تعريف(6) بكتاب"جاذبية الإسلام" للمستشرق العلماني مكسيم رودنسون

طارق منينة

New member
إنضم
19/07/2010
المشاركات
6,330
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
التعريف بالكاتب
لن نستعير تعريفنا بالمستشرق الفرنسي (مكسيم رودنسون)، المتشبعة أعماله برواسب وطبقية الفكر الماركسي، من مصدر غريب عن المؤلف نفسه،المولود عام1915م، أثناء الحرب العالمية الأولى، فهو أولى بتعريف نفسه، خصوصا بداياته الأولى، وتطوره الفكري في المرحلة الشبابية،وعلاقته وعائلته بالماركسية، وقد سطر عن نفسه تعريفا ملفتا، وذلك في كتابه (الفعاليات الإيديولوجية منذ فيثاغورس وحتى لينين).
قال:" بالنسبة لي، وُلدت على ضفاف نهر ال(بيفر) من عائلة يهودية النسب قدمت إلى باريس في أواخر القرن التاسع عشر، تابعة من حيث المبدأ لقيصر روسيا، وملتزمة بقوة في ممارسة من وحي ثوري ماركسي، وذلك في وقت كنت أصطحب أمي المتحمسة في مظاهرات محتدمة لشعب باريس"أتذكر جيدا مظاهرات الاحتجاج ضد إعدام ساكوو فانزيتي عام1927" حيث كنت أشترك في كل عام في العرض عند حائط (الفيديريه)"(الفعاليات الإيديولوجية منذ فيثاغورس وحتى لينين،لمكسيم رودنسون،الأهالي للطباعة والنشر، سوريا،دمشق،ترجمة موفق المشنوق،الطبعة الأولى،1997،ص12،13)
ويُضيف:" عندما كنت في ريعان الشباب، مدفوعا بقدر لايقاوم، عازما على التغلب على الصعوبات المادية القاسية جدا من أجل التقدم، في بادئ الأمر عن طريق التعليم الذاتي، على طريق المعرفة، كنت مجذوبا بتاريخ الأديان.أليس ذلك في الحقيقة بشكل جوهري تاريخ الفكر الإنساني والمفاهيم التي تكونت عن الإنسان ومكانه في الكون؟ على الأقل، المفاهيم التي تتشاطرها الجماهير وليس فقط تلك التي تستطيع بلوغها النخبة القليلة. ابن بروليتاري، محاط ببيئة متشبعة بقيمها وثقافتها الخاصة بها...لقد كان وعيي كفقير ومحروم من البلوغ الطبيعي للتعليم (كانت الثانويات آنذاك مكلفة) مصدوما ومتمردا لرؤية "المثقفين" والمتعلمين وأبناء البرجوازية الكبيرة والصغيرة يتكلمون ويعارضون ويتصرفون وكأن طريقة حياتهم وتفكيرهم هي طريقة البشرية جمعاء(...)...لقد قرأت كثيرا منذ طفولتي حول مواضيع لم تكن من "المدرسة" كما كان يقول معلمي في المدرسة الابتدائية لأهلي القلقين قليلا. وفيما كنت أستفيد من الفرص الملائمة الكثيرة التي كانت(باريس) تتيحها فيما يتعلق بالدروس المسائية والمحاضرات والمناقشات لعامل شاب متلهف للمعرفة...وأثناء يفاعتي حيث كنت أعمل (صبي مشتريات) حتى لااكلف أهلي كثيرا، تابعت دروسا عن أمريكا ماقبل كريستوف كولومبوس. وكان من السهل حضورها لأنها كانت في عطلة نهاية الاسبوع. لقد عينني بول ريفت في متحف الإنسان.كنت أفهرس فيه اللقي الثقافية من المكسيك القديمة (بطاقاتي لاتزال موجودة فيه). وعندما استطعت التحرر من أوقات ساعات العمل المدفوعة، حضرت دروسا عن الإنجازات الفنية للشرق الأقصى. وكان ذلك ينطوي على الإلفة مع ميثولوجيا(أساطير) وثقافات الهند والصين.لقد لعبت دروس(مارسيل موس) حول الاثنولوجيا (علم الأعراق البشرية) دورا رئيسيا في ثقافتي خلال عدة سنوات.​
وعندما أدركت، من أجل بلوغ، من جانب ما، عمق الاشياء، ضرورة اكتساب معرفة مباشرة ودقيقة لمجال محدد بصورة أضيق، بفضل تعلم اللغات والدراسات المعمقة للمجتمعات وثقافاتها وتاريخها، اخترت مع بعض تردد، دراسة الإسلام واللغة العربية في المقام الأول...لقد عرضني دراسة العربية للإغراءات الفكرية للسانيات المقارنة وخاصة في مجال اللغات السامية.ولقد شجعني اثنان من أساتذتي (كانا يبغضان بعضهما البعض) على تجاوز المجال السامي...ونظرا لأنني متمرد على التخصص في مجال وحيد، لم ألتزم أبدا بصورة كاملة إلى جانب أثيوبيا...ولقد جعلتني الظروف أقيم في الشرق الأوسط حيث أقمت العديد من الصداقات والعلاقات كما أن نفس الظروف جعلت مني، في تلك الحقبة، موظفا في مصلحة الآثار "الفرنسية" لسورية ولبنان، على اتصال دائم مع مهندسين معماريين كانوا يهتمون بالنصب الفينيقية والإغريقية أكثر من اهتمامهم بآثار الحقبة الإسلامية"(الفعاليات الإيديولوجية منذ فيثاغورس وحتى لينين،،الأهالي للطباعة والنشرن سوريا،دمشق، الطبعة الأولى،1997،ص9-12)
وقال :" لقد صُنفت على نطاق واسع كمستشرق، ومتخصص بالدراسات الإسلامية ومستعرب إلخ "( (الفعاليات الأيديولوجية من فيثاغورس وحتى لينين" ص8)
قال،أيضا، بأنه اضطر لإتخاذ مواقف :" تتعلق بالشعوب الإسلامية ، مواقف شعرت بأنني مضطر لإتخاذها أمام انتشار الأفكار الخاطئة والخطرة الصادرة عن جهل وتجاهل منتشرين انتشارا واسعا"(الفعاليات الأيديولوجية من فيثاغورس وحتى لينين" ص8)​
 
تعريف بالكتاب
كتاب" جاذبية الإسلام" من تأليف المستشرق الفرنسي "مكسيم رودنسون" ، وقد صدر الكتاب بالعربية عن دار التنوير –بيروت، الطبعة الثانية 1998م، ترجمة الياس مرقص، عارياً من أي تقديم، وهو ما عاتبه عليه خيري منصور في كتابه الإستشراق والوعي السالب(ص18)، وكأن مرقص يتلقى نتائج انتاج المستشرقين بدون فحص ولاتعقيب.
يقع الكتاب في 124 صفحة من القطع الكبير، وهو يحوي مخطوطين متفاوتين في الحجم، الأول وهو الأطول والأغنى بمعطيات الوقائع-بحسب تعبير المؤلف-( ويقصد بها وقائع الموقف الأوروبي الممتد في تصويره لشخص النبي صلى الله عليه وسلم، والمسلمين أو المجتمعات المسلمة) ويمكن استعارة تعريف المؤلف عن الإتجاهات الكبيرة ، في" تاريخ دراسات ورؤيات الشرق الإسلامي في الغرب" وسببية نظرتها للإسلام:" كان هدفي الرئيس...هو تحديد هذه الإتجاهات الكبيرة بالضبط، والسعي إلى إدراك سببيتها"(جاذبية الإسلام، المقدمة،ص5).
يبحث المؤلف في هذا الفصل، او ماأطلق عليه (المخطوط) "سببية" هذه المواقف "التي بها تنصهر وتتحدد (تتعين) وتتطور) تصورات الغرب فيها عن الإسلام عبر القرون، بحيث تظهر أمامنا عدة صور ، تتغير بحسب المعطيات الجديدة، التي كانت تضغط على الصور النمطية بغية تعديها!، وتلك الرؤى ،فضلا عن الإكتشافات الخارجية، تكونت-بتعبير المؤلف-حسب البيئات ، الطبقات الإجتماعية، والموقع الذي يتخذه افرادها في علاقاتها مع الكون الآخر، الدور الذي يلعبونه، درجة إنخراطهم في ايديولوجيات عالمهم ،الخ"(جاذبية الإسلام ص 6).وواضح من هذا الكلام أن دراسة رودنسون (في جاذبية الإسلام) هي دراسة تركيبية تقودها تأويلية سوسيولوجيا الفكر الغربي الحديث، عن الفكر الغربي نفسه، كغرض في المخطوط الأول من الكتاب، وهذا المنهج الإجتماعي الذي استخدمه المؤلف، مع أدوات معرفية غربية جديدة، يقوم عند المؤلف كبديل عن الموقف القديم المعتمد على "الرؤية اللاهوتية التمركز للأشياء"(ص95)، و"تشويهاتها المعتادة"(ص18) وما لازمها من "خيالات" لإرضاء الجماهير الغربية الجاهلة.
أشار المؤلف إلى أن موقفه في هذا الفصل لايختلف عن تناول مونتجمري وات ل"الصورة الأوروبية الوسيطة للإسلام، وأضاف :"والنتائج التي يخلص إليها-بقصد مونتجمري وات- تبدو لي أنها تلتقي جزئيا مع نتائجي عن هذا الموضوع ، ولا أعلم ما إذا كان يؤيد تماما طريقة رؤيتي للأشياء"(ص9) أما زمن وظروف إقباله على كتابة هذا الفصل، فقد أخبرنا بنفسه عنه:" لقد كتبت ماهو أساسي في هذا النص في سنة1968 عندما طُلب مني معالجة الموضوع من أجل كتاب جماعي انكليزي حول ميراث الحضارة الإسلامية في اطار الثقافة الكونية..كان المسؤول الأول عن النشر في ذلك التاريخ عالما كبيرا ،هو جوزيف شاخت...لقد حصل منذ تحريره للمرة الأولى ، كما هو الأمر دائما، كثير من التقدم في تراكم معطيات أساسية...فقد جرى لفت الانتباه إلى مؤلفات أو وثائق من قبل هذا أو ذاك...سجلت بشكل طبيعي أثناء قراءاتي، معطيات أساسية جديدة كما تقدم تفكيري حول بعض النقاط "(ص8)
لقد خشي المؤلف أن يُفهم هذا الفصل بصورة خاطئة، خصوصا أن الظاهر من عرضه للوقائع-كما سنعرضها مع تعليقاته عليها، قد يوحي بأن الرجل يهاجم الغرب والإستشراق عموما!، مع العلم ان رودنسون كتب قبل هذا المخطوط، عام1961م، كتابا تحت عنوان(محمد)، وفي كتابه(محمد) قام بتفسير نبوة الرسول على انها كهانة رفيعة ،وإنتحال واقتباس، وتركيب جديد بصيغة عربية قرآنية!، وهي كلها اتهامات واضحة، تنتمي لنفس المنظومة الإستشراقية التي سيقوم رودنسون نفسه فيما بعد بنقدها ، اي في هذا الفصل اي المخطوط الذي نحن بصدد التعريف به من كتابه(جاذبية الإسلام)، ولذلك، يتوسل في (جاذبية الإسلام) لا بالخيال الإستشراقي القديم واتهاماته البيزنطية ، وإنما بعلوم النفس والإجتماع الغربيين ، ونتائج أبحاث من تقدمه من المستشرقين المعاصرين،(ذكرنا مونتجمري وات منذ هنيهة، ونضيف هنا، كلام رودنسون عن المستشرق الكبير تيودور نولدكه:"قد كتب باستفاضة في الأخطاء الأسلوبية في القرآن"(من كتابه(محمد) ،ص93) ، وقد رد عليه الدكتور محمد أبو ليلة في هذه المسألة في كتابه(محمد صلى الله عليه وسلم بين الحقيقة والإفتراء ص 121)، وايضا مدحه ل بلاشير ولأعمال المستشرقين في إعادة ترتيب القرآن بحسب طريقتهم الضالة، وزعم أنهم بذلك قد" سدوا هذا العجز فرتبوا المصحف بحسب النزول وكانوا أمهر من المسلمين في ذلك.ثم ظهرت بعض ترجمات للقرآن على أساس هذا الترتيب الإستشراقي-يعني ترتيب فلوجل-وعلى سبيل المثال تعتبر أحسن ترجمة فرنسية للقرآن بحق هي ترجمة بلاشير، وترجمة ريتشارد بيل الإنجليزية"(محمد لرودنسون ص84،85) وانظر (كتاب الدكتور محمد أبو ليلة ص 118) كما اعتمد، كما قال الدكتور محمد ابو ليلة على كتب شاخت، انظر(ص31، من كتاب الدكتور محمد ابو ليلة) فرودنسون يُرجع أحكام المخيلة الغربية ضد النبي محمد صلى الله عليه وسلم الى رؤى خيالية وصراعية، كما إلى مصالح جماعات وطبقات، وبنيات (من البنية، الإجتماعية كمثال) وايديولوجيات، فهذه البنيات والتفسيرات البدائية القديمة لم يتسنى لها القيام بتفسير موضوعي للوقائع!،(القائم بالطبع، عند المؤلف، على المناهج المادية الحديثة) ولذلك ادعى رودنسون،قبل ذلك، في كتابه (محمد) أنه قام بدراسة النبوة والنبي من خلال رؤية موضوعية علمية!، أما في تحليله للرؤى الغربية القديمة (هنا في كتابه "جاذبية الإسلام") ووصفها باللاعلمية فالمؤلف خشى أن يُفهم من قبل خواص قومه، بأنه يسيء للمركزية الأوروبية أو للفكر الغربي!:"..يُخشى أن يُفهم-أكثر من الآخر- بشكل سيء من قبل قراء مختصين إلى هذا الحد أو ذاك"(جاذبية الإسلام، ص5).
أما المخطوط او الفصل الثاني والأخير ، فيعبر عنه المؤلف نفسه، وهو يبدو أنه تلبية لدعوة غربية بالإسراع بتقديم نقد لطبيعة المواجهة، خصوصا بعد ظهور نقد معاصر، من داخل الأكاديمية الغربية، ومن مفكر عربي (إدوارد سعيد وكتابه "الإستشراق") تأثر بالمناهج الحديثة نفسها، وهي المناهج التي تأثر ببعضها المؤلف نفسه،مما قد يؤدي إلى فضائح داخل المؤسسة الأكاديمية الغربية ، وعلى كل يمكن فهم ذلك من كلام المؤلف ،يقول:" إنه لذو دلالة أن الأوساط الاستشراقية قد طلبت مني معالجة هذه المسألة كما يبينها هذا النص، وهو نص محاضرة أُلقيت في البلاد المنخفضة، في ليدن،يونيو|حزيران1976،على أعضاء الجمعية الهولندية لدراسة الشرق الأوسط، والتي هي هيئة نقابة المستشرقين الإسلاميين في البلاد المنخفضة ان صح القول. لقد عزز كتاب ادوارد سعيد قلق المستشرقيين واهتمامهم بموضوع الإشراط الاجتماعي والإثني والثقافي لميدانهم. لذلك لم اندهش كثيرا لدعوتي في مارس|آذار 1980 من قبل المؤتمر الواحد والعشرين للمستشرقين الألمان في برلين كي ألقي في هذا الإطار محاضرة حددوا لي موضوعها: التمركز الإثني والاستشراق"(جاذبية الإسلام ص 12،13)
وموضوع المخطوط او الفصل الثاني والأخير من الكتاب هو عن الدراسات العربية والإسلامية في اوروبا، وهو يتكلم فيه مبدئيا عن الخصائص المشاركة بين الباحثين المعنيين بدراسة المجتمعات الإسلامية، ويعتقد المؤلف أنها مآل عوامل عديدة، منها الميل الإنساني العام لدراسة المجتمعات والثقافات المختلفة وهو ضغط موضوعي مُلح، وثانيا يدفع الى ذلك ايضا" الميول الداخلية المسيطرة للذهنية والحساسية في المجتمع الملاحظ، وهو هنا المجتمع الأوروبي، وثالثا وضعيات المجتمع الملاحظ المتغيرة بالعلاقة مع المجتمعات الملاحَظة، ورابعا ضرورات اجتماعية وتطورات قومية خاصة وبالتالي ايديولوجيات ضمنية متفشية وصريحة محتلفة، وضعيات سياسية ، تجارية،الخ، ايضا وضعية تفوق الغرب (انظر ص 69-71)
وتحت عنوان (توجه الانطلاق :الاستشراق التقليدي)، يكتب رودنسون أن للوضعية والاتجاهات الراهنة أصلها في منظومة فكرية متلاحمة نسبيا، وقد اتخذت هذه المنظومة المشتركة أو هذا الموقف العلمي، المشترك شكلا في القرن التاسع عشر تحت تأثيرات مختلفة.فعبر منعطف النزعة الكونية ، وتوسيعها، في القرن الثامن عشر، التي كانت تتأسس على القيمة الكونية للنموذج الأغريقي-الروماني، تستمر قاعدة دراسات وصور الشرق المسلم السابقة(انظر ص 71).
كذلك بين المؤلف أثر ماأسماه بالنزعات العلمية، كالمذهب الوضعي لأوجست كونت) والسقوط في المثالية التاريخية ، واستخلاص رؤية عرقية للأشياء، من طرف علماء العلوم الكونية الانسانية المكونة، إلى هذا المدى أو ذاك، في عصرهم وحدها: الألسنية التاريخية، والمقارنة، تاريخ الأديان، والذين كانت نتائجهم محدودة(انظر ص74) بأنها وإن كان المحرز هائلا –كتب-فإن العيوب كبيرة وهامة إلى أقصى حد،كذلك أولية وتفوق النموذج الأوروبي وهي من الأفكار العامة للقرن التاسع عشر"كثير من أعمال ذلك العصر مرذولة بواقع أنها غير مؤطرة بمسأليات علمية صالحة"(ص75) الحاكم من داخل تلك العلوم، يُطلق الحكم، بدون إعداد مطابق، في الميادين التي خارج الميدان الذي تعمق فيه(ص76) وكثيرا مايلجأ الباحث :" إلى أفكار عامة مستلهمة من فلسفة العصر، من وعيه الاجتماعي، أو من حدوس عبقرية منعزلة، بوجه عام، الإنتقائية أو أحيانا هيمنة نموذج تفسير رائج"(جاذبية الإسلام ص 73)
تكلم المؤلف عن رؤية جديدة ترفض الرؤية اللاهوتية للاستشراق :"إنها تثير شكوكا في الأكثرية الوسطية للرأي العام الإستشراقي"(ص95)
حاول المؤلف في هذا الفصل(الأخير) ،تفكيك جواهر الاشياء ، وتفكيك الإستشراق وتغيير منهجه، فالشرق لايوجد توجد شعوب، بلدان، مناطق، مجتمعات، ثقافات بعدد كبير فوق الأرض؛ ولذلك لايوجد استشراق، توجد ميادين علمية، كعلم الاجتماع، الديموغرافيا، الاقتصاد السياسي، الألسنية، الأنتروبولوجيا او الإثنولوجيا ...يمكن أن تطبق على شعوب أو مناطق مختلفة(انظر ص 92)ولذلك يقول عن مستقبل الدراسات عن العالم الاسلامي :" أولا بأول، يجب عدم ترك او رمي المحرز الكبير والثمين للقرنين الماضيين، ثمة هنا عتاد غني الى مالانهاية يمكن، أجل، إعادة تأويله جزئيا أو كليا" ويقصد عدم التخلي عن انجازات الوضعية والماركسية والانتاج الاستشراقي للقرنيين الماضيين، كما انه لايتخلى ،كما هو ظاهر، عن نفعية الرؤية الخيالية عن عالم الإسلام مع دراستها بطريقة موضوعية والخروج بتعريف جديد لها، نافع ومقوم ومفيد ، وتارك وآخذ!، لدعم النظرية الغربية الحديثة ، وهو مايعني –بحسب قوله-عدم الرجوع للزهادة العلمية للماضي والا تقهقرنا-اي انه يستبدل منهج بمنهج ،وإلا لو وقف عند الاسطوري القديم فسيفشل حتما،يقول- :" لو حدث ذلك ستترجم عن تقهقر كارثي للمستوى الثقافي لمجتمعاتنا "(ص89)​
 
منهج البحث
ومع أننا قدمنا بعض صور هذا المنهج عند المؤلف الا اننا نحب أن نضيف القول بأن دراسته التي نعرضها هنا هي واحدة من الدراسات السوسيولوجية الحديثة (الخاضعة بلامراء للفكرة العلمانية المادية) "التي هي بحسب المؤلف" الأكثر أهمية وديمومة، من وجهة النظر العلمية"(ص6) التي تعكس التحولات، العلمانية، التي حدثت في الغرب والتي تقوم بدراسة الدين عموما، والإسلام خصوصا، كنشاط دنيوي وانساني ونفسي وباطني،ولغوي وتاريخي مادي.
تحت عنوان(حقول ميادينية جديدة) ،يقول رودنسون:" سوسيولوجية الإسلام شاغل قديم.يشهد عليه، مثلا، منذ السنوات 1930، المؤلف الرائد الطموح الذي ألفه روبن ليفي...في العقود الأولى من القرن العشرين ،احصت السنة السوسيولوجية ل دوركاييم، أحصت كل عام عددا من المؤلفات المتصلة بعالم الاسلام في الماضي أو الحاضر، كان لوي ماسينيون، علما بأنه استأنف أيضا هذا الركن، كان يعطي دروسه في الكوليج دو فرانس عنوانا هو "سوسيو غرافية العالم الاسلامي"(جاذبية الإسلام ص 87)
واضافة لذلك فإن رودنسون استعمل مناهج قد يكون مونتجمري وات قد غفل عنها أو لم يتسنى له الإطلاع عليها :" يمكن أن نشير الى إدخال مسأليات جديدة في ميدان دراسة وتحليل الفكر، الروح الدينية، كما وتظاهراتهما الخارجية، وهو إدخال خصب على أي حال. نلمح هنا الى فينومينولوجيا(فاردنبورغ،الخ) ،الى سيميولوجيا(سيمياء) الخطاب الديني(ت. إيزوتسو،م. أركون،الخ)، الى مختلف تطبيقات المناهج البنيوية"(جاذبية الإسلام ص86).
فالإسلام ،عند المؤلف ، ظاهرة ايديولوجية،اجتماعية خاصة بالبنية الفكرية والاقتصادية عند العرب، والرسول بالنسبة له منبعث من هذا العالم، فالسببية الإجتماعية كشيء مركب، هي المكونة لشخصية وسيرة النبي ، وبحسب هذه النظرة المادية ينظر المؤلف إلي الوحي وإلى الإسلام كفكر دنيوي وبنية اجتماعية ، بنية دنيوية كسائر البني الأخرى، هو نتيجة صراع، تحولت أمة الإسلام،في المخيال الرودنسوي الماركسي إلى طبقة جديدة خرجت من رحم الصراع الطبقي والإجتماعي المادي!،
انه، مع اعترافه ب(النجاح المذهل) للإسلام، يرجعه إلى جهد بشري فقط :"لم يكن هذا النجاح المذهل، بالنسبة للمحلل الذي لايؤمن بالآلهة، نتيجة مخطط معد مسبقا، لتصميم، لمشروع أعده عقل فوق-بشري، بنتائج متوقعة.إنها الشروط البيئية، الإجتماعية، السياسية للجزيرة العربية الوسطى في القرن السابع ميلادي،التي وجهت بهذا الاتجاه، الفكر"الواعي"، وغير"الواعي" لمحمد بن عبد الله المكي، رجلا حقا وفعلا، عبقريا، إن تلك الشروط هي التي وجهت إلى هذا الجانب دعوته الوجودية في باديء الأمر، بصورة جوهرية، وكما واجهت تطلعات ونشاط الجمعية-الكنيسة التي تشكلت حوله في المدينة، كذلك فيما بعد الكنسية-الدولة-العرق الفاتحة في القرنين السابع والثامن الميلاديين،وهكذا تجسد هذا النموذج الذي جعلته الحماسة الدينية للجماهير مثاليا، والذي سيغري أعدادا كبيرة من الأفراد وخلال عدة قرون" الفعاليات الأيديولوجية من فيثاغورس وحتى لينين" ص60)، ويضيف يقول:" إن الظروف التاريخية قد دفعت هذه الجماعة –بالعربية الأمة-إلى إتخاذ شكل أمة-عرق اقتصرت نفي أول الامر، على العرق العربي،إلا أن نزعتها العالمية الضمنينة أو المبهمة في البداية قد أحدثت بسرعة التحول إلى جمعية-كنيسة عالمية حقا وفعلا...." الفعاليات الأيديولوجية من فيثاغورس وحتى لينين" ص60،61)
في هذا السياق، لاينبغي ان نغفل قناعات المؤلف الماركسية والإنتقال منها أو بها إلى قناعات أكثر حداثة(مادية بالطبع!) ، فهو مثلا قد انتقل من مفهوم صراع الطبقات عن ماركس (الملبد الذهن بالإيديولوجي رغم عبقريته -بحسب وصف رودنسون نفسه- الى اشياء أخرى كصراع القوميات والإثنيات والصراعات العشائرية، وقد انتقل رودنسون بذلك كله، ومعه، إلى مفهوم البنية والطبقة،(قال" أعتقد أن أن أفكار ماركس مكتسب دائم لعلم الاجتماع، لكن من المناسب توسيعها، وذلك أصلا بحسب توجيهاته ونهجياته العامة بالذات"!!،كما قال بأن ماركس حين كان يتصور المستقبل، لم يكن واضحا تماما، وقد جاءت بعض أفكاره متناقضة نوعا ما" انظر كتابه"جدل الطبقة والأمة، ترجمة جورج طرابيشي،مقدمة الكتاب ص6،15) ولاشك أن لتلك النظرة أكبر تأثير على مواقفه من الإسلام، قرآنا وسيرة، وتاريخا وعلما..والحاصل ان الموقف العلماني شكل نظرته وهو من قال عن نفسه انه:" غير مؤمن، لن أشكر أي كائن خارق للطبيعة"(الفعاليات الإيديولوجية منذ فيثاغورس وحتى لينين،،الأهالي للطباعة والنشرن سوريا،دمشق، الطبعة الأولى،1997،ص15) ، ومع انه يشكر من ادى اليه أقل الخدمات،فإنه كعلماني لايشكر من منحه جسده بكامل الأعضاء والآليات والضروريات والكماليات، والعظمة والفرادة، والعقل والعلم، والذاكرة،الخ!!
وعموما فموقفه مفهوم ، فالعالم الغربي لم يعد متدينا ولا مسيحيا كما كان وإن كانت بعض مظاهر احتفالية معينة توحي بعكس ذلك، كما أن التفسيرات العلمانية المادية للكون هيمنت على أغلب مناحي الحياة في الغرب، ولذلك انتقلت دراسة الدين إلى دراسة تأويلية انثربولوجية، او اجتماعية بنيوية، او تفكيكية بحسب منهج الباحث الغربي،أي بحسب المذاهب الحديثة،التي انغمست كليا في الرؤية المادية.
لابد قبل أن نخطو خطوة واحدة ،في عرض موقف المؤلف في المخطوط الأول ،من الإرث المسيحي العدائي للنبي صلى الله عليه وسلم في الغرب القديم، أن نؤكد أن تطورا عظيما لحق بالفكر الغربي تجاه الإسلام، وأن الرؤية القديمة الشائهة ، الساذجة، عن القرآن والنبي، الإسلام والمسلمين، قد سقطت إلى غير رجعة، وقد بين ذلك كثير من المستشرقيين ومنهم حداثيون، والمؤلف سيعرض علينا ، في المخطوط الأول، من اساطيرها نماذج!، مع ماتراكم منها او ما تطور عنها او انقلب عليها ومع ذلك فالغرب لم يتحرر مطلقا من "أصل" التحيز والرؤية القاصرة عن الإسلام ، والذي تغير هو أن النظرة تغيرت من المسيحية (ونظراتها المتحولة دوما،عبر القرون ، إلى العلمانية، من تفسير لاهوتي الى تفسير دنيوي بحت!، مع حمولة الرواسب القديمة او بعضها، بحسب المؤلف، فماكان من نتف يستخدمها العلماني او الإستشراق المعاصر، مما قيل قديما، هو ساقط ايضا، وليس له مفعول إلا بالضبط كما كان مفعول الروايات الخيالية في الأدب الإستشراقي القديم عن القرآن والرسول، ولايمنع ذلك من الرد على كل نقد قديم جوهره، جديد شكله ومنظره، او قالبه
ومن ذلك مزاعم رودنسون نفسه في كتابه (محمد)، ونرجو من القارئ أن يصبر علينا في عرض مزاعم رودنسون في ذلك الكتاب قبل أن ندخل إلى مخطوطه الأول من كتابه جاذبية الإسلام، ذلك أن رودنسون،يشعر، بإستعماله لمذاهبه المعاصرة ، أنه وصل إلى الحقيقة المحجوبة خلف ظاهر الأشياء والأحداث والمؤسسات، ولو كان الأمر كذلك فلما حوى كتابه عن النبي جملة من الإتهامات المغلوطة ، ومنها أن الرسول كان يقرأ ويكتب وأن المسلمون فهموا قوله تعالى"النبي الأمي" بصورة خاطئة!، ثم يزعم تبعا لذلك، بلاادنى دليل، أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان شاعرا وأنه كتب الشعر بلاشك، مع أن كتب التاريخ لم تذكر للنبي شعرا ولا القرآن شعرا، ولا انه صلى الله عليه وسلم كان شاعرا ، وكعادة الكتاب الاوروبيين ذهب رودنسون إلى القول :"إن لدينا دليلا قرآنيا لايعارض على أن محمدا كان قد اتهم بأنه كان يتلقى العلم من أشخاص يتكلمون لغة أجنبية"(من كتابه(محمد)،انظر تعليق الدكتور محمد أبو ليلة في كتابه عن رودنسون ص 106)، وهو يشير الى الإتهام الذي أطلقه بعض المكيين، تشويشا على الوحي، بأنه هناك غلمان أعاجم يعلمون النبي بعض القصص، وهل يمكن أن يكون مصدر القرآن من غلمان؟ أهذه هي الحقيقة المحجوبة خلف ظواهر الاشياء يارودنسون؟ كذلك يفسر رودنسون زواج النبي من خديجة رضي الله عنها بأنه زواج مادي لاعاطفة فيه ولاحب!، أقبل عليه الرسول لفقره، مع أن الرسول كان يومذاك تاجرا، ومقرب من أهل مكة وموصوف منهم بأحسن الصفات وأتم الأخلاق، وأي اسرة كانت تتمنى أن تزوجه ابنتها، لأمانته وصدقه، ويفاعته وجماله وبهائه صلى الله عليه وسلم، كما انه من أسرة عريقة النسب لها مكانتها عند كل أهل مكة بل وعند العرب كافة، ولكن الإستشراق بعد نفيه الوحي عن الرسول لم ينظر إليه دنيويا بالعدل والإنصاف، فالعمى عمى كلي عند التفسير الدنيوي الذي يحذف كثير من معطيات الواقع وظواهر الحس والمشاهدة، والوقائع والأحوال،. نفي رودنسون عن النبي اي ميول عاطفية تجاه السيدة خديجة، ويبدو ان رودنسون يعيد تصورات الخيال القروسطوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن تحت مظلة البحث العلمي،وزعم الخلوص للحقيقة وراء ظواهر الأشياء ، ومعرفة العالم الإجتماعي!، فكما يفعل العلمانيون العرب فإن رودنسون استدعى كلام محلل نفساني غربي وفيه ان النبي عوض بزواجه من خديجة عن حنان الأم المفتقد! (قالها ايضا خليل عبد الكريم في فترة التكوين)، وهكذا يؤدي زعم تطبيق منجزات العلوم الإنسانية الحديثة الى مغالطات سمجة، تبدو عليها صور الأحقاد القديمة، وهي مثل الأحكام التي ردها رودنسون نفسه في المخطوط الأول من كتابه المعرف في بحثنا هذا.
كذلك فإن محاولته لتطبيق نتائج التحليل النفسي وعلوم الإجتماع الغربية على نفسية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، مع تحريف جاهل بوقائع السيرة جعله يقول في كتابه (محمد) : وإذا كانت أسباب الكآبة والاضطراب اللتان أحاطتا بحياة محمد مجهولة لدينا (من قال ان النبي كان يشعر بالكآبة والاضطراب ، من اين لك هذا؟) فإنه يمكننا أن نتلمس الطريق إلى معرفتها(...)،إذ أنه بالإضافة إلى انهماكه التام في التفكير في المستقبل فإنه كان يعاني نفسيا بشدة وذلك بسبب فقد الولد، وقد مثلت له هذه المشكلة النفسية عقدة في حياته،فقد كان أعداؤه يسمونه بالمقطوع أو الأبتر"(انظر كتاب الدكتور محمد أبو ليلة عن رودنسون ص 81-83)، وهذا من الكذب الواضح ، ذلك أن النبي لم تظهر عليه دلائل معاناة (مشكلة نفسية) من فقد ولده، ولاعاني من ذلك ابدا، فقد رضي بقضاء الله بينما كان يسعى لبناء أساس لأمة عالمية بتوجيهات أخلاقية وعلمية تنزلت عليه وحيا وقرآنا وسنة.
ومن تخيلاته النافقة الباهتة قوله :" إن محمدا قد لجأ إلى الإهتمام بالمسألة الدينية لأنه لم تكن لديه القدرة على العمل في غيرها" (محمد لرودنسون ص86) فهل هذا تفسير بنيوي عاقل او نافذ وخارق لجوهر الأشياء ؟! هل هذا تفسير نفسي حقيقي لشخص النبي الذي حمله تجار مكة وأهلها الأمانات؟، ووصفوه بالصادق الأمين، وصحبه قبل نبوته أعقل أهل مكة كما اعترف نولدكه في الصفحات الأولى من كتابه (تاريخ القرآن) صديقا أليفا،لروحه الساميه وعقله الناضج وأمانته وصدقه ، وحرصه على أمانات الناس بعد أن وضعوها عنده ثقة به وبيقظته، فضلا عن انه كان تاجرا بأمواله الخاصة، ثم تاجرا عند السيدة خديجة، أي أنه كان هماما حارثا، له انشغالاته الطبيعية كأي إنسان على وعي بالحياة، ثم انه قد جاء بدين عظيم هدى الله الناس اليه وفتح له القلوب والأقطار، وأسقط له الإمبراطوريات، وأنتج به حضارة علمية، علمت أوروبا العقل والعلم والنظافة فهل ينتح هذا كله من رجل لجأ لفراغه النفسي إلى الإهتمام بالمسألة الدينية.
والشيء الذي لايقبله عاقل هو اتهام رودنسون للنبي بأن محمدا صلى الله عليه وسلم ولشعوره بالمهانة التي ظلت تلازمه منذ الصغر حيث ولد يتيما وعاش فقيرا ،بدأ ينتقم من الأغنياء(انظر محمد لرودنسون ص 67،68، وتعليق الدكتور محمد أبو ليلة في كتابه عن رودنسون ص 110) فهل هذا تفسير للتغيير الإجتماعي والإقتصادي والقيمي الذي جاء به رسول الله في عالم الإنسان حتى وصل تأثيره في عالم أوروبا الميؤوس منه حتى حرك ماءه الراكد وطرد منه كهنته القدماء وامدهم بالنظافة والدواء ، والتجربة والطريق إلى الكون والعلم والعمل....وهل كان تلاميذه كهان صنعوا تلك الأعاجيب العلمية والمختبرات العملية والصيدليات وكتب الطب التي عالجت عجائز أوروبا وشيوخها وأولادها حتى قال أغريبافون نتيسيهايم في نص زينت به هونكه فصل من كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب) بعنوان(الأيدي الشافية) ان اوروبا استقبلت كتب الطب الإسلامية :" ونالت حظوة قصوى عند الناس إلى درجة أنه إذا ماحاول امرؤ ما ممارسة الطب دون الاستناد إليها، اتُهم، على أهون سبيل، بالعمل على الإضرار بالمصلحة العامة"(شمس العرب ص213) ماجعلها تقول ايضا" وإننا لندين-والتاريخ شاهد على ذلك- في كثير من أسباب الحياة الحاضرة للعرب"(شمس العرب ص20).؟
يبدو أن الفكر الماركسي وفلسفة صراع الطبقات الماركسية مازالت تؤطر تفسيرات الماركسيين للإسلام، ولاننسى في هذا السياق زعم نصر حامد ابو زيد بإن النبي كتب (إن ربك هو الأكرم) لشعوره بلإهمال والضياع لحالة اليتم التي ولد فيها!، ولاأعرف اين في تاريخ الرسول أنه شعر باليتم إلى حد الشعور بالمهانة والضياع والإهمال وقد كان في عناية عماته وجده حتى انه كان يؤثره على من عنده ويقربه منه ويهتم به ايما اهتمام؟ وأين في التاريخ انه إنتقم من الأغنياء، وأقرب أصحابه كانوا من الأغنياء (ابو بكر الصديق وعبد الرحمن بن عوف وعمر ابن الخطاب وغيرهم كثير)
ثم يزعم في كتابه (محمد) أن حالة محمد العضوية والنفسية إنما هي من نوع ماكان عليه كثير من المتصوفة الباطنية!، وشكل من اشكال الكهانة (انظر كتاب محمد أبو ليلة عن رودنسون ص 86،113،114) ثم يرمي الرسول بتهمة لم يأت عليها ،أيضا، بدليل ، فيقول:" محمدا لم يكن في باله أن يؤلف كتابا وذلك لأن خبرته الأولى...لم تبن على الكلام وإنما على الأعمال الباطنية والرياضة الروحية للكهان (انظر كتاب"محمد بين الحقيقة والإفتراء للدكتور محمد محمد أبو ليلة،ص121)..كهانة من نوع جديد،زعم، جعلته يفكر طوال الوقت ليصل إلى المكان الذي تجاوز به حدود زمان ومكان اهل بلده!(كتاب رودنسون عن الرسول(محمد) ص58) ومع ذلك يتهم النبي بأن المسلك الباطني هذا :" قد اكتسبه محمد كنتيجة لاحتكاكه برهبان النصارى"(كتابه: محمد،ص81) ولاأعرف أي سخافة تُجبر عالما بقدر رودنسون أن يتهم الرسول هذا الإتهام، مع أن الرسول لم يقابل هؤلاء الرهبان ولو مرة واحدة في حياته، اللهم إلا ماذكر من انه في طفولته ، في رحلته مع عمه، رآي بحيرا الراهب لحظة!، وهل تعلم تلك اللحظة طفلا ، كل تلك العلوم الباطنية(المزعومة، طبعا)، ثم هل هي كهانة ام رهبانية، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، قال الله تعالى في سورة الذاريات لأمثال رودنسون:" إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ".
الشيء اللافت هو أن رودنسون، في الفصل الأول، او المخطوط الأول من كتابه(جاذبية الإسلام) دعا إلى قراءة أعمال "هشام جعيط، "فإن هشام جعيط ،الباحث التونسي والمؤرخ الموهوب، يطرق في منظور مواز لمنظوري مسألة الرؤية الأوروبية إلى الإسلام أو بالأصح إلى العالم الإسلامي بما أنه لايتخذ وجهة النظر الدينية محورا حصريا لمسعاه. وهو يكرس لهذه المسألة القسم الأول من كتابه المعنون أوروبا والإسلام...انه عمل لامع، ذكي وثاقب، تنتشر فيه ثقافة الكاتب الكبيرة في الميدان العربي وفي ميدان التاريخ والفكر الأوروبيين على حد سواء.انصح بقوة بقراءته. ولست على خلاف مع مايذهب إليه هذا الكاتب.إلا نادرا"(جاذبية الإسلام ص 9،10) ،وذلك لو نعلم، مفهوم، ذلك أن جعيط صنع اسطورة تعلُم النبي قبل بعثته في مدرسة لاهوتية سورية، بلغات متعددة، تعلمها في مكة، وأيضا من غلمان أعاجم؟،(انظر مقالاتي في الإفاضة في هذا الموضوع،بعنوان سلسلة انهيار الاستشراق(19) صبيانية علمانية، وايضا رقم(18)تعليق وسيناريوهات، وايضا رقم(20) علمانيون على هامش السيرة، وايضا رقم(17) المفتون التاريخي) ، ورقم(3) سقوط القس أندري وجعيط العلماني) ، وكلها موجودة في ملتقى الإنتصار للقرآن الكريم، وبعد ورود "الموهوب-جعيط!" في مقدمة رودنسون، هل لي أن أُعلق بعد ذلك ،إلا بالقول أن هوى الإيديولوجيا العلمانية قد ملأ شدقي رودنسون فجعله يقدم هشام جعيط في مقدمة كتاب يقوم فيه هو نفسه بإحتقار الأقوال البيزنطية الشبيهة لقول جعيط الخرافي، لكن جعيط علماني، ولابد من الإشادة به، ويلاحظ ،ايضا ،أن رودنسون أشار إلى مناهج محمد اركون الغربية كما قدمت ذلك وشددت عليه بالحرف الأسود ووضعت تحته خط!، وهل يمكن أن تأتي كهانة بمبادئ وقوانين، وعلوم ومعارف علمت أناس الحضارات السابقة أن جُل مواقفهم الإيديولوجية والعلمية والخلقية معيقة لتطور العلم والتاريخ، وتقدم الإنسان ورفاهيته، كل ذلك ملازم لوحي يدعو إلى الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه وجعله خليفة في الأرض، وهل يوجد في التاريخ البشري كهانة صنع اتباعها حضارة علنية مجانية رحمانية مفتوحة للناس جميعا، للإستفادة من نتائج بحوثها العلمية وتقنياتها البحثية وأدويتها الطبيعية، وصيدلياتها، والرياضيات والفلك، والكيمياء والفيزياء، وهل أصاب أوروبا من تلك الكهانة المزعومة شيء الا ماجعل حياتها منيرة من ناحية التكنولوجيا والدواء، النظافة والكساء، العلم والعقل، فهل تفتح الكهانات تلك المجالات؟ مالكم كيف تحكمون؟
ثم يأتي رودنسون ويجعل الوحي الذي أنشأن كل هذا، وأخرج كل هذا للعالم ، يجعله مثل ماحدث للراهية تريسا وماحدث وجرى لبولس المسيحية الذي كان يضطهد تلاميذ المسيح عليه السلام،(انظر كتابه محمد ص70) وقد غير بولس دين المسيح من التوحيد إلى وثنية ، فيها كل حلقاته التلفيقية الوثنية ، من التأليه لبشر، والفدية، وتقديم الدم والجسد لخلاص البشرية، وقتل إله من أجل الحياة، وشرب دمه وأكل جسده من أجل الخلاص!!، هل أخرج محمد الرسول مثل هذه الخرافات الى العالم أم أنه طلب من العالم الإعراض عنها ، والنظر في الكون وأسبابه، وعبودية الله وحده ، والكفر بالمعتقدات الخاطئة، والوثنيات المتسربة إلى الأديان، وأعراف وعادات الأمم.
فهل هذه مساواة عادلة بين نبي رسول، وأفكاك أثيم، أو كلام راهبة وكلام الله عز وجل، او كلام القرآن وتمتمات الكهان؟​
وهل ماجاء به جبريل عليه السلام للنبي ، يعلمه، الفاتحة العلمية لوحي فريد ، القراءة العلمية العقلية الربانية لكل ماسيأتي به القرآن من فتوحات، بقول"إقرأ" ، هل هذا الرسول الكريم وماجاء به للنبي محمد هو مثل تلك الكائنات الغامضة، المتخيلة، التي أشار اليها النصارى،(بزعم رودنسون ، كتابه محمد ص73، وانظر أبو ليلة ص113) ولبسوا بها على الناس عقائدهم وهي الروح والكلمة، والحمامة التي حاولوا الصاقها بالنبي ووحيه، وقد جعلوها بإعتبارها تمثل الروح القدس جزء من ثالوث ، تقليدا للأمم الوثنية وإيغالا في الجهل والتجهيل ، زيادة على أنها لم تُذكر مع علم وعلوم، وفتوحات علمية وقيمية ،وربانية تشريعية، وهو ماجاء به الوحي المبارك على النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟
ومع ذلك يتهم رودنسون النبي في كتابه الذي كتبه عنه ان مارآه صلى الله عليه وسلم من حضور الملك له:" ربما كان انبعاثا من داخل نفسه هو"(ص73)، انظر كتاب محمد أبو ليلة ص113)
ثم ينسج رودنسون تهمة جديدة، وتخيل معاصر عن عقل النبي والوحي الذي أنزل عليه صلى الله عليه وسلم، فيقول ان الرسول أسس:" بناء عقلي. ابتدأه محمد وطوره حتى وصل إلى هذه الدرجة العالية من الإتقان، وأن القرآن إنما جاء استجابة أو تحديا لمعطيات البيئة التي نشأ فيها. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن القرآن إنما هو نتاج عقلية محمد او هو حديث صادر عن منطقة اللاوعي عنده"(محمد لمكسيم رودنسون ص57، نقلا عن محمد أبو ليلة،ص87)
ومع انه يرجع الأسلوب والنظم القرآنيين إلى انتحال من كتب اليهود والنصارى، وأنه وصل للاتقان فيه، فكيف يصدر هذا الإتقان والعلم الدقيق عن منطقة اللاوعي، ويكون في نفس الوقت منتحلا بوعي عن كتب سابقة؟ ثم هو-عند رودنسون ايضا-في نفس الوقت، ككلام الكهان وباطنيتهم!
والأمر المثير للتأمل أن رودنسون تعجب من الصور الجميلة-بحسب تعبيره- والتفاصيل الدقيقة في وصف العالم الآخر الذي رسمه القرآن بالكلمات ،وسأل رودنسون وأجاب:" هل جاء به نتيجة الهلوسة عليه أو بسبب التياث عقله؟...إنه لايوجد لدينا أي برهان يرجح أيا من الإحتمالين على الآخر" فهذه الأوصاف الممتازة للقصور ولحياة الترف والنعيم كما ذكرت في القرآن، لم يعرفها العرب-يقول رودنسون- قط، وإنما عرفتها الأمم المتحضرة فحسب(محمد لرودنسون ص84-91) وسؤالنا هنا ألم يقل رودنسون في مكان آخر أن الكهانة والصرع كانا حال الرسول، فكيف تكون أوصافه دقيقة إلى هذا الحد، وصور الكلمات جميلة إلى حد الروعة والجلال، ثم يُنسب هذا إلى الكهانة التي لم تعرف الأوصاف العالية والكلمات الفخمة دقيقة السبك ،رقيقة الحبك؟، ولما لم يجد رودنسون تفسيرا لذلك في اتهامه للرسول بالكهانة، ذهب ليقول بأن الرسول انتحل تلك الأوصاف الرفيعة من الأمم المتحضرة، أي من اليهود والنصارى، مع اننا لو فتحنا التوراة والإنجيل اللذين يعرفهما رودنسون لوجدنا أن لغتهما ركيكة فكيف ينتحل محمد منهما أوصاف وكلمات بالغة الروعة والرصف والوصف، هي ليست فيهما اصلا.
إن التناقض في عقل رودنسون واضح لايحتاح لكثرة بيان، وتردده بين لايحتاج لمزيد ملاحظة وإعلان، وفشل محاولته العلمانية ظاهرة للعين البصيرة.
ثم مع مدحه لإسلوب القرآن، ونظمه، تجده كما بينا يرجعه إلى عملية انتحال عن كتب اليهود والنصارى، وفي نفس الوقت يقول بأن المستشرق الكبير"نولدكه" قد كتب بإستفاضة عن الأخطاء الأسلوبية في القرآن(محمد لرودنسون ص93) ثم يقلد من اتهم، ثم يبلغ السخف الإستشراقي مبلغا عجيبا، عندما يكتب رودنسون أن إله المسلمين لم يمانع في بداية الدعوة الإسلامية أن يعترف بوجود آلهة أخرى في الكون، وأن محمدا، كان يدرك ذلك ، فقوله ،"الله أكبر" يعني بذلك أن الله أكبر من الآلهة الأخرى(ص97) ثم مع ذلك يقول أن محمدا قد وصل إلى فكرة الإله الواحد من خلال احتكاكه باليهود والنصارى، وهنا في الحقيقة نرى تأثير نولدكه عليه، في هذا الإتهام واتهامات أخرى، فحتى قول لاإله إلا الله ، أرجعه نولدكه إلى التأثير والإقتباس اليهودي!، فلم يترك الإستشراق نصا إلا أرجعوه لمصادر متنوعة مختلفة ومتباعده، وكل تلك الإتهامات الغريبة دليل على ضحالتها وسخفها.
وهكذا،فإنه كما ترى أيها القارئ، فإن رودنسون يحاول بتعسف شديد ، أن يطبق نظريات علوم النفس الغربي في موضوع اللاوعي –الفردي أو الجمعي-على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه كانت عادة بعض العلمانيين او المستشرقيين المعاصرين مثل غوستاف لوبون ورودنسون ومونتجمري واط وغيرهم، وهم لايستثنون نبيا من هذه التهم العلمانية الحديثة،يقول رودنسون:"هؤلاء الأشخاص غير الأسوياء، الذين يعيشون في وهم الإتصال بالآلهة والأرواح، وبالتالي يعيشون شبه منفصلين عن الواقع العام للناس فهم يتخيلون أنهم يسمعون أصواتا أو يرون كائنات ليس للآخرين طريق إلى معرفتها. لقد عرفت العرب هذا الصنف من الناس وذلك النوع من الخيرة في صورة الكهان العرب، الذين يشترك محمد في كثير من السمات والعوارض كما لاحظه معاصروه دون مشقة؛ وإنه بلاشك ينتمي عضويا ونفسيا إلى طائفة الكهان. فقد كان محمد مثلهم يتعرض لنوبات من الاهتياج العصبي ، مع الشعور بأنه يسمع ويرى أشياء بعيدة عن مدارك الآخرين، وربما كان شعوره الدائم بعدم الرضا(...)، ذلك الشعور الذي تركز في أعماق نفسه، والذي كان السبب والمؤثر على مزاجه حتي بلوغه سن الأربعين، وكان هذا الشعور أيضا هو الذي ساعده كذلك على تقوية ميله أو نزوعه لادعاء الوحي وتأسيس دين...كان يتميز عن سائر الكهان بقوة شخصيته"(محمد لمكسيم رودنسون، ص57، انظر كتاب الدكتور محمد أبو ليلة عن رودنسون ص 87)
وإذا كان الفكر العلماني لايجعل للغيب مكانا في منظومته، ولاللوحي شأنا في تفسيره وتأويله، فلاعجب أن يقول رودنسون عن النبي والوحي الذي كان يتنزل عليه بالعلم والحق:" لقد كان محمد يصرع ويصاب بتشنج عجيب يجعله يغيب عن الواقع بحيث يرى ويسمع أشياء لايشعر بها الحاضرون معه، وبعد عودة الوحي إليه كان يقول أنه رأى الملك، وأن كلاما أوحي به إليه، هذا الكلام كان يصدر من داخل نفسه(هنا يبدو تأثر رودنسون بمنتوجمري وات)لا من مصدر خارجي، ولقد استطاع محمد فيما بعد أن يجمع هذا الكلام ويصوغه في عبارات ادعى أنها القرآن الذي جاءه من عند الله"(محمد لرودنسون ص 75، نقلا عن الدكتور محمد أبو ليلة من كتابه عن رودنسون ص114، والنص هناك بالإنكليزية مترجم من الدكتور ايضا) مشكلة رودنسون وغيره من رجالات الإستشراق الحديث، أنهم يقعون في تناقض مستمر بينما هم يقومون بتحليل لسيرة النبي ، فرودنسون مثلا قال بأن النبي كان يُصرع وبعد إفاقته يتلو عليهم القرآن، فأين ياسيد رودنسون وجدت الوقت الكافي عند النبي بعد إفاقته ليجمع هذا الكلام ويصوغه في عبارات؟ألم تقل بأنه بعد الإفاقة مباشرة تلى عليهم الكلمات القرآنية، وهذا حدث في سور كاملة وآيات باهرة ، وكلمات عظيمة فيها العلم والعقل، ومنها تعلم لفلاسفة وعلماء اجتماع والنفس مالم يكونوا يعلمونه، والنصوص في ذلك كثيرة جدا، فهل ماادعى رودنسون أنها"عوارض كهانة لا أمارات نبوة"(ص77) يمكن أن تمد الإنسان بكل تلك العلوم والفتوحات في علم النفس والإجتماع، التاريخ البشري،التوجيه لدراسة الكون والسماء، وإشارات مصورة أحسن تصوير لتلك الآيات الكونية التي لازمت عمليات التوجيه القرآني لسلوك طريقا جديدا على الأمم من دراسة سنن الكون وأسباب السموات والأرض بدلا من عبادتها أو إهمالها؟
ثم يرجع رودنسون فيقول أن ذلك الكلام الذي سمعه النبي اوكان يتهيأه، إنما كان صدى لما سمعه محمد من اليهود والنصارى وتأثر به"!
ومع ذلك يقول بأن النبي كان مخلصا لكنه كان بدون وعي يستعيد داخليا ماكان اكتسبه "كنتيجة لاحتكاكه برهبان النصارى"(محمد لرودنسون ص81، وانظر ابو ليلة ص116).​
وهكذا فالرؤية العلمانية لاتحاول دحض الإسلام الا من خلال ماديتها، وتطبيقاتها المتعثرة في مجال خارج عن رؤية نظرياتها للأشياء،بل ومع تطبيقات خاطئة لمبادئهم ومناهجهم!، كما ان المشكلة اصلا ،إنما هي في منطلقاتها القاصرة والأحادية، في منطلقاتها المادية، لا في الإسلام وشمولية نظرته وحقائقه،المشكلة ليست في الشمس الساطعة وإنما في العين المغلقة.فكم من جاهل لايفرق بين النبي والكاهن، وكم من منغلق العقل لايعرف ماآل إليه الوحي في الإسلام من صنع مدنية من أفضل مدنيات العالم، دخل الناس في دينها أفواجا، فهل يفعل كاهن كل هذا، وهو لايحسن الا الغمغمة ولايصلح شأنا ولا يقدم علما ولاخلقا حسنا، وقد أتى الأنبياء بعلوم لاينبغي للكهان أن يطاولوها، وأنى لهم هذا ؟
والمدهش أنه كرر الإتهامات القديمة ايضا من أن الرسول تأثر بقصص اليهود والنصارى!،وجمع بعضه إلى بعض وصنع منه تلفيقية!،أفيعقل هذا؟ والقرآن نفسه ومن أول سورة في المصحف حمل على قصص اليهود والنصارى المحرفة وعقائدهم المتطرفة وتاريخهم المضلل، وقد بين أنهم كتموا وأخفوا، وحرفوا ولبسوا على الناس في كل أمر يخص الدين، من العقيدة والشريعة، إلى القصص والتاريخ، مرورا بالنبوة والأنبياء والصالحين والأولياء. فرودنسون يضع الفرضية مسبقا أو التهمة(شبه البيزنطية!) ثم يبني عليها بصرف النظر عن الحقيقة التاريخية:" إن عربيا كمحمد لابد وأن يكون قد سمع كل هذه القصص والأحداث وتأثر بها"(انظر محمد ابو ليلة وكتابه عن رودنسون ص 108) وأما التعاليم فإن النبي-بزعم رودنسون- تعلمها من اليهود والنصارى مشفوعة بدعوى الإتصال بعالم الغيب(محمد لرودنسون ص97 ومابعدها، وانظر كتاب محمد أبو ليلة في الرد عليه ص 126) أما العبادات الإسلامية فهي عند رودنسون منتحلة من اليهود والنصارى إلا أنها أصبحت عبادات شكلية!(انظر كتابه"محمد" ص127، وتعليق الدكتور محمد ابو ليلة في كتابه في الرد على المؤلف ص146)
كذلك فإن منهج رودنسون ليس خالي من الضربات الإستباقية فهو مبدئيا –خصوصا في كتابه "محمد"- قام بالهجوم على السيرة النبوية وشكك في الأحاديث النبوية(ص66،67)، بل زعم وضعها، وهذا يدعونا إلى السؤال، انه اذا لم تكن الروايات الخيالية الأوروبية العتيقة هي الحقيقة، وقد رمريتموها بالكذب والتلفيق ، واذا لم تكن نصوص الإسلام هي المرجع الحقيقي، فأي شيء يمكن الإعتماد عليه،غير التأويلات العلمانية، وهي التأويلات التي تنفي مبدئيا الغيب عن الوحي، والوحي عن النبي والرسالة!؟
ومع ذلك يستخدمون نصوصا من السيرة التي يرفضونها من أجل الهدم ايضا، فإنكارهم وإثباتهم إنما هو لأجل الإنكار والتلبيس، وهذا من الهوى والإيديولوجيا!
كذلك توحي ترجمة رودنسون لقصة انتصار المسلمين الضعفاء في بدر على أضعافهم من المشركين بأن المسلمين دمويون:" والترجمة :" توحي بأن المسلمين قد علقوا الكفار من أرجلهم أحياء ثم ذبحوهم بطريقة وحشية"(انظر نقد الدكتور محمد أبو ليلة لفعل رودنسون، ص154) وهذا لم يحدث ابدا ولاذكره التاريخ!​
 
دراسة المخطوط الأول وتحليل الفكرة

لاشك أن لمكسيم رودنسون استراتيجية معاصرة في تجاوز النظرة الغربية القديمة عن الرسول محمد، فهو يتخذ من هذا التجاوز أو الفضح لأدب الخيال الغربي القديم ،وسيلة لتمرير النظرة العلمانية الحديثة في تحليلها لمفهوم الدين،بإعتبارها، بالنسبة لرودنسون، تحمل نظرة موضوعية لتفسير الوقائع القديمة التي لم يكن في إمكان الغربي القديم، في ظروفه أن يتوفر عليها ،او يعالج بها المسائل الإسلامية التي خاض فيها بجهل فاضح وخيال جامح ، وكما قال عن صور القرن الحادي عشر:" كان الابتكار الخرافي الخالص، الذي كان له كهدف وحيد وخز اهتمام القارئ ، يختلط، بنسب متغيرة، بالتشويهات الايديولوجية التي تضرم الحقد على العدو"(جاذبية الاسلام ص21) وقال ايضا:" بدأ الغرب مع الوقت ينظر إلى المسلمين على أنهم بشر من مخلوقات الله!"وسيأتي النص كاملا في موضعه. ولايستطيع القارئ بسهولة ان يكتشف إستراتيجية المؤلف الكامنة وراء تناوله للنظرة القروسطية الأوروبية الساذجة تجاه النبي محمد ، من خلال السياق الذي يتناول فيه تلك الخيالات الشعبية والروايات الخرافية عن النبي محمد، وإن كان المؤلف يحاول أن يظهر طبيعة الايديولوجيات والمصالح التي قامت من وراء النقد القديم للإسلام، وإنما تُكتشف هذه الإستراتيجية من خلال فلسفته وأدواته المعرفية –من خلال عرضه لها في الفصل الثاني من الكتاب- ، أي أن هناك بديل في تناول جاذبية الإسلام القدبمة والمعاصرة، فلم يعد هناك نفور كنفور القرون الأوروبية الخالية من الإسلام وقد أقبل على الإسلام اليوم أوروبيون ، أُدباء وفلاسفة، أطباء وصحفيون، نساء ورجال، فوجدوا فيه راحتهم وضميرهم، حقيقتهم وحاجتهم إلى الله عز وجل وإلى شريعته، ولذلك كان الميل الحثيث، والإستنفار الإستشراقي ل معالجة جاذبية الإسلام، معالجة عصرية، خصوصا أن سيل من الكتب الاكاديمية بدأت تنهار منبهرة بفوائد الوحي القرآني وعلميته وأخلاقيته، وفضح الإستشراق المعاصر الذي يحاول ان ينفي ذلك، ونذكر كلام رودنسون عن دعوة المستشرقين له للرد على اطروحة إدوارد سعيد، التي كشف فيها حتى الخلل في الموقف الماركسي،الذي كان ينتمي اليه، تجاه الإسلام،قال رودنسون:":"لقد عزز كتاب إدوارد سعيد ايضا قلق المستشرقيين واهتمامهم بموضوع الإشراط الاجتماعي والإثني والثقافي لميدانهم. لذا لم اندهش كثيرا لدعوتي في مارس\آزار 1980 من قبل المؤتمر الواحد والعشرين للمستشرقيين الألمان في برلين كي ألقي في هذا الإطار محاضرة حددوا لي موضوعها:التمركز الإثني والاستشراق"(جاذبية الإسلام ص12،13)
لم يمانع المؤلف من الإستجابة الفورية لصنع بحث لدراسة المشكل، أولا مشكل جاذبية الإسلام، وثانيا مشكل استخدام الأدوات المعرفية الحديثة في نقد الإستشراق وموقف رؤوس المذاهب الحديثة تجاه الإسلام، مثل نقد ادوار سعيد للفكر الأوروبي الحديث تجاه الإسلام والمسلمين، وكذلك اطروحات روجيه جارودي وغيرهما، وهي الأطروحات التي تحاول تفكيك النظرة المركزية الأوروبية الحديثة وبيان عنصريتها تجاه الإسلام، وقد استعمل سعيد في سبيل فضح ذلك بعض أدوات ميشيل فوكو المعرفية!
وجد رودنسون أن تلبية المطلب الإستشراقي جاهز والمناهج المتوفرة ، وهي تحت الطلب، جاهزة، ،ومن المعلوم كما قدمت أن مناهج رودنسون دنيوية دهرية تتناول الوحي بمفهوم المادة، و تقوم بقراءة النبوة قراءة علمانية دنيوية عازلة لجوهر وحقيقة الوحي القرآني ونبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومنعزلة عن كثير من شروط التفسير الأصيل لمفهوم الوحي القرآني ، هنا ، ومن خلال موقف رودنسون التفسيري يمكن للقارئ أن يتعرف على الإستراتيجية من وراء النقد ، او السرد، والمنهج من وراء العرض ، فكأنه يقول بأن النقد الساذج فضيحة للناقد حتى ولو كان من قومنا وينطق بلساننا، إلا أن البديل الذي يقدمه رودنسون ليس أحسن حالا مما نقده ، فكما حملت، وأنتجت، الرؤية البيزنطية القديمة الأساطير والخيالات المتطرفة فقد حملت، وأنتجت، العلمانية، خلف ظلال موضوعيتها وتأويلاتها ، ومذاهبها ومواضيعها الأثيرة، أيضا، الأساطير، فالعلمانية تتخرص أساطيرها بنواقص المنهج والجرأة على اختراع النظرية، من هنا نقول بأن للعلمانية فضائحها العقلية والنفسية والايديولوجية،تحت مختلف عناوينها الفلسفية والعلمية، كما كان الأمر عند الكنيسة البيزنطية وماتبعها من تخرصات قروسطية.
لم يرد رودنسون أن ينتهي من مقدمته لكتابه من دون ذكر إدوارد سعيد، السبب في سرد الصور التاريخية الأوروبية الوسيطة عن الإسلام، وتحرير الصور الحديثة من الإدانة ، مع محاولة تجاوز "الإستشراق الكلاسيكي" وتنبيهه على عدم جدوى أدواته العتيقة ، أمام النقد العلمي الإسلامي الحديث، أو مايقاربه، ويدعمه من انتاج اكاديمي من داخل الغرب نفسه!، فبعد أن دعا قراءه إلى قراءة "الإستشراق" لسعيد، ذهب يقول ان ادورد سعيد احرز نجاحا في العالم الأنجلو ساكسوني:" وأثار في وسط المستشرقين المحترف شيئا ما...أجل لقد اعتادوا على رؤية أعمالهم وهي تنقد بوصفها"متمركزة على الذات الإثنية" وأشخاصهم يفضحون في منشورات أبناء بلاد الشرق بوصفهم"عملاء " للإمبريالية الأوروبية- الأمريكية سواء كانوا واعين أم غير واعين.بيد أن هذه المنشورات لم تكن تصيب الوسط الخاص الذي هم فيه يتحركون.وإذا بنفس الإتهامات يستأنفها ،بالإنكليزية، أستاذ معروف بقيمته ،أليف فلوبير..وكولريدج، ويستنجد بأفكار ميشيل فوكو(...)وقد رد المستشرقون عبر نقدهم أسلوب إدوارد سعيد وتسجيلهم ثغرات وغلطات هذا المؤلف الذي ليس في اللعبة والمطلع بشيء سيء على مسائل التاريخ الإحداثي أو الثقافي التي يجابهها هؤلاء الاختصاصيون. لنستدرج ولنذكر أن إدوارد سعيد رغم أنه يتمتع بنظرات عامة ورغم تكلمه ،عند الإقتضاء، عن الدراسات التي تدور حول الهند والصين، فإنه يتطرق إلى الدراسات التي تستهدف الشرق الأدنى والغرب ، المسلمين بشكل خاص، وفي المقام الأول العالم العربي.إن بعض انتقادات المستشرقين مبررة ولي انتقادات أخرى سأصوغها.أن النزعة النسبية التامة ...عند المؤلف لاتبدو لي مؤسسة...تكمن مأثرة إدوارد سعيد في أنه ساهم في تعريف أفضل لإيديولوجية الاستشراق الأوروبي (وفي الواقع الانكلو-فرنسي خصوصا) في القرنين التاسع عشر والعشرين وتجذرها في الأهداف السياسية والاقتصادية الأوروبية آنذاك. ورغم أن التحليل الذي يقدمه عن هذه الإيديولوجية ذكي ، نافذ، وصائب في أحيان كثيرة،إلا أنه يضيع أحيانا، كما يبدو لي، في التأويل الذي ينشئه حول بعض نصوص المستشرقين، وأحيانا يتعكر إدراكه بسبب من"حساسيته المفرطة" الطبيعية لردود فعل الآخرين من الأوروبيين-الأمريكيين"المستقرين". من هنا نجد بعض الصياغات المبالغة. لكن شطرا كبيرا من انتقاداته للاستشراق صالحة وستكشف صدمة كتابه عن كونها نافعة جدا فيما إذا حثت الاختصاصيين على فهم أنهم ليسوا أبرياء إلى الحد الذي يزعمون أو حتى يعتقدون، وعلى محاولة سبر وكشف الأفكار العامة التي يستلهمونها بشكل غير واع، وبالتالي فينا إذا حثتهم على وعي هذه الأفكار العامة، وإلقاء نظرة نقدية عليها"(جاذبية الإسلام ص 11)

التطور الداخلي البطئ،للذهنية الغربية، تجاه الإسلام والمسلمين..

تحت عنوان (مراحل النظر الغربي على العالم الاسلامي) عرض مكسيم رودنسون ، كيف كانت النظرة الغربية للإسلام والمسلمين تتغير بتحول الذهنية الغربية ، تحت وقع المعارك، والعلاقات التجارية والسياسية، والهجرة المسيحية واليهودية إلى عالم الإسلام الغني والمتمدن، والمتسامح، مع فتنة العلم الإسلامي وسيطرته على العقل الغربي لمدة طويلة حتى وصلنا مع عرض رودنسون إلى تصورات عصر التنوير ومابعده، عن الرسول ودعوته، وأمة الإسلام، ففي البداية كان الغرب لايرى في المسلمين الا خطرا بربريا كما يقول رودنسون تحت عنوان كونان في صراع،:" شكل المسلمون بالنسبة للغرب المسيحي ، لفترة طويلة ،خطرا،قبل ان يصبحوا معضلة"(جاذبية الإسلام ص 15)
ولاشك ان تغير الصورة إحتاج إلى قرون حتى وصل الأمر بعد تجاوز الصورة المرعبة للخطر إلى تفسير(المعضلة) بصور شتى، بعضها قريب من النظرة القديمة، وبعضها مُخلط، وبعضها الآخر يدعي الموضوعية والبحث العلمي الخالص، حتى وصلنا الى نهاية القرن التاسع عشر، فظهرت صور اعجاب او تفسير معجبة لكن بعضها لم يتخلى عن وضع تفسير ساذج ، على الرغم من افتتانه بعظمة الرسول والرسالة، وكمثال على ذلك، يقول رودنسون في كتابه(محمد، ص312) :" فقد اعتبره المستشرق جريم، في نهاية القرن التاسع عشر اشتراكيا حاول أن يفرض الإصلاح الإجتماعي والمالي على قومه بالقوة، وذلك بمساعدة قدر يسير جدا من الحكايات الأسطورية، والتي إخترعها محمد ليرعب بها الأغنياء، حتى يعطوه تأييدهم " ،هذا مثال عن تحول التصور عن النبي من تصوره صلى الله عليه وسلم دجال، مؤله،في ثالوث، عند الساراسين، وهو اسم اطلقه الغربيون قديما، وبصورة خيالية ومرعبة على "شعب صاخب وناهب، وغير مسيحي فضلا عن ذلك، قد اجتاح وخرب أقطارا شاسعة، منتزعا إياها من مُلك المسيحية. هكذا يتكلم عن الأمر، بعد الحادثة بثلاثين أو أربعين سنة، كاتب حوليات من بورغونيا."الأغاريني" واسمهم أيضا ساراسين... في مراجعته قبل وفاته في سنة 735 بقليل لكتابه التاريخ الكنسي لأمة الأنكل يلخص بيد الموقر، وهو راهب انكلوا-سكسوني، يلخص الحوادث الأخيرة كما يلي:" في هذه الآونة، فتكت جائحة مرعبة من الساراسين ببلاد المغول وأحدثن فيها مجذرة محزنة، لكنهم بعد قليل ، نالوا في هذه البلاد العقاب الذي يواجه فسقهم" والمقصود-يقول رودنسون- هو المعركة الذائعة الصيت المسماة بواتيه(732)... كان الساراسين أو العرب معروفين منذ زمن طويل ، قبل الإسلام بكثير... وحدهم العلماء كانوا يماحكون على اسمهم، الذي يعتقدون انه مشتق من سارة، زوجة ابراهيم، بينما هؤلاء يتحدرون (كما يقول اسمهم الآخر،" اجاريني" من هاجر، الحادثة لمطرودة في الصحراء مع ابنها اسماعيل...وحدهم مسيحيو إسبانيا الإسلامية-يقول رودنسون- ...كانوا يذهبون إلى أبعد وذلك لأسباب جلية.إذ كانوا خاضعين لسيطرة المسلمين السياسية التي تفسح المجال حرا لتأثير ثقافي عربي فتاك بالنسبة لإيمان المسيحيين، فقد اضطروا إلى إنشاء صورة ما، أكثر وضوحا إن ليس أكثر دقة، عن المسيطرين عليهم وأفكارهم"جاذبية الإسلام ص16،17)
هذا في الغرب أما في بلدان الشرق المفتوحة، فقد:" سرت خرافات مخفضة ومهينة بين الجماهير، المسيحية واليهودية، اختلطت بإنطباعات أصح مأخوذة من الاحتكاك اليومي. كما عند مسيحي الشرق المخضعين ايضا(ولنذكر يوحنا الدمشقي)، حاول المفكرون ان يدفعوا الى ابعد حد الايديولوجيا الاسلامية، بغية مكافحة تأثيرها الممكن وحسب...هذا كله لم يكن ليهيئهم بشكل جيد لجهد فكري عميق من أجل معرفة وفهم الخصم"(جاذبية الإسلام ص17)
كانت الصورة الخيالية الروائية الشعبية، التي نشرها بيزنطيون ورهبان مذعورون تُستبدل –تحت وقع ووقائع مؤثرات شتى-بصور نمطية أخرى، يتم تعديلها في كل مرة.

الرؤية السجالية الشرسة

لاشك أن الرؤية السجالية الشرسة كما يسميها المؤلف،من"الشيطنة" المانوية للعدو السياسي-الايديولوجي، والصورة المغروسة في الأذهان في العصور الوسطى العليا والمنشورة بأدب الذيوع الكبير "كانت مازالت تؤثر "على عقول الجماهير البسيطة"(انظر جاذبية الإسلام ص30)

القرن الحادي عشر الميلادي

في القرن الحادي عشر-يقول رودنسون، تتحدد صورة العالم السارسيني بعض الشيء لأسباب على مايكفي من الوضوح...بقى العالم الإسلامي العدو رقم واحد. لم تعد المعارك ضده في إسبانيا وإيطالية الجنوبية وصقلية، مجرد معارك صمود ومقاومة. التقدم المسيحي، البطئ والمتقلب، بدأ يتضمن بشكل أكثر تواترا علاقات سياسية بل وعلاقات ثقافية مع السكان المخضعين"(جاذبية الإسلام ص17)
كانت أوروبا تتكون كوحدة ايديولوجية، ستستخدمها الصليبية لمقاومة تأثير الإسلام وجاذبيته المتنامية، وقد رأوه خطرا على امتيازات الرهبان والمنتفعين بتكريس الخرافات وتكديس الأموال من كل نوع، وقد فضح القرآن هذه القيادات وماتحميه من افكار وامتيازات ، وأكل أموال الناس بالباطل، فقال تعالى:" اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ"
يؤكد رودنسون أنه:" بخلاف ماقيل، ليست الصليبية هي التي تولد صورة عن الإسلام بقدر ما أن الوحدة الإيدلوجية للعالم المسيحي اللاتيني المصهورة ببطء هي التي تفضي بآن معا الى توضيح صورة العدو وإلى توجيد الطاقات نحو الصليبية.النموذج الذي تقدمه رحلات الحج إلى الأرض المقدسة ، وهي تتزايد عددا وتتحسن تنظيما خلال القرن الحادي عشر، ماضية منذئذ الى العمل المسلح ضد البدو النهابين ،القيمة الإسخاتولوجية(المعادية) لأورشليم والقبر المقدس اللذين يلطخهما الحضور الكافر، القيمة التطهرية للحج، فكرة واجب مساعدة مسيحي الشرق المهانين، هذا مايجعل من الحملة إلى الأرض المقدسة المهمة المقدسة التي تُقترح على المؤمنين، كان للصراع المتمركز على هذا النحو والمستقطب إلى قطبين ان يحدد عدوا هو أيضا مزود بملامح موسومة جيدا، نوعية، مع صورة موحدة إلى هذا الحد أو ذاك.لئن كان الساراسين، في نظر الحجاج، انواعا من ممثلين لا وجه لهم ، كفارا غير مثيرين للإهتمام،،"سلطات واقع"، لاتكاد تُذكر وفي وسطها يتنقلون،ولئن مازال حج شالمان الخرافي والهجائي،في القرن الحادي عشر أو في مطلع القرن الثاني عشر، مازال يظهر لنا الإمبراطور متنقلا بالقدس بدون أي تماس معهم، فإن اغنية رولاند التي أُلفت في ذلك الحين ايضا تبين لنا، بإسلوب على نفس الدرجة من الخرافية تقريبا،إسلاما قويا وغنيا، له ملوك متنوعون يسدي بعضهم إلى بعض عونا قويا، وبتصرفه -اجل- فيالق متعددة من الوثنين، مع نوبيين، وعبيد صقالبة ، وأرمن وزنوج، وافار وبروسيين، وهون وهنغاريين، لكنه موحد حول عبادة محمد وترفاغان وأبولون"(جاذبية الإسلام ص 18)

الترجمة والصورة(الدهشة او الفضيحة)

وبينما كانت صقلية وطليطلة تعود الى المسيحية في بداية القرن الثاني عشر(طليطلة عام 1085، صقلية عام1060)، وطبعا اطلاع الغرب يومذاك على كنور العلم عند المسلمين بشكل أوسع وبالترجمة، بعد ذلك. كان التماس قد اصبح وثيقا:" إن صورة الإسلام ستتكون الآن وستصبح أوضح وأدق شيئا فشيئا.لكنها ستعتل لقرون طويلة بالخصومة الأيديولوجية التي ستفرض وسوف تفرض عليها تشويهاتها المعتادة...لقد دُرست بشكل خاص أفكار الأوروبيين عن الدين الإسلامي. لكن، كل العالم الإسلامي يبدو لهم كموضوع لدهشة أو فضيحة,يمكن بإختصار تمييز ثلاثة وجوه لهذا الإداراك.عالم الإسلام هو كل شيء بنية سياسية-ايديولوجية معادية. لكنه أيضا حضارة مختلفة، ومنطقة اقتصادية غريبة.هذه الوجوه المتنوعة تثير فضول ورد فعل من أنواع مختلفة، عند نفس الأفراد في أحيان كثيرة"(جاذبية الإسلام ص 18)

القرن الثاني عشر ورؤية كنوز العلم الإسلامي

ومع ذلك فمع انه كان "لرجال السياسة وموظفيهم ومخبريهم وجواسيسهم رؤيتهم للعالم الإسلامي"(ص19) الا انه نحو سنة1200 ، يقول كتاب(أقسام الأرض) ان بغداد هي عاصمة، رأس، رئيسة) كل"العالم الوثني أو الكافر"، فلم يكن هناك -يقول رودنسون- جمهور قراءة ورأي في الغرب من أجل عرض مفصل للتاريخ السياسي للإسلام "(ص20) فكان الإسلام لايثير الإهتمام فقط لأسباب عسكرية او في موقفه العقدي او العلمي، وإنما كان الفضول يتزايد مع طرد المسلمين من بلاد الأندلس ورؤية كنوز العلم فيها الا ان الروايات الغريبة كانت بالنسبة للأوروبيين أمرا ضروريا،-كما يقول رودنسون-فالأحكام التبسيطية عن الإسلام ضرورة أوروبية وكذلك "الروايات الخيالية التي ينقلها الأدب الترويحي الواسع الإنتشار"(جاذبية الإسلام ص26)

كنوز ثمينة وجماهير في معزل

وهكذا أُبقيت الجماهير في معزل عن الحقيقة:" خلقت الصليبية جمهورا واسعا نهما إلى صورة إجمالية، تركيبية، مروحة ومرضية له عن إيديولوجيا الخصم كمنظومة أفكار...الجمهور كان بحاجة إلى أن تكون الصورة المقترحة، مع تبيانها له صفة الإسلام الكريهة، بشرحها إياه بشكل فظ، قادرة أيضا على تلبية ميوله الأدبية نحو الرائع، الملحوظة والمرموقة في كل إنتاج العصر"(جاذبية الإسلام ص20)

حياة محمد صلى الله عليه وسلم بدون مبالاة بالصواب أو الدقة

فشيطنة الخصم تبدو لرودنسون وكأنها حتمية تاريخية عن البشر، مع انه يتكلم عن ظواهر ومظاهر التغيير:" فكل حركة مقاتلة تقرأ جوهر الطابع الضار لخصمها في هذا التاريخ المقدس الذي صار شيطانا وفي النشاط المشؤوم للمؤسس:" هكذا فالمؤلفون اللاتين الذين شرعوا بين 1100،1140 في تلبية هذه الحاجة عند الجمهور الكبير، ركزوا جهودهم على حياة محمد بدون أن يبالوا بالصواب أو الدقة، مفسحين المجال حرا، كما قال ر.و.سوذرن، الى" جهل الخيال الظافر" في نظرهم، كان محمد ساحرا دمر الكنيسة في افريقيا وفي الشرق بالسحر والخداع وبإباحته الاختلاط الجنسي العام. وكانت خرافات آتية من الفلكلور العام، من الأدب الكلاسيكي،من النصوص البيزنطية عن الإسلام، من روايات إسلامية شوهها مسيحيو الشرق بحقد، كانت تزين هذه الصورة.غيبر دو نوجان(المتوفي نحو 1124-1130)، كما يسجل سوذرن، كان يُقر بأنه ليس لديه مصادر مكتوبة وانه إنما يقدم "الرأي الشعبي" ليس أكثر، بلا وسيلة قادرة على تمييز الصواب من الخطأ. لكنه ن كاشفا القناع بسذاجة عن الأساس الحقيقي لكل نقد من طراز إيديولوجي، كان يخلص الى مايلي:" يمكن بلا تردد أن نقول شرا عن الذي تتخطى طبيعته الشريرة كل مايمكن قوله عن الشر" هذه الرؤية من الأدب الموجه للجمهور الكبير كان لها، كما هو جلي، ان تشكل وتعلم الصورة التي حفظتها الأجيال التالية أكثر بكثير مما شكلتها وأعلمتها أعمال اكثر علما وأكثر وجدانية. كان لها أيضا أن تُجمل بمؤلفات أدبية عديدة كان الابتكار الخرافي الخالص، الذي كان له كهدف وحيد وخز اهتمام القارئ ، يختلط، بنسب متغيرة، بالتشويهات الايديولوجية التي تضرم الحقد على العدو، أغاني المفاخر تحمل الاختراعات الخرافية الى الحد الاقصى تعزي للمسلمين عبادة أصنام كما من جهة أخرى كان هؤلاء يصفون المسيحيين بالشرك. معبودهم الرئيس محمد، الذي يظنه التروفير-إلا على سبيل الإستثناء- إله الساراسين الرئيسي,تماثيله من مادة غنية وهي ضخمة.يضيفون اليه أسماء مساعدة، عددها متغير، ويصل إلى 700 عند مؤلف ألماني من القرن 13، هو لو شتريكر. على الأرجح، بمماثلة مع المسيحية، يُرى أحيانا على رأسهم ثالوث ينضم فيه ترفاغان وأبولون إلى محمد، ويعبدون في (كنيس-وهذا يقرب الاسلام من معتقد اليهود المدان هو ايضا) "(جاذبية الإسلام ص 21)

فصل العلم الإسلامي عن مصدره سبب تشويها حتى اليوم

بالطبع، لايستطيع مكسيم رودنسون إلا أن يعترف بأن الغرب حتى هذه الفترة ومابعدها افتقد الرؤية الموضوعية في النظر إلى الإسلام والمسلمين، وأن تلك النظرات شكلت الجماهير حتى بعد ذلك بقرون:" إن موقفا موضوعيا لم يكن يصادف بعدُ الا في ميدان آخر تماما لايمس الدين الاسلامي الا بصورة غير مباشرة وبعيدة.إنه ميدان العلوم بمعنى الكلمة الأوسع"(جاذبية الإسلام ص 21)
ولكن لنمضي مع مكسيم رودنسون في عرضه لتصورات التاريخ الغربي عن الإسلام، وقد وصلنا إلى عملية العزل العميقة التي قام بها الغرب بين الإسلام والعلم الذي انتجه!،:" منذ مطلع القرن العاشر،كانت اوساط ضيقة قد سعت الى انماء كنز المعارف النظرية عن الانسان والعالم، الكنز المكون من بضعة كتب لاتينية أُنقذت من غرق الحضارة القديمة. عُلم ، في هذه الحلقات القليلة، أن المسلمين يمتلكون بالعربية تراجم مؤلفات العالم القديم الأساسية وان لديهم كتبا كاملة في العلوم المعتبرة أساسية,يسعى البعض إلى هذه المؤلفات، وإلى العلوم والممارسات التي بتصرف حائزيها، كثيرا ماذكرت، مثلا، الدراسات التي أجراها في كاتالونيا جربير من أورياك..، المولود نحو عام938، والذي ارتفع الى سدة البابوية تحت اسم سيلفستر الثاني..من سنة999 حتى وفاته سنة1003. رجع من كاتالونيا حاملا الكثير من المعارف التقنية والعلمية وانكب على إذاعتها.شيئا فشيئا تُنشأ تراجم لاتينية عن المؤلفات العربية وينتشر محرز علم العالم الإسلامي: في أنكلترة، واللورين، ومدينة سالرنو، وخاصة في إسبانيا حيث التماسات أسهل.إن عمل الترجمة ينمو وينتظم في هذا القطر الأخير بعد فتح مدينة طليطلة، وهي مركز فكري بين أمور أخرى، سنة1085"(جاذبية الإسلام ص 21،22)
كان هناك ، ومايزال، انتقاء وعزل بين العلوم المترابطة او على الأقل العلوم الغيبية الإسلامية (الصانعة والمنشئة،للعلم الدنيوي، على خلاف ماكانت عليه الحضارات) وبين ماانتجته!، وهذا هو نفسه الذي ترك أثرا غائرا وعميقا في العقلية الغربية في عدم ربطها بين الإسلام والوحي الذي افتتح مجالات العلوم والتقنيات، وبين ما أخذوه منه في الأندلس او بعدها!، وعمل الترجمة يومذاك كان ينحى منحا جديدا ليكتشف الجديد، لكنه، أيضا، لم يرد أن يتعرف على المصدر الذي ابتعث العرب وعلومهم إلى الوجود، يقول مكسيم رودنسون :" لاريب، ماكانوا يبحثون عنه في المخطوطات العربية ليس بتاتا صورة الإسلام أو العالم الإسلامي، بل معرفة موضوعية عن الطبيعة.مع ذلك، بقوة الأشياء، كانوا ينتهون إلى تعلم بعض المعطيات عن الناقل(...) الإسلامي لهذه المعرفة"(جاذبية الإسلام ص22)، وحتى اليوم مازالت هذه السطحية في النظر إلى علوم المسلمين بأنهم(نقلة للعلم وليس منتجوا علم )

جاذبية في ثوب التدافع والإنبهار

قوة الأشياء!، بتعبير رودنسون ،أو"سنة التدافع" في المفهوم الإسلامي، والاحتكاك، والتجارة والحرب، والترجمة، ووجود الإسلام في اوروبا لقرون، ومحاولة اختراقه العلمي والأخلاقي، للعقل الغربي المسكون بالخرافة وتلبسه بعوائق علمية ونفسية تحول دون تفتحه على الكون وأسبابه (نقلة ابن رشد ، وغيره من علماء الأمة، في بيان فاعلية الأسباب المأخوذة من التصور القرآني، ووجود مثال عملي واسع الدوائر في حواضر الإسلام وإنتاجها العلمي المتنامي والمتصاعد بقوة) كل ذلك، غير وجهة اوروبا من المسيحية المنحرفة إلى العلم الذي انتجه المسلمون، العلم بالأسباب ودراستها!:" كان لامفر من ان تنتشر معارف أصح عن هذا الكون بهذه القناة. والأرجح أن هذا مايفسر بعض الملحوظات من النصف الأول من القرن الثاني عشر التي تتعارض بتحديدها الموضوعي مع الطوفان الخيالي في أدب الترويح"(جاذبية الإسلام ص 22)

دهشة اكتشاف العلم تُلين الموقف العصابي لكنها لاتعالجه!

لاشك أن رؤية موضوعات الإسلام العملية عيانيا في بلاد اسلامية ، داخل أوروبا، بدأ يغير الموقف المتعصب بشكل ما، وفي كل مرحلة يحدث فيها معرفة جديدة بالإسلام، فالطبيب اليهودي الإسباني لملك إنكلترة هنري الأول وهو بيدرو دو ألفونسو، الذي نال العمادة في هويسكا سنة1106، والمتوفي سنة1110)، ترجم مؤلفات في علم الفلك،:" لكنه أيضا،محرر أول مؤلف يحوي معطيات لها بعض القيمة الموضوعية عن محمد والإسلام"،يضيف رودنسون:" عند ملتقى تيار الاهتمام بالميراث العلمي للعالم الاسلامي وتيار الفضول الشعبي، يقع الجهد الإستثنائي الذي بذله بيار الموقر..، أباتي دير كلوني(ولد نحو سنة 1094 وتوفي سنة1156)، من أجل إحراز وإيصال معرفة علمية، مؤسسة موضوعيا، عن الدين الإسلامي."(جاذبية الإسلام ص22)
بيار الموقر،اكتسب بعض معارفه ابان زيارته إلى بيوت رهبنته في إسبانيا، لكنه حاول مقاومة الإسلام بالرد المسيحي الذي كان يعي خطر الإسلام على المسيحية الأوروبية المعيقة للتقدم العلمي وتيسير حياة الناس بالعلم ومنتجاته:" كان لديه كذلك وعي حاد بالأخطار التي تحدق بالكنيسة الداخلة في عصر صخب فكري وانشاقات في الأفق وطعن معمم."(جاذبية الإسلام ص22) ولأجل ان صورة المسلمين اختلفت نتيجة مشاهداته لإزدهار الإسلام في الأندلس وغيرها، وتأثير ذلك على اوروزبا، إرتأى أن يخوص المعركة بالمحبة!:" كان يريد تسليح الكنيسة ضد هذه المخاطر. بحكم سجيته وأيضا كانعكاس ، ربا، عن الطرق الجديدة للرؤية وهي بعدُ محدودة جدا، كان لايريد تسليحها إلا بأسلحة متينة، بدون أن يخون المحبة (جاذبية الإسلام ص23) ومن أقواله نقتطع قوله التالي:" اذا كان لايمكن أن يهتدي المسلمون به، فعلى الأقل إن العلماء المحبين للعدالة لايمكن أن يهملوا قضية تزويد الضعفاء في الكنيسة، الذين بهذه السهولة وهذا اللاوعي تثير أسباب صغيرة جدا انفعالهم واستنكارهم"(جاذبية الإسلام ص 23) ولذلك وفي إسبانيا مول"بيار الموقر"جماعة من المترجمين كفريق عمل، ومن هذا الفريق ترجم الانكليزي روبير دو كتون القرآن عام1143، والفريق ترجم سلسلة من النصوص العربية وغيرها وهو مادعي ب" مدونة كلوني"، وايضا فهذا الفريق لم يذهب إلى :" دراسة الإسلام دراسة جدية ومتعمقة، يقول رودنسون ص23، ومضيفا:" أن دراسة كهذه لم تكن تهم احدا. لم تكن تبدُ ذات نفع للصراعات الجارية، لاسيما وان السجال الديني لم يكن يخاطب سوى مسلمين وهميين، يُهرسون بسهولة على الورق، يبدو أنهم رموا بالأحرى إلى إعطاء المسيحيين أسبابا جيدة ليوطدوا إيمانهم الخاص. من جهة أخرى، إن الحالة الذهنية للغرب اللاتيني لم تكن تهيئه كثيرا للاهتمام بالأيديولوجيات(....) في حد ذاتها كما كان حاصلا في الشرق المسلم"(جاذبية الإسلام ص 24)

التأثير هائل

كان تأثير الفلسفة العربية كبيرا وهائلا ، وكان كثير من الغربيين يذهبون لتلقي العلم العربي من الأندلس ، منهم جيرار من كريمونت، ولد عام1144 ، وتوفي عام1187) ذهب إلى طليطلة كثير من الكتب العربية منها كتاب الشفاء لإبن سينا ومجموعة أخرى من الأعمال الفلسفية والفكرية لابن رشد رحمه الله وغيره."كان تأثيرها هائلا"(جاذبية الإسلام ص24)، وعلى الرغم من أن كثير من علماء الأمة اختلفوا في قضايا علمية مع ابن رشد مثلا، إلا أنه رحمه الله كان في أغلب ماكان عليه على ثوابت الإسلام وأصوله وقيمه ، فمحاولة تصنيفه -فعل ذلك رودنسون ص 27) بأنه صادف متاعب مع اللاهوتيين المحافظين هو تلبيس فج، ذلك أن ابن رشد يعتبر من هؤلاء اللاهوتيين المحافظين ويكفي أنه كان قاضيا اسلاميا يحكم بالشريعة التي يعدها الغرب أصولية مرفوضة.
كما أنه لم يكن نزاعا بين العقل والإيمان في الإسلام يمثل ابن رشد فيه منطقة العقل، ذلك أن ابن رشد كان مؤمنا مدافعا عن اصول الإسلام ولم يختلف معه العلماء في كثير من الأمور المعتبرة عقليا، ذلك أنها اصلا من الإيمان ودعوته إلى التعقل والتفكر.

هل زالت الحكايات التافهة والفظيعة؟

وهكذا ومع الوقت كانت النظرة القديمة تتبدل نوعا ما، مع أن آثارها باقية حتى اليوم، بيد أن التغيير مستمر:" إن صورة العالم الإسلامي كمهد لفلاسفة ذوي مدى عملاق التي كانت هكذا تتكون عند المفكرين كانت تتناقض بعنف صورته كبنية سياسية تسيطر عليها إيديولوجية معادية وضالة، حسب الأفكار الشعبية المؤسسة على حكايات تافهة وفظيعة. كان من العسير التوفيق بين هاتين الصورتين...كان الساراسين يظهرون كأمة فلسفة.كما الحال أصلا عند أبيلار (المتوفي سنة1142، ولنلحظ ذلك- صديق بيار الموقر)، كلمة "فيلسوف تبدو تعني عمليا "مسلم"،وبعد قرن من ذلك، يوجه بالحقيقة عمل توما الأكويني(الجامع ضد الأميين) إلى الساراسين، هذا الكتاب الذي يريد أن يبرهن على أطروحات المسيحية بأنوار العقل وحدها "إذ أن البعض من بين الأميين ، مثلا المحمديين والوثنيين لايتفقون معنا على سلطة أي كتاب مقدس"(جاذبية الإسلام ص 25)
كانت البواعث نفسها تدفع إلى كتابة المزيد ومعرفة المزيد،بيد أن المعرفة ماتزال ناقصة، خصوصا وقد تغير العالم من ديني إلى مادي!، فعلى الصعيد التاريخي- يقول رودنسون- دفعت بواعث او ضرورة امتلاك معلومات اكثر تفصيلا :" إلى أولى المحاولات الجدية. في القرن الثاني عشر كان غودفروا فيترب سكرتير الأباطرة الألمان يدرج في سيرته الكونية لمحة جيدة الاطلاع عن حياة محمد.في مطلع القرن التالي، كان الكاردينال رودريغو خيمينيز، رئيس أساقفة طليطلة، يحرر أول تاريخ للعرب في الغرب، يذهب من محمد والخلفاء الأوائل، لكي يتمركز جوهريا على نشاط العرب في إسبانيا"(جاذبية الإسلام ص 26،27)
بيد أن الأمر لم يكن بتلك السهولة التي يمكن تصورها، إن ذلك كله لم يمضي مجردا ونافيا للصور النمطية:"كان تكاثر التماسات، اثر الاسترجاع الاسباني وفتح صقلية المسلمة وإقامة دولة لاتينية في الشرق، كان يجعل امتلاك معلومات أكثر تفصيلا وأكثر تنوعا أمرا ضروريا.هذا بدون طمس الأحكام التبسيطية عن الاسلام كدين، بل ولا دائما الروايات الخيالية التي ينقلها الأدب الترويجي الواسع الانتشار"(جاذبية الإسلام ص 26)

التجارة مع المسلمين في القرن الثاني والثالث عشر

فالباعث الإقتصادي كان حافزا يدفع الى معرفة العالم الإسلامي:" فقد كان العالم الإسلامي ميدانا اقتصاديا ايضا بل وذا أهمية أولية بالنسبة لعدد كبير من التجار الاوروبيون" وقد تحولت تجارة الغرب مع العالم الإسلامي،في القرن الثامن، من ان تكون بواسطة أجانب:أروام(يونان) وسوريون، أو نصف أجانب:اليهود، لتتؤخذ-والتعبير لورودنسون:" هذه التجارة جزئيا في أيدي مدن ايطالية كانت تحت السيطرة البيزنطية:البندقية، نابولي، غاييت، أمالقي، وستصبح شيئا فشيئا مستقلة، ايضا يبدأ السكانديناف بلعب دور هام كوسطاء:" يقتضي هذا حدا أدنى من مؤسسات مشتركة تقرب العالمين:عملات ساراسينية متداولة أو مقلدة في الغرب، نماذج عقود تجارية. من الساراسين"(ص27) كان الإيطاليون يدخلون العالم الإسلامي بجوازات"أمان" ، احيانا كانت التجارة تتم رغما عن تهديدات البابا، يؤدي الأمر إلى حلف بين منطقة غربية وبين العالم الإسلامي:"تفرض التجارة علاقات على النطاق الحكومي، في هذا المستوى مثلا، يقع بالضرورة حلف مدن كمبانيا، مدينة أمالفي بشكل رئيسي، مع الساراسين في القرن التاسع، رغم تهديدات وعروض البابا، رغم انتخاب الامبراطور لودفيغ الثاني الذي أصبح نابولي في نظره بالرمو ثانية أو مهدية ثانية"(ص27) وبطبيعة الأحوال كانت علاقات كهذه تستلزم التدخل في امور سياسية كإستعادة كنسية(دمرها مثلا الخليفة الفاطمي، الحاكم بأمر الله) ، وفي كل الأحوال :"كان العالم الإسلامي-يقول رودنسون- يظهر لهؤلاء التجار الآتين من منطقة متخلفة كمصدر منتوحات ترف، آتية أحيانا من أبعد: ورق البردي، العاج، المنسوجات الثمينة، أحيانا ومنذ ذلك الحين منتجات استهلاك كبير كزيت الزيتون، كان أيضا سوقا ل"المواد الأولية" أو المنتجات الخام الأوروبية كالخشب والحديد ومعادن أخرى"(ص28)
ماذا أحدثت العلاقة التجارية المتنامية على مستوى الرؤية الفكرية، يجيب رودنسون:" بطبيعة الحال ، مهما يكن تعلقهم بإيمانهم المسيحي، لم يكن بإمكان الاوروبيين الداخلين في علاقات أعمال مع العالم الإسلامي ان يشاطروا الأحكام المتسرعة التي كانت تنشأ عن هذا العالم في أوساط أخرى من أوروبا"(جاذبية الإسلام ص 28)، كان التغيير النفسي والفكري يتم على تلك المستويات المطبوعة بدافع الحاجة والتجارة، البحث عن عالم جديد، كما في سفر كثير من الشباب الأوروبي إلى حواضر الإسلام الأوروبية،، قوة الأشياء، بتعبير رودنسون، كانت تدفع العالمين إلى التقارب والتعارف، ومن هنا كانت تتغير النظرة، انظر جاذبية الإسلام لرودنسون ص22) او بحسب التعبير القرآني فهي "سنة التدافع" الشاملة المعنى والدلالة، قال تعالى" وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" " وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"" " ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ" " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ "، ومن التدافع والتقدير الرباني،:"ضغط المعلومات الصحيحة التي ينقلها المسافرون والدبلوماسيون يُحس شيئا فشيئا" (ص40) بينما كانت الصور الساذجة ، والنمطية عن الإسلام والمسلمين ماتزال تسيطر على وجدان ومشاعر وخواطر الجماهير الغربية المستلبة الوعي من قبل الكنيسة، يقول رودنسون:" إن تراكم معارف صحيحة عن الاسلام وأصوله وعن الشعوب الاسلامية والعلاقات العملية المكثرة في الميدان السياسي وميدان التجارة على حد سواء، والاحترام المتبادل الذي كان ينشأ من جرائها في بعض الحالات، والتقدير الكبير لمذاهب علمية أو فلسفية كان مصدرها مغروسا في أرض الإسلام، هذا كله، مضافا الى التطور الداخلي البطئ، للذهنية الغربية، كان يقود شيئا فشيئا إلى تغيير الزاوية التي منها كان يُرى هذا العالم الغريب"(جاذبية الإسلام ص 30)
مع ذلك قلد رودنسون الإستشراق القديم لكن بتهمة غرضها عصري ألا وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيد الشعر، وأنه لولا أن القرآن مكتوب على شكل شعر من النبي صلى الله عليه وسلم مااستمر القرآن!

الحروب وقُرب من العدو

قال رودنسون:" هذا الاحترام كان يمكن ان يولد أيضا في سياق آخر تماما. وسط المعارك بين الصليبيين والساراسيين، رغم كل الأحقاد، كان يمكن بالمناسبة التعرف عند العدو على القيم التي تعلمت ايديولوجية الفروسية تعظيمها"(ص28)

صلاح الدين وحرب انسانية!

يقول رودنسون:" كان الخصم الكبير"سلادين"(السلطان صلاح الدين،1138-1193) يثير إعجابا يفيض من كل الاطراف عند الغربيين. كان قد خاض الحرب بإنسانية وبفروسية، وقلما أجابه الصليبيون بالمثل عدا ذلك، لاسيما ريتشارد قلب الأسد. في حصار عكا(1189-1191) في فترات الإستراحة بين المعارك ، كان الأعداء يتآخون، يرقصون، يغنون ويعلبون معا...ستتجذر الروايات التي تولدت وتكاثرت في تمجيد صلاح الدين،بل أخيرا، في القرن الرابع عشر، كتبوا في بلاد الفلاندر قصيدا كبيرا يسترجع كل الفصول التي تراكمت حوله على يد الحكايات السابقة"(جاذبية الإسلام ص29)
ولاشك أنه لولا نقل الجنود الأوروبيون لشجاعة ونبل صلاح الدين، وسماحته وتعامله الإنساني معهم حتى في الحرب، فضلا عن الأسر ، وشيوع ذلك، لما وصلت تلك الأخبار الجديدة إلى مسامع الأوروبيون الذي كانوا يسمعون حكايات ملفقة عن الإسلام والمسلمين، بيد أن مسار الحكايات الغريبة لم ينقطع، بل حول صلاح الدين نفسه، وربما ليقربوه من وجدانهم، وقد أغرموا به حبا، خصوصا النساء الذي سمعوا عن رحمته وسموه، وفروسيته وشجاعته، لفقوا عنه روايات مشابهة، عن غراميات مع ملكة فرنسا زوجة فيليب أوغست... وقد اعطوا اسمه لأولاد كثيرون-كما قال رودنسون-:" أحفادهم مذكورون في كتب أدلة الهاتف السنوية في فرنسا"(جاذبية الإسلام ص29)

العلم والطب يقربان البعيد، و فردريك الثاني.

يضرب رودنسون مثلا على ذلك بقوله:" مثلا الامبراطور المحب للاسلام والعرب، فردريك الثاني هوهونشتوفن(1194-1250)، والذي يتناقش بالعربية في الفلسفة والمنطق، في الطب والرياضيات،مع مسلمين، يتأثر بالعادات الإسلامية، يقيم في مدينة لوشيرا بإيطاليا مستوطنة سراسينية في خدمته مع مسجد وكل مرغبات الحياة على الطريقة الشرقية.تعرف قصة "الصليبية" العجيبة لهذا الامبراطور المحروم من قبل الكنيسة..."(جاذبية الإسلام ص31) لكن فريدريك حُرم من البابا في سنة1239، :" يتهمه، بين مفاسد أخرى وإلى جانب صداقته للاسلام، بأنه أكد أن العالم قد خدعه دجالون ثلاثة: موسى ويسوع ومحمد. قد تكون التهمة باطلة، كما زعم الامبراطور، لكنها تدلل بالأقل على ان هذه الفكرة ، التي يبدو أن منشأها هو في العالم الإسلامي، كانت منتشرة آنذاك في اوروبا المسيحية"(جاذبية الإسلام ص31)
بدأ الغرب مع الوقت ينظر إلى المسلمين على أنهم بشر من مخلوقات الله!، أما كلمة وثني، التي اطلقت قديما، فقد:" بات من الأصعب أن تبقى كلمة مرادفة ل إسلام"(جاذبية الإسلام ص 33)
مع الوقت كان الأوروبيون يرون نسبية معتقداتهم، وهي مايسميها رودنسون"النزعة النسبية" فالأوروبيون كانوا يرون ، مع الوقت شعوبا أخرى، وباتت عقائدهم معرضة للهدم من قبل التراث الذي نشره الإسلام في الغرب عن طريق الرحالة والرهبان والشباب الأوروبي، ومع أن القضية كانت"مكافحة الإسلام" الا أن الإنفتاح على الإسلام، ولو نسبيا، جعل الأوروبيون يغيرون النظرة، فعلى الأقل انزاحت الرؤية الروائية البشعة وحلت محلها خليط متنوع ، ومزيج جديد يخلط بين الأسطورة والحقيقة، الحق والباطل، بنسب متفاوتة، مع مرور الوقت، وتغير زاوة النظر، ورؤية النفس عارية أمام مفاجئات ومشاهدات يحكيها التجار والرهبان والدبلوماسيون، ايضا،:" الرزائل التي تؤخذ على الإسلام-والكلام هنا للمؤلف- موجودة وبنفس القدر في المسيحية اللاتنية.(انظر جاذبية الإسلام ص 33) واظن أن المؤلف يقصد الرزائل التي تخيلوها في رواياتهم الخيالية والتي وجدوا حقيقتها عندهم لا عند الإسلام على الحقيقة.

التعايش المقارب: العدو يصبح شريكا

تحت هذا العنوان، ولعرض الموقف الأوروبي الجديد في القرن الرابع عشر والخامس عشر، قال رودنسون ان نمو الإمبراطورية العثمانية أيقظ إلى حين الاهتمام بالدين الاسلامي في دوائر لاهوتية، فلم يكن الصراع العسكري بالشيء المجدي في محاولة تحجيم الإسلام، ولذلك لجأ رجالا اللاهوت إلى "مشروع سلسلة من المداولات مع الفقهاء المسلمين، فبدأت أولى المحاولات لدراسة القرآن دراسة فيللوجية وتاريخية –يقول عنها رودنسون" واضحة ومحددة للقرآن" قال بهذه المحاولة نقولا دو كوزا (1401-1464):" الذي فكر في الوسائل العملية لتحقيق خططه"(انظر جاذبية الإسلام ص 36) فقد كان الأتراك العثمانيون يمثلون خطرا كبيرا-يقول رودنسون- ولكن، في الجو الجديد للقرن الخامس عشر، كانوا يرون فيهم خطرا زمنيا أو ثقافيا أكثر منه خطرا ايديولوجيا"(ص36) وبينما كان اللاهوتيون يفكرون في خطط لدراسة القرآن بعيدا قليلا عن روايات التهييج الشعبي كانت هناك علاقات سياسية تجري مع الأتراك العثمانيون، حتى وصل الأمر إلى أن البابوية كانت :" تتلقى من سنة1490 حتى سنة1494 عائدا ماليا سنويا من السلطان العثماني بيازيد الثاني لكي تحتفظ بشقيقه وخصمه...البابا اسكندر الثالث استقبل سفير"كبير الأتراك" استقبالا فخما مهيبا في روما سنة1493" (ص36،37) وبناء على اتفاقية تمت ،أعلن سليمان القانوني الحرب على البندقية:" بعد بضعة عقود من السنين، حين كان سليمان القانوني يفتح المجر وكان على وشك ان يجعل البحر المتوسط بحيرة تركية، كان فرانسوا الأول ملك فرنسا يعقد معه حلفا نشيطا وكانا يضافران تحركاتهما العسكرية ضد الامبراطور شارل الخامس(1535، علما بأنه كان يتخذ احتياطات ايديولوجية للدفاع عن نفسه من وجهة نظر المسيحية، لكن، في سنة 1588،كانت ملكة انجلترا تفضح للسلطان ملك إسبانيا بوصفه رئيسا لعبدة الأوثانا. هذه المرة يُعرض الحلف على الصعيد الايديولوجي بعينه: أنصار عقيدة التوحيد الدينية ضد الكاثوليك أصحاب العبادات المتعددة المشبوهة...أيضا شعوبا بأسرها كانت تهدد حكومات اضطهادية باستقبال غزو تركي محتمل استقبالا طيبا كما فعل من قبل قسم من مسيحي البلقان"(جاذبية الإسلام ص 37)
نعم لقد كانت أُبهة الباب العالي تثير انطباعا قويا لدى الاوروبيين وقوته تفرض نفسها على أذهانهم، كما عبر مكسيم رودنسون,
وبعد ان تضغط المعلومات الصحيحة على النخبة الأوروبية ، تنحسر نوعا ما بعض التصورات القديمة عن الإسلام، وعن الإنسان المسلم،وصارت رؤية الشرق تختلف في بعض ملامحها عما كانت عليه من قبل، نجد التعبيرات الثقافية، في الفن والأدب ، تأخذ صورا متغيرة، ففي عام 1670، يأخذ مولبير عناء ان ينقل جملا تركية حقيقية في الاحتفال الهزلي في ملهاته البرجوازي النبيل:" وفي سنة 1672، يلح راسبين، في مقدمت مأساته بيازيد، على الحرص الذي اتخذه في التوثق عن تاريخ الأتراك.يلومه كورني وآخرون على كونه لم يضع في المسرح شخصا واحدا "تكون له العواطف التي يجب ان تكون له والتي للانسان في القسطنطينة؛ كلهم، تحت زي تركي، لهم الشعور الذي للانسان في وسط فرنسا"(جاذبية الإسلام ص40)
ان السياسة العملية والملاحظة الموضوعية-يقول المؤلف- من جانب المسافر والتاجر إنما هيئتا السبل وحسب. ينضاف اليهما تيار التنقيب العلمي الجديد.
على مضض يحاول رودنسون ان يفصح عن شيء ، كان يخترق كل العالم الغربي، ويصنع التغيير فيه "تُطبع أعمال ابن سينا الطبية والفلسفية، وكتب قواعد وجغرافية ورياضيات. الجهد سيستأنف في باريس وهولندة وألمانيا في اواخر القرن السادس عشر واوائل السابع عشر، لاسيما معرفة أفضل للطب السينوي"جاذبية الإسلام ص41)
ومع أن مئات الأعمال الأخرى كانت تغير الواقع الغربي لعالم أفضل مع نبذ الخرافات الكنسية والمعوقات الذهنية والعملية، إلا أن الإشارة إليها، كما يمكن ملاحظة ذلك، في نص رودنسون في جاذبية الإسلام، قليلة، هذه المرة، وعلى كل فيمكن أن نحصل على الخفي من المعلن، ووراء المكتوم على المخبوء الصريح، وأن نبني عليه ونفسر، فتفجر المشاهد وتواتر الحقائق، والإقتباس لتحسين الواقع المزري، ومعرفة مصدر النور او الرفاهية والنظافة والعلم والانتاج الحداثي للإسلام، كل ذلك، طور النظرة ، وعمل على أفول الصور القديمة، لاشك أن تلك الجغرافيا الأندلسية وضغوطاتها، وفتتنتها، غيرت المشهد الغربي نوعا ما فمازالت الهيئات الفكرية والسياسية تنشر رواياتها الجديدة.

القرن السادس عشر والقرن السابع عشر​

يشهدان تفتح هيكل تسليح للعلم والبحث-كما يقول رودنسون- يستخدم ويمول ويساند مشاريع ايديولوجية او سياسية أو اقتصادية، فالنمو الإقتصادي كان يجعل تطوير المعرفة،أمرا لابد منه ، في الكثير من الميادين، وكانت تتكون من هذا الاتجاه، شبكة منزمة ، تحميها وتمولها الدول، من أجل اكتساب وتمويل المعرفةويدفع ذلك الى التخصص،:" يضطلع العالم المتخصص أو يرى نفسه مضطلعا بمهمة محدودة، لكنه ينكب عليها بوجدانية،...يسمح لنفسه بإهمال النتائج الايديولوجية والفلسفية والسياسية والاجتماعية التي لآخرين أن يستخلصوها من أعماله...مسألية العلوم الإنسانية ليس على مايكفي من التقدم لكنها تنفرز وتفضي الى شيء آخر سوى" أقاليم من الفلسفة العامة. كذلك إن التعددية الايديولوجية التي تقوم في اوروبا بعد انتهاء حروب الدين بدون ان يهزم اي حزب الخصم نهائيا، والتعاون بين علماء من ولاءات ايديولوجية مختلفة، يشجعان الموضوعية.هذه العوامل كلها تفعل بهذا القدر في ميدان الاستشراق. البابوية وكثير من المسيحيين يهتمون بوحدة الكنائس،أنكلترة وفرنسا والإيالات المتحدة(هولندة) تعني بالتجارة وبمشاريعها السياسية في الشرق.ازدياد سهولة المواصلات ..الفن العسكري...مازال الأطباء مهتمين بابن سينا رغم رد الفعل "ضد العروبة" وسيسمح انحدارها بالنظر اليهما بصفاء أكبرِ...هذه الروابط الأوثق ، هذه الشواغل ، هذه الشروط تفسر مولد شبكة استشراق وثيقة"(جاذبية الإسلام ص 43)

الإستشراق يتطور، وأكاديمية تتبلور!

بدأ أول كرسي للغة العربية يُنشأ في باريس سنة 1539، في معهد" الكوليج دو فرانس"الذي تأسس لتوه.
لقد سهلت الطباعة(ومقدماتها التجريبية الإسلامية!) انتقال العلوم (الإسلامية!)." وستنكب طائفة من الاختصاصيين على تقديم أدوات العمل الذي لاغنى عنها: كتب قواعد، معاجم، طبع نصوص. في المقدمة، يمثل الهولنديان توماس فان إرب(أو إربينوس)(1584-1624) الذي ينشر أول كتاب قواعد عربية ...في النمسا، سنة1680، ينشر اللوريني فرانس ميننسكي قاموسه التركي الضخم. وتتكاثر كراسي الدراسات الشرقية.باريس لم تكن وحيدة.ف.رافلنغيين(أو رافيلنحوس)(1539-1597) يُعلم العربية في ليدن منذ سنوات1590. البابا أوريان الثامن يؤسس في روما معهد الدعوة، وهو مركز دراسات نشيط،سنة1627. ويدشن ادوارد بوكوك كرسيا للغة العربية في أوكسفورد سنة1638"(جاذبية الإسلام ص 43) ويتم تشكيل أول شكل ل دائرة المعارف الاسلامية، وقد باتت منذئذ (المكتبة الشرقية) نشرت عام1697) وهي قاعدة مواد حررها بارتيلمي دربلو المتوفى عام1695.
ان تغير النظرة بدرجات ما، عن الإسلام والعالم الإسلامي، تبعه نشوء مجال أكاديمي تميز بالجمع والتركيب، مع عدم الرغبة في تعديل الصورة السائدة في المجتمع عن الإسلام والمسلمين، إلا تحت ضغط انتقال المعلومة بالتفاعل الإنساني، تجارة، تقارب سياسي، أمير غربي ألماني يقرب المسلمين إليه، ومع الوقت نجد أن "الجو العام في أواخر القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر يؤثر عليهم...إن النسبية الإيديولوجية تصيب المثقفين والجمهور المتعلم قبل العلماء...لم يعد الإسلام يظهر مملكة المسيح الدجال، بل جوهريا مكان حضارة إكزوتية، مثيرة، تعيش في جو خرافي تسكنه أنواع الجن النزوية، الخيرة أو الشريرة، مما يسحر جمهورا قد تذوق كثيرا حكايات الجن الأوروبية"(جاذبية الإسلام ص 44)

عصر الأنوار

بدأت في ذلك العصر تظهر خيارات غير الخيار الذي سيطر قرونا وهو للايديولوجيا الكنسية، تكونت خيوط ايديولوجية جديدة وتصورا مغايرة نافست الايديولوجيا المسيحية نازعة إلى أن يكون لها تصور جامع للعالم ، وهي مايسميها رودنسون:" الايديولوجيا العقلانية، التقدمية، العلمانية لحركة التنوير.يمضون إلى النضال ضد تصور العصور الوسطى للعالم الذي تسعى الى ابقائه والدفاع عنه البني السياسية القائمة. النضال ضد "الظلامية الوسيطية" الذي توبع منذ النهضة يتخذ الان مظهر نضال ضد المسيحية نفسها"(جاذبية الإسلام ص 44) كانت هذه البني السياسية خرج البلدان الكاثوليكية تتحمل المسيحية بنفاذ صبر متعاظم للقوى الصاعدة.
لاشك ان وجود الإسلام في الغرب وفاعلية نشاطاته العلمية والعملية، أدت إلى كل هذا التدافع الداخلي،اليس هو محرك العلم والعقل وتم التأثر به في كافة المجالات حتى الدينية منها) ، ولكن هل كان ذلك حاضر في وعي المثقفين الأوروبيين، أشك أن نسبة كبيرة تعلم ذلك وتستحضره في حياتها العلمية والعملية، لكن على كل حال،فإنه يمكن رؤية المحول "الأصلي" من خلال التحولات، ورؤية المحرك الأول من خلال التفاعلات، ورؤية العقل الأول ،الحقيقي والأصلي، من خلال التغيير الذي لحق بالعقول والفهوم، والعلوم والسياسات، واقصد بالعقل الأول، العقل الإسلامي، الذي انطلق اساسا من مفاتيح القرآن ، الذي يُغفل جُل المستشرقين ذكره ورد الإعتبار اليه.
بيد أن الحال صار غير الحال، والتغيرات التي لحقت حتى داخل الذهنية الإستشراقية كانت ظاهرة، شاركت في تغييرها عوامل عدة ،داخلية وخارجية، استراتيجية وعلمية،يشير إلى ذلك أنهم في كل يوم يسقطون بأنفسهم أصنامهم القديمة، واهوائهم العتيقة، (كما رأينا هنا في جاذبية الإسلام لرودنسون) مع ظهور غيرها في أثواب تتناسب مع التيارات الإيديولوجية العقلانية الجديدة التي تاهت عن مسار التوازن،بعد قتال عنيف مُر مع الدين المسيحي، لايخفى على القارئ، أيضا أن الإسلام شارك في تشكيل الصواب في جديد ماتطور عنه الإستشراق الحديث.
يقول رودنسون:" كان مؤلفون عديدون، خلال القرن السابع عشر، قد دافعوا عن الاسلام ضد الأحكام المسبقة السائدة في العصور الوسطى، ضد التخفيضات السجالية، وبينوا صدق التقوى الاسلامية.مثلا ريشار سيمون(1638-1712)، الكاثوليكي الصادق، لكن الذي كفاءته العلمية تناضل بعناد ضد التشوهات الدوغمائية المفروضة على الوقائع الموضوعية،سواء في قراءة الكتاب المقدس او في دراسة المسيحيين الشرقيين،في مولفه التاريخ النقدي لدين وأعراف أمم الشرق(1684)، إنه يصف ، بعد إيمان المسيحيين الشرقيين،إيمان وطقوس المسلمين، بشكل قنوع ومعروضة، بوضوح استنادا الى مؤلف فقيه مسلم، بلاشتائم ولاتخفيض، وفي مناسبات، مع تقدير إيجابي أو حتى مع إعجاب. حين اتهمه أرنو بأنه ذهب في الموضوعية عن الإسلام إلى أبعد مما يجب، نصحه سيمون بأن يستفيد من "الدروس الممتازة" للأخلاقيين الاسلاميين. وسينشيء عالم العبريات الهولندي أدريان ريلان بكفاءة متفوقة، لوحة موضوعية عن الدين الإسلامي استنادا الى المصادر الاسلامية وحدها، في سنة 1705، والفيلسوف بيار بيل المعجب بالتسامح الاسلامي، يعطي في قاموسه النقدي(الطبعة الأولى 1697) سيرة موضوعية عن حياة محمد، عدلت تبعا للدراسات العلمية في الطبعات اللاحقة"(جاذبية الإسلام ص 45)

من الموضوعية إلى الإعجاب!

يقول رودنسون ان الجيل التالي سيمضي من الموضوعية إلى الإعجاب"(جاذبية الإسلام ص45)
ماذا حدث ليكون هذا التطور العجيب؟
يقول رودنسون:" إن تسامح الامبراطورية العثمانية مع شتى أنواع الأقليات الدينية يعطي كقدوة للمسيحين على يد بيل وآخرين كثيرين: إنه الزمن الذي كان فيه، بعد مثال يهود الاسبان قبل قرنين، كالفينيو المجر وترانسيلفانيا، وبروتستانت سيليزيا، وكوزاك روسيا المؤمنون-القدامى، يبحثون عن ملاذ في تركيا أو يديرون بصرهم نحو الباب العالي هربا من الاضطهادات الدينية الكاثوليكية أو الارثوذكية.يُنظر غلى الإسلام كدين عقلي، بعيدا عن الدوغما المسيحية الأكثر تعارضا مع العقل، يؤيد جدا أدنى من التصورات الاسطورية والطقوس الصوفية(هو الحد الأدنى الضروري على الأرجح لنيل انضمام الجماهير(...))، يوفق الدعوة الى حياة أخلاقية مع احترام معقول لمتطلبات الجسد والحواس والحياة الاجتماعية.في الحاصل، انه دين قريب تماما من مذهب الإله المجرد الذي يدين به معظم رجال الأنوار. تاريخيا يُبرز الدور التمديني للاسلام :الحضارة لم تخرج من الأديرة؛ نشأت عند الوثنيين الاغريق والرومان ونقلها(...) الى اوروبا رجال غير مسيحيين :العرب"(جاذبية الإسلام ص 45)
من هذا النص ، وبصرف النظر عن تحوير المضامين ، نجد أن رودنسون أظهر عدة حقائق، الدور التمديني للاسلام-الحضارة لم تخرج من الأديرة،أنما طبعا من المساجد، الاهتمام بالدنيا والجسد ومتطلبات الحواس،حياة اخلاقية غير متطرفة، الإله الذي تصوره رجال الأنوار هو أقرب إلى عقيدة اهل الإسلام، من نفي التجسد والخلاص الدموي لإله يُسلم نفسه لقتلة بشعون، لأجل تحريرهم من خطئية!، والولادة المقدسة والنزول على الأرض وتلبس جسد بشري لإله منكوب، ينادي على نفسه: إلهي إلهي لما تركتني؟،، كل ذلك ، وتحت ضربات النقد الاسلامي، ألغى الغربيون اساطيرهم من عالمهم المتقدم الموار، وهم مايزالون ينقلون العلم الإسلامي، في جميع مجالات الحياة، ويشاهدون نتائج دين محمد صلى الله عليه وسلم وعبقريته السياسية والعلمية، ذلك في وقت ينتقل كثير من ابناء أوروبا هروبا من عالم الإضطهاد والحروب الدموية الأوروبية إلى عالم الأمان والتسامح، الذي كان في عالم الأندلس أولا، وانتقل إلى عالم الامبراطورية العثمانية التي هاجر اليها اليهود والمسيحيين المضطهدين في الغرب، فكانت المشاهدات، والتعاملات ورؤية العقل الاسلامي وهو يشتغل على العلوم، وأثناء ذلك تتساقط الرؤية السجالية القديمة.
يقول رودنسون بعد نصه المذكور منذ هنيهة:"على هذه الخطوط يفكر من قبل الفيلسوف لايبنتر(1646-1716)، ثم المؤلف المجهول لكراس هجائي عُنون بشكل استفزازي محمد ليس محتالا!(1720)، وهنري دو بولانفيليه(1658-1722)، الذي يُنشر له في سنة 1730 كتاب دفاع ومدح عنوانه حياة محمد، وفولتير، المعجب بالحضارة الإسلامية، علما بأن هذا الأخير يتذبذب بين الدفاع عن السياسي العميق، مؤسس دين عقلي، والسهولة التي يوفرها له المذهب الرسمي لبلده في أن يفضح في الشخص نفسه النموذج الأعلى للمحتالين الذين خطفوا النفوس بالخرافات الدينية"(جاذبية الإسلام ص45) وكما ترى، فإن فولتير عمل إسقاط من عصره عن المحتالين الدينيين الذين خطفوا الناس ومنعوا العلم ، على شخصية النبي محمد، الذي جاء إلى أوروبا، من خلال تلاميذه وعلومه المنبثقة من الوحي المنزل عليه، ليغير اوروبا تماما ، وتدريجيا، وفي حالة موارة من الضغط والمدافعة، واحيانا الحرب والقتال، لتوسيع رقعة الحضارة والرحمة، وهو الذي أنار لها الطرقات والشوارع وحرك العقل ضد اساطير الكنيسة،(بكتب النقد التي مشت على درب الأنوار القرآنية، ومنح العلم مجانا لكل باحث حتى ولو كان هو البابا الذي يمثل الكنيسة، لكن فولتير كغيره من الفلاسفة لم يرد أن يتابع قراءاته في القرآن وسيرة النبي، وإن كان توصل إلى قول منصف في عبقرية الرسول السياسي وحضارته الزاهية التي حضرت بكل شروطها إلى عالمه الأوروبي.
يترجم المحامي الانكليزي المهتم بالعربية جورج سال(نحو1696-1736) القرآن مع خطاب تمهيدي وشروح(يلقبها رودنسون ب:قنوعة وموزونة وجيدة)،هي مصدر لكثير من المؤلفين اللاحقين، وأما يوهان ياكوب رايسكه، العارف المولع، الذي لاشبيه له في عصره، بالأدب والتاريخ العربيين، الذي لايعرف التعب-يضيف رودنسون-:ط والذي يضطهده الاستاذان شولتنس وميكليس اللذان يريدان إبقاء الدراسات العربية في فلك "الفليلولوجيا المقدسة" وعلم تفسير الكتاب المقدس. هذا العلامة هو أيضا يتعرف في أساس الاسلام على شيء ما إلهي. سيمون أوكلي(1678-1720) ، الذي يكتب تاريخا للساراسين، هو أول تقديم لنتائج البحوث الاستشراقية الى الجمهور الكبير. يمجد في سنة 1708 الشرق المسلم فوق الغرب...إدوارد جيبون (1737-1794) الذس تضع تقديراته المقارنة في مكان جيد العالم الإسلامي في تاريخ البشرية الثقافي والفكري. تنمو اسطورة(...) ، هي محمد ملكا وسيدا ومشرعا متسامحا وحكيما. القرن الثامن عشر نظر حقا الى الشرق المسلم بأعين أخوية ومتفهمة. إن فكرة الاستعدادات الطبيعية عند كل البشر، المنشورة بالتفائل النشيط ، والتي هي دين حقيقي للعصر، كانت تسمح بفحص المآخ1، بروح نقدية، التي وجهتها للعالم الإسلامي العصور السابقة،أجل، القسوة، البربرية تحكمان الشرق، لكن هل الغرب بلا مآخذ؟ العبودية في تركيا أعذب منها في أماكن أخرى والمسيحيون يمارسون هم أيضا القرصنة. الاستبداد نظام سياسي محزن ، لكنه قابل للدراسة والتعليل كغيره بالأسباب الإيكولوجية(البيئة الطبيعية) والاجتماعية ، ربما الشروط الجغرافية(...) الشرقية تسهله.لكنه نما وتطور عند الحاجة في أماكن أخرى. مونتيكسو، المشهور بتأكيده على السببية الجغرافية"(جاذبية الإسلام ص 46) وبعد أن كان الجنس مستفظعا ، في ليبرالية الإسلام تجاهه، يحكي رودنسون، اصبحت تنال الاستحسان من ثقافة كانت ترعى فنون الجنس، و:" المسلمون في أعين عصر الأنوار ، رجال كالآخرين ، بل وكثير منهم متفوق على الأوروبيين"(جاذبية الإسلام ص 46) تتغي النظرة تجاه التركي بعد رحلات، فيكتب توماس هوب(1770-1831) في نهاية كانديد، عن الأبطال والسلام، ونصائح رجل عجوز مسلم، كادح، قنوع وغير مبال بالسياسة.، ويكتب رجال الإرساليات...الشاب جان جاك روسو، وهو ابن ساعاتي في سراي اسطمبول، قريب لقنصل في فارس ولابنه القنصل في البصرة وحلب وبغداد وطرابلس"(انظر جاذبية الإسلام ص 47)
سيستمر عمل الترجمات عن الشرق وستنشأ أول جمعية علمية شرقية، هي الجمعية الآسيوية... وسوف تؤسس شركة الهند (الانكليزية) ولأهداف عملية أيضا، في كلكوتا سنة188 معهد فورت وليام.، فولني يمهد لاحتلال مصر، فملاحظة الشرق هي أفضل طريقة لفهمه، :" سيلعب دورا كبيرا في تهيئة حملة مصر التي سيكون مآلها العمل الرائع الذي هو وصف مصر(1809-1822)...سيبدأ الاستشراق الغربي يسيطر"(جاذبية الإسلام ص 48)، في هذا الموضع لابد من عرض نص ترجمه الدكتور محمد أبو ليلة من كتاب (محمد) لرودنسون)
ففي الباب والسابع والأخير ، من كتاب رودنسون(محمد) وتحت عنوان" الانتصار على الموت"قال :" وقد أعطى علماء الغرب لمحمد عدة صور مختلفة، فالكونت دي بولينفليزر كان يعتبره مفكرا حرا مبدعا لديانة العقل، وذلك في أوائل القرن الثامن عشر. وقد اتخذ فولتير محمدا كسلاح ضد المسيحية عن طريق إعطائه شخصية دجال ساخر، ولكنه على الرغم من ذلك قد استطاع أن يقود أمته إلى طريق المجد، وذلك بمساعدة قصص خيالية نسجها لهم من وحي خياله. ولقد اعتبره كتاب القرن الثامن عشر بشكل عام داعية لديانة الطبيعة والعقلانية، والتي هي أبعد بكثير وأسمى من ديانة الصليب المجنونة. وقد مدحت محمدا صلى الله عليه وسلم ونوهت بعلو قدره الأكاديميات الغربية فالشاعر الألماني جوته على سبيل المثال قد كتب فيه شعرا رائعا وممتازا، واعتبره مثالا أو نموذجا للعبقرية الفذة، وقارنه في شعره بنهر عظيم ومتدفق بقوة، ذلك النهر الذي نادت عليه جميع أخوته من الأنهار والجداول ليساعدها حتى تبلغ البحر الذي ينتظر قدومه عليه. وفي هذا الشعر يقول جوته أيضا إن محمدا هو المظفر الملكي المهيب الذي لايقاوم ولقد كان هو الذي حمل تلك الأنهار والجداول إلى مجرى البحر العظيم...(يذكر د. أبو ليلة النص باللغة الألمانية) وتعني هذه السطور الشعرية في اللغة العربية:" وهكذا حمل(أي محمد صلى الله عليه وسلم) اخوانه، وكنوزه، وأطفاله، وكل مضطرب يقرح، إلى حجور الآباء التي كانت تنتظرهم". ولقد وضع الفيلسوف الإنجليزي(كاريل) هذه النفس العظيمة في مصاف أبطال الإنسانية الذين أضاءت بهم الدنيا وأومضت في داخلهم الشعلة الإلهية المقدسة. وبعد كاريل عكف الكتاب الغربيون المعنيون على كتابة سيرته(صلى الله عليه وسلم) من مصادرها العربية فعلى سبيل المثال فقد اعتبره المستشرق جريم، في نهاية القرن التاسع عشر اشتراكيا حاول أن يفرض الإصلاح الإجتماعي والمالي على قومه بالقوة، وذلك بمساعدة قدر يسير جدا من الحكايات الأسطورية ، والتي إخترعها محمد ليرعب بها الأغنياء، حتى يعطوه تأييدهم. وبينما يحاول بعض المستشرقين أن يخففوا من حدة لهجتهم ويعدلوا من وجهة نظرهم لتصبح إلى حد ما أكثر موضوعية(...)، نجد الأب اليسوعي البلجيكي هنري لامنز، والذي كان له إلمام واسع بالمصادر الإسلامية، مع كراهية قاتلة للإسلام،لايزال يعبر عن شكه المرير في إخلاص محمد. أما المستشرقون والعلماء الروس فإنهم لم ينتهوا بعد إلى رأي قاطع يقرون فيه طبيعة دعوة محمد(...)، هل كان محمد رجعيا أم تقدميا؟وحتى الشيوعيون في البلدان الإسلامية كانوا يدعون محمدا لأنفسهم، ويحاولون جذب دعوته نحو أهدافهم، وهكذا فقد صور كل واحد من هؤلاء كما يراه وكما يرغب أن يكون، كل واحد من هؤلاءقد أخذ من دعوته مايناسب فكرته وتوجهاته(...) وفي الوقت نفسه فإنه لا يلتفت إلى ما لا يعنيه (محمد لرودنسون ص311،312) (انظرد. محمد ابو ليلة ص 159،160)

القرن التاسع عشر، الليبرالية والتخصص
(يتبع)​
 
بارك الله فيك استاذنا طارق،، ننتظر المزيد..

ولذلك لايوجد استشراق، توجد ميادين علمية، كعلم الاجتماع، الديموغرافيا، الاقتصاد السياسي، الألسنية، الأنتروبولوجيا او الإثنولوجيا ...يمكن أن تطبق على شعوب أو مناطق مختلفة
أظن لا يمكن تفكيك الحركة الإستشراقية ولا الدراسات الشرقية بشقيها (الوصفي: الشرقغرافيا و التحليلي التفسيري: الشرقلوجيا) من خلال تحول منهجي يحدث من الداخل. الحاصل هو "التباين" لا "التغيير" وهذا يعني التعدد المنهجي بمقتضى التعدد في الرؤية، وهذا ما نراه واضحا في الميتدلوجيا لا المنطقية الآلية بل الميتدلوجيا الابستيمولوجية (العِلمُفَلسفيّة) من منظار الاختزالية التي تبيّن إستقلال كل علم بمنهجه الخاص رغم افتراض الوصل وهو إفتراض لا يمكن حده من الداخل لكن من الخارج أي من زاوية أخرى تتجاوز كل تلك العلوم (= مهمة فيلسوف)، وعليه فإن النهج الأنتروبولوجي أو الإثنولوجي -مثلا- الذي يسير على السنة التقليدية في مخالفة النهج الشرقلوجي و الاستشراقي البياني (النصي المرجعي الوثائقي) ليس بنهج رافضي أو ناصبي وإنما يقوم بمناهج بائنة عن الأخرى. ونحن عندما نجد مثلا هنك دريسن في كتابه "في دار الاسلام: 1997" لا يعير إهتماما بالغ الأهمية للنص القرآني فإنه بهذا لم يحدث أي تغيير للمنهج في دراسة الاسلام لكنه انصرف لمنهج آخر، هذا كل ما في الأمر، ولعل ما يعزز ظني هو محاولة فدوى الجندي الجمع بين النهجين في "تواضع، خصوصية و المقاومة: 1998).
 
هو اصلا اخي شايب لايستطيع أن يفعل غير ذلك،اي التحول المنهجي من داخل الاستشراق لتحول الادوات وتبدلها، ذلك لأنه ابن ظروفه التي غمس نفسه فيها بنفسه!، ولو عزل نفسه عنها وتفكر فلربما أسلم كما قال تعالى" قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " وطائر سورة سبأ تفكر والآية منها، وقال قولا بليغا، وايضا فالمذاهب التي اقتنع بها رودنسون، وهي مذاهب حديثة ،علمانية مادية، كما أظهر الدكتور موراني، بالنسبة للاستشراق الأكاديمي الحالي الآخذ بتلابيب العلمانية، أو بالأحرى(العلمانية آخذة بتلابيبه!) تلك المذاهب الغربية المعاصرة لابد انها ستتناول المسائل القديمة بالأدوات الغربية الحديثة، فلذلك وجد رودنسون نفسه غريبا على المذهبية البيزنطية في خيالاتها المريضة ضد النبي، فإما أن يبقى هو وكارين آرمسترونج وغيرهما، في الخيال الساذج، وإما أن يستعملوا احدث ماعندهم في التحليل، وهو ماحدث، وبقي أمامهم التراث القديم، وهو فاضحهم بلاشك،فماذا يفعلون؟ فالإنتماء اليه فضيحة لاتليق بمعاصر، ولايجوز عندهم الدخول في الإسلام!، لانهم ماديون حتى الثمالة!، مش النخاع، لان الشراب العلماني كثر كالشراب الكحولي، فليس أمامهم والامر كذلك الا التحليل المادي لسيرة النبي والقرآن والمصحف والوحي،وكانت المعضلة أمامهم، وهذا مالم يفهمه أغلب البحاثة المسلمين الذين ظنوا ان هؤلاء انصفوا النبي تماما وتخلوا عن الاتهامات والاغاليط!، كانت المعضلة هي: ماذا يمكن ان يفعلوا مع تراثهم النقدي الغربي القديم ووهو عائق لتقدمهم،كان عندهم، مع قديمهم لاشك، الأمانة، لكن كان معهم ايضا "الحيلة"! لتغيير صور التهم!، بالاضافة لإمكان تحليلهم طبيعة التحولات والإتهامات القديمة، وهي التي قام بها وتكلم عنها رودنسون، كما سيأتي، ولكنه تكلم عن التحولات القديمة، ونحن نتكلم هنا عن الجديدة ، أي ماأغفلوه من المؤثرات وشروط مناهجهم المادية التي انغلقوا داخلها ولابد!،فالأمر ليس نتيجة مجردة وإنما النتيجة تبع لتطبيقات منهجية مادية، مع اختلاف الأهواء داخل الباحث!، بالنسبة لتغير صورة النقد بتغير الواقع لقربه من عالم الإسلام مثلا، كان ذلك كله دافعا إلى رمي النقد الغربي القديم،خصوصا القريب من عهد النبوة، او مابعد ذلك بقليل، في دائرة الجهل الذي دفعت اليه الايديولوجيا المسيحية الغربية القديمة،التي طرحها جانبا، العصر الحديث ، (مع الإبقاء على بعض النتف المساعدة والتي قال انها موضوعية!!) بحيث يبدو للمنصف أنهم منصفون، وهم كذلك(في ذلك النقد للخيالات المسيحية القديمة جدا) و لاشك في ذلك، لكن للأمر ابعاد، هي سبب وضعي للكتاب هنا، تعريفا، فلتمرير التفسير الوضعي الحديث بمذاهبه المستحدثة، عند الغرب، كان لابد من رمي النقد الخيالي، المداعب للجماهير، مع المسيحية القديمة المنبوذة، ايضا، في مزبلة العلمانية الموجودة في كل بيت غربي!
ولكن هل القديم والجديد، يجمعهما توليفة واحدة، هذا هو غرض البحث هنا،(تشابهت قلوبهم)(مثلا) ويمكن الإطلاع على الإجابة، من خلال نقدي لتوليفة رودنسون في كتابه(محمد) لا من خلال عرضي لكتابه(جاذبية الإسلام) ولذلك قدمته،(في(منهج البحث) قبل عرض كلامه في المخطوط الأحدث أي جاذبية الإسلام.
 
الطريقة العلمية وهي طريقة منفتحة إبستيمولوجية كما يعمل به الآن مختلفة كل الإختلاف عن ((المذهبيّة الفكرانيّة)) و ((العلويّة)) [Metaphysics]. معنى هذا أن هذه الطريقة تنطلق من مسلّمات لا تروق للفكرانيين كاللائِكيين (العالمانيين) و الوضعويين والحداثويين كما أن هذه الطريقة لا تثبت ولا تنفي طريقة العلوم الدينيّة كاللاهوتية والفلسفة الوجودية. إذا إستخدم الفكراني علم الأساطير (الأنتروبولوجيا) وعلم النفس والإجتماع وغيرها من العلوم ليثبت وجوده أو لشيء آخر، فإن العيب فيه لا في العلوم. إذا ادعى الفكراني أن العلوم الطبيعية والاجتماعية والتقانية قادرة على حل كل المشاكل وتحقيق السعادة والهناء فإنه قد حول العلم إلى مذهب (العلموية) والعيب هنا مرة أخرى فيه لا في العلوم لأن العلم لا يدعي أن هناك ظواهر وأن هذه الظواهر تعكس حقائق و أن الإنسان قادر على الإحاطة المعرفية بها بل يسلم بذلك فقط لأن السؤال "هل نستطيع أن نعرف" و السؤال "هل هذه الظاهرة حقيقة" وغيرذلك أسئلة ميتافيزيقية وليست إبستيمولوجية والأجوبة ستكون أيضا مختلفة: أجوبة نظرية ملزمة للإنفتاح (أي للنقد المستمر) وأجوبة حُكمية ملزمة للإعتقاد.

إذا أخذنا كل هذا بعين الإعتبار فإن المنهج العلمي قادر على إثبات تجربة محمد صلى الله عليه وسلم الدينية وأن محمد صلى الله عليه وسلم إعتقد فعلا الإتصال بما هو علوي-غيبي وأنه عاش نتيجة لذلك معاناة مع الوحي في البداية ثم تعايش معه إلى أن إكتمل الدين، لكن حقيقة أو طبيعة هذه الظاهرة التاريخية و إعتقاد محمد صلى الله عليه وسلم لا تدخل في مجال العلم، ولكنها من تخصص العلوم الدينية أو الفلسفية، وهذا لا يعني أن العلم لا يقدم معطيات للعلوم الدينية أو أن كلا العلمين لا يشتركان في المعقولات المسلّمة، وبهذا نختلف عن الرؤية الوضعوية التي تدعي أن تلك الحقائق تنتمي إلى مجال الايمان والتسليم لا إلى مجال البحث والبرهان، وذلك لسببين: الأول أن العلم نفسه يقوم على التسليم والايمان بالركائز الأساسية، وثانيا العلم الديني وعلم الإيمان بالخصوص يقوم على نظامه الحجاجي الخاص وهو نظام في جله متميز عن النظام العلمي أما في دقيقه فهناك مشتركات معقولة مسلّم بها. أما "الحركة الإنتقالية للمعطيات" من هذا النظام إلى ذاك فمن تخصص علم آخر وهو علم الكلام. (مثلا: إنتقال "الذرة" من الفلسفة الطبيعية إلى النظام الحجاجي في علم الإيمان بصيغة علم الإعتقاد الطبيعي، وإنتقال أولية الكون أو الإنفجار الكبير من الفيزياء الفلكية إلى النظام الحجاجي في علم الإيمان وهذا ما يفعله متكلمة المسلمين مثل Hamza Tzortzis ومتكلمة المسيحيين مثل William Lane Craig).

الخلاصة: ولو عزل نفسه عنها وتفكر فلربما أسلم.
هذا صحيح ولا يمكن إلا أن يكون صحيحا بشرط: يسلم بأن حقيقة منهجه أيضا مبنية على الإعتقاد ثم يسلم على أساس ذلك بأنه يعتقد كما أن لآخر الذي يحاول دراسته أيضا يعتقد، ثم يفترض جدلا أن حقيقة إعتقاد الآخر قابلة للبحث والبرهنة عليها بالمنظومة العلمية التي يعمل بها هذا الآخر ويحاجج بها، ثم يشرع في البحث بمبادئ هذا العلم. وهذا لا يحدث في الغالب لذلك نرى أن المواجهة في حقيقتها مواجهة عقيدة ضد عقيدة لا عقيدة تواجه ما ليس بعقيدة.
 
عودة
أعلى