تعريف بكتاب [5] دستور الأخلاق في القرآن الكريم للشيخ محمد دراز

هشام البوزيدي

فريق إشراف ملتقى الانتصار للقرآن
إنضم
05/01/2013
المشاركات
30
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الكتاب:دستور الأخلاق في القرآن
المؤلف: الدكتور محمد عبد الله دراز
تعريب وتحقيق وتعليق: الدكتور عبد الصبور شاهين
مراجعة: الدكتور السيد محمد بدوي
الطبعة الأولى: مؤسسة الرسالة – بيروت ، ودار البحوث العلمية – الكويت 1973م.​

دستور الأخلاق في القرآن كتاب فريد استكشف فيه الشيخ العلامة محمد رداز أرضا علمية لم يكد يطأها أحد قبله, واجتهد فيه للكشف عن الشريعة الأخلاقية في القرآن الكريم, مبينا سموها على غيرها من النظريات الأخلاقية الفلسفية.
وسأقوم بعون الله بتقديم موجز للكتاب.

• والكتاب رسالة دكتوراه قدمها الشيخ رحمه الله بالفرنسية بعنوان La Morale du coran: سنة 1947 في جامعة السوربون بإشراف المستشرق المعروف لويس ماسينيون (M. Louis Massignon).
• قام بتعريبها الدكتور عبد الصبور شاهين ونشرت بهذا العنوان سنة 1973 (دار البحوث العلمية بالكويت ومؤسسة الرسالة ببيروت.
• الدراسة محاولة لاستخلاص واستقراء الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه, ويمكننا القول إن الإنسان بصفته كائنا أخلاقيا هو موضوع هذا البحث.

• الكتاب يتكون من الفصول التالية:
الفصل الأول: الالزام
الفصل الثاني: المسئولية
الفصل الثالث: الجزاء
الفصل الرابع: النية والدوافع
الفصل الخامس: الجهد.
إضافة إلى قسم تطبيقي (ص:686-778): "دستور الأخلاق العملية في القرآن" ذكر فيه المؤلف أمثلة عن النظام الأخلاقي القرآني.
وقد سرد نصوص الأخلاق العملية مصنفة في آخر الكتاب ، وذلك في خمسة فصول هي : (الأخلاق الفردية، الأخلاق الأسرية، الأخلاق الاجتماعية، أخلاق الدولة، الأخلاق الدينية)

الغرض من الكتاب: نبه الشيخ في المقدمة إلى وجود فجوة عميقة في كتب منظري الأخلاق فهم يقفزون من تراث اليونان والفكر اليهودي النصراني إلى الفكر الأوربي الحديث. هذا التجاهل لدراسة الأخلاق القرآنية - في نظر الشيخ- يحرم الانسانية من حل المعضلة الأخلاقية.
• ولما كانت المكتبة الإسلامية نفسها تفتقر إلى مصنف يجلي حقيقة الشريعة الأخلاقية في القرآن الكريم, فإن الشيخ دراز سعى ببحثه هذا لسد تلك الفجوة كما صرح بذلك: "ملء هذه الفجوة في المكتبات الأوربية، وحتى نري علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا" (دستور الأخلاق، ص:4).
• سعى المؤلف لاستنباط الشريعة الأخلاقية من القرآن وللكشف عن أصولها الثابتة حتى تتميز كبنية مستقلة وهو في سعيه هذا, يلفت نظر القارئ إلى اشتمال القرآن على النظام الأخلاقي بشقيه النظري والعملي, وإلى منهجه الفريد في صياغة القواعد الأخلاقية, ومثال ذلك موقفه الوسط "بين الغموض و"التجريد" و"بين الافراط في الشكلية". ويجمع بين الطرفين في مرونة وصرامة في آن واحد, فيتحقق مقصد خضوع الفرد لشريعة الأخلاق القرآنية حرا مختارا, يبادر طائعا لمجاهدة نفسه وتزكيتها.
• ومن أمثلة وقوف الاسلام هذا الموقف الوسط حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم :" خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ، ثُمَّ قَالَ : ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ ." فالشريعة الأخلاقية القرآنية لا تسعى للحجر على عقول وقلوب الناس, بل تفسح المجال للمجهود الشخصي الذي يعكس ميول واستعدادات كل فرد, فيجيء العمل الأخلاقي يحمل بصمة عامله دون أن يحيد عن المنهج القرآني العام.
• القرآن يعرض منهجه الأخلاقي ويحث على التدبر والتفكر ويخاطب القلب و الوجدان ويستدل على صحته وصدقه بصوة تفحم الفلاسفة وترضي أبسط المدارك في آن واحد, وهذا ما ذكره الشيخ في كتاب النبإ العظيم, من جمع القرآن بين خطاب الخاصة والعامة.
• الأساس الذي تنبني عليه الشريعة الأخلاقية في القرآن: الفطرة تتيح للنفس معرفة الخير والشر والتمييز بينهما معرفة غير مكتسبة, فهذه المعرفة مغروسة في النفس قبل تعلم الشريعة السماوية.
• ثم: إن الفضيلة لها قيمة ذاتية, فالخير خير في ذاته, يعرف الانسان ذلك بالفطرة وبالعقل و بالوحي, فالعقل والوحي نور يهتدي به الانسان لمعرفة الحق, ومعرفة الفضيلة ومعرفة الخير, وإن شئت قلت: إن العقل والوحي نور يسترشد به الانسان لكشف حقائق الأشياء والأعمال.
• شريعة القرآن: شريعة شاملة ودائمة تجمع للانسان بين أمرين متباعدين:
- الأول: تكفل له مطامحه الفطرية
- الثاني: تكبح نزواته وأهواءه الجامحة.

• استخلص المؤلف النصوص القرآنية التي تعرض لقضية الأخلاق, ليمثل بها لتصور القرآن لهذا الموضوع, ورتبها ترتيبا منطقيا, ولم يتقيد بترتيب السور, وسار على اصطلاح فلاسفة الأخلاق في دراسته للموضوع, دون أن يغفل عن التذكير بأن القرآن ليس كتابا نظريا, وبين الفروق بين منهج التعليم القرآني والتعليم الفلسفي.

الفصل الأول: الإلزام

• محور كل مذهب أخلاقي: الالزام, فإذا انتفى انتفت المسئولية التي بدونها لا يمكن أن تتحقق العدالة.
• الفضيلة تدفعنا للعمل, فهي محركة بطبيعتها, فالخير الأخلاقي له سلطة تحثنا على ترجمته واقعا عمليا. لهذا يشعر كل إنسان بضرورة الامتثال للواجب الأخلاقي مهما شق عليه, ويشعر باستهجان مخالفته.
• سمى القرآن هذه الضرورة وهذا الإلزام أمرا (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) و كتابة وفريضة.
• يرى الشيخ دراز أن القرآن جعل الأمر في قضية الأخلاق إلى الضمير الإنساني, فهو الذي يسد الفجوة بين سمو المثل الأخلاقي الأعلى, وبين تفاوت التطبيق العملي الأرضي، وهذا العامل الفردي في قضية الأخلاق العملية مما أشار إليه القرآن: " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(التغابن:16), "وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"(الأحزاب:5)
• مصدر الإلزام الأخلاقي: يرى برجسون له مصدرين: أحدهما قوة الضغط الاجتماعي والثاني: قوة الجذب بمعناها الإنساني. فأخلاق العامة انعكاس لضغط المجتمع, فهي متأثرة, وأخلاق النخبة نابعة من حب الفضيلة والتطلع للمثل الأعلى, فهي مؤثرة دافعة للمجتمع.
• ويرى الشيخ دراز: أن لا وجود للأخلاقية الحقيقية في الحالتين التين وصفهما برجسون, فإذا كان الإلزام شبه غريزي انتفت صفة الأخلاقية, لأن الحب نقيض الإلزام, فالإنسان عنده تتنازعه الغريزة والعاطفة بصورة تسلبه القدرة على المقارنة والتقدير والاختيار.
• ولا يكفي وجود هذين العنصرين: بل ينبغي أن يؤلف بينهما نظام أخلاقي في ضمير الفرد, وبعد ذلك يوجبهما العقل.
• ولهذا: حذر القرآن من عدوين لدودين للسلوك الأخلاقي: اتباع الهوى (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) واتباع الآباء لمجرد التقليد: ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا).
• ويرى دراز: أن في الانسان كائن أخلاقي لاتصافه بالعقل, كما أن العقل والحرية والمشروعية عناصر لا بد منها لتحليل الحكم الأخلاقي وهي عناصر أغفلها برجسون فكان تحليله للمسألة الأخلاقية ناقصا.
• القرآن يؤكد تلقي النفس الإنسانية في تكوينها الأول: لبصيرة أخلاقية: ( بل الانسان على نفسه بصيرة) وأن الاحساس بالخير والشر حاصل للنفس بالفطرة والالهام: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). ( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين) البلد 8-10, نعم إن (النفس لأمارة بالسوء) يوسف 53 ولكن الانسان مزود بالقدرة على مدافعة الهوى ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) النازعات 40.
• تأنيب الضمير: دليل على هذه الثنائية: نفس لها نزوات وعقل يأمر وينهى, وشعور منا بأننا مخلوقات نبيلة أخطأت. والقرآن لا يزال يوقظ فينا الاحساس بهذه الكرامة الأصلية ( ولقد كرمنا بني آدم) الاسراء 70.

الفصل الثاني: المسؤولية

• الإلزام يقتضي المسؤولية, والمسؤولية تقتضي الجزاء. والمسؤولية استعداد فطري, وقدرة على الإلزام الذاتي, فالإنسان يستمد إحساسه بالمسؤولية من جوهر ذاته, لا من خارجها.
• والمسؤولية تتخذ أبعادا مخلتفة وتتسم بالشمول قال الله تعالى:"أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ"(الأنفال:27)، ومن السنة: (ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته) متفق عليه, فهي مسؤولية دنيوية وأخروية, وهي مسؤولية أخلاقية في جوهرها.
• والقرآن صريح في أن كل نفس بما كسبت رهينة, فالمسؤولية شخصية: " وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ"(النساء:111)
• ولا يتعارض ذلك مع إخبار القرآن بحمل المجرمين أوزار أتباعهم: "وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ"(العنكبوت:13), فإنما يتحملون تبعة إغوائهم وتضليلهم لمتبوعيهم دون أن ينقص ذلك من أزوار الاتباع شيئا.
وفي السياق نفسه يرد الشيخ على اعتراض ثان يتعلق بالشفاعة, فهي لا تعني وساطة لإسقاط المسؤولية عن المذنبين, فهذه هي الشفاعة التي نفهاها القرآن في مواضع كثيرة, فالشفاعة المثبتة لها شروط ثلاثة:

• أولها: أنها لا تكون إلا بإذن الله, وثانيها أن الشافع لا يشفع إلا لمن ارتضى الله, وثالثها أن الشافع يستند إلى بعض محاسن المشفوع فيه, لا إلى جاهه ومنزلته, فالشفاعة بهذا المعنى نوع من الشهادة, فالعبرة فيها بموافقة الواقع, ومما يدل على أن الشفاعة ليست نوعا من المحاباة كما يتوهم المتوهمون, قول النبي صلى الله عليه وسلم عن رجال عند الحوض:"أصحابي, أصحابي" فلما سمع قول الملائكة: "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" قال: "سحقا, سحقا".

• ولا تتحقق المسؤولية إلا بشروط, أولها أن يكون المكلف على علم بأحكام الشرع, والقرآن صريح في أن الإنسان مجبول على معرفة الخير والشر على وجه العموم, قال تعالى: "ونفس وما سواها, فألهمها فجورها وتقواها" (الشمس: 7-8) لكن أهل السنة يذهبون إلى أن التكليف مقترن ببلوغ الرسالة, "وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا"(الإسراء:15) "رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا(النساء:165)

• يرى الشيخ دراز أن: "النية شرط ضروري للأخلاقية، وهي على ذلك شرط للمسؤولية، ولكنها ليست بأي حال شرطاً كافياً لهذه أو تلك" (ص:180)، قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} وقال سبحانه: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}. وقد استنبط الشيخ من مجموع النصين أن العمل "الإرادي"، الذي "انعقدت عليه النية" وحده هو الذي يستتبع مسئوليتنا."

• ومن شروط المسؤولية الأخلاقية الحرية أو الإختيار، فالمكره لا يتحمل مسؤولية فعله الذي أجبر عليه, قال الله تعالى: " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"(النحل:106)، ويستطرد الشيخ مناقشا للمواقف الفلسفية المختلفة من قضية الحرية, بين أنصار الإرادة الإنسانية الحرة, ونفاتها, ويورد أربعة عناصر تلخص جواب القرآن عن هذا الإشكال:

1- غيبية أفعالنا المستقبلة: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}
2- قدرة الإنسان على أن يحسن أو يفسد كيانه الجواني: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} الشمس: 9-10
3- عجز جميع المثيرات عن أن تمارس إكراهًا واقعيًّا على قراراتنا. والقرآن يقرر هذه الحقيقة على لسان الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} إبراهيم: 22
4- الإدانة القاسية للأعمال الناشئة عن الهوى، أو التقليد الأعمى، يقول القرآن: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} الأعراف:176. ويقول: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} الأعراف:69-70

• شريعة الأخلاق القرآنية تتوجه إلى الإرادة الإنسانية المستقلة وتراعي حال المكره بمقدار, فيجوز له النطق بكلمة الكفر حفظا للنفس, لكنه لا يملك شرعا أن يقتل نفسا بريئة بدعوى الإكراه, لأن نفسه ليست بأولى من نفسه.

يتبع إن شاء الله.
 
الفصل الثالث: الجزاء

لا يتصور تشريع ملزم بلا جزاء, فما قيمة شريعة أخلاقية لا تترتب عليها عواقب؟ إننا حين نستجيب طائعين لداعي القرآن فإننا نقر بالمسؤولية على أفعالنا, وبالجزاء المترتب عليها, وقد ميز الشيخ في هذا الفصل بين مراتب ثلاث: الجزاء الأخلاقي, والجزاء القانوني, والجزاء الإلهي.
إن شعورنا النفسي حيال نجاحنا أو إخفاقنا الأخلاقي, أثر طبيعي لشعورنا بالمسؤولية الأخلاقية التي لا ننفك عنها أبدا ,وهذا الشعور دليل على الإيمان, وليس ثوابا مترتبا عن سلوكنا فقد روى أحمد في مسنده أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا ساءتك سيئتك، وسرتك حسنتك, فأنت مؤمن"
إن شعورنا بالندم وتأنيب الضمير عند سقوطنا الأخلاقي دليل على شعورنا العميق أننا مخلوقات نبيلة, لكن هذا الشعور وحده لا يعتبر نوعا من الجزاء الأخلاقي المترتب على سلوكنا, بل إن يرى الشيخ أن مفهوم التوبة في القرآن نوع من الجزاء الأخلاقي، فهي موقف عملي إيجابي إصلاحي أوجبه الشرع على المكلف المقصِّر وحثه على المبادرة إليه:" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ"(النساء:18)، فالتوبة ليست مجرد شعور نفسي بالندم, بل لابد من إصلاح وتدارك للتقصير وجبر للنقص وعزم على الإصلاح فيما يستقبل، "إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"(النور:5-آل عمران:89)
"إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ" (هود:114)

يقاس الجزاء الأخلاقي القرآني بالحسنات والسيئات، أما الجزاء الشرعي العقابي فيندرج تحته قسمان:
أولهما يشمل عقوبات معدودة محددة بدقة: (الحرابة، السرقة، شرب الخمر، الزنا، القذف) وتتسم بالصرامة والقسوة في السياق النظري لا العملي, لأن العقوبات كلما كانت أشد تنكيلا قلّ غالبا تطبيقها.
وثانيهما يتعلق ببقية الجرائم التي لا حد فيها, وهي من اختصاص القضاء.

ويقابل هذين الصنفين من الجزاء الدنيوي جزاء إلهي أخروي، والشريعة الأخلاقية القرآنية إنما تقوم على تذكير المكلف بهذا الجزاء الغيبي الآجل, والقرآن لا يكتفي في أوامره بالاستناد إلى سلطة الأمر, بل ينبهنا إلى قيم الفضيلة والحق, ليستنهض هممنا لتحقيق السمو الأخلاقي "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ"(الرعد:17)، "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ" (إبراهيم: 24-26)
كما يلفت أنظارنا إلى ما يترتب على العمل من نتائج: " وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"(البقرة:179), "وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم" (البقرة: 237)"والصلح خير" (النساء: 128).

انتقل الشيخ من ذكر بعض خصائص الجزاء الإلهي كما استنبطها من نصوص القرآن, إلى بيان طبيعة الجزاء الإلهي, فهو جزاء شامل متكامل, إذا قورن بما بقي مع أهل الكتابين, فهو جزاء عاجل وآجل, ومادي وروحي، قال الله تعالى: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا, وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" (الطلاق: 2-3) وقال سبحانه: "مَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً" (النساء: 100) وقال سبحانه: "وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ" (النحل: 112) وقال سبحانه: " وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (المائدة: 66)

إن الوعد بمجازاة الخلق على أعمالهم يتسم في القرآن بالشمول, كأنه درس مستخلص من التاريخ الإنساني ومن السنن الكونية, يخاطب الناس بشتى طبقاتهم, ويستنهض عقولهم وهممهم,ويستحث نفوسهم لتحقيق السمو الأخلاقي واقتحام جميع العقبات التي تعوقهم عن ذلك.
ويخلص المؤلف في ختام الفصل إلى أن الأخلاق القرآنية ليست كما يتصورها فلاسفة الغرب, فهي ليست قائمة على سلطة الأمر العلوي فقط, وليست مجرد سلسلة من نصوص الترغيب والترهيب, بل هي أخلاق حقيقية تتوجه للضمير الإنساني, ليستعلي على عقبات النفس والهوى واتباع الكبراء, وليستمع لنداء فطرته وعقله, إنها أخلاق لا يملك أولو الألباب مناصا من إدراك ما انطوت عليه من السمو والحكمة.
"إن جلال الأمر الإلهي، ومطابقته للحكمة، وتوافقه مع الخير في ذاته، والرضا الذي يمنحه لأشرف المشاعر وأرقها، والقيم الأخلاقية التي يؤدي تطبيقه إلى تحقيقها، والغايات العظمى في هذه الدنيا، وفي الأخرى ... كل ذلك يسهم في دعم سلطان الواجب القرآني."

يتبع إن شاء الله.
 
الفصل الرابع: النية والدوافع

يقول الشيخ دراز: " فمن الناحية الأخلاقية لا يمكن أن ندخل في باب الأخلاق أي عمل إذا لم يكن شعوريًّا، وإراديًّا، وانعقدت عليه النية في آن واحد." (ص: 428)
يناقش هذا الفصل مسألة القصد والنية الباعثة على العمل, ويندرج تحتها ثلاثة عناصر:
1- تصور المرء لما يعمله.
2- إرادة إحداثه.
3- إرادته بالتحديد، على أنه شيء مأمور به، أو مفروض.
ويعتبر الشيخ النية مدخلا ضروريا لعالم الأخلاق, فالعمل الأخلاقي هو ما انعقدت عليه النية. والقرآن يحثنا على استحضار النية وإخلاص العمل كما يحثنا على تحري الأسباب التي تساعد على ذلك: "اأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ" (النساء:43) ويدل حديث "إنما الأعمال بالنيات" على أن الأعمال لا توجد (أخلاقياً) إلا بوجود النوايا الباعثة عليها، لكن النية الحسنة ليست شرطا كافيا لتحقيق الأخلاقية الكاملة, بل لا بد أن يصاحبها حسن العمل, فالنية في ذاتها خير, لكن العمل الأخلاقي الكامل أفضل, لما بين النية والعمل من الارتباط الضروري "فالنية شرط ضروري، لا لوجود العمل الأخلاقي في ذاته، أي: صحته، بل لكماله، واستيفائه قيمته الكاملة. " (ص: 432)

وفي دراسته لدوافع الخير وبعد استعراضه شواهد وأمثلة من النصوص يصل الشيخ إلى أن في الأخلاق منطقة وسطى بين الحسن والقبيح، وأن تدخل النية الحسنة يجعل الأعمال المباحة أو التي قلما ندب إليها الشرع حسنة وجديرة بالثناء. (ص 536)، وكذلك النيات السيئة مؤثرة ايضاً، فان البواعث التي تنضاف إلى إرادة الطاعة تعرض قيمة العمل للخطر.
والقرآن يركز على عمل القلب الذي يصاحبه عمل الجوارح, فتلك الطاعة الكاملة التي تشترك فيها القوتان البدنية والأخلاقية, ويجمع ذلك كله حديث النعمان بن بشير عند البخاري: "ألا وإن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد، ألا وهي القلب"

الفصل الخامس: الجهد

بعد تمييز الشيخ لركني البناء الأخلاقي: "النية" و"العمل" ينتقل في هذا الفصل لبيان الأهمية الفائقة للجهد, ولا يراد به مجرد العمل, بل "العمل المؤثر الفعّال". والقرآن يدعونا باستمرار لبذل الجهد لتحقيق السمو الأخلاقي, وفعل الخير وكبح هوى النفس وحملها على الصبر في سبيل ذلك. ويجمع ذلك كله قول ربنا سبحانه في سورة البلد: "فلا اقتحم العقبة" فهذا مجاز يوضح حقيقة الجهد الذي يراد من المؤمن: "وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ" (البلد: 11-17.
وليس للجهد قيمة منفصلة عن غايته, بل قيمته في تحقيقه للخير الأخلاقي, فهو وسيلتنا إلى تلك الغاية السامية.
ويتفرع الجهد إلى قسمين:
1) أولهما جهد يمكن النفس من مدافعة الميول الخبيثة ونوازع الشر وتخليتها من أسباب الغواية والسقوط الأخلاقي، والقرآن يدعونا لمجاهدة النفس نهيها عن الهوى, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ في خطبة الحاجة المشهور من شرور النفس وسيئات الأعمال.
"فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى، فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" (النازعات: 34-41)

2) وثانيهما جهد مبدع يسعى لعمل الخير وترجمة الفضيلة إلى واقع عملي, , فإذا شبهنا تزكية النفوس بالزراعة فإن جهد المدافعة أشبه بتطهير أرض النفس من العوائق التي تمنعها من السمو الأخلاقي, والجهد المبدع أشبه بتعاهد الأرض بالسقيا والزرع واختيار البذور الصالحة.

تعلي شريعة الأخلاق القرآنية من شأن الجهد الأخلاقي الباطني, ولا تأمر ببذل الجهد البدني لذاته, فليس إيلام البدن ووتعذيب النفس من مقاصد الشرع, بل إن ذلك محرم، " يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"(المائدة:87)، ودليل ذلك من السنة إنكار النبي صلى الله عليه وسلم لمقالة أولئك النفر الذين سألوا أمهات المؤمنين عن عبادته صلى الله عليه وسلم, فكأنهم تقالوها وعزموا أن يحملوا نفوسهم على أشد أنواع المجاهدة, ومنعها حقها مبالغة في التعبد, فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك رغبة عن سنته.
فالجهد المطلوب لتحقيق المثل الأعلى للأخلاق القرآنية جهد نبيل معتدل متبصر في العواقب, وهو وسط بين الغلو والتقصير, وبين الإفراط والتفريط.

إن القرآن لم يكتف حسبما خلص إليه الشيخ في هذا البحث ببيان الواجبات الأخلاقية العملية للمسلم, بل تضمن الإطار النظري لشريعته الأخلاقية. وأصدقكم القول أن تلخيص مباحث هذا الكتاب غير يسير, فقد ضمنه مؤلفه مادة غزيرة جدا, حتى إني حين اطلعت على مختصر الكتاب للأستاذ محمد عبد العظيم علي, وجدته في بعض المواضع اختصارا مخلا, فكيف لمن كان في مثل حالي أن يقدم هذا السفر الجليل لشيوخه وأساتذته؟
إن مطالعة هذا الكتاب يعجب من تبحر الشيخ في مواضيع الفلسفة الغربية بقدرما يعجب من دقة استنباطه للحكم والفوائد من القرآن الكريم. فمن شاء أن يرى عالما مسلما ينفذ إلى أعماق فلسفة كانط لينقدها مستنيرا بنور الوحي, فليقرأ هذا الكتاب الفريد.

ويختم الشيخ عبد الله دراز بحثه بهذه الخلاصة:" لو افترضنا أن الإنسانية سوف تبقى أبداً، وأنها سوف تغير ظروف حياتها إلى ما لا نهاية، فإننا نؤمل أن تجد في القرآن أنى توجهت قاعدة لتنظيم نشاطها أخلاقياً، ووسيلة لدفع جهدها، ورحمة للضعفاء، ومثلاً أعلى للأقوياء. وأدنى ما يمكن أن نقوله في الأخلاق القرآنية: إنها كفت نفسها بنفسها على وجه الإطلاق، فهي أخلاق متكاملة" (ص 684).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
 
عودة
أعلى