أبو عبيدة الهاني
New member
- إنضم
- 23/03/2007
- المشاركات
- 120
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
قال الشيخ أبو السعود في تفسير قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) [البقرة:6]:
والكفر في اللغة : ستر النعمة وأصله الكفر ـ بالفتح ـ أي: الستر. ومنه قيل للزراع والليل: كافِرٌ. قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20]. وعليه قول لبيد: "في ليلة كَفَرَ النجومَ غمامُها". ومنه: المتكفِّر بسلاحة، وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه.
وفي الشرع: "إنكار ما عُلِم بالضرورة مجيءُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ به.
وقد بسط الشيخ محمد زيتونة القول في هذا التعريف قائلا:
(والكُفر) بالضم اسم مصدر كَفر، كقتل، لا ضرب كما وهم الجوهري.
(في) أصل (اللغة) العربية: (سَتْرُ) ـ بفتح السين المهملة وسكون المثناة فوقية ـ (النِّعمَة) ـ بكسر فسكون ـ المنعَم بها، وبفتح: الأنعام.
أي تغطيتها وجحودها كما في الصحاح، ضد الشكر. والمصدر: كفران.
(وأصله) أي المضموم كما في الصحاح: (الكَفْرُ) ـ كالضرب ـ (بالفتح) للكاف (أي السَّتْرُ) ـ بالفتح ـ والتغطية في كل شيء.
وكَفَرْتُ الشيء أكْفِرُه ـ بالكسر ـ كَفْرًا: سَتَرْتُهُ. ورماد مكفورٌ سفت الريح النزاب عليه حتى غطته. قال:
هل تعرف بأعلى ذي الغور***قد درست غير رمادٍ مكفور
(ومنه) سميت القرية كَفْرًا؛ لسَتْرِها أهلَها؛ كخبر: «تُخرِجكُم الرومُ منها كَفْرًا كَفْرًا» ، أي من قرى الشام قريةً قريةً. وقول معاوية: «أهل الكفر هم أهل القبور» أي كالموتى لا يشاهدون الجمعة والأمصار.
وهو في اللغة شائع بالكثرة في السَّتْر، ومن ثم (قيل للزَّراع) ملقي البذر بالأرض كَافِرٌ، أي سَاتِرٌ لأنه يستره بترابها ويغطيه فلا يظهر منه شيء .
(والليل) المظلم ـ كما في الصحاح ـ (كافرٌ) لأنه يَستُر ما فيه بظلمته، فهو كاللباس؛ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً) [النبأ:10]. قال في الصحاح: والكَفْرُ أيضا: ظلمة الليل وسواده، وقد تكسر.
قال حميد:
فوردت قبل انبلاج***وابن ذكاء كامن في الكَفْرِ
أي: فيما يواريه من سواد الليل.
والكفر: الليل المظلم؛ لأنه ستر بظلمته كل شيء.
وتلطف في المعارف فقال:
يا ليل طل أو لا تطل***إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد***إن صح الليل كافر
وكل شيء غطى شيئا فقد كفره، ومنه الكافر بالله لأنه ستر نعمه عليه. وشاهد الأول: (قال تعالى) في سورة الحديد، في ضرب مثل الدنيا: (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) الزراع (نَبَاتُهُ) [الحديد:20] البارز على وجه الأرض لنضارته وحسنه.
(وعليه) أي الكفر بمعنى الستر ورد (قول لبيد) الشاعر المقول فيه من قبله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«أصدق كلمة قالها شاعر لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
(في ليلة كَفَرَ) سَتَرَ (النجومَ) الزواهر المتكاثرة (غمامُها) المشتد، وسحابُها المظلم، غطَّاها بظلمته فلم تظهر. وفي المصباح: الغمام: السحاب، والواحدة غمامة، والقصيدة طويلة، منها:
حتى إذا ألفت يدا في كافر***وأجن عورات الثغور ظلامها
(ومنه) أي ورود الكفر بمعنى الستر والتغطية كما في الصحاح: (المُتكفِّر) ـ مشدد الفاء، أي المتستر (بسلاحة) وآلاته المعدودة للحرب بدخوله فيها، حتى سترته فلم تُظهر منه شيئا.
(وهو) أي المتكفِّر بها (الشاكي) ـ بالشين المعجمة ـ، أي الداخل فيها، (الذي غطَّى) وستر (السلاحُ بدنَه) باشتمالها عليه لابسًا لها، فصارت له كاللباس يتمدح به في الحرب لأنه لا تفعله إلا الكمات، فيدل على كمال الشجاعة وتمام القوة.
وفي المصباح: الشِّكة ـ بالكسر ـ : السلاح. ورجل شاك، وشاك في السلاح، والشاك السلاح: اللابس السلاح التام. وقوم شكاك في الحديد. فالمادة تدور على الستر واللزوم، فتدبر.
تنبيه: قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الكفر بمعنى: سَتْر التوحيد وتغطيته كما هنا، وبمعنى:
ـ الجحود؛ (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ) [البقرة:89] أي جحدوه.
ـ وكفر النعمة؛ (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ) [الإسراء:99] ، (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ) [إبراهيم:7] أي النعمة. (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] أي نعمتي.
ـ والبراءة؛ (كَفَرْنَا بِكُمْ) [الممتحنة:4] أي تبرَّأنا منكم. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ) [العنكبوت:25] أي يتبرأ منه. اهـ.
وأخذ في بيان معناه شرعا، فقال: (وفي) عُرْفِ، عطفا على سابقه، أي متعارف (الشرع) وأهله: الجَحْدُ. وهو أنواع:
ـ كفر عناد: بأن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به، ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد***من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذار مسبة***لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ـ وكفر نفاق: بأن يُقرّ لسانا ويُنكر قلبا.
ـ وكفر إنكار: بأن لا يعرف الله أصلاً ولا يقر به.
ـ وكفر جحود: بأن يعرفه قلبًا وينكره لسانًا، ككفر إبليس.
وجميعها قاض بخلود من لقي الله بواحد منها في النار أبدًا.
ومدارها على أنه (إنكار) ولو فِعْلاً، أي جَحْدِ (ما عُلمَ) وعُرِفَ عند العقل (بالضرورة) البيِّنة لكل واحد، بأن اشتهر حتى عرفه الخواصُّ والعوامُّ، كالصلاة وشرب الخمر؛ لا ما يخفى أو عرفه الخواص فقط، كاستحقاق بنت الابن السدس.
(مجيء الرسول) صلى الله عليه وسلم (به) عن الله من المأمورات والمنهيات.
وتبع في هذا التعريف "الأنوار" الجاري فيه على أصول أهل مذهبه من الشافعية كالمالكية. قال اللقاني:
ومن لمعلوم ضرورة جحد***من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
ومثل هذا من نفى لمجمعِ***أو استباح كالزنا فلتسمعِ
وقال النووي في الروضة: لا يكفر جاحد مُجمَعٍ عليه بإطلاقه، بل من جحد منصوصًا عليه وظهر للكل من خاص وعام مشتركين في علمه، كوجوب صلاةٍ وتحريم خمر، فكافرٌ. فإن جحد ما استأثر به الخواص كسدس لبنت ابن مع بنت صلب فلا يكفر. فإن ظهر غير منصوص وجحده، ففي تكفيره قولان.
ولم تشترط الحنفية في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر المتعلق به الإنكار، لا بلوغ العلم به حدَّ الضرورة. ويجب حَمْلُه على علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف، فلو جرى عليه المؤلف لقال: إنكار ما قطع بمجيء الرسول به، لكن جرى على الأغلب المشتهر.
تنبيهات:
الأول: استشكل التعريف بأن الخالي عن تصديق وتكذيب كافر، وبالشاك، ولا إنكار في كفر كلٍّ، فيخرج، فينتقض عكسا.
وأجاب الإمام بأن من جملة ما جاء به المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وجوب تصديقه في كل ما جاء به عن ربِّه، فمن لم يصدقه فيه كذَّبه.
ورُدَّ بظهور منعه. فالصواب أن يقال: الكفر: "عدم الإيمان عما من شأنه..."، فشمل التكذيب وترك التصديق بعد وجوبه عليه.
وتفسير الإنكار هنا بالجهل من قولهم: أنكر الشيء: جهله، لا الجحود، حتى تلزم المنزلة بين منزلتين، لأن من تشكك أو لم يخطر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بباله ليس بمقرٍّ مصدِّق ولا منكرٍ جاحد؛ باطل عند أهل السنة، يأباه ما بعده من قوله: "يدل على التكذيب" لصراحته في أن الإنكار هنا الجحد والتكذيب.
وفي "المواقف": الكفر: عدم تصديق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض ما علم مجيئه به ضرورة. فخرج ما علم استدلالا، وخبر الواحد.
والثاني: النهي يعتمد المفاسد، كما أن الأوامر تعتمد المصالح. فأعلى رتب المفاسد: الكفر. وأدناها: الصغائر. والكبائر متوسطة بين الرتبتين.
وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر.
فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر.
وأدنى رتب الكفر يليها أعلى رتب الكبائر.
وأعلى رتب الصغائر يليها أدنى رتب الكبائر.
وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر.
وأعلى الكفر إنما هو انتهاك خاص كحرمة الربوبية، إما بالقول كما يأتي، وإما بالاعتقاد كاعتقاد قدم العالم، وإما بالجهل بوجود الله عز وجل أو صفاته العلى، وإما بفعل كرمي المصحف في القاذورات، أو السجود للصنم، أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ومباشرة أحوالهم، وجحد ما علم من الدين بالضرورة.
فقولنا: "انتهاك خاص" احتراز من الكبائر والصغائر؛ فإنها انتهاكٌ وليست كفرا.
وألحق الأشعري بالكفر: إرادته الكفر، كبناء الكنائس ليكفر فيها، أو قتل نبي مع اعتقاد صحة رسالته ليميت شريعته.
ومنه تأخير إسلام من أتى ليُسلم على يديك، فتشير عليه بتأخير الإسلام لأنه إرادة للبقاء على الكفر. اهـ.
وجلب باقي التنبيهات ـ على دقتها ـ يطول. سأكتفي بذكر خاتمة المبحث:
قال الشيخ زيتونة:
تنبيه: لا يلزم مما مر تكفير أهل البدع من الفرق الإسلامية بما اعتقدوه من الباطل، مخالفين لما ثبت بالدليل وعُرف أنه من دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مثل كونه تعالى عالما بالعلم أو بذاته، وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا؛ فلم يُنقل بالتواتر القاطع للعذر، فلا جَرم لم يكن إنكارُه والإقرار به داخلا في ماهية الإيمان ولا موجبا للكفر.
والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزءا من ماهية الإيمان، لكان يجب على الرسول أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمة، ويُنقل ذلك على سبيل التواتر. فلمّا لم يُنقل دلَّ على أنه ـ عليه السلام ـ ما وقف الإيمان عليها. ولمّا لم يكن كذلك وجب أن لا يكون معرفتها من الإيمان ولا إنكارها موجبا للكفر.
ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل.
انتهى من "مطالع السعود على إرشاد أبي السعود"، للشيخ أحمد بن محمد زيتونة.
والكفر في اللغة : ستر النعمة وأصله الكفر ـ بالفتح ـ أي: الستر. ومنه قيل للزراع والليل: كافِرٌ. قال تعالى: (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ [الحديد:20]. وعليه قول لبيد: "في ليلة كَفَرَ النجومَ غمامُها". ومنه: المتكفِّر بسلاحة، وهو الشاكي الذي غطى السلاحُ بدنه.
وفي الشرع: "إنكار ما عُلِم بالضرورة مجيءُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ به.
وقد بسط الشيخ محمد زيتونة القول في هذا التعريف قائلا:
(والكُفر) بالضم اسم مصدر كَفر، كقتل، لا ضرب كما وهم الجوهري.
(في) أصل (اللغة) العربية: (سَتْرُ) ـ بفتح السين المهملة وسكون المثناة فوقية ـ (النِّعمَة) ـ بكسر فسكون ـ المنعَم بها، وبفتح: الأنعام.
أي تغطيتها وجحودها كما في الصحاح، ضد الشكر. والمصدر: كفران.
(وأصله) أي المضموم كما في الصحاح: (الكَفْرُ) ـ كالضرب ـ (بالفتح) للكاف (أي السَّتْرُ) ـ بالفتح ـ والتغطية في كل شيء.
وكَفَرْتُ الشيء أكْفِرُه ـ بالكسر ـ كَفْرًا: سَتَرْتُهُ. ورماد مكفورٌ سفت الريح النزاب عليه حتى غطته. قال:
هل تعرف بأعلى ذي الغور***قد درست غير رمادٍ مكفور
(ومنه) سميت القرية كَفْرًا؛ لسَتْرِها أهلَها؛ كخبر: «تُخرِجكُم الرومُ منها كَفْرًا كَفْرًا» ، أي من قرى الشام قريةً قريةً. وقول معاوية: «أهل الكفر هم أهل القبور» أي كالموتى لا يشاهدون الجمعة والأمصار.
وهو في اللغة شائع بالكثرة في السَّتْر، ومن ثم (قيل للزَّراع) ملقي البذر بالأرض كَافِرٌ، أي سَاتِرٌ لأنه يستره بترابها ويغطيه فلا يظهر منه شيء .
(والليل) المظلم ـ كما في الصحاح ـ (كافرٌ) لأنه يَستُر ما فيه بظلمته، فهو كاللباس؛ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً) [النبأ:10]. قال في الصحاح: والكَفْرُ أيضا: ظلمة الليل وسواده، وقد تكسر.
قال حميد:
فوردت قبل انبلاج***وابن ذكاء كامن في الكَفْرِ
أي: فيما يواريه من سواد الليل.
والكفر: الليل المظلم؛ لأنه ستر بظلمته كل شيء.
وتلطف في المعارف فقال:
يا ليل طل أو لا تطل***إني على الحالين صابر
لي فيك أجر مجاهد***إن صح الليل كافر
وكل شيء غطى شيئا فقد كفره، ومنه الكافر بالله لأنه ستر نعمه عليه. وشاهد الأول: (قال تعالى) في سورة الحديد، في ضرب مثل الدنيا: (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) الزراع (نَبَاتُهُ) [الحديد:20] البارز على وجه الأرض لنضارته وحسنه.
(وعليه) أي الكفر بمعنى الستر ورد (قول لبيد) الشاعر المقول فيه من قبله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:«أصدق كلمة قالها شاعر لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
(في ليلة كَفَرَ) سَتَرَ (النجومَ) الزواهر المتكاثرة (غمامُها) المشتد، وسحابُها المظلم، غطَّاها بظلمته فلم تظهر. وفي المصباح: الغمام: السحاب، والواحدة غمامة، والقصيدة طويلة، منها:
حتى إذا ألفت يدا في كافر***وأجن عورات الثغور ظلامها
(ومنه) أي ورود الكفر بمعنى الستر والتغطية كما في الصحاح: (المُتكفِّر) ـ مشدد الفاء، أي المتستر (بسلاحة) وآلاته المعدودة للحرب بدخوله فيها، حتى سترته فلم تُظهر منه شيئا.
(وهو) أي المتكفِّر بها (الشاكي) ـ بالشين المعجمة ـ، أي الداخل فيها، (الذي غطَّى) وستر (السلاحُ بدنَه) باشتمالها عليه لابسًا لها، فصارت له كاللباس يتمدح به في الحرب لأنه لا تفعله إلا الكمات، فيدل على كمال الشجاعة وتمام القوة.
وفي المصباح: الشِّكة ـ بالكسر ـ : السلاح. ورجل شاك، وشاك في السلاح، والشاك السلاح: اللابس السلاح التام. وقوم شكاك في الحديد. فالمادة تدور على الستر واللزوم، فتدبر.
تنبيه: قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الكفر بمعنى: سَتْر التوحيد وتغطيته كما هنا، وبمعنى:
ـ الجحود؛ (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ) [البقرة:89] أي جحدوه.
ـ وكفر النعمة؛ (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ) [الإسراء:99] ، (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ ) [إبراهيم:7] أي النعمة. (وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] أي نعمتي.
ـ والبراءة؛ (كَفَرْنَا بِكُمْ) [الممتحنة:4] أي تبرَّأنا منكم. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ) [العنكبوت:25] أي يتبرأ منه. اهـ.
وأخذ في بيان معناه شرعا، فقال: (وفي) عُرْفِ، عطفا على سابقه، أي متعارف (الشرع) وأهله: الجَحْدُ. وهو أنواع:
ـ كفر عناد: بأن يعرف الله بقلبه ويعترف بلسانه ولا يدين به، ككفر أبي طالب حيث يقول:
ولقد علمت بأن دين محمد***من خير أديان البرية دينا
لو لا الملامة أو حذار مسبة***لوجدتني سمحا بذاك مبينا
ـ وكفر نفاق: بأن يُقرّ لسانا ويُنكر قلبا.
ـ وكفر إنكار: بأن لا يعرف الله أصلاً ولا يقر به.
ـ وكفر جحود: بأن يعرفه قلبًا وينكره لسانًا، ككفر إبليس.
وجميعها قاض بخلود من لقي الله بواحد منها في النار أبدًا.
ومدارها على أنه (إنكار) ولو فِعْلاً، أي جَحْدِ (ما عُلمَ) وعُرِفَ عند العقل (بالضرورة) البيِّنة لكل واحد، بأن اشتهر حتى عرفه الخواصُّ والعوامُّ، كالصلاة وشرب الخمر؛ لا ما يخفى أو عرفه الخواص فقط، كاستحقاق بنت الابن السدس.
(مجيء الرسول) صلى الله عليه وسلم (به) عن الله من المأمورات والمنهيات.
وتبع في هذا التعريف "الأنوار" الجاري فيه على أصول أهل مذهبه من الشافعية كالمالكية. قال اللقاني:
ومن لمعلوم ضرورة جحد***من ديننا يقتل كفرًا ليس حد
ومثل هذا من نفى لمجمعِ***أو استباح كالزنا فلتسمعِ
وقال النووي في الروضة: لا يكفر جاحد مُجمَعٍ عليه بإطلاقه، بل من جحد منصوصًا عليه وظهر للكل من خاص وعام مشتركين في علمه، كوجوب صلاةٍ وتحريم خمر، فكافرٌ. فإن جحد ما استأثر به الخواص كسدس لبنت ابن مع بنت صلب فلا يكفر. فإن ظهر غير منصوص وجحده، ففي تكفيره قولان.
ولم تشترط الحنفية في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر المتعلق به الإنكار، لا بلوغ العلم به حدَّ الضرورة. ويجب حَمْلُه على علم المنكر ثبوته قطعا لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف، فلو جرى عليه المؤلف لقال: إنكار ما قطع بمجيء الرسول به، لكن جرى على الأغلب المشتهر.
تنبيهات:
الأول: استشكل التعريف بأن الخالي عن تصديق وتكذيب كافر، وبالشاك، ولا إنكار في كفر كلٍّ، فيخرج، فينتقض عكسا.
وأجاب الإمام بأن من جملة ما جاء به المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وجوب تصديقه في كل ما جاء به عن ربِّه، فمن لم يصدقه فيه كذَّبه.
ورُدَّ بظهور منعه. فالصواب أن يقال: الكفر: "عدم الإيمان عما من شأنه..."، فشمل التكذيب وترك التصديق بعد وجوبه عليه.
وتفسير الإنكار هنا بالجهل من قولهم: أنكر الشيء: جهله، لا الجحود، حتى تلزم المنزلة بين منزلتين، لأن من تشكك أو لم يخطر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بباله ليس بمقرٍّ مصدِّق ولا منكرٍ جاحد؛ باطل عند أهل السنة، يأباه ما بعده من قوله: "يدل على التكذيب" لصراحته في أن الإنكار هنا الجحد والتكذيب.
وفي "المواقف": الكفر: عدم تصديق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بعض ما علم مجيئه به ضرورة. فخرج ما علم استدلالا، وخبر الواحد.
والثاني: النهي يعتمد المفاسد، كما أن الأوامر تعتمد المصالح. فأعلى رتب المفاسد: الكفر. وأدناها: الصغائر. والكبائر متوسطة بين الرتبتين.
وأكثر التباس الكفر إنما هو بالكبائر.
فأعلى رتب الكبائر يليها أدنى رتب الكفر.
وأدنى رتب الكفر يليها أعلى رتب الكبائر.
وأعلى رتب الصغائر يليها أدنى رتب الكبائر.
وأدنى رتب الكبائر يليها أعلى رتب الصغائر.
وأعلى الكفر إنما هو انتهاك خاص كحرمة الربوبية، إما بالقول كما يأتي، وإما بالاعتقاد كاعتقاد قدم العالم، وإما بالجهل بوجود الله عز وجل أو صفاته العلى، وإما بفعل كرمي المصحف في القاذورات، أو السجود للصنم، أو التردد للكنائس في أعيادهم بزي النصارى ومباشرة أحوالهم، وجحد ما علم من الدين بالضرورة.
فقولنا: "انتهاك خاص" احتراز من الكبائر والصغائر؛ فإنها انتهاكٌ وليست كفرا.
وألحق الأشعري بالكفر: إرادته الكفر، كبناء الكنائس ليكفر فيها، أو قتل نبي مع اعتقاد صحة رسالته ليميت شريعته.
ومنه تأخير إسلام من أتى ليُسلم على يديك، فتشير عليه بتأخير الإسلام لأنه إرادة للبقاء على الكفر. اهـ.
وجلب باقي التنبيهات ـ على دقتها ـ يطول. سأكتفي بذكر خاتمة المبحث:
قال الشيخ زيتونة:
تنبيه: لا يلزم مما مر تكفير أهل البدع من الفرق الإسلامية بما اعتقدوه من الباطل، مخالفين لما ثبت بالدليل وعُرف أنه من دين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مثل كونه تعالى عالما بالعلم أو بذاته، وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا؛ فلم يُنقل بالتواتر القاطع للعذر، فلا جَرم لم يكن إنكارُه والإقرار به داخلا في ماهية الإيمان ولا موجبا للكفر.
والدليل عليه أنه لو كان ذلك جزءا من ماهية الإيمان، لكان يجب على الرسول أن لا يحكم بإيمان أحد إلا بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمة، ويُنقل ذلك على سبيل التواتر. فلمّا لم يُنقل دلَّ على أنه ـ عليه السلام ـ ما وقف الإيمان عليها. ولمّا لم يكن كذلك وجب أن لا يكون معرفتها من الإيمان ولا إنكارها موجبا للكفر.
ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل.
انتهى من "مطالع السعود على إرشاد أبي السعود"، للشيخ أحمد بن محمد زيتونة.