يوسف العليوي
New member
- إنضم
- 05/07/2004
- المشاركات
- 103
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 18
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.. أما بعد ،
فإن أهل السنة والجماعة يتلقون عقيدتهم ويقررونها من نصوص الوحيين، معظمين لها، ومسلمين بها تسليماً مطلقاً، لا يعرضون عن شيء منها، ولا يعارضونها بشيء، فلم يكونوا يتلقون النصوص الشرعية ومعهم مقررات وأصول عقلية سابقة يحاكمون النصوص إليها، ملتزمين بقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله...) الآية [الحجرات:1]، وإنما هم يجعلون الكتاب والسنة وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ميزاناً توزن به الأقوال والأفعال والاعتقادات والمذاهب والفرق، ولذا جاءت توجيهاتهم للنصوص موافقة لمراد الشرع، كما أنها موافقة لأساليب العرب في كلامها.
أما المبتدعة فإنهم وضعوا أصولاً عقلية، ثم نظروا في النصوص الشرعية، فما وافق تلك الأصول أخذوا به، وما خالفها أوّلوه أو ردوه بأية حجة، ولقد وجدوا في الأساليب البلاغية ما ظنوا أنه يخدمهم وينفعهم، فحاول هؤلاء قسر هذه الأساليب البلاغية وتطويعها لتصحيح الأصول العقدية، والرد على المخالفين، سواء كان ذلك ابتداءً استدلالاً لصحة المذهب، أو تخلصاً من الشبهات والإيرادات عليه، حيث كان منها ورود بعض النصوص من القرآن والسنة تخالف ما ذهبوا إليه من آراء ومعتقدات، فاستعانوا ببعض الأساليب كالمجاز لتأويل هذه الظواهر وتطويعها قسراً لمذاهبهم، كما قال المرتضى الرافضي في أماليه [غرر الفوائد:2/399]: (إن القرآن قد ورد بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال، كقوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً)[الفجر:22]، وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)[البقرة:210]، ولا بد مع وضوح الأدلة على أن الله تعالى ليس بجسم، واستحالة الانتقال عليه، الذي لا يجوز إلا على الأجسام؛ من تأول هذه الظواهر، والعدول عما يقتضيه صريح ألفاظها، قرب التأويل أو بعد)، وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي [المغني:16/395] بعد أن قرر أن القرآن لا تعلم صحة دلالته على المعتقد إلا بعد العلم به –أي: بالمعتقد-: (وإذا وجب تقدم ما ذكرناه من المعرفة، ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق ودلالة؛ فلا بد أن يعرض ما في كتاب الله من الآيات الواردة في العدل والتوحيد على ما تقدم له من العلم، فما وافقه حمله على ظاهره، وما خالف الظاهر حمله على المجاز، وإلا كان الفرع ناقضاً للأصل، ولا يمكن في كون كلامه تعالى دلالة سوى هذه الطريقة)، وقال يحيى العلوي [الطراز:401] بعد أن ذكر جملة من آيات الصفات ممثلاً بها على التخييل: (إلى غير ذلك من الآيات الموهمة بظاهرها للأعضاء والجوارح، فإذا قام البرهان العقلي على استحالة هذه الأعضاء على الله تعالى… فلا بد من تأويل هذه الظواهر على ما تكون موافقة للعقل، وإعطاء للبلاغة حقها لأن مخالفة العقل غير محتملة، وحمل الكلام على غير ظاهره محتمل، وتأويل المحتمل أحق من تأويل غير المحتمل، فلهذا وجب تأويلها)، وذكر ابن عميرة [التنبيهات/113] أن من معاني البلاغة: (تحقيق العقائد الإلهية)، وقال الشريف الجرجاني الماتريدي [شرح المواقف8/114] بعد أن ناقش مسألة من مسائل الصفات: (ومن كان له رسوخ قدم في علم البيان حمل أكثر ما ذكر من الآيات والأحاديث المتشابهة على التمثيل والتصوير، وبعضها على الكناية، وبعضها على المجاز).
ولا أدل على هذا من صنيع ابن جني المعتزلي، حيث أفرد باباً في كتابه الخصائص [3/245]، وعنونه بقوله: (باب فيما يؤمنه علم العربية من المعتقدات الدينية)، وقال في فضله: (اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية، وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة)، ثم قال: (وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جار على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة… فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها؛ جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطِب لهم على حسب عرفهم وعادتهم في استعمالها)، ثم ذكر جملة من الآيات والأحاديث المشتملة على الصفات، وأعمل فيها المجاز، وقال الزمخشري المعتزلي في تفسيره [الكشاف4/138-139] عن الاستعارة التخييلية: (ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء)، وتبعه على ذلك جمع من البلاغيين، وقال الرازي [نهاية الإيجاز/291] بعد تعريفه للإيهام وهو التورية: (وأكثر المتشابهات من هذا الجنس)، ووافقه السكاكي المعتزلي [المفتاح/427]، والقزويني الأشعري [الإيضاح/501]، والصفدي الأشعري [فض الختام/162]، والسبكي الأشعري [عروس الأفراح/326]، والبابرتي الماتريدي [شرح التلخيص/629]، وقال الرعيني [طراز الحلة/453]: (وعلى هذا يحمل كل ما ظاهره التشبيه من آية أو حديث)، ولفضل التورية وبيان خطرها نقل زين الدين الرازي [روضة الفصاحة/118]، والرعيني [طراز الحلة/453] قول الزمخشري السابق في التخييل.
ولقد كان تفسير القرآن الكريم ميداناً فسيحاً لإعمال الأساليب البلاغية وتطبيقها على آي القرآن تطويعاً لخدمة المعتقد، قال ابن قتيبة [تأويل مختلف الحديث/46 و48] عن المعتزلة: (وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم… وأعجب من هذا التفسير تفسير الروافض للقرآن، وما يدعونه من علم الباطن)، وقال ابن تيمية [مقدمة التفسير: ضمن مجموع الفتاوى13/356] في سياق حديثه عن التفسير والمفسرين في: (الذين أخطؤوا في الدليل والمدلول -مثل طوائف من أهل البدع- اعتقدوا مذهباً يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط، الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن؛ فتأولوه على آرائهم، تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه، ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم، وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم الناس كلاماً وجدالاً، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ولعلي بن عيسى الرماني، والكشاف لأبي القاسم الزمخشري).
ولعل أوضح من يمثل ذلك الزمخشري في تفسيره ”الكشاف“، حتى قال عنه البلقيني [عن الإتقان4/213]: (استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش…)، وقال ابن تيمية [مقدمة التفسير: ضمن مجموع الفتاوى13/358]: (ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً، ويدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك)، وقال ابن خلدون متحدثاً عن البلاغة [مقدمة ابن خلدون2/256، وانظر: 2/123]: (وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري، ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة). وانظر أيضاً إلى تفاسير الماتريدية كـ”تأويلات أهل السنة“ لأبي منصور الماتريدي، و”مدارك التنزيل“ للنسفي، وإلى تفاسير الأشاعرة كـ”مفاتيح الغيب“ للرازي، و”أنوار التنزيل“ للبيضاوي، و”إرشاد العقل السليم“ لأبي السعود، وغيرها من تفاسير المبتدعة، لتدرك كيف يطوع هؤلاء الأساليب البلاغية لخدمة مذاهبهم العقدية.
كما أن المؤلفات البلاغية لم تسلم من هذا المنهاج، حيث استشهد كثير من البلاغيين على بعض الأساليب البلاغية ببعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، ووجهوها توجيهاً يخدم المذهب العقدي، خاصة أن كثيراً من البلاغيين ينتمون إلى مذاهب مبتدعة، بل إن منهم أئمة في مذاهبهم، وقد سبق ذكر بعض أقوالهم في هذا الشأن، وسيكون معهم وقفة خاصة مع ذكر الأمثلة على ذلك، نسأل الله الإعانة والتوفيق والسداد.
ولا ينبغي أن يذهب الوهم إلى أن البلاغة من علوم المبتدعة ولا ينبغي الإفادة منها في تفسير القرآن الكريم؛ بل هي علم أصيل من علوم اللغة العربية التي لا ينبغي للمتصدي لتفسير كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتعلمها؛ وما علم البلاغة إلا توصيف وبيان للسان العرب وأساليبهم ونظمهم، وكتاب الله تعالى نزل بهذا اللسان العربي، كما قال الله عز وجل: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)[يوسف: 2]. وإنما الكلام على تحميل الآيات القرآنية ما لا تحتمله من الأساليب البلاغية نصرة للمذهب العقدي.
رزقني الله وإياكم حسن الفهم والاتباع لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فإن أهل السنة والجماعة يتلقون عقيدتهم ويقررونها من نصوص الوحيين، معظمين لها، ومسلمين بها تسليماً مطلقاً، لا يعرضون عن شيء منها، ولا يعارضونها بشيء، فلم يكونوا يتلقون النصوص الشرعية ومعهم مقررات وأصول عقلية سابقة يحاكمون النصوص إليها، ملتزمين بقول الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله...) الآية [الحجرات:1]، وإنما هم يجعلون الكتاب والسنة وما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ميزاناً توزن به الأقوال والأفعال والاعتقادات والمذاهب والفرق، ولذا جاءت توجيهاتهم للنصوص موافقة لمراد الشرع، كما أنها موافقة لأساليب العرب في كلامها.
أما المبتدعة فإنهم وضعوا أصولاً عقلية، ثم نظروا في النصوص الشرعية، فما وافق تلك الأصول أخذوا به، وما خالفها أوّلوه أو ردوه بأية حجة، ولقد وجدوا في الأساليب البلاغية ما ظنوا أنه يخدمهم وينفعهم، فحاول هؤلاء قسر هذه الأساليب البلاغية وتطويعها لتصحيح الأصول العقدية، والرد على المخالفين، سواء كان ذلك ابتداءً استدلالاً لصحة المذهب، أو تخلصاً من الشبهات والإيرادات عليه، حيث كان منها ورود بعض النصوص من القرآن والسنة تخالف ما ذهبوا إليه من آراء ومعتقدات، فاستعانوا ببعض الأساليب كالمجاز لتأويل هذه الظواهر وتطويعها قسراً لمذاهبهم، كما قال المرتضى الرافضي في أماليه [غرر الفوائد:2/399]: (إن القرآن قد ورد بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال، كقوله تعالى: (وجاء ربك والملك صفاً صفاً)[الفجر:22]، وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة)[البقرة:210]، ولا بد مع وضوح الأدلة على أن الله تعالى ليس بجسم، واستحالة الانتقال عليه، الذي لا يجوز إلا على الأجسام؛ من تأول هذه الظواهر، والعدول عما يقتضيه صريح ألفاظها، قرب التأويل أو بعد)، وقال القاضي عبد الجبار المعتزلي [المغني:16/395] بعد أن قرر أن القرآن لا تعلم صحة دلالته على المعتقد إلا بعد العلم به –أي: بالمعتقد-: (وإذا وجب تقدم ما ذكرناه من المعرفة، ليصح أن يعرف أن كلامه تعالى حق ودلالة؛ فلا بد أن يعرض ما في كتاب الله من الآيات الواردة في العدل والتوحيد على ما تقدم له من العلم، فما وافقه حمله على ظاهره، وما خالف الظاهر حمله على المجاز، وإلا كان الفرع ناقضاً للأصل، ولا يمكن في كون كلامه تعالى دلالة سوى هذه الطريقة)، وقال يحيى العلوي [الطراز:401] بعد أن ذكر جملة من آيات الصفات ممثلاً بها على التخييل: (إلى غير ذلك من الآيات الموهمة بظاهرها للأعضاء والجوارح، فإذا قام البرهان العقلي على استحالة هذه الأعضاء على الله تعالى… فلا بد من تأويل هذه الظواهر على ما تكون موافقة للعقل، وإعطاء للبلاغة حقها لأن مخالفة العقل غير محتملة، وحمل الكلام على غير ظاهره محتمل، وتأويل المحتمل أحق من تأويل غير المحتمل، فلهذا وجب تأويلها)، وذكر ابن عميرة [التنبيهات/113] أن من معاني البلاغة: (تحقيق العقائد الإلهية)، وقال الشريف الجرجاني الماتريدي [شرح المواقف8/114] بعد أن ناقش مسألة من مسائل الصفات: (ومن كان له رسوخ قدم في علم البيان حمل أكثر ما ذكر من الآيات والأحاديث المتشابهة على التمثيل والتصوير، وبعضها على الكناية، وبعضها على المجاز).
ولا أدل على هذا من صنيع ابن جني المعتزلي، حيث أفرد باباً في كتابه الخصائص [3/245]، وعنونه بقوله: (باب فيما يؤمنه علم العربية من المعتقدات الدينية)، وقال في فضله: (اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب، وأن الانتفاع به ليس إلى غاية، ولا وراءه من نهاية، وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها، فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة)، ثم قال: (وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جار على المجاز، وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة… فلما كانت كذلك، وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها، وانتشار أنحائها؛ جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها، وفهموا أغراض المخاطِب لهم على حسب عرفهم وعادتهم في استعمالها)، ثم ذكر جملة من الآيات والأحاديث المشتملة على الصفات، وأعمل فيها المجاز، وقال الزمخشري المعتزلي في تفسيره [الكشاف4/138-139] عن الاستعارة التخييلية: (ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء)، وتبعه على ذلك جمع من البلاغيين، وقال الرازي [نهاية الإيجاز/291] بعد تعريفه للإيهام وهو التورية: (وأكثر المتشابهات من هذا الجنس)، ووافقه السكاكي المعتزلي [المفتاح/427]، والقزويني الأشعري [الإيضاح/501]، والصفدي الأشعري [فض الختام/162]، والسبكي الأشعري [عروس الأفراح/326]، والبابرتي الماتريدي [شرح التلخيص/629]، وقال الرعيني [طراز الحلة/453]: (وعلى هذا يحمل كل ما ظاهره التشبيه من آية أو حديث)، ولفضل التورية وبيان خطرها نقل زين الدين الرازي [روضة الفصاحة/118]، والرعيني [طراز الحلة/453] قول الزمخشري السابق في التخييل.
ولقد كان تفسير القرآن الكريم ميداناً فسيحاً لإعمال الأساليب البلاغية وتطبيقها على آي القرآن تطويعاً لخدمة المعتقد، قال ابن قتيبة [تأويل مختلف الحديث/46 و48] عن المعتزلة: (وفسروا القرآن بأعجب تفسير، يريدون أن يردوه إلى مذهبهم، ويحملوا التأويل على نحلهم… وأعجب من هذا التفسير تفسير الروافض للقرآن، وما يدعونه من علم الباطن)، وقال ابن تيمية [مقدمة التفسير: ضمن مجموع الفتاوى13/356] في سياق حديثه عن التفسير والمفسرين في: (الذين أخطؤوا في الدليل والمدلول -مثل طوائف من أهل البدع- اعتقدوا مذهباً يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط، الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن؛ فتأولوه على آرائهم، تارة يستدلون بآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها، وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه، ومن هؤلاء فرق الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة وغيرهم، وهذا كالمعتزلة مثلاً فإنهم من أعظم الناس كلاماً وجدالاً، وقد صنفوا تفاسير على أصول مذهبهم، مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي، ومثل كتاب أبي علي الجبائي، والتفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني، ولعلي بن عيسى الرماني، والكشاف لأبي القاسم الزمخشري).
ولعل أوضح من يمثل ذلك الزمخشري في تفسيره ”الكشاف“، حتى قال عنه البلقيني [عن الإتقان4/213]: (استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش…)، وقال ابن تيمية [مقدمة التفسير: ضمن مجموع الفتاوى13/358]: (ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً، ويدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك)، وقال ابن خلدون متحدثاً عن البلاغة [مقدمة ابن خلدون2/256، وانظر: 2/123]: (وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري، ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة). وانظر أيضاً إلى تفاسير الماتريدية كـ”تأويلات أهل السنة“ لأبي منصور الماتريدي، و”مدارك التنزيل“ للنسفي، وإلى تفاسير الأشاعرة كـ”مفاتيح الغيب“ للرازي، و”أنوار التنزيل“ للبيضاوي، و”إرشاد العقل السليم“ لأبي السعود، وغيرها من تفاسير المبتدعة، لتدرك كيف يطوع هؤلاء الأساليب البلاغية لخدمة مذاهبهم العقدية.
كما أن المؤلفات البلاغية لم تسلم من هذا المنهاج، حيث استشهد كثير من البلاغيين على بعض الأساليب البلاغية ببعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، ووجهوها توجيهاً يخدم المذهب العقدي، خاصة أن كثيراً من البلاغيين ينتمون إلى مذاهب مبتدعة، بل إن منهم أئمة في مذاهبهم، وقد سبق ذكر بعض أقوالهم في هذا الشأن، وسيكون معهم وقفة خاصة مع ذكر الأمثلة على ذلك، نسأل الله الإعانة والتوفيق والسداد.
ولا ينبغي أن يذهب الوهم إلى أن البلاغة من علوم المبتدعة ولا ينبغي الإفادة منها في تفسير القرآن الكريم؛ بل هي علم أصيل من علوم اللغة العربية التي لا ينبغي للمتصدي لتفسير كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتعلمها؛ وما علم البلاغة إلا توصيف وبيان للسان العرب وأساليبهم ونظمهم، وكتاب الله تعالى نزل بهذا اللسان العربي، كما قال الله عز وجل: (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)[يوسف: 2]. وإنما الكلام على تحميل الآيات القرآنية ما لا تحتمله من الأساليب البلاغية نصرة للمذهب العقدي.
رزقني الله وإياكم حسن الفهم والاتباع لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.