محمد بن إبراهيم الحمد
New member
تعامل موسى _عليه السلام_ مع الهم
كل إنسان يَدِبُّ على وجه هذه البسيطة يتمنى من صميم قلبه أن يعيش بسعادة وطمأنينة، وهدوء بال، يستوي في ذلك الكبير والصغير، والرجل والمرأة، والبر والفاجر، والمؤمن والكافر، وإن كانوا يختلفون في الوصول إلى ذلك المطلب على حد قول الأول:
كل من في الوجود يطلب صيداً غير أن الشباكَ مختلفاتُ
فطرائق الناس شتى في الوصول إلى السعادة،وطرد الهم، وذلك حديث يطول من حيثُ نظراتُ الفلاسفةِ،والحكماءِ، والمفكرين، والأدباء، وغيرهم.
ولا ريب أن ما جاءت به الأنبياء هو الطريق الأعظم للوصول إلى سعادة الدنيا والآخرة ؛ إذ هم مبعوثون من لدن خالق النفس [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ].
والحديث ههنا ليس عن طرائق السعادة، ولا عن نظرة الناس لها، ولا إلى الطرق الموصلة إليها.
وإنما سيكون أقربَ إلى التطبيق العملي منه إلى الجانب النظري؛ حيث سيدور حول سيرة نبي من أولي العزم في التعامل مع الهم، والسعي في طرد القلق، وجلب السعادة.
ألا هو نبي الله موسى _ عليه السلام _ وسيكون الحديث في ذلك الشأن أقربَ إلى الإشاراتِ منه إلى التفصيل والإسهاب.
فسيرة _ موسى عليه السلام _ في ذلك الشأن تحمل عجباً؛ إذ تنطوي على أسرار بديعة، وأصول عظيمة في التعامل مع الهم .
يقول الله _ عز وجل _ بعد خطابِه لموسى _ عليه السلام _ وإراءتِه شيئاً من آياته الكبرى: [اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى].
ففي هذه الآية أمرٌ من الله لموسى، وتكليف له بتلك المهمة التي تنوء بحملها الجبال؛ حيث أرسله إلى جبار عنيد متكبر، أوتي ما أوتي من القوة والجبروت والتمكبن، وبلغ به الكبر مبلغاً يقول فيه: [أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى] ويقول: [مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي].
ولما جاء موسى التكليفُ من لدن ربه للقيام بتلك المهمة استحضر _عليه السلام_ عِظَمَها، واستشعر أنه قد بعث إلى بني إسرائيل وهم قوم قد عرفوا بالعناد، وغِلَظ الرقاب، وقلة الاستجابة لداعي الحق؛ فما كان منه _ عليه السلام _ إلا أن لبَّى نداء ربه، وفزع إليه _عز وجل_ بدعوات تثبِّت جَنانَه، وتقوي عزيمته، وتَقِيه عثارَ الطريق، وكان أول تلك الدعوات هي قوله: [رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي].
وإنما بدأ بتلك الدعوة؛ لعلمه أن هذه المهمة الجسيمة تحتاج إلى قدر كبير من انشراح الصدر، وقوة القلب، وسعة البال،ولإدراكه أنه إن ضاق صدره تنغصت حياته، ولم يصدر عنه خير كثير، ولا عمل جليل.
ثم إنه _ عليه السلام _ قد عانى من الغم ما عانى وذلك عندما قتل القبطي، وخرج خائفاً يترقب، وما مر به من أحوال أقلقت باله، وأفقدته طمأنينته حتى قال له الرجل الصالح: [لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ].
بل إنه _ عليه السلام _ صرح بخوفه من الهم عندما قال: [وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي].
لذلك كلِّه بدأ دعواته بقوله: [رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي].
ولا ريب أن الدعاء وحده دون أخذٍ بالأسباب خلل؛ إذ لا بد مع الدعاء من الأخذ بالأسباب.
ولو كان الدعاء وحده كافياً لاقتصر المسلمون على قولهم في صلواتهم: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] دون عمل وسعي في سلوك ذلك الصراط المستقيم.
وهذا ما كان حاضراً في ذهن موسى_ عليه السلام _ حيث أخذ بكل ما يستطيع من الأسباب الجالبة لشرح الصدر، الطاردة لكل ما يحول دون ذلك.
ومما أخذ به من أسباب أنه دعا ربه بدعوات عظيمة اشتملت على حسن السؤال، وجميل التضرع، ونبل الهدف والغاية؛ حيث قال _عليه السلام_ : [وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي].
وإذا يسَّر الله له أمره زاد انشراح صدره، وأقبل على الدعوة بكل تدفُّع وقوة.
ثم قال بعد ذلك: [وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي] كي يُفصح عما عنده من الحق، فلا يبقى بعد ذلك حجةٌ لمعاند أو متكبر.
والإنسان إذا أبان عما لديه بكل وضوح، ولم يبقَ الكلام متلجلجاً في نفسه _ انشرح صدره، وهدأ باله.
ثم أدرك موسى أن هذه المهمة تحتاج إلى مؤازرة وإعانة، ومشاركة على الخير فقال: [وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي].
ولا ريب أن القريب المشارك في الخير، الذي يحمله ما يحمله قريبه من أعظم العون على المهمات مهما جَلَّت.
وإذا كان ذلك القريب أخاً كان ذلك نوراً على نور، وخيراً على خير.
وإذا كان ذلك الأخ مساعفاً موافقاً لأخيه كان ذلك أبلغ في الإعانة.
يقول الحكيم العربي:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ
وإذا قام المرء بعمله على أتم وجه انشرح صدره، واتسعت نفسه.
ثم إن موسى _ عليه السلام _ ختم ذلك الدعاء بخاتمة عظيمة هي من أعظم أسباب إجابة الدعاء، إلا وهي نبل الغاية, وشرف المقصد؛ حيث قال: [كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً].
فالغاية من ذلك والهدف هو توحيدُك يا ربنا، وتنزيهُك عما لا يليق بك، وذكرُك الذي هو الغاية من كل قربة يُتقرب بها إليك.
وتلك الغاية هي أقصى ما يكون من السعادة؛ لذا كان موسى حرياً بإجابة تلك الدعوات، قال الله _ عز وجل _ : [قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى].
ولما أخبره ربه _جل وعلا_ أنه قد أجاب دعاءه، وآتاه سؤله هل وقف عند هذا الحد، واكتفى بتلك البشارة ؟
لا، بل إن تلك البشارة كانت كالوقود له؛ حيث أخذ بالأسباب التي تعينه على جلب السعادة لنفسه، وطرد الهم، والمضي قدما في تبليغ دعوة ربه.
ومما أخذ به _ عليه السلام _ أنه طرد شبح الخوف عن نفسه؛ إذ الخوف من أعظم موانع السعادة؛ فلما شعر موسى بالخوف من فرعون إنْ هو قَدِم عليه؛ لعلمه بطغيانه وجبروته _ قال مخاطباً ربه _جل وعلا_: [إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى].
فأجابه ربه بقوله: [لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى].
فلما استشعر موسى معيَّة الله الخاصة سكنت نفسه، واطمأن قلبه، وأقبل على دعوة فرعون، ومحاصرته بالحجج الرائعة، والبراهين الساطعة.
ومما أعانه على ذلك _ أيضاً _ أخذه بوصية ربه إذ قال له: [وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي].
فكان _عليه السلام_ كثير الذكر لله _عز وجل_ وذلك من أعظم أسباب سعادته، وقوة قلبه، ومضيه في الدعوة.
ومما أخذ به موسى _ عليه السلام _ في ذلك الصدد أنه لم يستسلم لاستثارة فرعون واستفزازه له؛ حيث أراد فرعون أن يستثير غضب موسى، ويشتت ذهنه، ويصرفه عما هو بصدده، ومن جملة ذلك أنه قال له: [وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ] يشير بذلك إلى قتل موسى للقبطي، فلم يستجب موسى لذلك وإنما قال: [فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ].
ولم يكتف فرعون بذلك، بل رمى موسى بالجنون؛ حيث قال: [إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ] الشعراء: 28 .
ولا ريب أن الرمي بالجنون من أعظم ضروب الاستفزاز، واستثارة الغضب.
ثم انتقل إلى تهديده، فقال: [لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ] الشعراء: 29 .
ثم اتهمه بعد ذلك بالسحر، وأنه يريد أن يخرج الناس من أرضهم بسحره، وأن تكون له ولمن معه الكبرياء في الأرض.
ثم انتقل إلى نوع آخر من الاستفزاز، فقال: [أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ] الزخرف: 52 .
يعير موسى بحبسةٍ كانت في لسانه.
ولكن موسى _عليه السلام_ لم يستجب لذلك، وإنما واصل طريقته في إيراد الحجج التي بهرت فرعون وقومه؛ فصارت الغلبة لموسى _ عليه السلام _.
ولولا أن الله _عز وجل_ ثـبَّت موسى، وربط على قلبه في تلك المواقف الصعبة لاضطرب، ولفقد صوابه، ولما كانت له تلك المقامات العالية التي قام بحقها بجأش رابط، ونفس مطمئنة.
وهكذا انتصر موسى _ عليه السلام _ على الغم بفضل الله _ عز وجل _ ثم بإحسانه وأخذه بالأسباب.
ولهذا كان مما امتَنَّ الله عليه أنْ نجاه من الغمِّ، قال _عز وجل_: [فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً].
بل إن إحسان موسى قبل النبوة، وكمال مروءته من أعظم المعينات له على نيل تلك المواهب العظام من لدن ربه _جل وعلا_ .
قال الله _عز وجل_: [وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ].
فكان من إحسانه _عليه السلام_ سقياه للفتاتين اللتين رآهما تذودان عند الماء، فتحركت في نفسه دواعي الشهامة، واهتزت فيها بواعث الأريحية؛ فسقى لهما، وسار معهما وهو ناكس الطرف، ثم تولى إلى الظل لا يريد جزاءً ولا شكوراً.
بل إنه لما أراد والد الفتاتين تزويجه إحدى ابنتيه على أن يأجره ثماني حجج فإنْ أتمَّ موسى عشراً فمن عنده _ أبت له شهامة خاطره، وكرم نفسه إلا أن يتم العشر كاملة، ولا ريب أن ذلك من قبيل الإحسانِ، والإحسانُ من دواعي السرور وطرد الهم، ومن مهيئات السؤدد، والترقي في مراقي الفلاح.
وكان من إحسانه _ أيضاً _ تذلله إلى الله _ عز وجل _ وإظهار الفاقة [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] القصص:24.
وبالجملة فهذه إشارات مما تحمله سيرة موسى _ عليه السلام _ في هذا الشأن، والأمر أعظم من ذلك، والمقام لا يحتمل إلا القليل منه.