وأراه وصل إلى مرحلة الداء العضال، ويكاد يبلغ حد الكارثة.
ويقتضينا الموقف أن نحاول «تشخيص» الحالة طريقا إلى تبين المستقبل المنشود، وقد يكون ضروريا أن نركز على العالم العربي الذي يفترض فيه أنه مسئول عن تعليم العربية وعن نشرها في العالم. ومن اليقين عندي أن وضع تعليم العربية في العالم العربي يهيمن عليه «غياب» العناصر الأساسية في التعليم اللغوي، وأشير هنا في إيجاز إلى أنواع هذا الغياب:
1- غياب التخطيط:
لا توجد في العالم العربي -ابتداء- جهة ذات كيان سياسي وعلمي تكون وظيفتها التخطيط للتعليم اللغوي، والمسألة -بأكملها- متروكة للتصورات الفردية، وللمُتوارث المتعارف عليه رغم التغير المستمر في أنماط الحياة، ومن ثم لا توجد -أصلا- لدى هذه الجهة غير الموجــودة، ولا عنــد من يحــل محلها أسئلة من مثل:
- متى يبدأ الأطفال تعلم العربية الفصيحة؟
- أيجوز أن يتعلم لغة أجنبية أخرى في سنواته الأولى؟
- إلى أي مرحلة يستمر تعليم العربية؟ إلى نهاية التعليم الثانوي؟ أم في التعليم الجامعي أيضا؟
- هل للتنوع الجغرافي والاجتماعي دور في «كم» التعليم اللغوي، وفي «نوعه»؟
- هل يكون تعليم العربية واحدا في المدارس على اختلاف أهدافها؟ التعليم المهني مثل التعليم العام؟
- هل يجب -في إيجاز- أن يكون هناك «قدر ما» مشترك يمثل نواة تعليم العربية في جميع المؤسسات على اختلافها وتنوع بيئاتها الإقليمية والاجتماعية؟ وما هذا القدر؟ وكيف نتوصل إليه؟
إذا كان ذلك كله غائبا في تعليم العربية لغة أولى فليس ثمة فرصة أن نتحدث -من داخل العالم العربي- عن تعليمها لغة ثانية.
إن أسئلة كثيرة غير هذه كان واجبا أن تشغل أصحاب «القرار» في المجتمعات العربية، غير أن غيابها يكشف عن غياب التخطيط، ومن ثم يفضي إلى كل درجات «الغياب» التالية.
2- غياب تصور علمي للتمويل:
وهذا هو المستوى الحيوي الأول الذي أدى غياب التخطيط اللغوي إلى عدم وجود تصور ما «لتمويل» تعليم العربية، بل قد لا يفكر أحد في أن يكون لتعليم العربية تمويل خاص مدروس أصلا، والتمويل الحكومي للتعليم في معظم البلاد العربية ضعيف إذا قورن بتمويل مجالات أخرى أو بتعليم اللغات في البلاد المتقدمة. ولم تتقدم المجتمعات العربية حتى الآن خطوة نحو تمويل «غير حكومي» يمكن أن يسد بعض النقص الذي ترجعه بعض الحكومات إلى دعوى «الأولويات» السياسية والاجتماعية.
3- غياب البحوث العلمية في تعليم العربية:
ونحن لا نعني تلك البحوث النمطية التي تخرجها لنا -كل يوم- كليات التربية وبعض أقسام اللغة العربية؛ فهي في معظمها تسير على نماذج «سابقة التجهيز» أعدت في الغرب في الأغلب الأعم بناء على أسس حقيقية هناك، ومهما يكن من أثر هذه الدراسات فهي في -معظمها- «تصف» حالا واقعة، وما يبدو في بعضها من «حلول» لمشكلات تعليم العربية لا يعدو أن يكون تصورات «اجتهادية» تفتقد المعطيات الأساسية التي نود الإشارة إليها.
غياب البحوث العلمية إذن شيء آخر نعني به ذلك العمل العلمي الذي «يسبق» العملية التعليمية من إعداد المعلم وتصميم المقررات واختيار المواد التعليمية وغيرها. لا يوجد في العالم العربي حتى الآن بحوث علمية حقيقية عن «اكتساب» الأطفال العرب للغتهم الأولى، ومن ثم لا يوجد تصور علمي عن «النمو» اللغوي لهم، والباحثون عندنا يطبقون -في غير تردد أو مراجعة- معايير «بياجيه» التي وضعها وفق دراسات على بيئات مختلفة مع عدم إنكارنا وجود ظواهر كلية universal وبخاصة في هذا المجال.
إن غياب مثل هذه البحوث لغياب التمويل وغياب تصور لدرجات التعليم اللغوي يترتب عليه دون شك عدم وضوح الرؤية -إن لم يكن انعدامها- فيما يجب أن نقدمه لهؤلاء الأطفال. ومن اللافت أن الأطفال الذين ينضمون منذ مرحلة «الحضانة» إلى مدارس متعددة اللغات يتقنون اللغات الأجنبية في مهارتي الاستماع والحديث في فترة وجيزة نسبيا، ولا يصلون إلى إتقان هاتين المهارتين في العربية في أية مرحلة من مراحل التعليم، وذلك يرجع جزئيا -على الأقل- إلى غياب البحوث العلمية في مجال الاكتساب اللغوي للعربية.
وليس في العربية -حتى الآن- متون لغوية Corpra في مراحلها التاريخية المتتابعة، وفي سنواتها المختلفة، مع سهولة هذا العمل الآن للتقدم الكبير في الحواسيب وقدراتها التخزينية الهائلة، وفي البرامج المختلفة التي طورها الباحثون في اللغات الأخرى؛ لأن الأمر كله يصعب إدخاله عقول أصحاب القرار في العالم العربي، وعقول أصحاب الأموال الذين قد يجدون في تمويل مثل هذه الأعمال إضاعة للمال واستجابة لأناس متخلفين لا يعيشون آليات السوق.
وغياب البحث العلمي العربي في المتون اللغوية الحاسوبية يترتب عليه ما يلي:
1- عدم وجود قوائم «للشيوع» اللغوي على مستوى «المفردات» وعلى مستوى «التركيب» وغيرها من مستويات الأداء اللغوي، ومثل هذه القوائم ضرورية جدا في «اختيار» المواد التعليمية للمراحل العمرية المختلفة, وللبيئات المتنوعة، وللأغراض الخاصة... إلخ.
2- عدم وجود «معاجم» عربية أحادية اللغة تقدم العربية وفق الاستعمال اللغوي وليس تلخيصا من المعاجم العربية القديمة. و«صناعة المعجم» Lexicography -على أية حال- لم تدخل بعد اهتمام أحد من أصحاب القرار، ومن ثم لا تجد تمويلا منهم ولا من غيرهم. ومعلوم أن صناعة المعجم صارت «علما» له إجراءاته وأدواته، من «جمع» المادة اللغوية، و«ترتيبها» و«شرحها» مما هو غائب حتى الآن في أماكن تعليم العربية في العالم العربي، ومن ثم نفتقد «العناصر» البشرية المدربة في هذا التخصيص، ويخلو الميـــدان للهـــــــواة الذين يضيـــفون -في الواقع- إلى المشكلة أبعادا أخرى نتيجة غياب الأسس العلمية.
ومعلوم -من بعد- أن «استخدام» المعجم «مهارة» تقتضي الممارسة المستمرة منذ الصغر، لذلك تعرف لغات العالم المتقدم معاجم للأطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، ومعاجم للمرحلة الابتدائية، وأخـــــرى للمرحلة المتوسطة، وهكذا.
وهذا كله غائب غيابا كاملا في العالم العربي؛ بل إن الطلاب المتخصصين في اللغة العربية يتخرجون دون أن يعرفوا كيف يستخدمون المعاجم العربية القديمة, وهي لا تزال المصادر الوحيدة المتاحة أمامهم، وكل ما صدر بعد ذلك من معاجم مستقى منها، إذ كيف يتصور انتاج معاجم حقيقية للعربية المعاصرة مثلا، أو معاجم للأطفال، أو معاجم لأغراض خاصة في غياب «المتون» اللغوية، وقوائم «الشيوع»؟
4- غياب المنهج العلمي في برامج تأهيل معلمي اللغة العربية:
وهو في الحقيقة غياب لتصور متكامل لهذا التأهيل، ومن اللافت أن الأقسام العلمية الجامعية التي يناط بها هذا العمل لم تفكر في تغيير برامجها نتيجة تغير أهدافها؛ بل ظلت على النحو الذي كانت عليه منذ إنشائها؛ فأقسام اللغة العربية في كليات الآداب مثلا لم يكن من أهدافها الأولى عند إنشائها تخريج معلم للعربية، ثم أصبح ذلك هدفها الوحيد تقريبا، ومع ذلك لم تحدث مواءمة بين البرامج والهدف الجديد، وازداد الأمر سوءا حين أنشئت كليات التربية وانتشرت انتشارا واسعا في العالم العربي، وضمت أقساما للغة العربية، وبدلا من أن تقدم برامج لتأهيل معلمي العربية نافست الأقسام التقليدية في كليات الآداب في الإغراق في النظريات الأدبية والنقدية والتيارات الفكرية، فإذا وضعنا ذلك كله في الإطار الغالب في التعليم في العالم العربي، وهو الإطار التلقيني الاستظهاري أدركنا أن برامج تأهيل معلمي العربية تقع في أكثر المستويات تخلفا في العالم المعاصر. وضعف التأهيل لم يدفع أحدا إلى التفكير في برامج خاصة بالتدريب «أثناء الخدمة» in service training وتُرك المجالُ للاجتهادات الفردية أو لبرامج مظهرية.
5- غياب خطط المتابعة والمراجعة:
ذلك أن ثمة شعورا مسيطرا أن تعليم العربية أمر فطري مستقر، وقد لا يتصور أحد أن مثل هذا الأمر يحتاج إلى خطط للمتابعة والمراجعة، فمثل هذه الخطط توضع للأمور «الأهم» في الزراعة والصناعة والاقتصاد وغيرها من المجالات التي يظنونها أركان التنمية وأنها تمس حياة الناس مسّّّّّا مباشرا. ومن ثم يصبح من الترف تصور خطط علمية لمراجعة تعليم العربية، ولنضرب مثالا واحدا بالمواد التعليمية -وهي عنصر واحد من عناصر التعليم اللغوي- فلا نجد عملا حقيقيا في مراجعة هذه المواد يستند إلى الأسس العلمية في هذا المجال.
6- غياب الربط العلمي بين التعليم والثقافة الخاصة:
قد يكون لازما أن نشير هنا إشارة موجزة إلى ظاهرة غالبة في العالم العربي تؤثر تأثيرا مباشرا على تعليم العربية، وهي ظاهرة تعليم المواد العلمية والطبية خاصة باللغة الإنجليزية، ورغم الدعوات المستمرة إلى ضرورة «تعريب» هذه العلوم وتعليمها بالعربية فإن أصحابها يتمسكون بأسباب غير علمية للاستمرار فيما هو قائم، ولا يشعر إلا قليل منهم أن «العلوم» يجب أن «تسكن» اللغة، وأن تعليمها بغير لغة أصحابها يجعلهم دائما «مستهلكين» لإنتاج الغير, وفي حالة «انتظار» دائم لما يقدمه الآخرون. على أن الذي يهمنا هنا أن هذا الأمر يضعف من «دافعية» تعلم العربية إذ يستقر في وجدان الطالب في التعليم العام عدم جدوى بذل الجهد في تعلم العربية، وهي لن تكون واسطة التعليم إذا اتجه إلى دراسة العلوم المذكورة.
لقد عمدنا أن يكون الحديث عن «تخطيط لمستقبل تعليم العربية» موجزا أشد الإيجاز، لأنا نرى أن التخطيط يجب أن يكون كذلك فعلا؛ بعيدا من التفصيلات الجزئية التي ترهقه والتي قد تشتت التمسك بالخطوط العامة البارزة التي تمثل حدودا حاسمة، وعلى الرغم من شعورنا المسيطر بصعوبة تحقيق الذي نراه فإنا نود أن نشير إلى بعض العناصر الكبرى التي قد تسهم في تمهيد الطريق نحو تغيير هذا الشعور، وهي عناصر ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والموقع العام للعربية:
1- لاشك أن ارتباط العربية بالتاريخ جعلها حالة فريدة بين اللغــــــــات المعاصرة المعروفة عالميا؛ إذا لا تزال العربية متصلة الحلقات في التاريخ منذ ما يزيد على ستة عشر قرنـا منها قرن ونصــــــف على الأقل قبل الإسلام. ومثل هذا الارتباط -عند بعـــض أولي النظر- قد يحمل عنصري قوة وضعف، غير أنه -في التحليل النهائي- لا يتجاهل أهمية البعد التاريخي، بل يراه عنصرا أساسيــا في التخطـــيط للمستقبل.
2- وتأتي «الجغرافيا» لتدعم عاملي القوة والضعف في البعد التاريخي، فالعربية تعيش لغة أولى على امتداد جغرافي واسع في آسيــــــــا وإفريقيا، ولا نذكر هنا انتشارها لغة أولى علي امتداد جغرافـــــــي أوسع في القديم؛ في أوروبا، وأواسط آسيا وشرقها. وإن كنــــا لا نستطيع استبعاد هذه الحقيقة في التأثير على مستقبل تعليم العربية؛ لأن هذا التعليم سوف يرتبط -ولو جزئيا- بهذه البلاد؛ فالعربيــــة التي سوف توجه إلى باكستان، أو إيران، أو أوزبكستان، أو ماليزيـــا، وإندونيسيا، أو أسبانيا، ومالطة- لابد أنها سوف تتأثر بما خلقته العربية هناك.
3- «مركزية» العربية في الحياة العربية المعاصرة نتيجة الوجـــــــود الأجنبي المتلاحق في العصر الحديث بأشكاله المختلفة: التركيـــة، والفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، وإحساس العرب بأن هناك من يتربص بلغتهم وصولا إلى تغيير أنماطهم الثقافية، وقد ازداد هــذا الإحساس بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والدعوة الأمريكية -على وجه الخصوص- إلى «تجديد» «الخطاب» العربي فـي مجالات كثيرة مما جعل الناس يشعرون أن «عربيتهم» هي الهدف الأول في هذا «التجديد» باعتبارها «الحامل» الأكبر «للثقافة»، خاصة أنهم رأوا خطوات عملية تجري استجـابة لهـذه الدعــوة فـي بعض بلدان الخليج؛ فكان رد الفعل -كالعادة- عالي الصوت فــي ضرورة الاستمساك بالعربية في مواجهة ما يظنـونـه طوفـانا قـادما باعتبارها الحصـن الذي «يعتصمــون» به في مثــل هـذه الحـال.
من هنا تزداد كل يوم «مركزية» العربيـــة -وإن كان في أشكـال عاطفية غالبا- مما لابد من حسابه داعما للتخطيط لمستقبل تعليم العربية.
يضاف إلى هـذه العناصــر الثابتـة أو شبه الثابتــة عـدد مـن المتغيرات الحديثة التي قد تعين على تغيير الحالة غير الإيجابية التي أشرنا إليه من قبل، ولعل أهم هذه المتغيرات ما يلي:
1- النظام العالمي الجديد، وما يحمله من «ضغوط» على اللغات والثقافات الخاصة نتيجة العولمة والتطور الهائل في الاتصال والمعلومات.
وهذا المتغير -على سطوته أو لسطوته- بدأ يولد ردود فعل قوية، وبخاصة في اللغات ذات التاريخ الطويل وذات الصبغة الدينية والتراث الثقافي، ولعل العربية تمثل أبرز مثال على ذلك مما بدأ ينتج دوافع قوية جـدا نحـو الدفـاع عنها ورفـض الذوبــان في لغـة عالمـية، خـاصة حـين يـوضع الأمـر في إطــــار «صــراع» الحضارات أوحتى «حوارها». وقد يكــون هذا المتغير وحـده كافيــا لأن يفـكـر العالم العربي في الدخول إلى عصر «العلم» في تعليم العربية.
2- تنامي التيارات الإسلامية -بصورها المتعددة- سواء أكان ذلك التنامي ذاتيا أم كان رد فعل للأوضاع العالميـة المعاصـرة. وهــذا المتغيـر يصحـبـه فـي الأغلـب اتجــاه نحـو التشـتت بقيـم الماضي الذي تحمـله -في الأساس- اللغة العربية، وقد بدأت مظاهر ذلك في الانتشار في استعمال العربية الفصيحة في الحياة اليومية بين الأجيال الجديدة التي تنتمي إلي هذه التيارات، وفي الإقبال العام على تعلم العربية.
3- دخول العالم العربي منظومة الاتصال العالمي الحديث مما جعل المعرفة تقترب إلى حد ما من كل بيت. صحيح أن نتائج ذلك قد لا تظهر سريعا، لكنها تزرع نماذج معرفية أمام الجيل الناشئ بحيث يجوز لنا أن نتصور ظهور عقليـة «علميـة» فطريـة مكتسبـة نتيجة «التعـرض» المستـمـر لمخرجات الاتصال الحديث. ومثل هذا التوجه سوف يضع الأشياء على الطريق، ومنها تعليم العربية الذي لا يمكن أن يخرج على المنظومة العامة عند اكتمالها، ولقد بدأت في الأفق ظواهر واضحة بين الشباب في العـــالم العربي، إذ بالرغم من سيطرة الاتجاهات التقليدية، فإن أعدادا غير قليـــلة تتمتع الآن بالرغبة القوية في ملاحقة العصر، وأصبح استـخـدام الثقـافـــة الحديثة علامة فارقة بين الشباب يمكن استثماره في تطوير تعليم العربية في المستقبل؛ لأنه يؤسس قيما علمية تتخلص من الانطباعية والذاتية وتلتـــزم الإجراءات العلمية الموضوعية.
4- بداية ظهور بحوث علمية جديدة تتصل باللغة الإنسانية لم يكن للعالم العربي الحديث بها عهـد، مثـــل البحوث الخاصة بالاكتســاب اللغـوي، وأمـراض التخاطب، وعلم اللغة الحاسوبي، وعلم اللغة النفسي، وتحليل الخطاب...، وغيرها، وكل أولئك سوف يصب في نهر تطوير تعليم العربية؛ لأنه يؤسس اقتناعا عاما بضرورة الاهتمام بالأعمال العلمية «القبلية»، وهي تلك التي تسبق العملية التعليمية مما أشرنا إليه في موضعه.
5- بداية ظهور إحساس قوي بأهمية العلوم «البينية» interdisciplinary في العصر الحديث مما يمكن التخلص من العمل العلمي الفردي والاقتناع بضرورة عمل الفريق الذي يتكون من تخصصات مختلفة، وهذا الاتجاه الجوهري قد يستغرق وقتا حتى يكون له تحقيق بارز في الحياة العلميـــة العربية وبخاصة في تعليم لغتها، لأسباب كثيرة، ليس هذا موضع عرضها ومناقشتها.
هذه هي الصورة العامة لتعليم العربية في العالم العربي الآن، وهي الصورة التي يُفترض أننا نصدر عنها في محاولة «للتخطيط لمستقبل تعليم العربية» والذي لا شك فيه أن «تشخيص» الحالة ضروري جدا في التخطيط للمستقبل، ومن الواضح أن هذا التخطيط لابد أن يستند إلى التخلص من مجموعات «الغياب» التي عرضناها, و«استحضار» العناصر الأساسية في التعليم اللغوي.
أود أن أسرع فأقرر أن ثمة حقيقة ماثلة واضحـة غـايـة الوضوح؛ وهي أن «التخطيط لمستقبل تعليم العربية» ليس مرهونا على معرفة الحلول للمشكلات القائمة؛ فقد عقدت مؤتمرات كثيرة، وورش عمــل متنوعة، وحلقات بحــث، نوقشت فيها هذه المشكلات، ووضعت لها الحلول، ومعظم المتخصصين علي بينة من ذلك كله؛ لكنهم في الوقت نفسه يدركون أن الأمل ضعيف جدا في تحقيق شيء مما درسوه وناقشــوه، ذلك لفقـــدان «الاتجاه» في العالم العربي، وبسبب انعدام الإحساس بالمشكلة ابتداء.
ومهما يكن من أمر فإن التخطيط لمستقبل تعليم العربية يتوقف على حل واحد لا نرى الآن غيره؛ إنشاء هيئة عليـــا مـركـزية، تشبـه المجـلس البريطـــاني مثلا British Council أو الهيئات الأخرى المناظرة في لغات العالم المتقدم، يمكن أن نطلق عليه «المجلس المركزي للعربية»، أو اسما قريبا من ذلك، ويجب أن يتوافر فيه ما يلي:
1- أن يكون جهة غير حكوميـة، مستقـــلا استقــلالا كامـلا عن الأجهـــزة السياسية والإدارية في العالم العربي.
2- أن يكون له تمويل كاف مستقر يمكنه من النهوض بأعماله على درجة عالية من الكفاءة والاستمرار.
3- أن يعمل فيه متخصصون متفرغون -في مستويات مختلفة- مع التحذير من شيئين؛ أولهما عدم اللجوء إلى أساتـذة الجامعـات؛ فهـم في الأغلـب الأعم لا يصلحون لهذا العمل، أو لا يملكون الوقت الكافي اللازم للوفـاء به. وثانيهما عدم الخضوع للتقاليد السائده من تقسيم العمل وفق «أنصبة» معينة لكل بلد عربي، شأن ما هو مألوف في مؤسسات الجامعة العربية مثلا، إذ يجب ألا يشغل أي عمل في هذا المجـلس إلا مـن تتـوافر فيـــه الشروط العلمية اللازمة.
4- أن يكون له مركز رئيسي، يختار له مكان بعيد عن التأثيرات الحكومية، وتكون له فروع في داخل العالم العربي وخارجه.
وقد نرى تحديد مسئوليات هذا المركز على النحو الآتي:
1- أن يكون الجهة الوحيدة المسئولة عن تعليم العربية لغة أولى ولغة ثانية.
2- أن يضع الخطط القريبة والبعيدة في المجالين، وأن يكون لديه جهاز قوي للمتابعة والمراجعة.
3- أن يضع في صدارة مسئولياته إجراء البحوث الضرورية في تعلــــــيم اللغات مما أشرنا إلى بعضه آنفا وبخاصة فيما يتصل بالمتون اللغوية، والتغير اللغوي، وتنوعه، واكتساب اللغة، وغيرها وغيرها، ممــا هو شائع الآن في العالم المتقدم. على أن يكون ذلك عملا مستمرا متطورا يسعى إلى غرس قيم البحث الجماعي، وتأهيل معايير العلوم التطبيقية باعتبارها علوما بينية.
4- وضع البرامج الخاصة بتأهيل معلمي العربية، وتدريبهم أثناء الخدمة، والإشراف عليها.
5- الإشراف على تصميم المقررات، واختيار المواد التعليمية، ووسائل الاختبار.
6- الاهتمام بتقنيات التعليم اللغوي الحديثة، وتطويرها، واستثمارها في تقوية إسهام العربية في أوجه النشاط العالمي.
7- وضع نظام قوي لعقد المؤتمرات، والندوات، وورش العمل, وحلقات البحث بصورة منتظمة منتجة.
8- التشجيع على إنشاء رابطات لمعلمي اللغة العربية داخل العالم العربي وخارجه، تتناسق جهودها في تطوير تعليم العربية.
9- أن يكون له جهاز قوي للاتصال، يكون وسيلة سهلة سريعة متصلة بالباحثين والمعلمين والدارسين.
10- أن ينشئ مركزا قويا للنشر العلمي بأنواعه المختلفة، المكتوبة، والمسموعة، والمرئية، والإلكترونية.
وبعد, فلعل هذا الذي قـدمناه يمثــل «وجهة نظر» نابعة من قلب العـــالم العربي عن «تخطيــط لمستـقبـل تعليم العـربية»، وهي وجهة نظــر عن شخص يظن نفسه واحدا من المعنيين بتعليم العربية لغة أولى ولغة ثانية.
وهي في الوقت نفسه تمثل «الحالة العامة» في الفكر العربي المعاصر بما يتسم به من ارتباك وعدم وضوح، فهي ترى تحقيق التخطيط صعبا أو بعيد المنال، وفي الوقت نفسه ترى عناصر ثابتة، ومتغيرات حادثة قد تقلب الصورة فنرى التخطيط واقعا متحققا، وليس ذلك ببعيد!