أقامت الجمعية العلمية السعودية للقرآن الكريم وعلومه ( تبيان ) حفل جائزة الرسالة العلمية المتميزة في الدراسات القرآنية
يوم الأربعاء 29 / 6 / 1432 هـ .
على شرف معالي رئيس مجلس الشورى ، وبحضور عدد كبير من الضيوف وأعضاء الجمعية .
وقد فاز بالجائزة هذا العام رسالتين ، إحداهما دكتوراه والأخرى ماجستير ، وبين أيديكم تعريف بهاتين الرسالتين استجابة لطلب كثير من الأعضاء التعريف .
دراسة وتأصيل
رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في القرآن وعلومه
إعداد الطالب:
بريــك بن سعيد القرنـي
العام الجامعي
1431/1432هـ
==========================
هذه رسالة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في القرآن وعلومه من كلية أصول الدين – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد تكونت لجنة المناقشة من:
1 - أ.د. بدر بن ناصر البدر مشرفاً على الرسالة.
2 – د. رياض بن محمد المسيميري . مناقشاً.
3 – أ . د. محمد بن عبدالعزيز العواجي . مناقشاً.
وقد أوصت اللجنة بمنح الباحث درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. ===============================================
أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
1 – الحاجة إلى تأصيل هذه العلوم القرآنية من كلام الصحابة والتابعين، ومعرفة ما تكلم فيه السلف والرعيل الأول من غيره، واستظهار مناهجهم في هذه العلوم، إذ هم من عاصر التنزيل وأخذ من المورد المعين والبحر العذب ومعدن العلم الزاكي، وهذا الموضوع إن تأخر زمناً إلا أنه متقدم رتبة مُعتلٍ قدراً، لأن علوم السلف الأوائل خير ما يُولى بالنظر الفائق ، والبحث المؤصل .
2 – أن جمع الآثار عند الصحابة والتابعين في جملة من علوم القرآن تورث علماً نفيساً، وأصالةً مزيدةً تفتح آفاقاً لاستنباط الدقائق وتفريع المعاني ، فيستخرج منها إذا جمعت فوائد جمة لا يتحصل عليها طالبها وهي مبثوثة منثورة في تضاعيف المؤلفات، وهو كذلك كشف عن وجوه جديدة لعلوم القرآن عند السلف التي أولوها اهتماماً مزيداً وعنايةً أكيدة ً مما لم تأت عليه أقلام الباحثين – وإن أتت عليه – ففيه فسحة من الجديد المبتكر والتقعيد المتقن.
3 – تجدد النظر في هذه العلوم ترتيباً وأهمية حسب الأثر والرواية، وكشف منازل علوم الكتاب ومقادير كل علم من العناية والمدارسة التي تنبيء عنها المرويات والنصوص.
4 – أن أنواعاً من علوم القرآن قد علمت وتقررت عند أهل الاختصاص وتواردت عليها التآليف، بينما لو جاء السؤال عن أصل هذه العلوم ونصوصها من كلام السلف فلربما عيي المسئول بالجواب، من أجل هذا ظهرت الدعوات إلى تبيين أصول هذه العلوم عند الرعيل الأول ومعرفة موروثهم من غيره، فيتميز ما هو من علوم السلف وما حدث مبتكراً واستجد بعد عصرهم مما للنظر والرأي فيه نصيب.
5 – أنني لم أعلم من جمع آثار الصحابة والتابعين في هذه العلوم، واستنطق نصوصها ودوَّن عزيز مافيها من مسائل وفوائد ، وأصَّل لهذه الأنواع من علوم القرآن بهذه المنهجية المتبعة في هذا البحث، ورأيت أن أهل المعارف القرآنية قد اكتفوا ببرهان الزركشي وإتقان السيوطي، وهما كتابان موسوعان على قدر عظيم من النفاسة والجلالة، وَرَد إلى حياضهما أهل التصانيف وصدروا، فكان ينبغي أن يعرف ما وراء هذين المصنفين من آثار السلف ونصوص الأوائل ، وعودهم إلى السابقين وما خلفوه من إرث عظيم وعلوم رفيعة .
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى دراسة علوم القرآن عند الصحابة والتابعين روايةً ودرايةً، وستكون محاور البحث التي يسعى إلى تبيينها وكشف النقاب عنها ما يلي:
1 – التأصيل لعلوم القرآن التي كانت عند الصحابة والتابعين وتقرير أفرادها وموضوعاتها ، والعكوف على جمل من الروايات والآثار تستبين بها طرائقهم ونهجهم في هذه العلوم القرآنية.
2 – إبراز أنواع من علوم القرآن أكدتها نصوصهم والتقعيد لها ، وإظهارها من ضمن الأنواع المستجدة وكشف النقاب عنها وعن مسائلها.
3 – إظهار مناهج الصحابة والتابعين في علوم القرآن، وتوضيح مسالكهم في عرض مكنونات العلوم، وأهم ما قرروه وتواردوا على بيانه في كل فنٍّ قرآني.
4 – بيان أنواع من علوم القرآن أثرية الصبغة أصيلة النشأة من علوم الصحابة والتابعين، بحيث تفترق عن العلوم الناشئة بعدُ مما هي محصلة النظر والاجتهاد، وجمع ما تفرق من أفراد الرواية التأصيلية في مكان واحد واستنطاقها لتبين ما فيها من علم واستنباط وتقعيد، وكشف ما في العلوم القرآنية من تأصيل ومنهج ، ظفراً بالفوائد الرائقة ، والفرائد المشرقة .
5 – معرفة مقدار إفادة أهل التصانيف القرآنية من نصوص الأوائل ومروياتهم في مختلف الفنون وطرائق تلك الإفادة، وموقع الأثر والرواية من تلكم التآليف، وحظ علوم القدماء وأهل الريادة من القضايا القرآنية وموضوعاتها، وما يمكن أن يضاف إلى ما عند المؤلفين ويزاد على ما أصلوه من المعارف أنواعاً ومسائل.
================================================== ======
خطة البحث:
تتكون خطة البحث من مقدمة ، وتمهيد ، وستة أبواب ، وخاتمة ، وفهارس.
المقدمة وتشمل: أهمية الموضوع وأسباب اختياره، والأهداف، والدراسات السابقة، وخطة البحث، ومنهج الكتابة فيه.
التمهيد، ويشتمل على ما يلي:
نشأة مصطلح علوم القرآن وتطوره، وتعريف الصحابة والتابعين.
الباب الأول: علوم القرآن المتعلقة بالنزول عند الصحابة والتابعين، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: نزول القرآن.
الفصل الثاني: أسباب النزول.
الفصل الثالث: أول ما نزل وآخر ما نزل.
الفصل الرابع: المكي والمدني.
الفصل الخامس: المبهمات.
الباب الثاني: علوم القرآن المتعلقة بالمعاني عند الصحابة والتابعين، وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: الوجوه والنظائر.
الفصل الثاني: المقدم والمؤخر.
الفصل الثالث: مشكل القرآن.
الفصل الرابع: موهم الاختلاف والتعارض.
الفصل الخامس: أمثال القرآن.
الفصل السادس: الجدل في القرآن.
الباب الثالث: علوم القرآن المتعلقة بدلالة الألفاظ عند الصحابة والتابعين، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المحكم والمتشابه.
الفصل الثاني: العام والخاص.
الفصل الثالث: النسخ.
الباب الرابع: علوم القرآن المتعلقة بالوقوف عند الصحابة والتابعين، وفيه فصلان:
الفصل الأول: الوقف والابتداء.
الفصل الثاني: المفصول والموصول.
الباب الخامس: أنواع متفرقة من علوم القرآن عند الصحابة والتابعين، وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: الأحرف السبعة.
الفصل الثاني: جمع القرآن وكتابته.
الفصل الثالث: مفردات القرآن.
الفصل الرابع: تعضيد السنة بالقرآن.
الفصل الخامس: ملح التفسير ولطائفه.
الفصل السادس: تحزيب القرآن والمفصل.
الفصل السابع: الاستنباط من القرآن.
الباب السادس: سمات علوم القرآن بين عهدي الصحابة والتابعين، وآثار تأصيل هذه العلوم، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: سمات علوم القرآن بين عهدي الصحابة والتابعين.
الفصل الثاني: آثار التأصيل لعلوم القرآن عند الصحابة والتابعين.
الفصل الثالث: إفادة المؤلفين في علوم القرآن من هذه النصوص والآثار.
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج وتوصيات الباحث.
================================================== ======
الخاتمة
بعد تطواف مثمر في أسفار الأثر ودواوين الرواية مع معارف القرآن العظيم في زمن العلوم الأول، تسطع هذه النتائج وتختم هذه الفوائد بجملة وافرة من القضايا، يجمل التنبيه عليها والوصاية بها ليفوح مسك الختام ، ويسطع بدر التمام :
1 – شمولية تلقي علوم الكتاب المجيد مع كل ما يتعلق بالقرآن تفسيراً ومعانٍ، وحروفاً وأداءً، وعلوماً ومعارف، فقد نهل الصحابة والتابعون من معين التنزيل بمجموعها، لا ينفصل علم عن آخر ولا فنٌّ عن قرينة.
وهو تآخٍ للعلوم وما يتصل بكتاب الله، تعلماً وتعليماً، تلقياً ونشراً.
ولهذا نُقلت إلى المتأخرين علوم القرآن التي أسَّسَها الصحابة وعلموها وخاضوا في أفرادها وأفاضوا في موضوعاتها بالأسانيد نفسها التي حملت مروياتهم في التفسير وحروف القرآن وأداء ألفاظه.
2 – أن علوم القرآن التي أفاض فيها الصحابة والتابعون علومٌ أثرية، نقلتها أسانيد الرواية ، والحديث عن قوة الطرق وضعفها ووصلها وانقطاعها هو ما ذكره العلماء النقاد وأطنبوا فيه عند مروياتهم التفسيرية؛ لأن سبل نقلها هي سبل نقل الآثار التفسيرية ، واستبان أن ضعف الطريق إلى الرواية في علوم القرآن غير مانع من التأصيل منها ، وتأسيس موضوعات الفنون عليها ؛ لأُمور :
أ / ضعف الطريق لا يلزم منه ضعف المتن.
ب/ أن الحكم بالضعف والتوهين كان من خلال ما وصل إلى المعاصرين من كتب السنة ودواوين الأثر، وبقيت ذخائر مفقودة، ربما جاءت الرواية من طريق صحيح أو على أقل حالٍ عضدت الطريق الضعيف وارتقت به إلى الحسن لغيره.
ج / أن بوابة التأصيل الكبرى لمعارف الكتاب عند أولئك السلف الأولين كان عبر تأمل الأمثلة والشواهد التي يتكون من مجموعها مسألة علمية وقضية قرآنية، فلو وُهِّن سند رواية لأمكن أن يصح برواية أُخرى، ولو وهنت الأُخرى لتقوت الطرق بعضها ببعض فتثبت المسألة القرآنية وتعتمد .
3 – ظهر أن فنون القرآن على ضربين:
الأول: علوم نقلية، وشرطها مشاهدة التنزيل وحضور الوقائع ومعاصرة الأحداث، وهو شرط لا يتوفر إلا في الصحابة الكرام.
وما ورد عن التابعين من آثار في العلوم النقلية هو في حقيقة أمره روايةٌ ونقلٌ لما تلقوه عن شيوخهم من الصحابة يؤكد هذا ويعضده أنها مسائل لا مدخل فيها للاجتهاد، فلم تبق إلا الرواية عن ملازمي النبوة وتنزلات القرآن.
الثاني: علوم اجتهادية، ولا يشترط فيها ما اشترط في العلوم النقلية، فكان الأمر فيها واسعاً مادام للنظر والرأي فيها موطن.
وما دام في القرآن علومٌ مردها التفكر وحسن التبصر فهي دعوة إلى نثر ما في مكنونه من المعارف التي لا تنتهي والغوص على فنونه الغزيرة المستودعة بواطن الآي الكريمة.
4 – يظهر قدر العلم القرآني وبالغ منزلته بين العلوم الأُخرى، وجليل اعتناء الصحابة والتابعين في تحصيله بأمرين:
الأول: نصوص معربة عن شأنه وعلو كعبه بين العلوم القرآنية ، كالوارد في أهمية الأسباب ، والنسخ ، والمكي والمدني.
الثاني: التوجه إلى ضم متفرقات العلم والتوسع في تقصي أفراده وتحصيل موضوعاته، توجهاً عملياً لا قولياً، وهذا تم في علم المكي والمدني والتعرف إلى أنواع السور وما استثني منها، وعلم المبهمات واستيفاء كل مبهم في القرآن وبيانه وغيرها من الشواهد.
وقد يجتمع في العلم الأمران من النص على قدره ومكانته قولاً، ثم الإفاضة في ذلك عملياً بتتبع موارده في آي القرآن كعلم الأسباب أو النسخ مثلاً .
5 – يظهر أن مصطلح «علوم القرآن» سار مواكباً في إطلاقه ومعناه لشمولية ما يتصل بالقرآن من علوم وفنون منذ بداياتها، فكان مصطلحاً فضفاضاً، ثم بدأ يتشكل بمعناه الخاص من المائة الرابعة من الهجرة، وتأكد هذا وطبع بسيما خاصة بعد المائة الخامسة، وظهر في مروياتهم ألفاظ مرادفة لمصطلح علوم القرآن من نحو: المعرفة بالقرآن، القرآن ذو فنون، علم القرآن، ونطق الحسن البصري بمصطلح علوم القرآن في أثره المشهور وكان واسع المضمون يشمل معارف القرآن بمعناه الاصطلاحي المتأخر ويشمل غيرها، ثم أشاع الشافعي المصطلح في قصته المعروفة مع هارون الرشيد، وكان ذلك بمعناه الذي استقر عليه فيما بعد، دل على ذلك تعداد الشافعي لعلومٍ قرآنية هي أمهات العلوم ورؤوس فنونها، حتى عدَّ – كما في الأثر – ثلاثة وسبعين علماً قرآنياً.
6 – أن الصحابة الكرام ومن بعدهم من التابعين كانوا أعلم الناس بمهمات العلوم وترتيبها أهمية وابتداء بما يستحق البداءة به ، ولهذا أولوا العلوم حقها ووضعوا كل علم في منزلته التي يستأهلها دون بخس فنٍ ولا مغالاة في آخر.
وبدا وجه اهتمام كبير بالعلوم القرآنية التي لها صلات بعلم التفسير من نحو: أسباب النزول، والمكي والمدني، وغيرهما، وما ذاك إلا لأنها عائدة على التفسير والتأويل بالفائدة والأثر.
7 – أن الجادة في تأصيل قضايا العلوم القرآنية من روايات الصحابة والتابعين، كانت عبر تأمل الأمثلة والشواهد للمسائل القرآنية، أي : من خلال المرويات التطبيقية للعلوم، فلم تكن في النصوص المأثورة عبارات تأسيسية صريحة وتقسيمات واضحة، وجملٌ مرصوفة مؤصلة، ولهذا دقَّ أمر تأسيس المعارف والحال هذه واستوجب النظر المتمعن والتتبع المستقصي لموارد العلم وشواهده في الآثار.
8 – من جهة الألفاظ وسبك العبارات امتازت مرويات السلف بالجملة الوجيزة والمعاني الغزيرة، والإشارات الدقيقة والفهم الواسع، وجودة الاستنباط، وذكاء القرائح، ولهذا فمن أهم سمات الرواية أنها ليست جملاً مستطيلة وعبارات مطنبة، إنما إيجاز وافٍ، متسع المراد، متشعب الوجوه، متنوع الإفادة، ثري الفائدة.
9 – تطابق الصحابة والتابعون في أنواع العلوم التي صرفوا وجوه الاهتمام إليها، وتدارسوا موضوعاتها وقرروا مسائلها، فلم يفض الصحابة القول في علم إلا وتابعهم التابعون عليه وسلكوا نهجهم واقتفوا خطاهم، ولا أثرى التابعون مفردات علم إلا ولأشياخهم من الصحابة قدم سبق إليه.
هذا في أصل العلوم القرآنية، ويبقى تفاصيل كل علم موطن تباين في الآثار كثرة وقلة، مع إمكان الاختلاف في تفصيلات كل علم على حدة.
10 – عظيم أثر تأصيل معارف القرآن على مأثور الصحابة والتابعين، إذ به تحفظ علومهم الغزيرة ، وتؤسس فنون الكتاب المبين على قبس من الأثر والرواية الأصيلة.
وتكشف حالة العلوم في بداياتها الأولى زمن الصحابة والتابعين وتطورها عهداً بعد عهد حتى عصر الاستقرار والتمايز، ثم ما يتحصل من الإفادة من طرائق الصحابة والتابعين ومسالكهم في تناول صنوف المعارف القرآنية وفنونها، وتمييز تدرج مصطلحات العلوم ومراداتها منذ نشأتها إلى استقرارها على ما هي عليه الآن ، إلى غير ذلك من الثمار والفوائد .
11 – أن أهل علوم القرآن ممن صنَّف وألَّف قد تباينت مناهجهم في الإفادة من مرويات الصحابة والتابعين في علوم القرآن، فإن كان العلم من العلوم النقلية فجانب الأثر مهمٌّ ومعتنىً به، وإن كان من العلوم الاجتهادية فأمره أخف من سابقه، وبقي للمتأمل فسحة يستطيع الإفادة من روايات السابقين على تنوع العلوم، ويكد الذهن إيعاباً لما تكتنزه من مسائل قرآنية.
12 – يحسن التوصية بسلوك منهج تأصيل العلوم القرآنية انطلاقاً من مروي الصحابة والتابعين ، في كل علم لهم فيه قدم سابقة ويد راسخة ، وأن يُستقصى في جمع الروايات وتصنيفها مع بالغ الاعتناء بألفاظهم وعباراتهم، فعلى وجازتها تنطوي تحتها مفاتيح الموضوعات القرآنية، وكذلك يستبين آراء أئمة العلم من الصحابة والتابعين وما قاله المقدمون منهم في علم القرآن، وما يتتابع عليه جماعاتهم، وكل ذلك يعزز من قوة الأقوال ويعضدها ، ويفيد عند الترجيح والمقارنة بين الأقوال.
13 – اتضح مدى ترابط معارف القرآن فيما بينها وشديد صِلالتها لبعضها، فهي منظومة متناسقة، علمٌ يكشف عن آخر، وفنٌّ يبين عن قرينه، وعلمان يتفاودان ويتكاملان ، خاصة في ما هو من عداد العلوم النقلية، كأسباب النزول، والمكي والمدني، والمبهمات، ونزول القرآن فبينها عظيم اتصال واتساق.
14 – لا يفوتني التنبيه إلى أن معاناة توصيف المعارف القرآنية عند الصحابة والتابعين، وعمق درسها ودقة مسائلها فما هي إلا استخراج بالمناقيش في مجمل علومها، لأن الأوائل لم يطيلوا العبارات ويرصفوا الجمل المطنبة، إنما كلام مقتضب وإشارات بطينة تلتقط وتبنى على أساسها القضايا القرآنية.
وعليه فلازم ذلك أمران:
الأمر الأول – احتواء النصوص والروايات وإيعابها.
الأمر الثاني – تدقيق النظر وتكرار التمعن حتى تتجلى المسائل ويقود بعضها إلى بعض في استكمال منظومة الموضوعات التي ورثوها في كل علم قرآني.
15 –كان للصحابة والتابعين مراجعات وتعقيبات في شيء من قضايا العلوم، وهم بهذا يقررون عظم الحاجة إلى تنقيح الأقوال ونخل الآراء حتى لا يثبت منها ويعتمد إلا على قدم من الدليل وراجح التعليل، وهذه النزعة النقدية هي ما تحتاجه الكثير من المصنفات القرآنية اليوم حتى ينتفي الضعيف منها ، ويتنقى الصحيح من الشوائب التي تكدره وتورد الاعتراضات عليه.
16 – بما أن دراسة العلوم القرآنية زمن الصحابة والتابعين هي لبنة أُولى في تحقيق معارف التنزيل وتأصيل قواعدها وتقعيد موضوعاتها، فمن المستحسن المفيد إكمال هذا البناء العلمي بدرس العلوم زمن أتباع التابعين فمن بعدهم وصولاً إلى عهد انبثاق التآليف وتقييد الفنون القرآنية في التصانيف المخصوصة، ورسوخ معارفها واستقلالها عن بقية علوم الكتاب.
17 – استبان بعد هذا كله، جليل فضل الصحابة والتابعين وعظيم منزلتهم، وسبقهم الذي لا يدرك في العلم والدين، فهم من تحمل هذه العلوم القرآنية حفظاً وإتقاناً، ثم تبليغاً لمن خلفهم من الأُمة، وهي خصيصة اصطفاهم المولى بها، لتكون لهم يد باذلة وقدم صادقة وأُجور متتابعة ، فحقهم على أُمة القرآن كبير، جزاء هذا الخير والنور الذي ورَّثُوه، حباً وثناءً وترضياً وامتناناً، فجزاهم الله خير ما جزى صحباً عن نبيهم وكتابهم وأُمتهم، وجمعنا بهم في دار كرامته ونزل جنته بمنه وعفوه وإحسانه.
وختاماً:
أبتهل إلى المولى العزيز الوهاب القدير أن يُحسن العمل ويخلص لوجهه المقصد ويُبلغ الأمل، وأن يعفو عن التقصير ويصفح، ويهب التوفيق ويمنح، فما الخير إلا بيديه، ولا التسديد والقبول إلا من لديه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلاةً وسلاماً دائمين سرمدين على نبي الرحمات وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الميامين الثقات.
يوم الأربعاء 29 / 6 / 1432 هـ .
على شرف معالي رئيس مجلس الشورى ، وبحضور عدد كبير من الضيوف وأعضاء الجمعية .
وقد فاز بالجائزة هذا العام رسالتين ، إحداهما دكتوراه والأخرى ماجستير ، وبين أيديكم تعريف بهاتين الرسالتين استجابة لطلب كثير من الأعضاء التعريف .
ملخص الرسالة الفائزة الأولى ( دكتوراه )
علوم القرآن عند الصحابة والتابعيـندراسة وتأصيل
رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في القرآن وعلومه
إعداد الطالب:
بريــك بن سعيد القرنـي
العام الجامعي
1431/1432هـ
==========================
هذه رسالة علمية تقدم بها الباحث لنيل درجة الدكتوراه في القرآن وعلومه من كلية أصول الدين – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد تكونت لجنة المناقشة من:
1 - أ.د. بدر بن ناصر البدر مشرفاً على الرسالة.
2 – د. رياض بن محمد المسيميري . مناقشاً.
3 – أ . د. محمد بن عبدالعزيز العواجي . مناقشاً.
وقد أوصت اللجنة بمنح الباحث درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. ===============================================
أهمية الموضوع وأسباب اختياره:
1 – الحاجة إلى تأصيل هذه العلوم القرآنية من كلام الصحابة والتابعين، ومعرفة ما تكلم فيه السلف والرعيل الأول من غيره، واستظهار مناهجهم في هذه العلوم، إذ هم من عاصر التنزيل وأخذ من المورد المعين والبحر العذب ومعدن العلم الزاكي، وهذا الموضوع إن تأخر زمناً إلا أنه متقدم رتبة مُعتلٍ قدراً، لأن علوم السلف الأوائل خير ما يُولى بالنظر الفائق ، والبحث المؤصل .
2 – أن جمع الآثار عند الصحابة والتابعين في جملة من علوم القرآن تورث علماً نفيساً، وأصالةً مزيدةً تفتح آفاقاً لاستنباط الدقائق وتفريع المعاني ، فيستخرج منها إذا جمعت فوائد جمة لا يتحصل عليها طالبها وهي مبثوثة منثورة في تضاعيف المؤلفات، وهو كذلك كشف عن وجوه جديدة لعلوم القرآن عند السلف التي أولوها اهتماماً مزيداً وعنايةً أكيدة ً مما لم تأت عليه أقلام الباحثين – وإن أتت عليه – ففيه فسحة من الجديد المبتكر والتقعيد المتقن.
3 – تجدد النظر في هذه العلوم ترتيباً وأهمية حسب الأثر والرواية، وكشف منازل علوم الكتاب ومقادير كل علم من العناية والمدارسة التي تنبيء عنها المرويات والنصوص.
4 – أن أنواعاً من علوم القرآن قد علمت وتقررت عند أهل الاختصاص وتواردت عليها التآليف، بينما لو جاء السؤال عن أصل هذه العلوم ونصوصها من كلام السلف فلربما عيي المسئول بالجواب، من أجل هذا ظهرت الدعوات إلى تبيين أصول هذه العلوم عند الرعيل الأول ومعرفة موروثهم من غيره، فيتميز ما هو من علوم السلف وما حدث مبتكراً واستجد بعد عصرهم مما للنظر والرأي فيه نصيب.
5 – أنني لم أعلم من جمع آثار الصحابة والتابعين في هذه العلوم، واستنطق نصوصها ودوَّن عزيز مافيها من مسائل وفوائد ، وأصَّل لهذه الأنواع من علوم القرآن بهذه المنهجية المتبعة في هذا البحث، ورأيت أن أهل المعارف القرآنية قد اكتفوا ببرهان الزركشي وإتقان السيوطي، وهما كتابان موسوعان على قدر عظيم من النفاسة والجلالة، وَرَد إلى حياضهما أهل التصانيف وصدروا، فكان ينبغي أن يعرف ما وراء هذين المصنفين من آثار السلف ونصوص الأوائل ، وعودهم إلى السابقين وما خلفوه من إرث عظيم وعلوم رفيعة .
أهداف البحث:
يهدف البحث إلى دراسة علوم القرآن عند الصحابة والتابعين روايةً ودرايةً، وستكون محاور البحث التي يسعى إلى تبيينها وكشف النقاب عنها ما يلي:
1 – التأصيل لعلوم القرآن التي كانت عند الصحابة والتابعين وتقرير أفرادها وموضوعاتها ، والعكوف على جمل من الروايات والآثار تستبين بها طرائقهم ونهجهم في هذه العلوم القرآنية.
2 – إبراز أنواع من علوم القرآن أكدتها نصوصهم والتقعيد لها ، وإظهارها من ضمن الأنواع المستجدة وكشف النقاب عنها وعن مسائلها.
3 – إظهار مناهج الصحابة والتابعين في علوم القرآن، وتوضيح مسالكهم في عرض مكنونات العلوم، وأهم ما قرروه وتواردوا على بيانه في كل فنٍّ قرآني.
4 – بيان أنواع من علوم القرآن أثرية الصبغة أصيلة النشأة من علوم الصحابة والتابعين، بحيث تفترق عن العلوم الناشئة بعدُ مما هي محصلة النظر والاجتهاد، وجمع ما تفرق من أفراد الرواية التأصيلية في مكان واحد واستنطاقها لتبين ما فيها من علم واستنباط وتقعيد، وكشف ما في العلوم القرآنية من تأصيل ومنهج ، ظفراً بالفوائد الرائقة ، والفرائد المشرقة .
5 – معرفة مقدار إفادة أهل التصانيف القرآنية من نصوص الأوائل ومروياتهم في مختلف الفنون وطرائق تلك الإفادة، وموقع الأثر والرواية من تلكم التآليف، وحظ علوم القدماء وأهل الريادة من القضايا القرآنية وموضوعاتها، وما يمكن أن يضاف إلى ما عند المؤلفين ويزاد على ما أصلوه من المعارف أنواعاً ومسائل.
================================================== ======
خطة البحث:
تتكون خطة البحث من مقدمة ، وتمهيد ، وستة أبواب ، وخاتمة ، وفهارس.
المقدمة وتشمل: أهمية الموضوع وأسباب اختياره، والأهداف، والدراسات السابقة، وخطة البحث، ومنهج الكتابة فيه.
التمهيد، ويشتمل على ما يلي:
نشأة مصطلح علوم القرآن وتطوره، وتعريف الصحابة والتابعين.
الباب الأول: علوم القرآن المتعلقة بالنزول عند الصحابة والتابعين، وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول: نزول القرآن.
الفصل الثاني: أسباب النزول.
الفصل الثالث: أول ما نزل وآخر ما نزل.
الفصل الرابع: المكي والمدني.
الفصل الخامس: المبهمات.
الباب الثاني: علوم القرآن المتعلقة بالمعاني عند الصحابة والتابعين، وفيه ستة فصول:
الفصل الأول: الوجوه والنظائر.
الفصل الثاني: المقدم والمؤخر.
الفصل الثالث: مشكل القرآن.
الفصل الرابع: موهم الاختلاف والتعارض.
الفصل الخامس: أمثال القرآن.
الفصل السادس: الجدل في القرآن.
الباب الثالث: علوم القرآن المتعلقة بدلالة الألفاظ عند الصحابة والتابعين، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المحكم والمتشابه.
الفصل الثاني: العام والخاص.
الفصل الثالث: النسخ.
الباب الرابع: علوم القرآن المتعلقة بالوقوف عند الصحابة والتابعين، وفيه فصلان:
الفصل الأول: الوقف والابتداء.
الفصل الثاني: المفصول والموصول.
الباب الخامس: أنواع متفرقة من علوم القرآن عند الصحابة والتابعين، وفيه سبعة فصول:
الفصل الأول: الأحرف السبعة.
الفصل الثاني: جمع القرآن وكتابته.
الفصل الثالث: مفردات القرآن.
الفصل الرابع: تعضيد السنة بالقرآن.
الفصل الخامس: ملح التفسير ولطائفه.
الفصل السادس: تحزيب القرآن والمفصل.
الفصل السابع: الاستنباط من القرآن.
الباب السادس: سمات علوم القرآن بين عهدي الصحابة والتابعين، وآثار تأصيل هذه العلوم، وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: سمات علوم القرآن بين عهدي الصحابة والتابعين.
الفصل الثاني: آثار التأصيل لعلوم القرآن عند الصحابة والتابعين.
الفصل الثالث: إفادة المؤلفين في علوم القرآن من هذه النصوص والآثار.
الخاتمة: وتشمل أهم النتائج وتوصيات الباحث.
================================================== ======
الخاتمة
بعد تطواف مثمر في أسفار الأثر ودواوين الرواية مع معارف القرآن العظيم في زمن العلوم الأول، تسطع هذه النتائج وتختم هذه الفوائد بجملة وافرة من القضايا، يجمل التنبيه عليها والوصاية بها ليفوح مسك الختام ، ويسطع بدر التمام :
1 – شمولية تلقي علوم الكتاب المجيد مع كل ما يتعلق بالقرآن تفسيراً ومعانٍ، وحروفاً وأداءً، وعلوماً ومعارف، فقد نهل الصحابة والتابعون من معين التنزيل بمجموعها، لا ينفصل علم عن آخر ولا فنٌّ عن قرينة.
وهو تآخٍ للعلوم وما يتصل بكتاب الله، تعلماً وتعليماً، تلقياً ونشراً.
ولهذا نُقلت إلى المتأخرين علوم القرآن التي أسَّسَها الصحابة وعلموها وخاضوا في أفرادها وأفاضوا في موضوعاتها بالأسانيد نفسها التي حملت مروياتهم في التفسير وحروف القرآن وأداء ألفاظه.
2 – أن علوم القرآن التي أفاض فيها الصحابة والتابعون علومٌ أثرية، نقلتها أسانيد الرواية ، والحديث عن قوة الطرق وضعفها ووصلها وانقطاعها هو ما ذكره العلماء النقاد وأطنبوا فيه عند مروياتهم التفسيرية؛ لأن سبل نقلها هي سبل نقل الآثار التفسيرية ، واستبان أن ضعف الطريق إلى الرواية في علوم القرآن غير مانع من التأصيل منها ، وتأسيس موضوعات الفنون عليها ؛ لأُمور :
أ / ضعف الطريق لا يلزم منه ضعف المتن.
ب/ أن الحكم بالضعف والتوهين كان من خلال ما وصل إلى المعاصرين من كتب السنة ودواوين الأثر، وبقيت ذخائر مفقودة، ربما جاءت الرواية من طريق صحيح أو على أقل حالٍ عضدت الطريق الضعيف وارتقت به إلى الحسن لغيره.
ج / أن بوابة التأصيل الكبرى لمعارف الكتاب عند أولئك السلف الأولين كان عبر تأمل الأمثلة والشواهد التي يتكون من مجموعها مسألة علمية وقضية قرآنية، فلو وُهِّن سند رواية لأمكن أن يصح برواية أُخرى، ولو وهنت الأُخرى لتقوت الطرق بعضها ببعض فتثبت المسألة القرآنية وتعتمد .
3 – ظهر أن فنون القرآن على ضربين:
الأول: علوم نقلية، وشرطها مشاهدة التنزيل وحضور الوقائع ومعاصرة الأحداث، وهو شرط لا يتوفر إلا في الصحابة الكرام.
وما ورد عن التابعين من آثار في العلوم النقلية هو في حقيقة أمره روايةٌ ونقلٌ لما تلقوه عن شيوخهم من الصحابة يؤكد هذا ويعضده أنها مسائل لا مدخل فيها للاجتهاد، فلم تبق إلا الرواية عن ملازمي النبوة وتنزلات القرآن.
الثاني: علوم اجتهادية، ولا يشترط فيها ما اشترط في العلوم النقلية، فكان الأمر فيها واسعاً مادام للنظر والرأي فيها موطن.
وما دام في القرآن علومٌ مردها التفكر وحسن التبصر فهي دعوة إلى نثر ما في مكنونه من المعارف التي لا تنتهي والغوص على فنونه الغزيرة المستودعة بواطن الآي الكريمة.
4 – يظهر قدر العلم القرآني وبالغ منزلته بين العلوم الأُخرى، وجليل اعتناء الصحابة والتابعين في تحصيله بأمرين:
الأول: نصوص معربة عن شأنه وعلو كعبه بين العلوم القرآنية ، كالوارد في أهمية الأسباب ، والنسخ ، والمكي والمدني.
الثاني: التوجه إلى ضم متفرقات العلم والتوسع في تقصي أفراده وتحصيل موضوعاته، توجهاً عملياً لا قولياً، وهذا تم في علم المكي والمدني والتعرف إلى أنواع السور وما استثني منها، وعلم المبهمات واستيفاء كل مبهم في القرآن وبيانه وغيرها من الشواهد.
وقد يجتمع في العلم الأمران من النص على قدره ومكانته قولاً، ثم الإفاضة في ذلك عملياً بتتبع موارده في آي القرآن كعلم الأسباب أو النسخ مثلاً .
5 – يظهر أن مصطلح «علوم القرآن» سار مواكباً في إطلاقه ومعناه لشمولية ما يتصل بالقرآن من علوم وفنون منذ بداياتها، فكان مصطلحاً فضفاضاً، ثم بدأ يتشكل بمعناه الخاص من المائة الرابعة من الهجرة، وتأكد هذا وطبع بسيما خاصة بعد المائة الخامسة، وظهر في مروياتهم ألفاظ مرادفة لمصطلح علوم القرآن من نحو: المعرفة بالقرآن، القرآن ذو فنون، علم القرآن، ونطق الحسن البصري بمصطلح علوم القرآن في أثره المشهور وكان واسع المضمون يشمل معارف القرآن بمعناه الاصطلاحي المتأخر ويشمل غيرها، ثم أشاع الشافعي المصطلح في قصته المعروفة مع هارون الرشيد، وكان ذلك بمعناه الذي استقر عليه فيما بعد، دل على ذلك تعداد الشافعي لعلومٍ قرآنية هي أمهات العلوم ورؤوس فنونها، حتى عدَّ – كما في الأثر – ثلاثة وسبعين علماً قرآنياً.
6 – أن الصحابة الكرام ومن بعدهم من التابعين كانوا أعلم الناس بمهمات العلوم وترتيبها أهمية وابتداء بما يستحق البداءة به ، ولهذا أولوا العلوم حقها ووضعوا كل علم في منزلته التي يستأهلها دون بخس فنٍ ولا مغالاة في آخر.
وبدا وجه اهتمام كبير بالعلوم القرآنية التي لها صلات بعلم التفسير من نحو: أسباب النزول، والمكي والمدني، وغيرهما، وما ذاك إلا لأنها عائدة على التفسير والتأويل بالفائدة والأثر.
7 – أن الجادة في تأصيل قضايا العلوم القرآنية من روايات الصحابة والتابعين، كانت عبر تأمل الأمثلة والشواهد للمسائل القرآنية، أي : من خلال المرويات التطبيقية للعلوم، فلم تكن في النصوص المأثورة عبارات تأسيسية صريحة وتقسيمات واضحة، وجملٌ مرصوفة مؤصلة، ولهذا دقَّ أمر تأسيس المعارف والحال هذه واستوجب النظر المتمعن والتتبع المستقصي لموارد العلم وشواهده في الآثار.
8 – من جهة الألفاظ وسبك العبارات امتازت مرويات السلف بالجملة الوجيزة والمعاني الغزيرة، والإشارات الدقيقة والفهم الواسع، وجودة الاستنباط، وذكاء القرائح، ولهذا فمن أهم سمات الرواية أنها ليست جملاً مستطيلة وعبارات مطنبة، إنما إيجاز وافٍ، متسع المراد، متشعب الوجوه، متنوع الإفادة، ثري الفائدة.
9 – تطابق الصحابة والتابعون في أنواع العلوم التي صرفوا وجوه الاهتمام إليها، وتدارسوا موضوعاتها وقرروا مسائلها، فلم يفض الصحابة القول في علم إلا وتابعهم التابعون عليه وسلكوا نهجهم واقتفوا خطاهم، ولا أثرى التابعون مفردات علم إلا ولأشياخهم من الصحابة قدم سبق إليه.
هذا في أصل العلوم القرآنية، ويبقى تفاصيل كل علم موطن تباين في الآثار كثرة وقلة، مع إمكان الاختلاف في تفصيلات كل علم على حدة.
10 – عظيم أثر تأصيل معارف القرآن على مأثور الصحابة والتابعين، إذ به تحفظ علومهم الغزيرة ، وتؤسس فنون الكتاب المبين على قبس من الأثر والرواية الأصيلة.
وتكشف حالة العلوم في بداياتها الأولى زمن الصحابة والتابعين وتطورها عهداً بعد عهد حتى عصر الاستقرار والتمايز، ثم ما يتحصل من الإفادة من طرائق الصحابة والتابعين ومسالكهم في تناول صنوف المعارف القرآنية وفنونها، وتمييز تدرج مصطلحات العلوم ومراداتها منذ نشأتها إلى استقرارها على ما هي عليه الآن ، إلى غير ذلك من الثمار والفوائد .
11 – أن أهل علوم القرآن ممن صنَّف وألَّف قد تباينت مناهجهم في الإفادة من مرويات الصحابة والتابعين في علوم القرآن، فإن كان العلم من العلوم النقلية فجانب الأثر مهمٌّ ومعتنىً به، وإن كان من العلوم الاجتهادية فأمره أخف من سابقه، وبقي للمتأمل فسحة يستطيع الإفادة من روايات السابقين على تنوع العلوم، ويكد الذهن إيعاباً لما تكتنزه من مسائل قرآنية.
12 – يحسن التوصية بسلوك منهج تأصيل العلوم القرآنية انطلاقاً من مروي الصحابة والتابعين ، في كل علم لهم فيه قدم سابقة ويد راسخة ، وأن يُستقصى في جمع الروايات وتصنيفها مع بالغ الاعتناء بألفاظهم وعباراتهم، فعلى وجازتها تنطوي تحتها مفاتيح الموضوعات القرآنية، وكذلك يستبين آراء أئمة العلم من الصحابة والتابعين وما قاله المقدمون منهم في علم القرآن، وما يتتابع عليه جماعاتهم، وكل ذلك يعزز من قوة الأقوال ويعضدها ، ويفيد عند الترجيح والمقارنة بين الأقوال.
13 – اتضح مدى ترابط معارف القرآن فيما بينها وشديد صِلالتها لبعضها، فهي منظومة متناسقة، علمٌ يكشف عن آخر، وفنٌّ يبين عن قرينه، وعلمان يتفاودان ويتكاملان ، خاصة في ما هو من عداد العلوم النقلية، كأسباب النزول، والمكي والمدني، والمبهمات، ونزول القرآن فبينها عظيم اتصال واتساق.
14 – لا يفوتني التنبيه إلى أن معاناة توصيف المعارف القرآنية عند الصحابة والتابعين، وعمق درسها ودقة مسائلها فما هي إلا استخراج بالمناقيش في مجمل علومها، لأن الأوائل لم يطيلوا العبارات ويرصفوا الجمل المطنبة، إنما كلام مقتضب وإشارات بطينة تلتقط وتبنى على أساسها القضايا القرآنية.
وعليه فلازم ذلك أمران:
الأمر الأول – احتواء النصوص والروايات وإيعابها.
الأمر الثاني – تدقيق النظر وتكرار التمعن حتى تتجلى المسائل ويقود بعضها إلى بعض في استكمال منظومة الموضوعات التي ورثوها في كل علم قرآني.
15 –كان للصحابة والتابعين مراجعات وتعقيبات في شيء من قضايا العلوم، وهم بهذا يقررون عظم الحاجة إلى تنقيح الأقوال ونخل الآراء حتى لا يثبت منها ويعتمد إلا على قدم من الدليل وراجح التعليل، وهذه النزعة النقدية هي ما تحتاجه الكثير من المصنفات القرآنية اليوم حتى ينتفي الضعيف منها ، ويتنقى الصحيح من الشوائب التي تكدره وتورد الاعتراضات عليه.
16 – بما أن دراسة العلوم القرآنية زمن الصحابة والتابعين هي لبنة أُولى في تحقيق معارف التنزيل وتأصيل قواعدها وتقعيد موضوعاتها، فمن المستحسن المفيد إكمال هذا البناء العلمي بدرس العلوم زمن أتباع التابعين فمن بعدهم وصولاً إلى عهد انبثاق التآليف وتقييد الفنون القرآنية في التصانيف المخصوصة، ورسوخ معارفها واستقلالها عن بقية علوم الكتاب.
17 – استبان بعد هذا كله، جليل فضل الصحابة والتابعين وعظيم منزلتهم، وسبقهم الذي لا يدرك في العلم والدين، فهم من تحمل هذه العلوم القرآنية حفظاً وإتقاناً، ثم تبليغاً لمن خلفهم من الأُمة، وهي خصيصة اصطفاهم المولى بها، لتكون لهم يد باذلة وقدم صادقة وأُجور متتابعة ، فحقهم على أُمة القرآن كبير، جزاء هذا الخير والنور الذي ورَّثُوه، حباً وثناءً وترضياً وامتناناً، فجزاهم الله خير ما جزى صحباً عن نبيهم وكتابهم وأُمتهم، وجمعنا بهم في دار كرامته ونزل جنته بمنه وعفوه وإحسانه.
وختاماً:
أبتهل إلى المولى العزيز الوهاب القدير أن يُحسن العمل ويخلص لوجهه المقصد ويُبلغ الأمل، وأن يعفو عن التقصير ويصفح، ويهب التوفيق ويمنح، فما الخير إلا بيديه، ولا التسديد والقبول إلا من لديه، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلاةً وسلاماً دائمين سرمدين على نبي الرحمات وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الميامين الثقات.